زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد

 
 

الصفحة47

أن أعماله وأفعاله ، بل وحتى حركاته وسكناته ، وتصرفاته وأخلاقه وصفاته نابعة من نوعية التربية التي أثرت في نفسه كل الأثر، 

إذن، فمن الصحيح أن نقول: إن السيدة زينب تلقت دروس التربية الراقية العليا في ذلك البيت الطاهر ، كالعلم ـ بما في ذلك الفصاحة والبلاغة، والإخبار عن المستقبل ـ ومعرفة الحياة، وقوة النفس وعزتها، والشجاعة والعقل الوافر، والحكمة الصحيحة في تدبير الأمور، واتخاذ ما يلزم ـ من موقف أو قرار ـ

فقالت : يا أبتاه ما أطيق أن أقول اثنين بلسان أجريته بالواحد، 

فضمها إلى صدره وقبلها بين عينيه، 

المصدر : كتاب (زينب الكبرى) للنقدي ص 34، 

إن هذه اللقطة التاريخية تدل ـ بكل وضوح ـ على قوة التفكير والنضج المبكر في ذهن وفكر السيدة زينب ، حتى وهي في عمر الطفولة ، فكلامها هذا يدل على الأفكار والمفاهيم والمعاني التي كانت تجول في خاطرها !

فاللسان الذي قال : واحد ، لا يمكن له أن ينطق بكلمة : اثنين ، لأن لكلمة (واحد) ظلال في ذهن السيدة زينب عليها السلام ، كلما ذكرت الكلمة تبادر الى الذهن ذلك الظلال ، وهو وحدانية الله سبحانه ، وعدم وجود إله ثان يشاركه في الألوهية والربوبية وإدارة الكون،

المحقق


الصفحة48

تجاه ما يحدث، 

بالإضافة إلى إيمانها الوثيق بالله تعالى ، وتقواها ، وورعها وعفافها ، وحيائها ، وهكذا إلى بقية فضائلها ومكارمها،

وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يغمر أطفال السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بعواطفه ، ويشملهم بحنانه ، بحيث لم يعهد من جد أن يكون مغرماً بأحفاده إلى تلك الدرجة،

وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ إذا زارهم في بيتهم أو زاروه في بيته ـ يعطر خدودهم وشفاههم بقبلاته ، ويلصق خده بخدودهم،

ويعلم الله تعالى كم من مرة حظيت السيدة زينب (عليها السلام) بهذه العواطف الخاصة ؟ !

وكم من مرة وضع الرسول الأقدس (صلى الله عليه وآله وسلم) خده الشريف على خد حفيدته زينب ؟ ! وكم من مرة أجلسها في حجره ؟!

وكم من مرة تسلقت زينب أكتاف جدها الرسول ؟!


الصفحة49

ويؤسفنا أنه لم تصل إلينا تفاصيل أو عينات تاريخية تنفعنا في هذا المجال ، وحول السنوات الخمس التي عاشتها السيدة تحت ظل الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم (1).

ــــــــــــــــــــ

(1) ونقرأ في بعض كتشب التاريخ رؤيا مخيفة رأتها السيدة زينب وهي في عمر الطفولة، فحدثت بذلك جدها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا جداه رأيت ـ البارحة ـ أن ريحاً عاصفة قد إنبعثت فاسودت الدنيا وما فيها وأظلمت السماء ، وحركتني الرياح من جانب إلى جانب ، فرأيت شجرة عظيمى فتمسكت بها لكي أسلم من شدة الريح العاصفة ، وإذا بالرياح قد قعلت الشجرة من مكانها وألقتها على الأرض !
ثم تمسكت بغصن قوي من أغصان تلك الشجرة فكسرتها الرياح ، تعلقت بغصن آخر فكسرتها الريح العاصفة ! !
فتمسكت بغصن آخر وغصن رابع ، ثم استيقظت من نومي !
وحينما سمع رسول الله منها هذه الرؤيا بكى وقال : أما الشجرة فهو جدك ، وأما الغصنان الكبيران فهما أمك وأباك ، وأما الغصان الآخران فأخواك الحسنان ، تسود الدنيا لفقدهم ، وتلبسين لباس المصيبة والحداد في رزيتهم،
المصدر : كتاب (زينب الكبرى) للشيخ جعفر النقدي ص 18، مع تصرف يسير منا في بعض الكلمات،
المحقق

