الصفحة81
ــــــــــــــــــــ
= 1 ـ فهذا نبيّ الإسلام سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) زوّج ابنته سيدة
نساء العالمين السيدة فاطمة الزهراء من ابن عمّ والدها : الإمام علي بن ابي طالب
عليه السلام .
2 ـ وهذا مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) زوّج ابنته السيدة زينب الكبرى من ابن
عمّها : عبد الله بن جعفر .
(3) ـ وذاك الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) تزوّج بنت عمّه :
السيدة فاطمة بنت الإمام الحسن المجتبى عليه السلام .
مع الإنتباه الى أنّ هؤلاء الأطهار معصومون من الخطأ والخَطَل ، في القول والعمل ،
بصريح قوله تعالى : (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهير)
، وهم مقتدى الأجيال والأمم ، فلو كان في مجرّد (الزواج من الأقارب) قُبح أو خطأ أو
خطر .. لكان المُتوقّع منهم الابتعاد عنه ، أو ذِكر سبب وجيه لزواجهم من الأقارب ،
كي لا يَقتدي بهم الناس في ذلك .
هذا .. وقد تزوّج مسلم بن عقيل بنت عمّه : السيدة رقيّة بنت الإمام علي بن ابي طالب
(عليه السلام) . وتزوّج محمد بن جعفر بنت عمّه : السيدة أمّ كلثوم بنت الإمام أمير
المؤمنين (عليه السلام) . وتزوّج عون بن جعفر بنت عمّه عقيل بن أبي طالب .
=
الصفحة82
ــــــــــــــــــــ
= والمُتَتبّع ـ في التاريخ ـ يَحصل على مصاديق وعَيّنات أخرى لما ذكرنا .
فإن قال قائل : إنّهم فعلوا ذلك لعَدَم ذلك لعدم وجود أمراض وراثية في أفراد عشيرة
بني هاشم .. رجالاً ونساءً ، فلا يصحّ تعميم القانون على جميع الناس ؟
قلنا في الجواب : نعم ، لم تكن هناك أمراض وراثيّة . ولكن يجب أن نعلم بأنّ الأصل
في الخَلق هو : الصحّة .. وليس المرض . والحالات المرضية أمور طارئة لا ينبغي ـ
بسببها ـ تعميم قانون المنع .. على الجميع .
يُضاف الى ذلك .. أنّ التعاليم الدينيّة تَضمن الصحّة للجميع ، وتَتكفّل صيانة
المجتمع من الأمراض الوراثية وغيرها ، وشعارها مع البشر : (الوقاية خير من العلاج)
ولا تَمنع من اتّخاذ التدابير اللزمة والتحقيق المُسبَق من أجل سلامة النسل
والذريّة .
النقطة الثامنة : ليس معنى تعليقنا هذا هو التأييد العام المُطلَق لكلّ زواج من
الأقارب ، فهناك النزاعات والإختلافات العائليّة والطائفيّة والعقائديّة ، والبُرود
في العلاقات .. وهي أمور تَجعل المجال مفتوحاً للزواج من غير الأقارب ، حَذَراً من
العواقب المُحتملة .
=
الصفحة83
ــــــــــــــــــــ
= هذا .. والتفصيل يحتاج الى مجال واسع لدراسة الموضوع دراسةً علمية شاملة ، مع ذكر
الإثباتات والوثائق العلميّة ، ومناقشة أدلّة الطرفين : المؤيّدين والمخالفين لهذه
النظرية .
المحقّق
الصفحة84
الصفحة85
عبد الله بن جعفر
لا أراني بحاجة إلى التحدّث عن حياة جعفر الطيّار ـ رضوان الله عليه ـ والد عبد
الله ، ولا أجدُ ضرورة إلى التحدّث عن حياة سيدنا أبي طالب (عليه السلام) أو عقيل
أو بقيّة رجالات وسيّدات هذه الأسرة ، الذين يَنحدرون عن سيّدنا أبي طالب .
وإنّما المقصود ـ هنا ـ هو التحدّث عن حياة عبد الله بن جعفر ، وذلك لكونه زوج
السيدة زينب الكبرى عليها السلام .
كان عبد الله شخصيّة لامعة في عصره ، يمتاز عن غيره نسباً وحسباً ، وجوداً وكرماً ،
فقد ذكره أرباب التراجم ـ من الفريقين (السُنّة والشيعة) في كتب التاريخ والحديث
والرجال ـ بكلّ ثناء وتقدير ، وعدوّه من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
والإمام أمير المؤمنين ، والإمام الحسن والإمام الحسين والإمام السجاد (عليهم
السلام) .
