الصفحة109
يَعتبر الإمام الحسين (عليه السلام) كبير الأسرة ، وسيّد العائلة ، وأشراف أفراد
العشيرة ، فلا ينبغي لعبد الله بن جعفر أن يُنعم بالقَبول ويوافق بدون موافقة
الإمام الحسين ، فتخلّص من هذا الطلب المُحرج ، ومن هذه الحيلة الشيطانيّة فقال :
(إنّ أمرها ليس إليّ ، إنّما هو إلى سيدنا الحسين ، وهو خالُه) . فأخبر عبد الله
الإمام الحسين بذلك .
فقال الإمام : (أستخيرُ الله تعالى ، اللهم وفّق لهذه الجارية رِضاك من آل محمد)
(1).
فلمّا اجتمع الناس في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أقبَل مروان حتى
جلس إلى [جَنب] الحسين (عليه السلام) وعنده مِن الجِلّة (2).
فقال مروان : إنّ أمير المؤمنين [معاوية] أمَرَني بذلك ، وأن
ــــــــــــــــــــ
(1) أستخير الله : أي أطلُب مِن الله تعالى الخير والصلاح في هذا الأمر .
اللهم وَفّق : أي : هَيّء ، التوفيق : تهيئة الأسباب .
الجارية : الفتاة .
رضاك : مَن ترضى به زوجاً لهذه الفتاة .
من آل محمد : أي ويكون ذلك الزوج مِن أقرباء رسول الله القريبين منه .. لا من غيرهم
. المحقّق
(2) الجِلّة ـ مِن القوم ـ كِبار السنّ ، والشخصيّات البارزة . كما يُستفاد من كتاب
(لسان العرب) لابن منظور .
الصفحة110
أجعَل مَهرها حُكم أبيها بالغاً ما بلغ
(1) مع صُلح مابين هذين الحَيّين
(2) مع قضاء
دَينه (3). واعلم أنّ مَن يَغبطكم بيزيد أكثر ممّن يغبطه بكم !!
والعجَب كيف يُستَمهَر يزيد وهو كُفوُ مَن لا كفوَ له !!
وبوجهه يُستسقى الغمام !!
فرُدّ خيراً يا أبا عبد الله ؟(4).
أقول : قبل أن أذكر تكملة هذا الخبر أودّ التعليق على كلمات مروان :
من الصحيح أن نقول : إنّ الصلافة والوقاحة لا حدّ لهما ولا نهاية ، وإنّ دِناءة
النَفس وخساسة الروح تُسبّب إنقلاب المفاهيم إلى صورة أخرى .
فالحقير يَنقلب شريفاً ، والنَذل يُعتبر مُحترماً ، والوجه الذي لم يَسجُد لله
يُستَسقى به الغمام ، ووليد الكفر والفجور يُغتَبَط
ــــــــــــــــــــ
(1) أي : وأن أجعل مقدار المهر ما يُعيّنه أبو البِنت ، وهو عبد الله بن جعفر .
مهما كان ذلك المقدار كثيراً .
(2) الحيّين : العشيرتين . الحيّ : القبيلة .
(3) أي : دَين أبيها عبد الله بن جعفر .
(4) رُدّ خيراً : أجِب بالإيجاب والموافقة .
الصفحة111
به ، والسافل المنحَط يَصير أرفع وأجلّ مِن أن يُطالَب بالمهر ، بل ينبغي أن تُهدي
العظماء فَتياتها إليه هدايا بلا مَهر !!!
هذا هو منطق مروان ، وعصارة دماغه ، وكيفيّة تفكيره ، ومَدى إدراكه للقيم والمفاهيم
. وقد تجرّأ أن يَرفع صوته بهذه الأكاذيب التي لا يَجهلها أحد .. وكأنّه لا يعلم مع
مَن يتكلّم ، وعمّن يتحدّث ويمدَح ؟!
فأجابه الإمام الحسين (عليه السلام) بجوابٍ ألقَمَه حَجراً ، وزَيّف أباطيله
وأضاليله ، وفنّد تلك الترّهات التي صدرت مِن أقذر لسان ، وألعن وأحقر إنسان .
والآن .. إليك تكملة الخبر :
فقال ـ عليه السلام ـ : (الحمد لله الذي اختارنا لنفسه ، وارتضانا لدينه ، واصطفانا
على خلقه .... إلى آخر كلامه) .
أُنظر إلى قوّة المنطق ، وعُلوّ مستوى النفس ، وشِرافة الروح ، وقداسة السيرة ،
وغير ذلك ممّا يتجلّى في جواب الإمام الحسين (عليه السلام) لمروان بن الحَكم .
فهو (عليه السلام) يَفتتح كلامه بحمد الله تعالى الذي اصطفاهم واختارهم ، وهذا
منتهى البلاغة والكلام المناسب لمُقتضى الحال ، فتراه يُصرّح أنه من الأسرة التي
اختارهم الله تعالى للإمامة واصطفاهم ، ومعنى ذلك توفر المؤهلات فيهم ،
الصفحة112
وتواجد الفضائل والمزايا والخصائص التي لا توجد في غيرهم ، فهم في أعلى مستوى من
الشرف ، وفي ذروة العظمة الممنوحة لهم من الله تعالى ، والفرق بينهم وبين غيرهم
كالفرق بين الثُريّا والثَرى ، والجواهر والحصى .
إذن ، فهناك البون الشاسع بينهم وبين غيرهم من الناس الذين لم يَتلوّثوا بالجرائم ،
ولم يُسوّدوا صحائف اعمالهم بالمخازي ، فكيف بمعاوية ويزيد و مروان ، والذين هم من
هذه الفصيلة !
