الصفحة 143
ــــــــــــــــــــ
= النوع الأول : الموارد التي تُسلب فيها مسؤولية وقوع الفِعل عن ذلك الفاعل
المباشر للفعل .. لأنّ ذلك الفعل حَصَلَ ووَقَع من غير إرادة منه .
مثال ذلك : أن يُربّط (زيد) (عمرو) ثم يَرميه على رَقَبة (خالد) فيكسرها. فنلاحظ
في هذا المثال أنّ الكاسر المباشر لرقبة خالد هو عمرو ، ولكنه غير مسؤول عن ذلك
الكسر ، لأنّه كان بمنزلة الأداة فقط .. لا أكثر ! بل المسؤول : هو (زيد) الذي قام
بربط (عمرو) وألقاه على رقبة خالد .
وهذا النوع من التأثير هو الذي يُعبّر عنه بـ (الإرادة) ، لأنّ (زيد) أراد كسر رقبة
خالد .. بهذه الكيفية .
النوع الثاني : الموارد التي لا تُسلَب مسؤولية وقع الفعل عن ذلك الفاعل المباشر
للفعل .
مثال ذلك : أن يُعطي (زيد) قِنّينة خمر بيد خالد ، ويقول له : إذهب بهذه القنينة
إلى المَزبَلة وفرّغها هناك ، ثم إغسل القنّينة جيّداً وجئني بها ، واعلم ـ يا خالد
ـ أنّ السائل الموجود في القنينة هو خمرٌ محرّم .. وليس عصير فواكه ، فاحذر من أن
تشربه !
فيذهب خالد بالقنينة إلى مكان لا يراه أحد ويشرب السائل بدلاً من أن يُريقه في
المزبلة ، من دون أن يُبالي إلى نصيحة
=
الصفحة 144
ــــــــــــــــــــ
= (زيد) ـ الذي يَعلم صِدق كلامه ـ ، ثمّ يغسل خالد فمه ويَغسل القنينة ، ويرجع بها
إلى (زيد) .
وهنا ـ يا تُرى ـ هل المسؤول عن شرب الخمر هو (زيد) أم خالد ؟!
الجواب : من الثابت أنّ المسؤول هو (خالد) وإن كان (زيد) مؤثّراً في فعل (خالد) .
حيث إنّه كان يعلم ـ مسبقاً ـ أنّ خالداً سوف يشرب الخمر ، لعدم إلتزامه بالدين ،
ولكنّ زيد قَدّم له النصائح الكافية والتحذير اللازم ، والإرشادات المُقنعة بأضرار
شرب الخمر ومضاعفات ذلك .
وفي هذا النوع الثاني .. يُعبّر عن هذا التأثير بـ (المَشيئة) ويُعبّر عن نيّة (زيد) بـ
(شاء) .
وقد جاء ـ في القرآن الكريم ـ نسبة (المشيئة) إلى الله سبحانه ، مثل قوله تعالى (يُضلّ من يشاء ويهدي من يشاء) (سورة النحل ، الآية 93) أي : يؤثّر في إضلال بعض
الناس ، ولكن .. لا بكيفيّة تُسلب عنهم المسؤولية ، بل بِجعلهم مُخيّرين في إنتخاب
الهدى أو الضلال .
ولذلك تجدُ أنّ المسلمين جميعاً يُكرّرون ـ في صلواتهم ـ جُملة (بحول الله وقوّته
أقوم وأقعد) عند القيام من السجود الثاني أو التشهّد الأول . وهذا يوضّح المعنى ،
فأنا
=
الصفحة 145
ــــــــــــــــــــ
= (الإنسان) أقوم وأقعد .. ولكن بفضل القوة الالهية التي جعلها في جسم البشر جميعاً
. ولو أراد الله أن يقطع هذه القوة لَفَعَل ولتحقّق ذلك ، ولكنّه شاء أن تبقى هذه
القوة موجودة إلى أجل مُعيّن .
ولمزيد من التوضيح .. نذكر هذا المثال الثالث : قال الله تعالى ـ في القرآن الكريم
ـ : (ولو شاء الله ما اقتَتَل الذين من بعدهم ـ من بعد ما جاءتهم البيّنات ـ ولكن
اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، ولو شاء الله ما اقتَتَلوا ، ولكنّ الله يفعل
ما يريد) (سورة البقرة ، الآية 253) . وهنا سؤال قد يتبادر إلى بعض الأذهان : وهو
أنّ قوله تعالى : (ولو شاء الله ما اقتتلو) يدلّ على أن الإنسان مُسَيّر لا مُخيّر
، لأنّ في الآية تأكيد لنسبة الإقتتال إلى مشيئته سبحانه ؟
ونُجيب عن هذا السؤال بـ :
أولا :
قل للذي يدّعي في العلم فلسفةً
حَفِظت شيئاً وغابَت عنك أشياء
فإنّ اللازم أن يصرف الإنسان وقتاً كافياً لمعرفة القضايا العقائدية التي يحتاج
فهمها إلى مزيد من الانتباء والدقّة .
=
الصفحة 146
ــــــــــــــــــــ
= ثانياً : إنّ الله (سبحانه) مَنَح القُدرة لجميع الناس ، وبيّن لهم طريق الخير
والشر ، والفضيلة والرذيلة ، ونهاهم عن الشرّ والرذيلة ، ولكن لم يكن نهيه من نوع
أنّه يشلّ أعضاءهم إذا أرادوا الحرام ، فإذا فَعَل العبد حراماً ، يكون هو المسؤول
الأول والأخير عن ارتكابه للحرام ، ولذلك فهو يستحق العقوبة ، لكن يجوز ـ من باب
المجاز ـ نسبة ذلك الفعل إلى الذي أعطى القوة لجميع الخلق ، وأراد أن يخلق خلقاً من
نوع معيّن إسمه (البشر) ، يكون مخيّراً في أعماله .. لا مسَيّراً كبعض المخلوقات
الأخرى ، مثل الجمادات .