الصفحة86
وقد كان رابِط الجأش (1) قويّ القلب ، شُجاعاً ، شملته ـ في طفولته ـ بركة دعاء رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وامتدّت إلى آخر حياته .
فقد ذكر سبطُ إبن الجوزي في كتابه (تَذكرة الخواص) في ذِكر أولاد جعفر بن أبي طالب
:
(عبد الله ، وبه كان يُكنّى (2) ، ومحمد ، وعَون ، وأمّهم : أسماء بنت عميس ، ولدتهم
بأرض الحبشة (3) وكان جعفر قد هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية .
وأشهرهم : عبد الله ، وكان من الأجواد ، وهو من الطبقة الخامسة (4) ممّن توفّي رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو
ــــــــــــــــــــ
(1) الجأش : النَفس ، والقَلب . يُقال : هو رابط الجأش أي : ثابتٌ عند الشدائد ،
وقويّ القلب في الحروب والمنازعات .
المحقق
(2) أي : وكان جعفر يُكنّى بـ (أبي عبد الله) .
(3) بلاد الحبشة : هي دولة (إثيوبي) المعاصرة ، وعاصمتها (اديس آباب) ، وهي تَقع
في قارّة إفريقيا ، يَحُدّها من الشمال والغرب : جمهورية السودان ، ومِن الشرق :
البحر الأحمر وجمهورية الصومال ، ومن الجنوب : الصومال وكينيا .
المحقق
(4) لقد قسّم مؤلّف كتاب (الطبقات الكبرى) صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) إلى تقسيمات خاصّة ، وبكيفيّة معيّنة تَبادرت إلى ذِهنه ، وعبّر عن كلّ قسم
بـ (الطبقة) فجعل ـ مثلاً ـ الصحابة
=
الصفحة87
حَدث ، ولمّا ولدته أمّه أسماء بالحبشة ، وُلد ـ بعد ذلك بأيّام ـ للنجاشي وَلَد(1)
فسمّاه عبد الله ، تبرّكاً باسمه ، وأرضعت أسماءُ عبد الله بن النجاشي بلَبَن ابنها
عبد الله (2).
وقال ابن سعد في كتاب (الطبقات)(3) :
حدّثنا الواقدي ، عن محمد بن مسلم ، عن يحيى بن أبي يعلى ، قال :
سمعت عبد الله بن جعفر يقول : (أنا أحفظُ حينَ دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) على أمّي فنعى إليها أبي ، فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي وعيناه
تَذرفان ـ أو تهرقان ـ بالدموع حتّى تقطر لحيته .
ثم قال : (اللهم إنّ جعفراً قد قَدم إلى أحسن الثواب ، فاخلفه في ذريّته بأحسن ما
خلفت أحداً مِن عبادك في ذريّته) .
ــــــــــــــــــــ
= الذين حضروا يوم بدر قِسماً خاصاً وطبقة اولى ، وهكذا ... وحسب تقسيمه جعل عبد
الله بن جعفر من الطبقة الخامسة .
(1) النجاشي : لقب مَلِك الحبشة يومذاك ، واسمه : الاصحَم بن أبجر .
(2) المصدر : كتاب (تذكرة الخواص) لسبط ابن الجوزي ، ص 189 .
(3) على ما حكاه عنه سبط إبن الجوزي في كتابه (تذكرة الخواص) ص 189 ـ 190 .
الصفحة88
ثمّ قال : (يا أسماء ! ألا أُبشّركِ ؟)
قالت أمّي : بلى ، بأبي انت وأمّي يا رسول الله !
قال : (فإن الله قد جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة) .
فقالت : يا رسول الله فأعلم الناس بذلك .
فقام رسول الله فأخذ بيدي ومسح برأسي ، ورقى المنبر ، فاجلسني أمامه على الدرجة
السفلى ـ والحزن يُعرف عليه ـ (1) فتكلّم وقال :
(إنّ المرء كثير بأخيه وابن عمّه ، ألا : إنّ جعفراً قد استشهد ، وقد جعل الله له
جناحين يطير بهما في الجنّة) .
ثم نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودخل بيته وأدخلني معه ، وأمر بطعام
فصُنع لأهلي .
ثمّ أرسل إلى أخي ، فتغدّينا عنده غذاءً طيّباً مباركاً ....