ثم قال الإمام : (يا مروان ، قد قلتَ ، فسمعنا ،
أمّا قولك : (مَهرها حُكم أبيها بالغاً ما بلغ) ، فلَعمري لو أردنا ذلك ما
عَـدَونا (1) سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بناته ونسائه وأهل بيته ،
وهو(2) اثنتا عشرة أوقية ، يكون أربعمائة وثمانين
درهماً (3).
ــــــــــــــــــــ
(1) عَدَونا : تجاوَزنا . عدا عدواً : تجاوز الحد في الشيء . كما في كتاب (لسان
العرب) لابن منظور .
(2) وهو : أي المهر .
(3) الدرهم : وحدة وَزن ، وقطعة من فضّة مضروبة للمعاملة . أمّا الوَزن : فقيل :
إنّ الدرهم الواحد يُساوي ستّة دوانق ، والدانق : قيراطان ، والقيراط ، طسّوجان ،
والطسوج : حبّتان ، والحَبّة : سُدس ثمن درهم ، وهو جزء من ثمانية وأربعين جزءاً من
الدرهم .
المحقق
الصفحة113
وأمّا قولك : (مع قضاء دَين أبيه) فمتى كنّ نساؤنا يقضين عنّا ديوننا ؟!
وأمّا (صلح ما بين هذين الحيّين) فإنّا قوم عادَيناكم في الله ، ولم نَكن نصالحكم
للدنيا ، فلقد أعيى النسب ، فكيف السبب ؟
يُريد مروان أن يُصلح بين الخير والشرّ ، وبين الفضائل والرذائل ، وبين أولياء الله
وأعدائه ، بذلك الزواج المقصود .
وكيف يمكن الصلح بين هاتين الفئتين ؟!
فهل يَتنازل أولياء الله تعالى لأعداء الله ، ويَعترفون لهم بقيادتهم المُغتصبة ،
وزعامتهم الملوّثة ، وجرائمهم ومَخازيهم ؟؟!!
هل هذا معنى الصلح بين الحَيّين ؟!
أو يَجب على المجرمين ـ المناوئين لأولياء الله ـ أن يَتوبوا ويَرتَدعوا عن أعمالهم
اللااسلامية ، ويُنقادوا لأهل البيت الذين فرض الله تعالى مودّتهم ، وأوجب طاعتم
وولايتهم ؟!
فإن كان المقصود : المعنى الأول ، فهو مستحيل شرعاً وعقلاً .
لأنّ الإعتراف ـ للمفسدين ـ بالصلاح والتقوى يُعتبر سَحقاً للمفاهيم الإسلامية ،
وإبطالاً للحقّ ، وإحقاقاً للباطل ، وحاشا أهل بيت رسول الله (عليهم صلوات الله)
مِن هذا التنازل المُشين المُزري .
الصفحة114
وإن كان المقصود من الصُلح : المعنى الثاني ، فهذا لا يتوقّف على المصاهرة ولا
يحتاج الى هذا الزواج السياسي ، فإن كان البيت الأموي يؤمن بالحقّ في آل رسول الله
فليَعترف لهم بذلك ، وليَنسحب من ساحة القيادة ، وليَنزل عن منصّة الحكم ، وعند ذلك
يتحقّق الصلح المَنشود .. على حدّ زعمهم .
ولكنّ مروان لا يفهم هذه الأمور ، أو يفهم ولكنّه يجحد بالحقّ وهو مستيقن به ،
وإنّما يريد أن يُحقّق هدفه الميشوم عن طريق المغالطة في الكلام والتزوير في
الحقائق والمفاهيم .
ومن غَباوته انه كان يظنّ أن الإمام الحسين (عليه السلام) يَنخدع بهذه الأساليب
المُلتَوية والخُداع المكشوف .
ثم هلمَ معي لنَنظر إلى البيت العَلوي النبوي الشامخ، والشجرة الطيبة التي أصلها
ثابت وفرعها في السماء ، فالقرآن الكريم يُمطر عليهم وابِل المدح والثناء .
بدءاً بصاحب الشريعة الإسلامية النبي الأقدس (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى سيّد
العترة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى سيدة نساء العالمين فاطمة
الزهراء (عليها السلام) إلى سيّدي شباب أهل الجنة ، رَيحانتي رسول الله : الإمام
الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام) إلى بقية الأئمة الطاهرين (سلام الله عليهم
أجمعين) .
الصفحة115
فهذه آية التطهير ، وتلك آية المباهلة ، وتلك آية المودّة ، وتلك سورة هل أتى ،
وتلك آية التبليغ ، وتلك آية (إنّما وليّكم الله ... .)
.
وكلّها آيات تقدير، وباقات تمجيد ، وعلائم وتصريحات بالإشادة بجلالة قَدرهم وعلوّ
شأنهم ، مَن صلاتهم وإنفاقهم وإطعامهم ، وجهادهم وإيثارهم ، وعِصمتهم وقداستهم وغير
ذلك .
وهذه مئات الآلاف من الكتب التي تَشهد بخصائصهم ومزاياهم وفضائلهم ومكارمهم
ومناقبهم .
إذن ، فمن الطبيعي أن تَحصل العداوة والخُصومة بين هاتين الطائفتين ، فالتناقض
موجود دائماً بين الفضائل والرذائل ، وبين الخير والشر ، وبين النور والظلام ، فكيف
يُمكن الصُلح بين هذين الحيّين وهاتين العشيرتين .. كما زَعَمه مروان ؟!