وهنا ملاحظة أخيرة نذكرها : وهي أنّه ـ رغم وجود موارد معيّنة لإستعمال كلّ واحدة
من هاتين الكلمتين ـ إلا أنّ في اللغة العربية ـ بما في ذلك القرآن الكريم ـ ،
تُستعمل كلّ واحدة من هاتين الكلمتين : (شاء) و(أرادَ) .. في موارد ومجالات الكلمة
الأخرى ـ أحياناً ، أو غالباً ـ ، وهذا أمر شائع وثابت .
والجدير بالذكر : أنّنا نجد ـ في الآية التي ذكرناها في المثال الثالث ـ أنّ كلمة
(شاء) جاءت أولاً وأُريدَ منها معنى (المشيئة) ، ثمّ في نفس الآية جاءت كلمة (شاء)
وأُريدَ منها معنى (أراد) ، ممّا يدلّ على أنّ كل واحدة من هاتين الكلمتين ـ (شاء)
و(أراد) ـ تُستعمل مكان المعنى الآخر ، ولكنّ وجود الفرق بين المعنَيَين ثابت وصحيح
ودقيق .
=
الصفحة 147
ــــــــــــــــــــ
= ونذكر ـ هنا ـ هذا الحديث ونَترك فهمه للأذكياء من القُرّاء الكرام :
لقد رُوي عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ـ في حديث طويل ـ :(... . إنّ
لله إرادتَين ومشيئتَين : إرادةُ حَتم وإرادة عَزم ، ينهى وهو يشاء ، ويأمر وهو لا
يشاء ، أو ما رأيت أنّه نهى آدم وزوجته عن أن يأكلا من الشجرة ، وهو شاء ذلك ، ولو
لم يشأ لم يأكلا ، ... وأمر إبراهيم بذبح إسماعيل ، وشاء أن لا يذبحه ...) المصدر :
كتاب (التوحيد) للشيخ الصدوق ، ص 64 .
وهنا سؤال أخير : وهو : لماذا أعطى الله تعالى القُدرة لعباده على الشر والإنحراف ،
مع إمكانه تعالى أن لا يُعطيهم ذلك ؟
الجواب : لقد أراد الله تعالى أن يَخلق فصيلة مُعيّنة من الخلق ـ تمتاز عن غيرها من
المخلوقات ـ ، تكون لهم القدرة والإختيار على أفعال الخير وأفعال الشر ، وبيّن لهم
النصائح الكافية ، على لسان الأنبياء وفي الكتب السماويّة .
ولو كان الله سبحانه يُجبر الخلق على الخير وترك الشر .. لم يكن للإنسان فضلٌ على
غيره من المخلوقات !
وعِلم الله تعالى بما سيفعله كل واحد من البشر .. لا يُنافي إعطائه الإختيار الكامل
لهذا النوع من المخلوقات .
وبعد كل هذا التفصيل ، نقول :
=
الصفحة 148
ــــــــــــــــــــ
= إنّ الله تعالى ما أراد أن يرى الإمام الحسين (عليه السلام) قَتيلاً (أي :
مقتولاً) ولكنّه شاء ذلك ، ونَفس هذا المعنى يأتي بالنسبة إلى مأساة سَبي النساء
الطاهرات .
إذ من الواضح أنّ الله سبحانه الذي اختار الإمام الحسين (عليه السلام) مصباحاً
ومَناراً لهداية الأمّة الإسلامية .. لا يريد كَسر هذا المصباح وحِرمان الأمة من
بركات وجوده عليه السلام ، ولكنّه كان يعلم بأنّ أهل الكوفة سوف يَغدرون به
ويَقتلونه .
وبتعبير أوضح نقول : لقد كان المُخطّط الإلهي العام يَطلب من الإمام الحسين (عليه
السلام) أن يَخرُج نحو العراق ، مُلبّياً بذلك رسائل أهل الكوفة ، والتي بلغت أكثر
من إثني عشر ألف رسالة ـ وكانت أكثرها جماعيّة ، أي : رسالة واحدة عن لسان 40 رجل ،
تحمِل توقيعاتهم وأسماءهم ـ كلّ لك .. (إتماماً للحجّة) على أهل الكوفة ، ولئلا
يكون للناس على الله حجّة ـ في يوم القيامة ـ بعد وصول الإمام الحسين (عليه السلام)
إلى ضواحي الكوفة ، وتلبيته لرسائلهم الكثيرة .
وكان الله تعالى يعلم أن ثمن تلبية دعوة وطلب هذا العدد الكثير من البشر .. سوف
يكون غالباً جِدّاً وجداً ، وهو قتل الإمام الحسين (عليه السلام) وسَبي نسائه
الطاهرات ، بعد حصول الغدر الفظيع من أكثر أهل الكوفة !!