وأقمنا ثلاثة أيام ، ندور معه في بيوت أزواجه ثم رجعنا إلى بيتنا .
فأتانا رسول الله وأنا أُساوم بشاة أخاً لي (2) ، فقال :
(اللهم
ــــــــــــــــــــ
(1) أي : والحزن ظاهر على ملامح وجهه الكريم .
(2) أساوم : المساومة : طلب البائع المُغالاة في الثمن ، طلب
=
الصفحة89
بارِك له في صفقته)(1) ، فما بِعت شيئاً ولا اشتريت
إلا بورك فيه) (2) .
ولعبد الله بن جعفر حوار وكلام في مجلس معاوية بن أبي سفيان ، يدلّ على ما كان
يتمتّع به عبد الله من قوّة القلب ، وثَبات الجَنان ، والإيمان الراسخ بالمبدأ
والعقيدة ، وعدم الإكتراث بالسلطات الظالمة الغاشمة .
أضف إلى ذلك الفصاحة والبلاغة ، والمستوى الأدبي الأعلى الأرقى . فقد ذكر إبن أبي
الحديد في (شرح نهج البلاغة) عن المدائني :
قال : بينا معاوية ـ يوماً ـ جالس ، وعنده عمرو بن العاص إذ قال الآذِن(3) : قد جاء
عبد الله بن جعفر بن أبي طالب .
فقال عمرو : والله لأسوأنّه اليوم !
ــــــــــــــــــــ
= المُشتري التَخفيض في ذلك . وقيل : هو الكلام الذي يَسبق المُعاملة التجارية .
(المحقق)
(1) الصفقة : ضرب اليد على اليد في البيع . وكان العرب إذا أرادوا إنهاء معاملة
البيع ضَرَب أحدهما يده على يد صاحبه . والمعنى : اللهم بارك له في صفقاته التجارية
ومعاملاته . (المحقق)
(2) تذكرة الخواص ، لسبط ابن الجوزي ، ص 189 ـ 190 .
(3) الآذِن : الحاجِب ، ويُعبّر عنه ـ حاليّاً ـ بالسكرتير والبَوّاب .
الصفحة90
فقال معاوية : لا تفعل يا أبا عبد الله ، فإنّك لا تنتصف منه ، ولعلّك أن تُظهر لنا
من مغبّته ما هو خفيّ عنّا ، (1) وما لا نحبّ ان نعلمه منه !!
وغشيهم عبد الله بن جعفر(2) فأدناه معاوية وقرّبه .
فمال عمرو إلى جُلساء معاوية فنال مِن علي (عليه السلام) جهاراً غير ساترٍ له ،
وثلبه ثلباً قبيحاً !!(3)
فالتمع لون عبد الله ، واعتراه الأفكَل(4)
ــــــــــــــــــــ
(1) مغبّته : عاقبة أمره . وفي نسخة : من منقبته ما هو خفيّ عنا .
(2) غشيَهم : دخل عليهم .
(3) ثلبه : تنقّصه وذكر معايبه . ومن الواضح أنّه لم يكن في الإمام أمير المؤمنين
علي (عليه السلام) عيب أو منقصة ، لكنّ الأكاذيب لها دورها ، والنفسيات اللئيمة
القذرة تُعبّر عن هويّتها ونواياها ، وتظهر عن طريق تصرّفات الإنسان وسلوكه . وكلّ
من يدير ظهره للحق لابدّ له أن يَسحق وجدانه ، ويُسكّت إرسالات تأنيب الضمير ..
بالأكاذيب والتُهم التي يعلم ـ بنفسه ـ زيفَها . ثمّ إنّ محاولة التزلّف إلى معاوية
تجعل القبيح حَسناً والحسن قبيحاً . المحقّق
(4) الأفكَل : رَجفة شديدة تعتري الإنسان عند شدّة الغضب أو شدّة الخوف أو البرد .
الصفحة91
حتى أرعدت خصائله(1) ثم نزل عن السرير كالفنيق(2) فقال عمرو : مَه يا أبا جعفر ؟
فقال له عبد الله : مَه ؟ لا أمّ لك ؟ ثم قال :
أظنّ الحِلمَ دلّ عليّ قومي وقد يتجهّل الرجل الحليم
ثمّ حسَر عن ذراعيه(3) ، وقال :
يا معاوية ! حتى متى نتجرّع غيظك ؟
وإلى كم الصبر على مكروه قولك ، وسيّئ أدبَك ، وذَميم أخلاقك ؟
ــــــــــــــــــــ
(1) ذُكر في أكثر كتب اللغة : أنّ الخصائل ـ جمع خصيلة ـ : كلّ لحمة فيها عصَب .