(فإنّا قوم عاديناكم في الله ، ولم نكن نُصالحكم للدني) إنّ الإمام الحسين (عليه
السلام) يَكشِف الغطاء عن أسباب النزاع وموجبات الخصومة بين بني هاشم وبين بني أمية
، إذ قد يكون سبب العداوة ـ بين فِرقتين أو عشيرتين ـ لأجل شيء مادي ، كالمال
والرئاسة وما شابَه ذلك . وقد يكون سبب العداوة عقائدياً ودينيّاً ، فكيف يمكن
الوئام والوفاق بين طائفتين هما على طرَفَي نَقيض من الناحية العقائديّة ؟!
هذا .. ومن الواضح ـ تاريخياً ـ أنّ الطائفة التي بَدأت في
الصفحة116
إظهار العداوة وإشعال نار الفتنة والتفرقة هم بنو أميّة ، وعلى رأسهم أبو سفيان ..
شيخ المشركين أوّلاً ، ورئيس المنافقين آخراً .
فمن الذي قاد جيش المشركين من مكة إلى حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم
بدر ؟!
ومن الذي قاد جيش المشركين في واقعة أحد ؟!
ومن الذي شقّ بطن حمزة سيد الشهداء وعمّ رسول الله ، وأخرج قلبه وكبده ، وجَدَع
أنفه وأذنيه ، ومَثّل به شرّ مُثلة ؟!
أليست هي هند زوجة أبي سفيان ؟!
ومن الذي قاد جيوش الأحزاب في غزوة الخندق ؟!
ومَن .. ومَن ..؟!
ومن الذي قال ـ يوم بويع لعثمان بن عفّان ـ : تلقّفوها يا بني عبد شمس ، فوالذي
يَحلِف به أبو سفيان : لا جنّة ولا نار ؟!
أليس هو أبا سفيان ؟!
ومن الذي حارب الإمام عليّاً (عليه السلام) يوم صفّين ، وأقام تلك المجزرة الرهيبة
التي كاد أن ينقطع فيها نسل العرب ؟!
ومن الذي سنّ لعن الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) على المنابر وفي قنوت
الصلاة ، حتى قال الشاعر :
لَعَنته بالشام سبعين عاماً
لَعَن الله كهلها وفتاها
الصفحة117
أليس هو معاوية ؟
نحن لا نريد أن نفتح ملفّات أبي سفيان وابنه معاوية في هذه السطور ، فالحديث عنهما
طويل طويل ، فهذه مئات الكُتب والمؤلّفات .. مِن الصحاح وغيرها ـ على مرّ القرون ـ
تَرفع الستار وتكشف الغطاء والقناع عن هويّتهما ، وتُبيّن سَريرتهما ونَفسيّتهما ،
وسوابقهما ولواحقهما ، وتُعرّفهما للملأ الإسلامي ـ إذا كان واعياً ـ وتوضّح مواقف
كل واحد منهما تجاه الدين الإسلامي ورجالات المسلمين
(1) !!
وأمّا معنى كلام الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ : (فلقد أعيى النسب ، فكيف بالسبب
؟) فإنّ بني هاشم كانوا هم الصفوة من قريش ، وبنو أمية كانوا يدّعون أنّهم من
قريش(2) ، إذن .. فالنسب
ــــــــــــــــــــ
(1) لمعرفة المزيد من المعلومات حول ملف أبي سفيان إقرأ كتاب (الغدير) للمحقّق
العظيم الشيخ الأميني ، طبع بيروت ، سنة 1397 هـ ، الجزء العاشر ، ص 79 ـ 84 وحول
ملف معاوية إقرأ الكتاب المذكور ، الجزء 10 ص 138 ـ 384 ، والجزء 11 ص 3 ـ 103 .
المحقق
(2) هناك نظريّة لبعض الأعلام المعاصرين ، وهي أنّ (أميّة) لم يكن ولداً من صُلب
عبد شمس ، بل كان عبداً روميّاً .. إشتراه عبدُ شمس ، ومع مرور الأيام ..
إستَلحَقَه عبد شمس ، فنسب إليه ، وكانت ظاهرة الإستلحاق رائجة قبل الإسلام .
وبناءً على هذا الأساس لم يكن هناك نسب حقيقي
=
الصفحة118
موجود بين هاتين العشيرتين : بني هاشم وبني أمية ، وقد أعيى وعجَزَ هذا النسب وهذه
القرابة أن تكون سبباً للصلح والوئام بين هاتين العشيرتين ، فهل تنفع المصاهرة
للإصلاح بينهما ؟
وأمّا قولك : (العجب ليزيد كيف يُستمهر ؟) ، فقد استُمهر(1) مَن هو خير من يزيد ،
ومن أب يزيد ، ومن جدّ يزيد !!
ــــــــــــــــــــ
= بين بني هاشم وبني أمية !! فلا يُعتبر بنو أمية من قريش ، إنما هم مُلحقون بهم .
واستُدلّ لهذه النظرية ـ أو الحقيقة ـ : أنّ معاوية لمّا كتب إلى الإمام أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في رسالة له : (إنّما نحن وأنتم بنو عبد
مناف) كتَب الإمام (عليه السلام) ـ في جوابه ـ (ليس المُهاجر كالطليق ، وليس الصريح
كاللَصيق)!!