=
الصفحة 149
ــــــــــــــــــــ
= إلا أنّ قانون (إتمام الحجّة) كان يتطلّب ذلك . هذه سُنّة الله في الخَلق ،
وعادته مع جميع الأمم والخلائق . أنّه يُوفّر ويُمهّد لهم وسائل الهداية ، ويُبقيهم
على حالة الاختيار في إنتخاب المصير ، وعلى طبائع الذين يَرفضون طريق الهداية ،
ويتجاوبون مع ما تُمليه عليه نفسياتهم البعيدة عن الفضائل ، ويختارون العاقبة
السيئة والمصير الأسود .
وبالتالي .. يَجزي الله المطيعين له ، ويُعاقب العاصين أوامره . ويمنح الدرجات
العالية ـ في الجنّة ـ لعظيم أوليائه : سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام)
ويُعوّض نساءه بأنواع النعم والكرامة ، إزاء ما تحمّلنه من المصائب .. بصبر جميل ،
ودونَ أيّ إنتقاد للمقدّرات الإلهية .
هذا .. والتفصيل الأكثر يحتاج الى دراسة مستقلة .
المحقق
الصفحة 150
الصفحة 151
الإمام الحسين (عليه السلام) يَصطحب العائلة
لقد عرفنا أن الإمام الحسين (عليه السلام) كان يعلم ـ بِعلم الإمامة ـ بأنّه سيفوز
بالشهادة في أرض كربلاء ، وكان يعلم تفاصيل تلك الفاجعة وأبعادها .
ولعلّ بعض السُذّج من الناس كان يعتبر اصطحاب الإمام الحسين عائلته المكرّمة إلى
كربلاء منافياً للحكمة، لأن معنى ذلك تعريض العائلة للإهانة والمكاره، وأنواع
الاستخفاف .
وما كان أولئك الناس يعلمون بأنّ اصطحاب الإمام الحسين (عليه السلام) عائلته
المَصونة ـ وعلى رأسهن السيدة زينب ـ كان من أوجب لوازم نجاح نهضته المباركة .
إذ لولا وجود العائلة في كربلاء لكانت نهضة الإمام ناقصة ، غير متكاملة الأجزاء
والأطراف .
فإنّ أجهزة الدعاية الأموية ما كانت تتحاشى ـ بعد إرتكاب
الصفحة 152
جريمة قتل الإمام الحسين ـ أن تُعلن براءتها من دم الإمام ، بل وتُنكر مقتل الإمام
نهائياً ، وتنشر في الأوساط الإسلامية انّ الإمام توفّي على أثر السكتة القلبيّة ،
مثلاً !!
وليس في هذا الكلام شيء من المبالغة ، ففي هذه السنة ـ بالذات ـ إنتشرت في بعض
البلاد العربية مجموعة من الكتب الضالّة التائهة ، بأقلام عُملاء مُستأجرين ، من
بهائم الهند ، وكلاب باكستان ، وخنازير نَجد.
ومن جملة تلك الأباطيل التي سوّدوا بها تلك الصفحات ، هي إنكار شهادة الإمام الحسين
، وأن تلك الواقعة لا أصل لها أبداً .
ولا أُجيب ـ على ما ذكره أولئك الكُتّاب العملاء ـ سوى بقول الشاعر :
مِن أين تَخجل أوجهٌ أمويّة
سَكَبت بلذّات الفجور حياءها ؟
فهذه الفاجعة قد مرّت عليها حوالي أربعة عشر قرناً، وقد ذكرها الألوف من المؤرخين
والمحدّثين ، واطّلع عليها القريب والبعيد ، والعالم والجاهل ، بل وغير المسلمين
ايضاً لم يتجاهلوا هذه الفاجعة المروّعة .
وتُقام مجالس العزاء في ذكرى إستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) في عشرات الآلاف
من البلاد ، في جميع القارّات ، حتى صارت هذه الفاجعة أظهر من الشمس ، وصارت
كالقضايا البديهيّة
الصفحة 153
التي لا يمكن إنكارها أو التشكيك فيها ، بسبب شُهرتها في العالم .
وإذا بأفراد قد تجاوزوا حدود الوقاحة ، وضربوا الرقم القياسي في صلافة الوجه
وانعدام الحياء ، يأتون وينكرون هذه الواقعة كلّياً .
ولقد رأيتُ بعض مَن يدور في فلك الطواغيت ، ويجلس على موائدهم ، ويملأ بطنه من
خبائثهم ، أنكر واقعة الجمل وحرب البصرة نهائيّاً ، تحفّظاً على كرامة إمراءة خرجت
تقود جيشاً لمحاربة إمام زمانها ، وأقامت تلك المجزرة الرهيبة في البصرة ، التي
كانت ضحيّتها خمسة وعشرين ألف قتيل .
هذه محاولات جهنّمية ، شيطانية ، يقوم بها هؤلاء الشواذ ، وهم يظنّون أنّهم
يستطيعون تغطية الشمس كي لا يراها أحد ، ويريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم ،
ويأبى الله إلا أن يُتمّ نوره .
وهذه النشاطات المسعورة ، إن دلّت على شيء فإنّما تدل على هويّة هؤلاء الكُتّاب
وماهيّتهم ، وحتى يَعرف العالَم كله أن هؤلاء فاقدون للشرف والضمير ـ بجميع معنى
الكلمة ـ ولا يعتقدون بدينٍ من الأديان ، ولا بمبدأ من المبادئ ، سوى المادة التي
هي الكل في الكلّ عندهم !!
أعود إلى حديثي عن إصطحاب الإمام الحسين (عليه السلام) عائلته المكرّمة في تلك
النهضة :
إنّ تواجد العائلة في كربلاء ، وفي حوادث عاشوراء بالذات
الصفحة 154
لم يُبقِ مجالاً للأمويين ولا لغيرهم ـ في تلك العصور ـ لإنكار شهادة الإمام الحسين
.