الصفحة50


الصفحة51

السيدة زينب (عليها السلام) في عهد أمها البتول (عليها السلام)

تستأنس البنت بأمها أكثر من استيناسها بأبيها، وتنسجم معها أكثر من غيرها ، وتعتبر روابط المحبة بين الأم والبنت من الأمور الفطرية التي لا تحتاج إلى دليل ، فالأنوثة من أقوى الروابط بين الأم وبنتها،

وإذا نظرنا إلى هذه الحقيقة من زاوية علم النفس، فإن الأم تعتبر ينبوعاً للعاطفة والحنان، والبنت ـ بطبعها وطبيعتها ـ متعطشة إلى العاطفة ، فهي تجد ضالتها المنشودة عند أمها ، فلا عجب إذا اندفعت نحو أمها، وانسجمت معها روحاً وقلباً وقالب، 

والسيدة زينب الكبرى كانت مغمورة بعواطف أمها الحانية العطوفة، وقد حلت في أوسع مكان من قلب أم كانت أكثر أمهات العالم حناناً ورأفةً وشفقةً بأطفاله،


الصفحة52

السيدة زينب الكبرى تعرف الجوانب الكثيرة من آيات عظيمة أمها سيدة نساء العالمين وحبيبة رسول الله وقرة عينه وثمرة فؤاده ، وروحه التي بين جنبيه ، صلى الله عليه وآله وسلم.

فقد فتحت السيدة زينب الكبرى عينيها في وجه أطهر أنثى على وجه الأرض ، وعاشت معها ليلها ونهارها ، وشاهدت من أمها أنواع العبادة ، والزهد ، والمواساة والإيثار ، والإنفاق في سبيل الله ، وأطعام الطعام مسكيناً ويتيماً وأسير،

وشاهدت حياة أمها الزوجية ، والإحترام المتبادل بينها وبين زوجها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وإطاعتها له ، وصبرها على خشونة الحياة وصعوبة المعيشة ، ابتغاء رضى الله تعالى،

كما عاصرت السيدة زينب الحوادث المؤلمة التي عصفت بأمها البتول بعد وفاة أبيها الرسول ، وما تعرضت له من الضرب والأذى ، كما سبقت منا الإشارة إلى ذلك،

وانقضت عليها ساعات اليمة وهي تشاهد أمها العليلة ، طريحة الفراش ، مكسورة الضلع ، دامية الصدر، محمرة العين، 

كما رافقت أمها الزهراء (عليها السلام) إلى مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ حين إلقاء الخطبة ، كما ستقرأ ذلك في فصل (بعض ما روي عن السيدة زينب) إن شاء الله تعالى،


الصفحة53

السيدة زينب (عليها السلام) في عهد والدها أمير المؤمنين (عليه السلام)

بعد أن وصل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من البصرة إلى الكوفة ، واستقر به المكان ، إلتحقت به العوائل من المدينة إلى الكوفة .

ومن جملة السيدات اللواتي هاجرن من المدينة إلى الكوفة هي السيدة زينب (عليها السلام) وقد سبقها زوجها عبد الله بن جعفر ، حيث كان في جيش الإمام لدى وصوله إلى البصرة.

والمستفاد من مطاوي التواريخ والأحاديث أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ بعد انقضاء مدة من وصوله إلى الكوفة ـ نزل في دار الامارة ، وهو المكان المعد لحاكم البلدة ، ومع تواجد الإمام في الكوفة لم يكن هناك حاكم أو أمير غيره ، فلماذا لا ينزل في دار الإمارة ؟

ويتبادر إلى الذهن أن دار الامارة كانت مشتملة على حجرات وغرف عديدة واسعة ، وكان كل من البنات والأولاد


الصفحة54

(المتزوجين) يسكنون في حجرة من تلك الحجرات ، والسيدة زينب كانت تسكن مع زوجها في حجرة أو غرفة من غرف دار الإمارة (1) .