وقد جاء في مقدّمة كتاب (مَثالب العرب) لهشام بن الكلبي ، المتوفّى عام 204 هـ ،
الطبعة الأولى المحقّقة ، طبع إيران ، عام 1419 هـ ، ص 27 ، ما نصه : (كان أميّة
عبداً لعبد شمس ، وصل إلى مكة عَبر تجارة الرقيق ، فتبنّاه عبد شمس) . المحقّق
ولمزيد التفصيل راجع كتاب (نهج البلاغة) المطبوع مع شرح محمد عبده ، طبع مصر ،
الجزء الثالث ، ص 19 ، كتاب رقم 17 وكتاب (إلزام النواصب) للشيخ البحراني المتوفّى
عام 900 للهجرة .
(1) إستُمهر : طُلِبَ منه المهر .
الصفحة119
إنّ مروان لا يَعلم بأنّ المهر شرطٌ في الزواج ، وأن (لا زواجَ بلا مهر) بصَرف
النظر عن طرَفي النكاح ـ وهما : الزوج والزوجة ـ وشؤونهما ، سواءً كان أحد الطرفين
وضيعاً أو شريفاً ، غنيّاً أو فقيراً .
فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو أشرف الكائنات وأفضل المخلوقين،
وسيد الأنبياء والمرسلين ـ والذي كانت إحدى نَعليه أشرف من جميع بني أميّة قاطبة ـ
قد أمهر نساءه ، ولكن مروان يقول : والعجب كيف يُطلب المهر من يزيد ؟
ويتجاوز مروان حدود الصلافة والكذب ويقول : (إنّ يزيد كفوُ مَن لا كفوَ له) أي :
انّ يزيد يُعتبر كُفواً ونظيراً لطائفة خاصّة من الناس ، وطبقة عالية وراقية من
المجتمع ، وهم العظماء والأشراف الذين ليس لهم نظير يُماثلهم في الشرف ويُساويهم في
العظمة ، فإن يزيد كُفوهم ونظيرهم في المجد والشرف .
ويُجيبه الإمام الحسين (عليه السلام) : وأمّا قولك : (إنّ يزيد كفوُ من لا كفو له)
فمن كان كفوه قبل اليوم فهو كفوه اليوم ، ما زادته إمارته في الكفاءة شيئاً .
يقول الإمام (عليه السلام) : إنّ يزيد الذي هو حفيد أبي سفيان شيخ المنافقين ،
وحصيلة هند : آكلة الأكباد ، وثمرة حمامة : ذات العلم ، وابن معاوية : فرع الشجرة
الملعونة في القرآن، وابن ميسون النصرانية، كلّ مَن كان كفوه ـ أي: نظيره
ومَثيله ومُساويه ـ قبلَ اليوم .. فهو كفوه اليوم أيضاً. إن يزيد هوَ هو، لم
تتغيّر ماهيّته ،
الصفحة120
ولم تتبدّل هويّته ، بل حاضره مثل ماضيه ، ولاحقُه مثل سابقه ، والإمارة المُغتصبة
التي تقمّصها ما زادته إلا زوراً وبُهتاناً .
وأمّا قولك : (بوجهه يُستسقى الغمام) ، فإنّما كان ذلك بوجه رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم .
أقول : الوجه والجاه : القدر والمنزلة . وقد كان المسلمون ـ فيما مضى ـ إذا قلّت
عندهم الأمطار يخرجون إلى الصحراء لصلاة الإستسقاء ، ويسألون من الله تعالى أن
يَسقيهم المطر ، ولا شك أنّ الذي يتقدّم الناس ويدعو الله تعالى ينبغي أن يكون
وجيهاً ، بأن يكون له قدر ومنزلة عند الله (عزّ وجل) .
ولهذا كان الأنبياء يتقدّمون في صلاة الإستسقاء ، ويدعون الله تعالى فيستجيب لهم ،
وهكذا نبيّنا وبعض أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين) سألوا الله تعالى أن
يسقيهم المطر ، فاستجاب الله دعاءهم لمنزلتهم وقدرهم عند الله سبحانه .
وقد قال سيدنا أبو طالب (عليه السلام) ـ في شأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ـ :
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه
ثمال اليتامى ، عصمةً للأرامل(1)
وقد تكرّر من رسول الله الإستسقاء ، فاستجاب الله دعاءه
ــــــــــــــــــــ
(1) المصدر : (مناقب آل أبي طالب) لابن شهر آشوب ، ج 1 ص 23 .
الصفحة121
وأرسل غيثاً مدراراً ، كل ذلك كرامة لوجه رسول الله وجاهه ومنزلته العظيمة عند الله
سبحانه ، ولكن مروان يقول : (بوجه يزيد يُستسقى الغمام !!) .
وأنا أقول : نعم ، بوجهه يُستسقى الغمام ، لفجوره وخموره ، وقماره ومنكراته ،
وموبقاته ومخازيه ، وجرائمه ونسبه . وبهذه الفضائل !! يُستسقى بوجهه الغمام !!
اليس هكذا ؟!
(واعلم أنّ مَن يغبطكم بيزيد أكثر ممّن يغبط يزيد بكم ) . يقول هذا الأحمق : إنّ
الذين يتمنّون أن يخطب يزيد منهم ، أكثر مِن الذين يتمنّون أن يخطبوا منكم فتياتكم
!!
إنّ مروان اللعين يريد أن يقول : إنكم تزدادون شرفاً بهذه المصاهرة ، وأمّا يزيد
فإنّه لا يزداد شرفاً بها ، لأنّه أرفع منزلةً وأعلى قدراً مِن أن يتشرّف بهذه
المصاهرة .
إقرأ كلامه واضحك !
فأجابه الإمام : وأمّا قولك : (مَن يغبطنا به أكثر ممّن يغبطه بنا ، فإنّما يَغبطنا
به أهل الجهل ، ويغبطه بنا أهل العقل) .