والظاهر أنّ شدة الغضب جَعلت الرجفة تظهر على ملامح عبد الله وعلى يديه وأعضاء جسمه
. المحقق
(2) الفنيق ـ من الناقة ـ : الفحل المُقرم الذي لا يؤذي ولا يُركَب . كما عن كتاب
(العين) للخليل بن أحمد ، وجاء فيه ـ أيضاً ـ ناقة فَنَق : جَسيمة وحَسَنة الخَلق .
ولعلّ تشبيه عبد الله بالفنيق .. لأنّه كان ضخم الجسم . المحقق
(3) أي : رَفَع أكامم ثوبه وكشف عن ذراعيه ، إستعداداً للمواجهة الشديدة والحرب
الكلاميّة مع معاوية ، الذي سكت عن الموقف العدواني لعمرو ، حيث إنّ المتكلّم الذي
يريد استعمال إشارات يديه أثناء الكلام الجادّ .. يَرفع أكمامه ، مع الإنتباه إلى
الأكمام الواسعة الطويلة التي كانت مُتعارفة في ملابس ذلك الزمان . المحقق
الصفحة92
هَبَلَتك الهبول !!(1)
أما يَزجُرك ذمامُ المجالسة من القَذع لجليسك(2) إذا لم يكن له حرمة من دينك تَنهاك
عمّا لا يَجوز لك ؟!
أما : والله لو عطفتك أواصر الأرحام ، أو حاميتَ عن سهمك من الإسلام ما أرخَيتَ ـ
لبني الإماء المُتك(3) والعَبيد المُسك(4) ـ أعراض قومك .
وما يَجهل موضع الصَفوة إلا أهل نَجوة(5).
ــــــــــــــــــــ
(1) هبلتك الهَبول : هَبَلَت الأمّ ولدها : ثكلته ، فهي هَبول . كما في المعجم
الوسيط .
(2) أي : أما يَمنعُك آداب المجالسة مَن منع مَن يريد إهانة جليسك وجَرح مشاعره ؟!
(3) الإماء ـ جَمع أمَة ـ : العَبدة . المُتك ـ بضمّ الميم ـ : جَمع متكاء : المرأة
المُفضاة : وهي التي تَمزّق منها الغشاء الفاصل بين مخرج البول ومجرى دم الحيض ـ
بسبب كثرة إستقبالها للرجال !! ـ وقيل : هي المرأة التي لا تستطيع ضَبط نفسها من
البول . قال الخليل بن أحمد ـ في كتاب (العين) ـ : يُقال في السبّ : يابن المَتكاء
. المحقق
(4) المُسَك ـ جَمع مَسيك ـ : البَخيل .
(5) لعلّ المعنى : وما يَجهل مكانة الشرفاء إلا أصحاب النفوس الدنيئة ، ونَجوة :
المحل الذي يُتغوّط فيه . وفي نسخة : وما يجهل موضع الصفوة إلا أهل الجفوة . المحقق
الصفحة93
وإنّك لتعرف وشائط قريش(1) ، وصقوة عوائدها ، فلا يَدعوّنك تصويبُ ما فَرط مِن
خَطاك في سفك دماء المسلمين ، ومُحاربة أمير المؤمنين ، إلى التمادي فيما قد وضح لك
الصواب في خلافه ، فاقصد لمنهج الحقّ ، فقد طال عمهُك عن سبيل الرشد(2) ، وخَبطُك
في دَيجور ظلمة الغيّ ، فإن أبَيت إلا أن تُتابعَنا في قُبح اختيارك لنفسك فاعفِنا
عن سوء القالة فينا إذا ضمّنا وإيّاك الندي(3) ، وشأنُك وما تريد إذا خلَوت ، والله
حسيبُك ، فوالله لولا ما جعل الله لنا في يديك لما أتيناك .
ثم قال : إنّك إن كلّفتني ما لم أُطِق ساءك ما سرّك منّي مِن خُلق .
فقال معاوية : يا أبا جعفر : اقسمتُ عليك لَتجلسنّ ، لعن الله من أخرجَ ضبّ صدرك
مِن وجاره(4) ، محمولٌ لك ما قلتَ ، ولكَ
ــــــــــــــــــــ
(1) وشائظ : السَفَلة ، أو الدُخَلاء في القوم ، لَيسوا مِن صَميمهم . كما في (لسان
العرب) لابن منظور .