إنّ الأمويين الأغبياء، لو كانوا يَفهمون لاكتَفوا بقتل الإمام الحسين فقط، ولم
يُضيفوا إلى جرائمهم جرائم أخرى، مِثل سَبي عائلة الإمام الحسين (عليه السلام)،
ومُخدّرات الرسالة، وعقائل النبوة والوحي، وبنات سيد الأنبياء والمرسلين .
ولكنّهم لكي يُعلنوا إنتصاراتهم في قتل آل رسول الله (عليهم السلام) أخذوا العائلة
المكرّمة سبايا من بلد إلى بلد.
وكانت العائلة لا تدخل إلى بلد إلا وتوجد في أهل ذلك البلاد الوعي واليقظة، وتكشف
الغطاء عن جرائم يزيد ، وتُزيّف دعاوى الأمويّين حول آل رسول الله : بأنّهم خوارج
وأنّهم عصابة مُتمرّدة على النظام الأموي.
ونُلخّص القول ـ هنا ـ فنقول : كان وجود العائلة ـ في هذه الرحلة، والنهضة المباركة
ـ ضرورياً جداً جداً ، وكان جزءاً مُكمّلاً لهذه النهضة.
إنّ هذه الأسرة الشريفة كانت على جانب عظيم من الحِكمة واليقظة، والمعرفة وفهم
الظروف ، واتّخاذ التدابير اللازمة كما
الصفحة 155
تقتضيه الحال (1).
ــــــــــــــــــــ
(1) ولزيادة الفائدة نقول :
لقد ذكر العالم الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في كتابه (السياسة الحسينيّة)
ما يلي : (وهل نشكّ ونرتاب في أنّ الحسين لو قُتل هو ووُلده .. ولم يتعقّبه قيام
تلك الحرائر في تلك المقامات بتلك التحدّيات لَذَهَب قَتلُه جباراً ، ولم يَطلُب به
أحد ثاراً ، ولَضاع دمه هدراً . فكان الحسين يعلم أنّ
هذا عملٌ لابدّ منه ، وأنّه لا يقوم به إلا تلك العقائل ، فوجب عليه حتماً أن
يحملهنّ معه لا لأجل المظلوميّة بسببهنّ فقط ، بل لنظرٍ سياسي وفكر عميق ، وهو
تكميل الغرض وبلوغ الغاية من قلب الدولة على يزيد ، والمبادرة إلى القضاء عليها قبل
أن تقضي على الإسلام ، ويعود الناس إلى جاهليّتهم الأولى) .
ويقول العلامة البحّاثة الشيخ باقر شريف القرشي في كتابه : (السيدة زينب بطلة
التاريخ) ص 212 ما نصّه : (لقد كان من أروع ماخطّطه الإمام في ثورته الكبرى :
حَملُه عقيلة بني هاشم وسار مخدّرات الرسالة معه إلى العراق ، فقد كان على عِلم بما
يجري عليهنّ من النكبات والخطوب ، وما يَقُمن به من دور مشرق في إكمال نهضته وإيضاح
تضحيته ، وإشاعة مبادئه وأهدافه ، وقد قُمن حرائر النبوة بإيقاظ المجتمع من سُباته
، وأسقطن هيبة الحكم الاموي ، وفتحن باب
=
الصفحة 156
ــــــــــــــــــــ
= الثورة عليه ، فقد ألقينَ من الخُطب الحماسيّة ما زَعزع كيان الدولة الأموية .
إنّ من ألمع الأسباب في استمرار خلود مأساة الحسين (عليه السلام) واستمرار
فعّالياتها في نشر الإصلاح الاجتماعي هو حمل عقيلة الوحي وبنات الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم) مع الإمام الحسين ، فقد قُمنَ ببَلورة الرأي العام ، ونَشََرن
مبادئ الإمام الحسين وأسباب نهضته الكبرى ، وقد قامت السيدة زينب (عليها السلام)
بتدمير ما أحرزه يزيد من الإنتصارات ، وألحقت به الهزيمة والعار) .
ويقول الدكتور احمد محمود صبحي في كتابه (نظرية الإمامة) ص 343 : (ماذا كان يكون
الحال لو قُتل الحسين ومَن معه جميعاً من الرجال إلا أن يُسجّل التاريخ هذه الحادثة
الخطيرة من وجهة نظر أعدائه ، فيَضيع كلّ أثر لقضيّته .. مع دمه المسفوك في
الصحراء) . المحقق
الصفحة 157
الإمام الحسين (عليه السلام) في طريق الكوفة
رويَ أن الإمام الحسين (عليه السلام) لمّا نزل الخزيمية (1)
قام بها يوماً وليلة ، فلمّا أصبح أقبلت إليه أخته زينب (عليها السلام) فقالت :
يا أخي ! ألا أُخبرك بشيء سمعته البارحة ؟
فقال الحسين (عليه السلام) : وما ذاك ؟
فقالت : خَرجتُ في بعض الليل فسمعت هاتفاً يهتف ويقول :
ألا يـا عيـنُ فاحتفلي بجهد
ومَن يبكي على الشهداء بعدي
علـى قـومٍ تسـوقهم المنايا بمقـدار إلـى إنجـاز
وعـدِ
ــــــــــــــــــــ
(1) الخزيميّة : نقطة توقّف ، ومحل نزول الحجّاج ، للإستراحة والتزوّد بالماء ،
وتقع بين مكة والكوفة . المحقق
الصفحة 158
فقال لها الحسين (عليه السلام) : يا أختاه كل الذي قُضيَ فهو كائن
(1).