ومعنى كلام الإمام : أنّ الذين يجهلون القيم الإنسانية ، والمفاهيم الدينية هم
الذين يتمنّون أن يخطب يزيد منهم ، لأنهم ينظرون إلى ما يتمتّع به يزيد من متاع
الدنيا والرفاه والرخاء .
الصفحة122
وأمّا العقلاء، الذين يفهمون المقاييس الأخلاقية، والقيم الروحيّة، فهم يتمنّون
أن يخطبوا منّا فتياتنا، لأنّنا في أوج العظمة، وذروة الشرف ، وقمّة الفضائل.
ثم قال الإمام ـ بعد كلام ـ : (إشهدوا جميعاً أنّي قد زوّجت أمّ كلثوم بنت عبد الله
بن جعفر من ابن عمّها القاسم بن محمد بن جعفر ، على أربعمائة وثمانين درهماً ، وقد
نحلتها ضيعتي(1) بالمدينة(2) وإنّ غَلّتها في السنة(3) ثمانية آلاف دينار ، ففيها
لهما غنى إن شاء الله) .
أقول : قد اشتهر ـ في ذلك الزمان ـ كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه
قال : (بناتُنا لبنينا ، وبنونا لبناتن) ، ومَن أولى من الإمام الحسين بتطبيق هذا
الكلام ؟ . وقد سبقه إلى ذلك أبوه أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما زوّج ابنته
زينب الكبرى من ابن عمّها عبد الله بن جعفر .
ولهذا بادر الإمام الحسين (عليه السلام) إلى تزويج إبنة أخته من ابن عمّها ، وقد
دفع الصداق من ماله ، وأمّن حياتهما
ــــــــــــــــــــ
(1) نحلتها : أعطيتها . ضَيعَتي : مزرعتي أو بستاني .
(2) أو قال : أرضي بالعقيق ، والعقيق : اسم منطقة في ضواحي المدينة .
(3) غلّتها : وارِدها . قال الطريحي ـ في مجمع البحرين ـ : الغلّة : الدخل الذي
يحصل من الزرع والتمر واللبن والإجارة والبناء ونحو ذلك ، وجمعُه : الغلات .
الصفحة123
الاقتصادية بتلك المزرعة ، الكثيرة البركة ، التي وهبها لها .
فتغيّر وجه مروان ، وقال : (أغدراً يا بني هاشم ؟ تأبون إلا العداوة ؟) .
إنّ هذا العدو الغادر ينسب الغدر والعداوة إلى آل رسول الله الذين أذهب الله عنهم
الرجس وطهّرهم تطهيراً .
فقال مروان :
أردنـا صهركم لِنُجِدّ وُدّاً
قـد اخلقه به حدث الزمان
فلمّـا جئتكـم فجَبَهتموني
و بُحتم بالضمير من الشنان
وهنا .. ما أراد الإمام الحسين (عليه السلام) أن يستمرّ في محاورة ذلك الحقير ، وأن
يُلقم مروان الحجر أكثر من هذا ، فتقدّم ذكوان(1) وأجاب مروان :
أمـاط الله عنهم كـل رجـسٍ
و طهّرهـم بـذلك فـي المثاني
فمـا لهم سـواهم مـن نظيـر
و لا كفـوٌ هنـاك و لا مُدانـي
أيجعـل كـلّ جبـارٍ عنيدٍ(2)
إلى الأخيار من أهل الجنان ؟(3)
ــــــــــــــــــــ
(1) ذكوان : اسم رجل .. كان عبداً للإمام الحسين (عليه السلام) ثمّ أعتقه الإمام .
وكان عالماً شاعراً أديباً ، جريئاً على الكلام . المحقق
(2) وفي نسخةٍ : أتجعل . ولعل الصحيح : أيُجعل ، أو : أيَجعل . المحقق
(3) المصدر : كتاب المناقب لابن شهرآشوب ، ج 4 ص 38 ـ 39 .
الصفحة124
أقول : لقد روى الشيخ المجلسـي (رحمة الله عليه) هذا الخبر في كتاب (بحار الأنوار)
عن بعض الكتب القديمة ، ونسبه إلى الإمام الحسـن المجتبـى (عليه السلام)(1). وليس
بصحيح ، لأن إمارة يزيد كانت بعد مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) ، وهذه الخطبة
كانت في أيّام إمارة يزيد وكونه وليّاً للعهد .
ــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار ، ج 44 ص 119 ، باب 21 ، حديث 13 .
الصفحة125
الفصل الخامس
إستعراض موجَز لحياة السيدة زينب الكبرى (عليها السلام)
الصفحة126
الصفحة127
إستعراض موجَز لحياة السيدة زينب الكبرى
(عليها السلام)
بمقدار ما كانت حياة السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) مشفوعة بالقداسة والنزاهة ،
والعفاف والتقوى ، والشرف والمجد ، كانت مليئة بالحوادث والمآسي والرزايا ، منذ
نعومة أظفارها وصِغر سنّها إلى أواخر حياتها .
فلقد فُجعت بجدّها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان لها من العمر ـ
يومذاك ـ حوالي خمس سنوات ، ولكنّها كانت تُدرك هول الفاجعة ومُضاعفاتها .
ومن ذلك اليوم تغيّرت معالم الحياة في بيتها ، وخيّمت الهموم والغموم على أسرتها ،
فقد هجم رجال السقيفة على دارها لإخراج أبيها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه
السلام) من البيت لأخذ البيعة منه ، بعد أن أحرقوا باب الدار وكادوا أن يُحرقوا
الدار بمَن فيها .