ومكثت السيدة زينب (عليها السلام) في الكوفة سنوات

ـــــــــــــــــــ

(1) السيدة زينب تعلم تفسير القرآن لنساء الكوفة
وجاء في التاريخ أن جمعاً من رجال الكوفة جاؤا إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وقالوا : إئذن لنسائنا كي يأتين إلى ابنتك ويتعلمن منها معالم الدين وتفسير القرآن .
فأذن الإمام لهم بذلك ، فبدأت السيدة زينب بتدريس النساء .
ويعلم الله عدد النساء المسلمات اللواتي كن يحضرن درس السيدة . . طيلة أربع سنوات أو أكثر .
وذات يوم دخل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الدار ، فسمع ابنته زينب تتحدث للنساء ـ في درسها ـ عن الحروق المقطعة في أوائل السور ، وعن بداية سورة مريم بشكل خاص .
وبعد انتهاء الدرس إلتقى الإمام بابنته وقال لها : يا نور عيني أتعلمين أن هذه الحروف هي رمز لما سيجري عليك وعلى أخيك الحسين في أرض كربلاء ، ثم بدأ يحدثها عن بعض تفاصيل تلك الفاجعة .
المصدر : كتاب (الخصائص الزينبية) للسيد الجزائري المتوفى عام 1384 هـ ، ص 68 ، وكتاب (رياحين الشريعة) للمحلاّتي ج 3 ص 57 .
المحقق

الصفحة55

وعاصرت الأحداث والإضطرابات الداخلية التي حدثت : من واقعة صفين إلى النهروان ، إلى الغارات التي شنها عملاء معاوية على بلاد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام .

إنقضت تلك السنوات المريرة ، المليئة بالآلام والمآسي ، وانتهت تلك الصفحات المؤلمة بالفاجعة التي اهتزت منها السماوات والأرضون ، وهي حادثة استشهاد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام .

لقد كانت العلاقات الودية بين الإمام أمير المؤمنين وبين أولاده وبناته على أطيب ما يمكن ، وفي جو من الصفاء والوفاء ، والعاطفة والمحبة .

والإمام أمير المؤمنين هو السلطان الحاكم على نصف الكرة الأرضية ، ومعه عائلته المصونة وأبناؤه المكرمون ، ولكنه ـ في شهر رمضان من تلك السنة ، وهي السنة الأخيرة والشهر الأخير من حياته ـ كان يفطر ليلة عند ولده الإمام الحسن ، وليلة عند ولده الإمام الحسين (عليهما السلام) وليلة عند السيدة زينب التي كانت تعيش مع زوجها عبد الله بن جعفر ، (1) كل ذلك تقويةً لأواصر

ـــــــــــــــــــ

(1) المصدر : الإرشاد للشيخ المفيد ، ص 169، وذكر أيضاً في (بحار الأنوار) للشيخ المجلسي ، ج 41 ص 300، باب إخباره بالغائبات وعلمه باللغات. نقلاً عن كتاب الخرائج .

الصفحة56

المحبة والتواصل بينه وبين أشباله وبناته .

وفي الليلة التاسعة عشر من شهر رمضان ، كانت النوبة للسيدة زينب ، وأفطر الإمام في حجرتها وقدمت له طبقاً فيه رغيفان من خبز الشعير ، وشيء من الملح ، وإناء من لبن .

كان هذا هو فطور الإمام أمير المؤمنين الذي كان يحكم على نصف العالم ، وأنهار الذهب والفضة تجري بين يديه .

واكتفى الإمام ـ تلك الليلة ـ برغيف من الخبز مع الملح فقط .

ثم حمد الله وأثنى عليه ، وقام إلى صلاة ، ولم يزل راكعاً وساجداً ومبتهلاً ومتضرعاً إلى الله تعالى .

ولا أعلم لماذا بات الإمام في حجرة ابنته السيدة زينب ـ تلك الليلة ـ ؟

ولعله اختار المبيت في بيتها حتى تشاهد وترى ، وتروي مشاهداتها ومسموعاتها عن أبيها أمير المؤمنين في تلك الليلة ، إذ كانت تلك الليلة تمتاز عن بقية الليالي ، فإنها تحدثنا فتقول :

إنه (عليه السلام) قال لأولاده : (إني رأيت ـ في هذه الليلة ـ رؤيا هالتني ، وأريد أن أقصها عليكم) .