وقد التقى الإمام الحسين (عليه السلام) في طريقه إلى الكوفة برجل يُكنّى (أبا هرم)
، فقال : يابن النبي ما الذي أخرجك من المدينة ؟!
فقال الإمام : (... . وَيحَك يا أبا هرم ! شَتَموا عِرضي فصَبرتُ ، وطلِبوا مالي
فصبرتُ(2) ، وطلبوا دمي فهربت !
وأيمُ الله ليَقتلونني ، ثمّ ليُلبِسنّهم الله ذُلاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ،
وليُسلّطنّ عليهم من يُذلّهم (3).
ــــــــــــــــــــ
(1) كتاب (نفس المهموم) للشيخ عباس القمي ، ص 179.
(2) لعلّ ا لأصح : وأخذوا مالي . المحقق .
(3) الحديث مرويّ عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) ، مذكور في كتاب (أمالي
الصدوق) ص 129 ، حديث 1 ، وذكره الشيخ المجلسي في (بحار الأنوار) ج 44 ص 310 .
الصفحة 159
الفصل السابع
وصول الإمام الحسين (عليه السلام) إلى أرض كربلاء
زَحف جيش الأموي نحو خيام آل محمد (عليهم السلام)
الصفحة 160
الصفحة 161
وصول الإمام الحسين (عليه السلام) إلى أرض كربلاء
وفي الطريق إلى الكوفة ، إلتقى الإمام الحسين (عليه السلام) بالحرّ بن يزيد الرياحي
، وكان مُرسلاً مِن قِبَل ابن زياد في ألف فارس ، وهو يريد أن يذهب بالإمام إلى ابن
زياد ، فلم يوافق الإمام الحسين على ذلك ، واستمرّ في السير حتى وصل إلى أرض كربلاء
في اليوم الثاني من شهر محرم سنة 61 للهجرة .
فلمّا نزل بها ، قال : ما يُقال لهذه الأرض ؟
فقالوا : كربلاء !
فقال الإمام : (اللهم إنّي أعوذُ بك من الكرب والبلاء) ، ثم قال لأصحابه : إنزِلوا
، هاهنا مَحَطّ رحالنا ، ومَسفك دمائنا ، وهنا محلّ قبورنا . بهذا حدّثني جدّي رسول
الله
الصفحة 162
(صلى الله عليه وآله وسلم) (1).
قال السيد ابن طاووس في كتاب (الملهوف) :
لمّا نزلوا بكربلاء جلس الإمام الحسين (عليه السلام) يُصلح سيفه ويقول :
يـا دهرُ أفٍ لك من iiخليل كم لك بالإشراق و الأصيل
مِـن طالبٍ وصاحبٍ iiقتيل والـدهر لا يـقنعُ iiبالبَديل
وكلّ حيّ سالكٌ iiسبيلي(2) ما أقربَ الوعد من الرحيلِ
وإنّـما الأمـر إلى iiالجليلِ
|
فسمعت السيدة زينب بنت فاطمة (عليها السلام) ذلك ، فقالت : يا أخي هذا كلام مَن
أيقَن بالقَتل !
فقال : نعم يا أختاه .
فقالت زينب : واثكلاه ! ينعى إليّ الحسين نفسه .
وبكت النِسوة ، ولَطمن الخدود ، وشقَقن الجيوب ، وجعلت أمّ كلثوم تنادي : وامحمّداه
! واعليّاه ! وا أمّاه ! وا فاطمتاه !
ــــــــــــــــــــ
(1) كتاب (الملهوف) ص 139 .
(2) وفي نسخة :
وإنّما الأمر إلـى الجليـل وكـلّ حيّ فإلـى سبيلـي
ما أقرب الوعد إلى الرحيل إلـى جنـانٍ وإلى مقيـلِ
الصفحة 163
واحَسَناه ! واحُسيناه ! واضيعتاه بعدك يا أبا عبد الله ... إلى آخره
(1).
ورَوى الشيخ المفيد في كتاب (الإرشاد) هذا الخبر بكيفيّة أُخرى وهي:
قال علي بن الحسين [زين العابدين] (عليهما السلام) :
إنّي جالس في تلك العشيّة التي قُتل أبي في صبيحتها، وعندي عمّتي زينب تُمرّضني، إذ
اعتزل أبي في خِباء له (2)، وعنده جوين مولى أبي ذرٍ
الغفاري، وهو يعالج سيفه (3) ويُصلحه ، وأبي يقول:
يا دهـر أفّ لك من خليل كم لك بالإشراق
والأصيل
مِـن صاحب وطالبٍ قتيل والدهـر لا يقنـع بالبديل
و إنّمـا الأمـر إلى الجلل وكلّ حـي
سـالكٌ سبيلي
فأعادها مرّتين أو ثلاثاً، حتّى فهمتُها ، وعَرفت ما أراد ، فخَنَقتني العبرة ،
فرددتها ، ولَزِمتُ السكوت ، وعلِمت أنّ البلاء قد نزل .
وأمّا عمتي : فإنّها سَمِعت ما سمعتُ ، وهي إمرأة ، ومن شأنها النساء : الرقّة
والجزع ، فلم تِملِك نفسها ، إذ وَثَبت تجرّ ثوبها ،
ــــــــــــــــــــ
(1) كتاب (الملهوف على قتلى الطفوف) للسيد علي بن موسى بن طاووس ، المتوفّى سنة 664
هـ ، ص 139 .