وقد ذكرنا في كتاب : (فاطمة الزهراء من المهد الى اللحد) شيئاً من تلك المصائب التي
انصبّت على السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من الضرب المبرّح وإسقاط الجنين ،
وغير ذلك ممّا
الصفحة128
يطول الكلام بذكره .
وكانت جميع تلك الحوادث بمرأى من السيدة زينب ومَسمَع ، فلقد سمعت صراخ أمّها من
بين الحائط والباب ، وشاهدت الأعداء الذين أحاطوا بها يضربونها بالسوط والسيف
المغمَد ، وغير ذلك ممّا أدّى إلى إسقاط إبنها المحسن ، وكسر الضلع ، وتورّم العضُد
الذي بقي أثره إلى آخر حياتها .
و ـ بعد شهور ـ فُجعت السيدة زينب بوفاة أمّها (سلام الله عليها) وهي في رَيَعان
شبابها ، لأنّها لم تبلغ العشرين من العمر ، ودُفنت ليلاً وسرّاً ، في جوّ من
الكتمان ، وعُفّي موضع قبرها إلى هذا اليوم .
ومنذ ذلك الوقت كانت السيدة زينب ترى أباها أمير المؤمنين (عليه السلام) جليس الدار
، مسلوب الإمكانيات ، مدفوعاً عن حقّه ، صابراً على طول المدة وشدّة المحنة .
وبعد خمس وعشرين سنة ـ وبعد مقتل عثمان ـ أكرهوه أن يوافق على بيعة الناس له ،
فبايعوه بالطوع والرغبة ، وبلا إجبار أو إكراه من أحد ، وكان أول من بايعه: الطلحة
والزبير ، وكانا أوّل مَن نكث البيعة ونقض العهد ، والتحقا في مكّة بعائشة ، وحرجوا
طالبين بدم عثمان ، وقادا الناكثين (للبيعة) من المناوئين للإمام أمير المؤمنين
(عليه السلام) ، وقصدا البصرة وأقاما مجزرة رهيبة ـ في واقعة الجمل المعروفة ـ
وكانت حصيلتها خمسة وعشرين ألف قتيل .
الصفحة129
وبعد فترة قصيرة أقام معاوية واقعة صفّين ، وقاد القاسطين ، واشتدّ القتال وكاد نسل
العرب أن ينقطع من كثرة القتلى ، وتوقّف القتال لأسباب معروفة مفصّلة .
ثمّ أعقبتها واقعة النهروان التي قُتل فيها أربعة آلاف .
وتُعتبر هذه الحروب من أهمّ الإضطرابات الداخلية في أيام خلافة الإمام أمير
المؤمنين عليه السلام .
وانتهت تلك الأيام المؤلمة بشهادة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ومَقتله على
يد عبد الرحمن ابن ملجم !
ولمّا قام اخوها : الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) بأعباء الإمامة تخاذل بعض
أصحابه في حربه مع معاوية ، وصدرت منهم الخيانة العظمى التي بقيت وصمة عارها إلى
هذا اليوم ، فاضطرّ الإمام الحسن (عليه السلام) إلى إيقاف القتال حِقناً لدماء مَن
بقي من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وخلا الجوّ لمعاوية بن أبي سفيان وعُملائه ، وظهر منهم أشدّ أنواع العداء المكشوف
للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وسنّ معاوية لعن الإمام على المنابر في
البلاد الاسلامية ، وأمر باختلاق الأحاديث في ذمّ الإمام والمسّ بكرامته .
كلّ ذلك بمرأى من السيدة زينب ومسمع .
وطالت مدّة الإضطهاد عشر سنين ، وانتهت إلى دسّ السمّ إلى
الصفحة130
الإمام الحسن (عليه السلام) بمكيدة من معاوية ، وقضى الإمام نحبه مسموماً ، ورشقوا
جنازته بالسهام حتى لا يدفن عند قبر جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
(1).
وهكذا امتدّت سنوات الكبت والضغط ، وبلغ الظلم الأموي القمّة ، وتجاوز حدود القساوة
، وانصبّت المصائب على الشيعة في كلّ مكان ، بكيفيّة لا مثيل لها في التاريخ
الإسلامي يومذاك ، مِن قطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلب الأجساد ، وأمثال
ذلك من الأعمال الوحشيّة البربريّة
(2) !
وعاصر الإمام الحسين (عليه السلام) تلك السنوات السود التي انتهت بموت معاوية
واستيلاء إبنه يزيد على منصّة الحكم .
هذه عُصارة الخلاصة للجانب المأساوي في حياة السيدة زينب الكبرى (عليها السلام)
المليء بالكوارث والحوادث ، طيلة نيّف وأربعين سنة من عمرها .
وأعظم حادثة ، وأهمّ فاجعة حدثت في حياة السيدة زينب هي فاجعة كربلاء التي أنست ما
قبلها من الرزايا ، وهوّنت ما بعدها من الحوادث والفجائع .
ــــــــــــــــــــ
(1) كتاب المناقب ، لابن شهرآشوب ج 4 ، ص 42 و44 .
(2) كتاب سُليم بن قيس الهلالي ، طبع بيروت ، مؤسسة البعثة ، ص 165 ـ 166 .