(2) عَمهُك : تَرَدّيك في الضلالة . كما يُستفاد من كتاب (العَين) للخليل بن أحمد .
(3) النَديّ والنادي : مجلس القوم ، والجمعُ : أندية . ويُعبّر عنه حاليّاً بـ
(الديوان) و(الديوانيّة) . المحقق
(4) أي : أخرَج غَيظ صدرك من مكانه ، أو : مِن حلقِك . يقال : وَجَرَ فُلاناً : أي
: أسمعه ما يَكره . كما في كتاب المعجم الوسيط .
الصفحة94
عندنا ما أمّلت ، فلو لم يكن مَجدك ومَنصِبُك لكان خَلقُك وخُلُقك شافِعَين لك
إلينا ، وأنت إبن ذي الجناحين وسيد بني هاشم .
فقال عبد الله : كلا ، بل سيّدا بَني هاشم حسنٌ وحسين ، لا يُنازعهما في ذلك أحَد .
فقال معاوية: يا أبا جعفر أقسمتُ عليك لما ذكرتَ حاجة لك قضيتها كائنةً ما كانت،
ولو ذهبت بجميع ما أملك.
فقال: أمّا في هذا المجلس فلا.
ثمّ انصَرف، فأتبعه معاوية بصُرّة .(1) فقال : والله لَكأنّه رسول الله ، مشيُه
وخَلقه وخُلقه وإنّه لمن شكله ، ولودَدتُ أنّه أخي بنفيس ما أملك .
ثمّ التفت إلى عمرو فقال: أبا عبد الله ما تَراه منَعَه مِن الكلام معك ؟
قال: ما لا خفاء به عنك.
قال: أظنّك تقول: إنّه هابَ جوابك ، لا والله ولكنّه ازدَراك(2) واستحقَرك ولم
يَرك للكلام أهلاً ، أما رأيت إقباله عليَّ
ــــــــــــــــــــ
(1) وفي نسخة : ببَصَره .
(2) إزدراك : إحتَقَرك واستخفّ بك .
الصفحة95
دونَكَ ، زاهداً بنفسه عنك .
فقال عمرو : هل لك أن تَسمع ما أعددته لجوابه ؟
قال معاوية : إذهب ، إليك أبا عبد الله ، فلاتَ حين جواب سائر اليوم(1)
، ونهض معاوية وتفرّق الناس (2) .
لماذا لم يخرج عبد الله مع الإمام الحسين (عليه السلام) ؟
هناك سؤال قد يتبادر إلى بعض الأذهان وهو: لماذا لم يَخرج عبدالله بن جعفر مع
الإمام الحسين (عليه السلام) في رِحلته إلى العراق ؟
لإجابة هذا السؤال: هناك أكثر من إحتمال ، لأنّنا لا نَعلم ـ بالضبط ـ الجواب
الصحيح ، لكنّ الذي يتبادر إلى ذهني ـ والله العالم ـ: أنّه كان من اللازم أن
تَبقى بقيّة من أهل البيت في المدينة المنوّرة ، لكي لا يَنجح بنو أميّة في إكمال
خطّتهم الرامية إلى استئصال شجرة آل الرسول الكريم ، وكان اللازم أن تكون تلك
البقيّة في مستوى رفيع من قوّة
ــــــــــــــــــــ
(1) أي : ليس الآن وقتُ ذكرك للجواب . أو : لا أريد أن أسمع جوابك الآن .. إلى آخر
النهار .
(2) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ، طبع مصر ، عام 1385 هـ ، ج 6 ص 295 ـ 297.
الصفحة96
الشخصية والمكانة الإجتماعية .. رجالاً ونساءً ، لكي يستطيعوا المحافظة على امتداد
خط الإسلام الأصيل الذي يَنحصر في آل محمد وعلي (عليهما وآلهما الصلاة والسلام)
ولكي يكونوا على درجة جيّدة بحيث يَحسب لهم الأعداء ألف حساب ، ولا يَسهُل عليهم
إبادة تلك البقيّة .
من هنا .. فاننا نقرأ ـ اسماء ثلة من الذين بقوا في المدينة المنورة ، ولم يخرجوا
مع الامام الحسين (ع). ومن جملة هذه الثلة الطيبة نقرا في القائمة.
1 ـ عبد الله بن جعفر ، مع الانتباه الى علاقاته الديبلوماسية الظاهرية المُسبَقة
مع الطاغية معاوية، والاحترام الفائق الذي كان معاوية يُظهره له .