(2) خِباء : خيمة .
(3) ضمير هو : يرجع إلى جوين ، يُعالج : يُحاول إعداده للإستعمال في القتال .
الصفحة 164
حتى انتهت إليه فقالت :
واثكلاه ! ليتَ الموت أعدَمَني الحياة ، اليوم ماتت أُمّي فاطمة ، وأبي علي ، وأخي
الحسن ، يا خليفة الماضين وثِمال الباقين !
فنظر إليها الإمام الحسين فقال لها : يا أُخيَّة ! لا يُذهِبنّ حِلمَك الشيطان .
وتَرقرَقَت عيناه بالدموع ، وقال : يا أُختاه ، (لو تُرك القَطا لغَفا ونامَ)
(1).
فقالت : يا ويلتاه ! أفتغتصب نفسك اغتصاباً ؟(2) فذاك
أقرَحُ لقلبي ، وأشدّ على نفسي ، ثمّ لطمت وجهها ! وأهوَت إلى جيبِها فشقّته ،
وخرّت مغشيّاً عليها .
فقام إليها الإمام الحسين (عليه السلام) فَصَبّ على وجهها الماء ، وقال لها :
ــــــــــــــــــــ
(1) القطا : طائرٌ معروف ، واحدة : القطاة . قالوا ـ في الأمثال ـ : (لو تُرك القطا
ليلاً لَنام) يُضرَبُ مثلاً لِمَن حُمِل أو أُجبِر على مكروه من غير إرادته ، وذلك
أنّ القطا لا يطير ليلاً إذا أذا أزعجوه وأفسدوا عليه راحته ، فإذا طار القطا ليلاً
كان ذلك علامة على أنّ عدوّاً يُلاحقه .
ومعنى كلام الإمام الحسين (عليه السلام) : إنّ العدوّ لو كان يتركُنا لكنّا نَبقى
في وطننا في المدينة ، ولكنّه أزعجنا وأخرجَنا من بلادنا ، وسيَبقى يُلاحقنا إلى أن
نَسلَم منه أو يَقتُلنا . المحقق
(2) أي : تُقتَل ظُلماً وقَهراً .
الصفحة 165
إيهاً يا أُختها ! إتّقي الله ، وتَعزّي بعزاء الله ، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون
وأنّ أهل السماء لا يَبقون ، وأنّ كلّ شيء هالِك إلا وجه الله ، الذي خلق الخلق
بقُدرته ، ويَبعث الخلق ويعيدهم وهو فردٌ وحده .
جدّي خيرٌ مني ، وأبي خيرٌ منّي ، وأُمّي خيرٌ منّي ، وأخي [الحسن] خيرٌ منّي ، ولي
ولكلّ مسلم برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أُسوة .
فعزّاها بهذا ونحوه ، وقال لها : (يا أُختاه إني أقسمتُ عليكِ ، فأبِرّي قَسَمي
(1).
لا تَشُقّي عَلَيّ جَيباً ، ولا تَخمشي عليّ وجهاً ، ولا تَدعي عليّ بالويل
والثُبور إذا أنا هلكتُ) .
ثمّ جاء بها حتّى أجلسها عندي ، وخرج إلى أصحابه ... (2).
* * * *
أقول : سمعتُ من بعض الأفاضل : أنّ هذه الأبيات كانت مشؤمة عند العَرب ، ولم يُعرف
قائلُها ، وكان المشهور عند الناس : أنّ
ــــــــــــــــــــ
(1) أبرّي قَسَمي : أجيبيني إلى ما أقسَمتُكِ عليه ، ولا تَحنَثي ذلك . كما في
(لسان العرب) . المحقق
(2) كتاب (الإرشاد) للشيخ المفيد ، ص 232 . وذكره الطبري ـ المتوفّى عام 310 هـ ـ
في تاريخه ج 5 ص 420 .
الصفحة 166
كلّ مَن أحسّ بخطر الموت أو القتل كان يتمثّل بهذه الأبيات .
ولا يَبعدُ هذا الكلام من الصحّة ، لأنّ الأبيات مُشتملة على عتاب الدهر وتوبيخه لا
غير ، ولعلّ لهذا السبب أحسّت السيدة زينب باقتراب الخطر من أخيها الإمام الحسين
(عليه السلام) وقالت : هذا الحسين يَنعى إليّ نفسه .
وهكذا الإمام زين العابدين (عليه السلام) تَراه قد استَنبَطَ من قراءة هذه الأبيات
نُزول البلاء .
حيث إنّ هذه الأبيات لا تُصرّح ـ بظاهرها ـ بشيء من هذه الأمور ، كخطر الموت أو
اقتراب موعد القتل .
* * * *
هذا .. والظاهر أنّ نهي الإمام الحسين أُخته السيدة زينب عن شقّ الجيب وخَمش الوجه
إنّما كان خاصّاً بساعة قتل الإمام ، بعد الإنتباه إلى قول الإمام : (إذا أنا
هلكتُ) .
وبعبارة أخرى : إنما منَعَها أن تَشُقّ جيبها أو تخمش وجهها ساعة مصيبة مقتل الإمام
وشهادته . والسيدة زينب إمتثَلت أمر أخيها ، ولم تفعل شيئاً من هذا القبيل عند
شهادة الإمام في كربلاء . وإنّما قامت ببعض هذه الأعمال في الكوفة ، وفي الشام في
مجلس يزيد ، عندما شاهدت ما قام به يزيد (لعنة الله عليه) من أنواع الإهانة برأس
الإمام الحسين عليه السلام .