الصفحة131
الفصل السادس
السيدة زينب (عليها السلام) وفاجعة كربلاء
مجيء إبن زياد إلى الكوفة
يوم التروية
الإمام الحسين (عليه السلام) يصطحب العائلة
الإمام الحسين (عليه السلام) في طريق الكوفة
الصفحة132
الصفحة133
السيدة زينب (عليها السلام) وفاجعة كربلاء
لا بدّ مِن أن نبدأ من أوائل الواقعة ، مع رعاية الإختصار ، ليكون القارئ على بصيرة
أكثر من الأمر :
مات معاوية بن أبي سفيان في النصف من شهر رجب ، سنة 60 من الهجرة ، وجلس ابنه يزيد
على منصّة الحكم ، وكتب إلى الولاة في البلاد الاسلامية(1) يُخبرهم بموت معاوية ،
ويطلب منهم أخذ البيعة له من الناس .
وكتب إلى والي المدينة كتاباً يأمره بأخذ البيعة له من أهل المدينة بصورة عامّة ،
ومن الإمام الحسين (عليه السلام) بصورة خاصّة ، وإن امتنع الإمام عن البيعة يلزم
قتله ، وعلى الوالي تنفيذ الحُكم .
واستطاع الإمام الحسين أن يتخلّص مِن شرّ تلك البيعة ،
ــــــــــــــــــــ
(1) الوُلاة ـ جمع والي ـ : وهو حاكم البلد ، ويُعبّر عنه ـ حالياً ـ بالمحافظ .
الصفحة134
وخرج إلى مكة في أواخر شهر رجب ، وانتشر الخبر في المدينة المنوّرة أن الإمام امتنع
عن البيعة ليزيد . وانتشر الخبر ـ أيضاً ـ في مكة ، ووصل الخبر إلى الكوفة والبصرة
.
وكانت رحلة الإمام الحسين إلى مكة بداية نهضته (عليه السلام) ، وإعلاناً واعلاما
صريحاً بعدم اعترافه بشرعيّة خلافة يزيد ، واغتصاب ذلك المنصب الخطير .
وهكذا استنكف المسلمون أن يدخلوا تحت قيادة رجل فاسد فاسق ، مُستهتر مفتضح ، متجاهر
بالمنكرات .
فجعل أهل العراق يكاتبون الإمام الحسين (عليه السلام) ويطلبون منه التوجّه إلى
العراق ليُنقذهم من ذلك النظام الفاسد ، الذي غيّر سيماء الخلافة الإسلامية بأبشع
صورة وأقبح كيفيّة !
كانت الرسل والمراسلات متواصلة بين الكوفة ومكة ، ويزداد الناس إصراراً وإلحاحاً
على الإمام الحسين أن يُلبّي طلبهم ، لأنه الخليفة الشرعي لرسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) المنصوص عليه بالخلافة من جدّه الرسول الكريم .
فأرسل الإمام الحسين (عليه السلام) إبنَ عمّه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ، والتفّ
الناس حول مسلم ، وبايعوه لأنّه سفير الإمام ومبعوثه ، وبلغ عدد الذين بايعوه
ثمانية عشر ألفاً ، وقيل : أكثر مِن
الصفحة135
ذلك . فكتب مسلم إلى الإمام يُخبره باستعداد الناس للتجاوب معه ، والترحيب به
ونصرته ـ كما فهمه مسلم مِن ظواهر الأمور ـ .
وقرّر الإمام أن يخرج من مكة نحو العراق مع عائلته المصونة وإخوته وأخواته ،
وأولاده وأبناء عمّه وجماعة مِن أصحابه وغيرهم .
وخاصّة بعدما عَلِم بأنّ يزيد قد بعث عصابة مسلّحة ، مؤلّفة من ثلاثين رجل ، وأمرهم
بقتل الإمام الحسين (عليه السلام) في مكّة ، أينما وجدوه .. حتى لو كان مُتعلّقاً
بأستار الكعبة !
الصفحة136
الصفحة137
مجيء ابن زياد الى الكوفة
وجاء عبيد الله بن زياد ابن أبيه من البصرة الى الكوفة والياً عليها من قِبل يزيد
بن معاوية ، وجعل يهدّد الناس بجيش موهوم ، قادم من الشام .
واجتمع حوله الذين كانوا لا يتعاطفون مع الإمام الحسين، وجعل ابن زياد يُفرّق
الناس عن مسلم بالتهديد والتطميع ، فانفرج الناس عن مسلم، وتفرّقوا عنه.
وفي اليوم الذي خرج الإمام الحسين (عليه السلام) من مكة نحو العراق كانت الأمور
منقلبة ضدّ مسلم في الكوفة ، وأخيراً أُلقي عليه القبض وقُتل (رضوان الله عليه) .
وفي أثناء الطريق بلغ خبر شهادة مسلم إلى الإمام الحسين ، فكانت صدمة على قلبه
الشريف .
ولا نعلم ـ بالضبط ـ هل رافقت السيدة زينب الكبرى عائلة
الصفحة138
أخيها من المدينة ؟ أم أنّها التَحقت به بعد ذلك ؟
وخَفيت علينا كيفيّة خروجها من المدينة المنوّرة إلى مكّة ، ولكنّنا نعلم أنّها
كانت مع عائلة أخيها حين الخروج من مكّة ، وفي اثناء الطريق نحو الكوفة ، وعاشت
أحداث الطريق من لقاء الحرّ بن يزيد الرياحي بالإمام ، ومُحاولته إلقاء القبض على
الإمام في أثناء الطريق وتسليمه إلى عبيد الله بن زياد .
وإلى أن وصلوا إلى كربلاء في اليوم الثاني من المحرّم ، ونزل الإمام ومَن معه ،
ونَصَبوا الخيام ينتظرون المُقدّرات والحوادث .