2 ـ محمد بن الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) المشهور بـ (ابن الحنفيّة) .
3 ـ السيدة أم سلمة ، زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
4 ـ أمّ هاني ، أخت الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
5 ـ السيدة أم البنين ، قرينة الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) ووالدة أشباله
الأربعة .
6 ـ السيدة المكرّمة ليلى ، قرينة الامام الحسين (عليه السلام) بناءً على القول بعدم وجودها في رحلة كربلاء .
الصفحة97
7 ـ السيدة فاطمة بنت الإمام الحسين (عليه السلام) حيث كانت مريضة .. مرضاً يَصعُب
معه السفر .
هذا .. وهناك احتمال بأنّ سبب عدم ذهاب عبد الله بن جعفر كان كِبَر السنّ ، ولكن قد
يُضعّف هذا الاحتمال ما ثَبت ـ تاريخيّاً ـ من أن عمره ـ يومذاك ـ كان حوالي خمس
وخمسين سنة، ولا يُعتبر هذا المقدار من العمر كثيراً، إلا إذا كانت الحياة مقرونة
بعواصف نفسيّة أو جسميّة تُسرع الشيخوخة والهرم إلى الانسان.
وهناك إحتمال ثالث ذكره البعض: أن عبد الله بن جعفر كان قد فقد بصره قبل رحلة
كربلاء، وهذا الاحتمال يَصلح سبباً وجيهاً لعدم ذهابه ، لكن بشرط أن يَثبت
تاريخياً . والله العالم بحقائق الأمور.
الصفحة98
الصفحة99
الفصل الرابع
أولاد السيدة زينب (عليها السلام)
مروان يخطب بنت السيدة زينب (عليها السلام) ليزيد بن معاوية
الصفحة100
الصفحة101
أولاد السيدة زينب (عليها السلام)
لقد اختلف المؤرّخون في عدد أولاد السيدة زينب (عليها السلام) وأسمائهم .
ففي كتاب (إعلام الورى) للطبرسي(1):
وقيل: علي، وعون الأكبر ، ومحمد ، وعباس ، وأمّ كلثوم(2).
ــــــــــــــــــــ
(1) كتاب (إعلام الورى بأعلام الهدى) للطبرسي ، طبع النجف الأشرف سنة 1390 هـ ، ص
204 .
(2) تذكرة الخواص ، لسبط ابن الجوزي ، طبع لبنان ، سنة 1401 هـ ، ص 175 .
الصفحة102
أما محمد وعون فقد استُشهدا في نُصرة خالهما : الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم
عاشوراء بكربلاء .
وأمّا أم كلثوم فقد تزوّج بها ابن عمّها القاسم بن محمد بن جعفر ، وقد استُشهد في
فاجعة كربلاء .
الصفحة103
مروان يَخطب بنت السيدة زينب (عليها السلام) ليزيد بن معاوية
لقد كان البيت الأموي معقّداً بعُقدة الحِقارة النفسيّة ، بالرغم من السلطة
الزمنيّة التي اغتصبوها زوراً وبهتاناً ، وظلماً وعدوانا .
فقد كانت صفحات تاريخهم ـ خَلَفاً عن سَلَف ـ سوداء مظلمة مُدلَهمّة ، ملوّثة
مشوّهة من مساويهم ومَخازيهم .
فتلك (حمامة) وهي مِن جَدّات معاوية ، وكانت مِن بغايا مكّة ومن ذوات الأعلام ، أي
: كان العَلَم يُرفرف على دارها (بيت الدعارة) لِيَعرف الزُناة ذلك ، ويقصدوها
للفجور بها (1).
ــــــــــــــــــــ
(1) جاء ذلك في كتاب (الطرائف في معرفة مَذاهب الطوائف) للسيد علي بن موسى بن طاووس
، المتوفّى سنة 664 هـ . ص 501 ، طبع ايران عام 1400 هـ . وهو يَحكي ذلك عن كتاب
(المثالب) لهشام بن محمد الكلبي ـ وهو مِن مؤلّفي العامّة ـ . وهذا نصّ كلامه :
(وأمّا حمامة فهي من بعض جدّات معاوية ، وكان لها راية بـ (ذي المجاز) يعني مِن
ذَوي الرايات في الزن) . المحقق
الصفحة104
وتلك هند ـ والدة معاوية ـ السافلة القذرة ، ذات السوابق العَفِنة ، والملَفّ
الأسود ، آكلة الأكباد ، المُمتلئة حِقداً وعداءً على الإسلام والمسلمين .