الصفحة 167
ولعلّ نهي الإمام أخته عن شقّ الجيب ـ في تلك الساعة أو الساعات الرهيبة ـ كان لهذه
الحِكمة : وهي أن لا يظهر منها أثر الضعف والإنكسار والإنهيار ، أمام أولئك الأعداء
الألدّاء ، فقد كان المطلوب من السيدات ـ حينذاك ـ الصبر والتجلّد وعدم الجزع أمام
المصائب .
لانّ هذا النوع من الشجاعة ـ وفي تلك الظروف بالذات ـ ضروري أمام العدوّ الحاقد ،
الذي كان يتحيّن كلّ فرصة للقيام بأيّ خطوة تُناسب نفسيّته اللئيمة ، تجاه تلك
العائلة المكرّمة الشريفة ، وكانت مواجهة الحوادث بصبر جميل ومعنويّات عالية ، تعني
تفويت الفُرص أمام تفكير العدوّ القيام بأيّ نوع من أنواع الاعتداء والإهانة وسحق
الكرامة تجاه تلك السيدات الطاهرات المفجوعات ، اللواتي فقدن المُحامي والمدافع
عنهن !
الصفحة 168
الصفحة 169
زحف الجيش الأموي نحو خيام آل محمد (عليهم السلام)
كانت السيدة زينب (عليها السلام) تَشعر باقتراب الخطر يوماً بعد يوم ، وساعةً بعد
ساعة ، وكيف لا ؟ والسيل البشري يتدفّق نحو أرض كربلاء لقتل ريحانة رسول الله وسبطه
الحبيب ؟
وآخر راية وصلت إلى كربلاء : راية شمر بن ذي الجوشن في ستّة آلاف مقاتل ، ومعه
الحُكم الصادر مِن عبيد الله بن زياد ، يأمر فيه ابن سعد أن يُخيّر الإمام الحسين
بين أمرين :
1 ـ الإستسلام .
2 ـ الحرب .
فزحف الجيش الأموي نحو خيام آل محمد (عليهم السلام) ونظرت السيدة زينب إلى أسراب من
الذئاب تتراكض نحو بيوت الرسالة والإمامة .
الصفحة 170
ويعلم الله تعالى مدى الخوف والقلق والإضطراب الذي استولى على قلوب آل رسول الله .
وأقبلت السيدة زينب تبحث عن أخيها ، لتُخبره بهذا الهجوم المُفاجئ في تلك السويعات
الأخيرة من اليوم التاسع من المحرّم ، قريب الغروب .
وأخيراً ، وصلت إلى خيمة الإمام الحسين (عليه السلام) وإذا بالإمام جالس ، وقد
احتضن ركبتيه ، ووضع رأسه عليهما ، وقد غلبه النوم .
واستيقظ الإمام على صوت أخته الحوراء تُخاطبه ـ بصوت مليء بالرُعب ، مزيج بالعاطفة
والحنان ـ .. قائلةً :
أخي أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت ؟
فرفع الإمام الحسين رأسه وقال : أُخيّه ! إنّي رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) الساعة في المنام ، وقال لي : (إنّك تروح إلين) .
أو (إنّي رأيت ـ الساعة ـ محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي عليّاً، وأمّي
فاطمة، وأخي الحسن وهم يقولون: يا حسين إنّك رائحٌ إلينا عن قريب)(1).
ــــــــــــــــــــ
(1) كتاب (الملهوف على قتلى الطفوف) للسيد ابن طاووس ، طبع ايران ، عام 1414 هـ ، ص
151 .
الصفحة 171
فلطمت السيدة زينب وجهها ، وصاحت : واويلاه ، وبكت .
فقال لها الإمام الحسين : ليس لك الويل يا أخيّة ، لا تُشمِتي القوم بنا ، أُسكتي
رحمك الله (1).
فنهض الإمام الحسين (عليه السلام) وأرسل أخاه العبّاس ابن علي مع عشرين فارساً من
أصحابه ، وقال : (يا عباس إركب ـ بنفسي أنت يا أخي ـ حتّى تلقاهم وتقول لهم مالكم
وما بدا لكم ؟؟ وتسألهم عمّا جاء بهم ؟
فأتاهم العباس وقال لهم : ما بَدا لكم وما تريدون ؟
قالوا : قد جاء أمر ابن زياد أن نَعرِض عليكم : أن تنزلوا على حُكمه ، أو نُناجزكم
!
فقال العباس : لا تَعجَلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله ، فأعرض عليه ما ذكرتم .
فتوقّف الجيش ، وأقبل العباس إلى أخيه الإمام الحسين (عليه السلام) وأخبره بما قاله
القوم .
فقال الإمام إرجع إليهم .. فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدٍ وتدفعهم عنّا العشيّة ،
لعلّنا نُصلّي لربنا الليلة
ــــــــــــــــــــ
(1) كتاب (معالي السبطين) للمازندراني ، ج 1 ، ص 204 ، الفصل الثامن ، المجلس الأول
.
الصفحة 172
وندعوه .. فهو يعلم أني أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه ؟
فمضى العباس إلى القوم فاستمهلهم ، وأخيراً .. وافقوا على ذلك
(1).
ــــــــــــــــــــ
(1) كتاب (معالي السبطين) للمازندراني ، ج 1 ، ص 332 .