الصفحة139
يوم التروية
يوم التروية : هو اليوم الثامن من شهر ذي الحجة(1) ، وهو اليوم الذي يزدحم فيه
الحُجّاج في بلدة مكة المكرمة ، فالقوافل تدخل مكّة من جميع أبوابها .
وطائفة من الحجاج يخرجون في هذا اليوم إلى منى ويبيتون فيها ليلة واحدة ، فإذا أصبح
الصباح من يوم عرفة ـ وهو اليوم التاسع ـ يخرجون إلى أرض عرفات .
وبعضهم يبقى في مكة حتى يوم عرفة ، ثم يخرج إلى عرفات ، إستعداداً لأداء مناسك
الحجّ .
ــــــــــــــــــــ
(1) التروية : روّى تَرويةً : تزوّد بالماء . وقد جاء في الحديث أنّه سُئل الإمام
جعفر الصادق (عليه السلام) عن سبب تسمية اليوم الثامن بيوم التروية؟ فقال: (لأنّه
لم يكن بعرفات ماء وكانوا يستقون من مكّة من الماء لِرَيّهم ، وكان يقول بعضهم لبعض
: تروّيتم .. تروّيتم ؟؟ فسُمّي يوم التروية لذلك) . رواه الشيخ الصدوق في كتاب (علل الشرائع) ج 2 ص 141 ، باب 171 .
الصفحة140
في هذا اليوم الذي كانت مكة تموج بالحجّاج ، خرج الإمام الحسين (عليه السلام) من
مكّة ، بجميع من معه من الأهل والأولاد والأصحاب .
إذن ، فمِن الطبيعي أن تكون مغادرة الإمام الحسين من مكة ـ في هذا اليوم ـ تجلب
إنتباه الحجّاج ، وتدعو للتساؤل ، وخاصّةً بعد أن علموا بأنّ الإمام مكث في مكّة ..
طيلة أربعة أشهر ، فما الذي دعاه أن يُغادر مكّة في هذا اليوم الذي يقصد الحجاج مكة
لأداء المناسك الحج ؟!
وما المانع من أن يبقى الإمام أياماً قلائل لإتمام حجّة ، ثم مغادرة مكة ؟
والإمام الحسين (عليه السلام) أولى من غيره بأداء الحج ورعاية هذه الأمور !
فلا عجب إذا تقدّم إليه بعض الناس يعترضون عليه ويسألونه عن سبب خروجه من مكة في
هذا اليوم ، فكان الإمام يُجيب كلّ واحد منهم بما يُناسب مستواه الفكري والعقلي .
إنّ هناك دواع ودوافع وأسباباً كثيرة اجتمعت ، وفرضت على الإمام أن يخرج من مكة في
ذلك اليوم ، ونسأل الله تعالى أن يوفّقنا لذكر بعضها في كتاب (الإمام الحسين من
المهد الى اللحد) إن شاء الله تعالى .
الصفحة141
ومِن جملة الذين تقدّموا إلى الإمام وسألوه عن سبب خروجه هو عبد الله بن جعفر زوج
السيدة زينب الكبرى .
فإنّه حاول ـ حسب تفكيره ـ أن يَردّ الإمام عن مغادرة مكّة نحو العراق ، ولكن
الإمام قال له : (إنّي رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام ،
وأمرني بما أنا ماضٍ له) .
فقال له : فما تلك الرؤيا ؟
قال : (ما حدّثت أحداً بها ، ولا أنا مُحدّثٌ بها حتى ألقى ربّي)(1).
فلمّا يئس منه عبد الله بن جعفر أمر إبنَيه عوناً ومحمّداً بمرافقة الإمام ،
والمسير معه ، والجهاد دونه(2)
.
وفي كتاب (المنتخب) للطُريحي أن محمد بن الحنفية لمّا بلغه الخبر أن أخاه الإمام
الحسين خارج من مكة إلى العراق ، جاءه وأخذ بزمام ناقته وقد ركبها ، وقال له :
يا أخي ! ألم تَعِدني النظر فيما سألتك ؟
قال : بلى .
ــــــــــــــــــــ
(1) كتاب الإرشاد للشيخ المفيد ، ص 219 فصل (خروج الإمام الحسين مِن مكة) ، وبحار
الأنوار للشيخ المجلسي ج 44 ص 366 ، باب 37 .
(2) نفس المصدر .
الصفحة142
قال : فما حمَلَك على الخروج عاجلاً ؟
فقال : قد أتاني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدما فارقتُك وقال :
(يا حسين أُخرج إلى العراق فإنّ الله شاء أن يراك قتيلاً مُخضّباً بدمائك) .
فقال محمد : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فإذا علمتَ أنّك مقتول فما معنى حَملك
هؤلاء النساء معَك ؟
فقال : لقد قال لي جدّي :
(إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا ، وهنّ أيضاً لا يُفارقنَني ما دُمت حيّا(1))(2).
ــــــــــــــــــــ
(1) المنتخب للطريحي المتوفّى عام 1085 هـ ، ج 2 ص 424 المجلس التاسع ، وروي هذا
الخبر عن الإمام الصادق (عليه السلام) في كتاب بحار الأنوار للمجلسي ج 44 ص 364 باب
37 .
(2) هناك فرقٌ بين كلمة (شاءَ) وكلمة (أرادَ) ، فكلمة (شاءَ) تُستَعمَل ـ أساساً ـ
في موارد معيّنة ، وتدلّ على معنى قريبٍ من معنى (أراد) . ولكن تختلف الموارد حسب
الحالات المختلفة للإستعمال .
بعد هذا التمهيد نقول :
إنّ تأثير الإنسان في فعل الغَير هو على نوعين :
|