وذاك أبو سفيان : قُطب المشركين ، وشيخ المُلحدين ، ورأس كلّ فتنة ، وحامل كلّ راية
رُفعت لحرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقائد كلّ جيش خرج لقتال المسلمين
في أيام النبي الكريم .
وهذا معاوية، خَلَفُ هذا السلف، وحصيلة هذه الجراثيم ، وثمرة تلك الشجرة الملعونة
في القرآن، وهو يعلم أنّ الناس يعلمون هذه السوابق، ويَعرفون معاوية حقّ المعرفة
(1).
ــــــــــــــــــــ
(1) ويَجدُر ـ هنا ـ أن نذكر ما نظمه الشاعر العظيم السيد حيدر الحلّي رحمة الله
عليه ، المتوفّى سنة 1305 هـ حيثَ ينظر إلى الملفّ الأسود لبني أميّة ـ رجالاً
ونساءاً ، فيُخاطبهم بقوله :
أميّة غوري في الخُمول وأنجِدي فما لكِ في العَلياء فوزةُ iiمشهد
هبوطاً إلى أحسابكم iiوانخفاضها فلا نسب زاكٍ ولا طيبُ مولد
تطاولتموا لا عن عُلاً iiفتراجعوا إلى حيث أنتم ، و اقعدوا شرّ مقعد
قديمكم ما قد علمتم iiومِثله حديثكم في خزية iiالمُتجدّد
فماذا الذي أحسابكم شَرُفت به فأصعدكم في الملك أشرف iiمصعد
=
الصفحة105
فكيف يَجبر هذا الشعور بالنقص .. الذي لا يُفارقه ؟!
وكيف يستر هذه العيوب التي أحاطت به وغَمرته؟
كان الإحساس والشعور ـ بهذه السوابق العفنة ، والملفّات الوسخة ـ يحُزّ في صدر
معاوية .
ــــــــــــــــــــ
=
صلابة أعلاكِ الذي بَلَلُ iiالحيا به جفّ ، أم في لين أسفَلكِ iiالندي
بَني عبد شمسٍ لا سقى الله iiحفرةً تضُمّكِ والفحشاء في شرّ iiمَلحَدِ
ألِمّا تكوني في فُجورك iiدائماً بمشغلةٍ عن غَصب أبناء iiأحمد
وراءَك عنها لا أباً لكِ iiإنّما تَقدّمتِها لا عن تقدّم سؤدد
عجِبتُ لمن في ذلّة النعل iiرأسه به يتراءى عاقداً تاج iiسيّد
دَعوا هاشماً و الفخر يعقِد تاجه على الجبهات المستنيرات في الندي
ودونكموا والعار ضُمّوا iiغِشاءَه إليكم إلى وجهٍ من العار iiأسود
يُرَشّح لكن لا لشيء سوى iiالخَنا وَ ليدكم فيما يروح ويغتدي
وتترف لكن للبغاء iiنساؤكم فيُدنَس منها في الدجى كلّ iiمرقد
و يَسقي بماءٍ حَرثكم غير iiواحد فكيف لكم تُرجى طهارة مولد
ذهبتم بها شنعاء تبقى وصومها لأحسابكم خزياً لدى كلّ iiمشهد
المصدر : ديوان السيد حيدر الحلي ، طبع لبنان عام 1404 هـ ، ص 70 .
المحقق
الصفحة106
فهو يُحاول أن يَكسب شيئاً من الشرف والمجد ، لِيَملأ هذا الفراغ ويتخلّص من هذا
الشعور ، ويُغطّي على وَصمات الخزي من سجلّ حياته ومن صفحات تاريخه ، ويتشبّث بشتّى
الوسائل ، ولكنّ محاولاته كانت تَبوء بالفشل .
ومن جملة الطرق والوسائل التي حاول معاوية ـ من خلالها ـ إكتساب الشرف والسؤدد ، هي
مُصاهرة الأشراف ، لإكتساب الشرف منهم .
وكان البيت العَلَوي الطاهر على علم وبصيرة من نوايا معاوية وأهدافه ، ولهذا كانوا
يَسدّون عليه كلّ باب يمكن أن يدخل منه .
فلقد أوصى الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) عند وفاته: أن
يتزوّج المُغيرة بن الحارث بن الزبير بن عبد المطّلب بأُمامة بنت زينب بنت رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
تلك السيدة التي أوصت مولاتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام) أمير المؤمنين أن
يتزوّج بها ، حيث قالت : (وتزوّج بأُمامة إبنة أُختي، فإنّها لأولادي مِثلي).