الصفحة 173
الفصل الثامن
ليلة عاشوراء
أزمة الماء
الصفحة 174
الصفحة 175
ليلة عاشوراء
إن مشكلة كبيرة واحدة تحدث في حياة الإنسان قد تسلبه القرار والاستقرار ، وتورثه
الأرق والقلق والسهر ، وترفض عيناه النوم ، فكيف إذا أحاطت به عشرات المشاكل
الكبيرة ؟ !
من الواضح أن أقل ما يمكن أن تسببه تلك المشاكل هو : الإنهيار العصبي ، وفقدان
الوعي ، واختلال المشاعر وتبلبل الفكر ، وتشتت الخاطر .
فهل نستطيع أن نتصور كيف انقضت ليلة عاشوراء على آل رسول الله ؟ !
فالهموم والغموم ، والخوف والتفكر حول الغد ، وما يحمله من الكوارث والفجائع ،
وبكاء الأطفال من شدة العطش ، ـ وغير ذلك من المميزات تلك الليلة ـ جعلت الليلة
فريدة من نوعها في تاريخ حياة أهل البيت (عليهم السلام) .
الصفحة 176
وفي ساعة من ساعات تلك الليلة خرج الإمام الحسين (عليه السلام) من منطقة المخيم ،
راكباً جواده ، يبحث في تلك الضواحي حول التلال والربووات ـ المشرفة على منطقة
المخيم ـ التي كان من الممكن أن يمكن العدو خلفها غداً ، إذا اشتعلت نار الحرب .
ويرافقه في تلك الجولة الإستطلاعية نافع بن هلال ، وهو ذلك البطل الشجاع المقدام ،
وكان من أخص أصحابه وأكثرهم ملازمة له ، فلنستمع إليه :
إلتفت الإمام خلفه وقال : من الرجل ؟ نافع ؟
قلت : نعم ، جعلني الله فداك ! ! أزعجني خروجك ليلاً إلى جهة معسكر هذا الطاغي .
فقال : يا نافع ! خرجت أتفقد هذه التلال مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل على
مخيمنا يوم تحملون ويحملون .
ثم رجع (عليه السلام) وهو قابض على يساري ، وهو يقول : (هي ، هي ، والله ، وعد لا
خلف فيه) .
ثم قال : يا نافع ! ألا تسلك ما بين هذين الجبلين (1)
من وقتك
ــــــــــــــــــــ
(1) ليس في أرض كربلاء جبل ، وإنما فيها تلال وربوات لا تزال موجودة ويقال لها ـ
بالغة الدارجة ـ : علوة وعلاوي ، ولعل الإمام (عليه السلام) قصد من الجبلين :
التلال الموجودة في تلك المنطقة .
الصفحة 177
هذا ، وتنجو بنفسك ؟
فوقعت على قدميه ، وقلت : إذن ثكلت نافعاً أمه ! !
سيدي : إن سيفي بألف ، وفرسي مثله ، فو الله الذي من علي بك لا أفارقك حتى يكلا عن
فري وجري (1).
ثم فارقني ودخل خيمة أخته ، فوقفت إلى جنبها (2) رجاء
أن يسرع في خروجه منها .
فاستقبلته زينب ، ووضعت له متكئاً ، فجلس وجعل يحدثها سراً ، فما لبثت أن اختنقت
بعبرتها ، وقالت : وا أخاه ! أشاهد مصرعك ، وأبتل برعاية هذه المـذاعير
(3) من النساء ؟ والقوم ـ كما تعلم ـ ما هم عليه من الحقد القديم .
ذلك خطب جسيم ، يعز علي مصرع هؤلاء الفتية الصفوة ، وأقمار بني هاشم !
ثم قالت : أخي هل إستعلمت من أصحابك نياتهم ؟ فإني أخشى أن يسلموك عند الوثبة ،
واصطكاك الأسنة !
ــــــــــــــــــــ
(1) أي : حتى يعجز السيف عن القطع ، ويعجز الفرس عن الركض .
(2) جنبها : أي جنب الخيمة .
(3) المذاعير ـ جمع مذعور ـ : وهو الذي أخافوه .
الصفحة 178
فبكى (عليه السلام) وقال : أما والله لقد لهزتهم (1)
وبلوتهم ، وليس فيهم إلا الأشوس الأقعس (2) يستأنسون
بالمنية دوني إستيناس الطفل بلبن أمه .
قال نافع بن هلال : فلما سمعت هذا منه بكيت ، واتيت حبيب بن مظاهر ، وحكيت له ما
سمعت منه ومن أخته زينب .
فقال حبيب : والله لو لا انتظار أمره لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة !
قلت : إني خلفته عند أخته وهي في حال وجل ورعب ، وأظن أن النساء أفقن وشاركنها في
الحسرة والزفرة ، فهل لك ان تجمع اصحابك وتواجههن بكلام يسكن قلوبهن ويذهب رعبهن ؟
فلقد شاهدت منها ما لا قرار لي مع بقائه .
فقال لي : طوع إرادتك ، فبرز حبيب ناحية ، ونافع إلى ناحية ، فانتدب أصحابه .
فتطالعوا من مضاربهم (3) فلما اجتمعوا قال ـ لبني
هاشم ـ : إرجعوا إلى منازلكم ، لا سهرت عيونكم ! !
ثم خطب أصحابه وقال : يا أصحاب الحمية وليوث
ــــــــــــــــــــ
(1) يقال : لهزته اي : خالطته ، والمقصود : الإختبار والإمتحان .
(2) الأشوس : الجريء على القتال الشديد والأقعس : الرجل الثابت العزيز المنيع .
(3) المضارب ـ جمع مضرب ـ : الخيمة .
|