وإنّما أوصى الإمام بذلك كي لا يتزوّج بها معاوية ، فالإمام كان يعلم ـ بعلم
الإمامة ـ بأنّ معاوية سوف يُحاول أن يتزوّج بها ،
الصفحة107
ويَفتخر بأنّه صاهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّ حفيدة النبيّ قد صارت
في حِبالته .
ولهذا أغلق الإمام الباب على معاوية ، وتركه في ظلمات نسَبه وحَسَبه
(1)!
ــــــــــــــــــــ
(1) ذكر ابنُ عبد البَرّ في كتاب (الاستيعاب) ـ في ترجمة حياة أُمامة ـ : (تزوّجها
علي بن أبي طالب بعد فاطمة ... . وكان علي بن أبي طالب قد أمرَ المغيرة بن نوفل بن
الحارث بن عبد المطّلب أن يتزوّج زوجته بعدَه ، لأنّه خاف أن يتزوّجها معاوية .
فتزوّجها المغيرة ... . وذكر عَمر بن شبّة بسنده أنّ عليّاً لما حَضَرته الوفاة قال
ـ لأُمامة بنت أبي العاص ـ : (لا آمن أن يَخطبكِ هذا الطاغية بعد موتي ـ يعني :
معاوية ـ ، فإن كان لكِ في الرجال حاجة فقد رضيتُ لكِ المغيرة بن نوفل عشير) .
فلمّا انقضت عَدّتها .. كَتَب معاوية إلى مروان يأمره أن يَخطبها ، ويَبذل لها مائة
ألف دينار !! فلمّا خطبها أرسلت إلى المغيرة بن نوفل أنّ هذا قد أرسَلَ يَخطبني ،
فإن كان لك بنا حاجة فأقبِل ، فأقبَل وخَطبها مِن الحسن بن علي ، فزوّجها منه .
وذكر ابنُ حجر العسقلاني في كتاب (الإصابة) مثلَ هذا النص .
وجاء في كتاب (الطبقات الكبرى) لابن سعد : أن أُمامة بنت أبي العاص قالت للمغيرة بن
نوفل : إنّ معاوية قد خطبني . فقال لها : أتتزوّجين ابنَ آكلة الأكباد ؟! فلو
جَعلتِ ذلك إليّ ؟ قالت : نعم . قال : قد تزوّجتكِ .
وحكى السيد الأمين في (أعيان الشيعة) عن الشيخ الصدوق والشيخ الطوسي زواجَ أمامة
مِن المغيرة بعد مقتل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام .
=
الصفحة108
وبعد سنوات قام معاوية بمحاولة أخرى ، فلقد كتَبَ إلى زميله ونظيره في الدَناءة
واللؤم والحقارة والصلافة والوقاحة : مروان بن الحَكَم ، ابن الزرقاء الزانية ـ
وكان حاكماً على الحجاز مِن قِبَل معاوية ـ أن يخطب أمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر
، وأمّها السيدة زينب ـ ليزيد بن معاوية .
وجاء مروان إلى عبد الله بن جعفر ، وأخبَره بذلك .
ومن الواضح : أن عبد الله بن جعفر هو أبو الفتاة ، وله عليها الولاية ، وهو يَعلم
نوايا معاوية وهدفه من هذه المصاهرة ، ولكنّه
ــــــــــــــــــــ
= هذا .. ولكن قد ذكر ابنُ شهر أشوب في كتاب (المناقب) ج 3 ص 305 ، عن كتاب (قوت
القلوب) روايةً تتنافى مع ما ذكره المؤرّخون ، وهي : أنّ المغيرة بن نوفل خطب
أُمامة ، فروَت عن علي (عليه السلام) أنّه : لا يَجوز لأزواج النبي والوصيّ أن
يتزوّجن بغيره بعده) .
أقول : على فرض صحّة هذا الخبر الأخير وثبوته ، فإنّ هناك احتمالات :
1 ـ عدم صحّة ما قيل حول زواجها بعد الإمام (عليه السلام) .
2 ـ عدم صحّة ما قيل حول عدم زواجها ، وهو الخبر الأخير .
3 ـ الجَمع بين هذا الخبر الأخير وبين الأقوال التاريخيّة: أنّ زواجها من بعد
الوصي كان لضرورة التخلّص من الموقف المحرج، وهو الزواج من معاوية. والله العالم
بحقائق الأمور.
المحقق
|