قالوا : وما هي ؟


الصفحة57

قال : (إني رأيت ـ الساعة ـ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في منامي وهو يقول لي : يا أبا الحسن إنك قادم إلينا عن قريب ، يجيء إليك أشقاها فيخضب شبيتك من دم رأسك ، وأنا ـ والله ـ مشتاق إليك ، وإنك عندنا في العشر الآخر من شهر رمضان ، فهلم إلينا فما عندنا خير لك وأبقى) .

فلما سمعوا كلامه ضجوا بالبكاء والنحيب ، وأبدوا العويل ، فاقسم عليهم بالسكوت ، فسكتوا (1).

وتقول السيدة زينب (عليها السلام) :

لم يزل أبي ـ تلك الليلة ـ قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً ، ثم يخرج ساعةً بعد ساعة ، يقلب طرفه في السماء وينظر في الكواكب وهو يقول : والله ما كذبت ولا كذبت ، وإنها الليلة التي وعدت بها . ثم يعود إلى مصلاّه ويقول : اللهم بارك لي في الموت . ويكثر من قول : (انا لله وإنا إليه راجعون) ،(ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) ، ويصلي على النبي وآله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ويستغفر الله كثيراً .

تقول : فلما رأيته ـ في تلك الليلة ـ قلقاً متململاً (2).

ـــــــــــــــــــ

(1) كتاب (بحار الأنوار) للشيخ المجلسي ج 42 ص 277 ، باب 127 .
(2) متململاً : التململ : هو الإضطرات وعدم الإستقرار بسبب الهم أو الألم . وجاء في كتاب (العين) للخليل بن أحمد : الململة : أن يصير
=

الصفحة58

كثير الذكر والإستغفار ، أرقت معه ليلتي (1) وقلت : يا أبتاه ما لي أراك في هذه الليلة لا تذوق طعم الرقاد ؟

قال ـ عليه السلام ـ : يا بنية إن أباك قتل الأبطال وخاض الأهوال وما دخل الخوف له جوفاً ، وما دخل في قلبي رعب أكثر مما دخل في هذه الليلة (2).

ثم قال : إنا لله وإنا إليه راجعون .

ـــــــــــــــــــ

= الإنسان من جزع أو حرقة كأنه يقف على جمر . وقال الفيروز آبادي في (القاموس) : التململ : التقلب . . مرضاً أو غماً .
المحقق
(1) أرقت معه : أي سهرت معه ، الأرق : السهر .
(2) بناءً على صحة هذه المقطوعة من التاريخ يتبادر إلى الذهن هذا السؤال : لماذا الخوف ؟
الجواب : لا شك أن الخوف لم يكن من الموت ، لأن الإمام (عليه السلام) يقسم على الله تعالى ـ أكثر من مرة ـ أنه لا يخاف الموت ، وأنه (آنس بالموت من الطفل بصدر أمه) وأنه (لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه) . وساحات الحرب وميادين القتال تشهد له بصدق كلماته هذه .
فلعل سبب الخوف: هو هيبة لقاء الله تعالى والإنتقال من عالم الفناء إلى عالم البقاء. أو الخوف والقلق على مستقبل الأمة بعد غياب الإمام عن ذلك المجتمع، وبسبب خطر المؤامرات التي كان يحكيها معاوية ضد الإسلام والمسلمين.
أو لغير ذلك من الأسباب والله العالم .
المحقق

الصفحة59

فقلت : يا أبتاه ، ما لك تنعى نفسك في هذه الليلة ؟

قال : يا بنية قد قرب الأجل وانقطع الأمل .

قالت : فبكيت ، فقال لي : يا بنية لا تبكي فإني لم أقل ذلك إلا بما عهد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

تقول (عليها السلام) : ثم إنه نعس وطوى ساعة ، ثم استيقظ من نومه وقال : يا بنية إذا قرب وقت الأذان فأعلميني .

ثم رجع إلى ما كان عليه أول الليل من الصلاة والدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى .

فجعلت أرقب وقت الأذان ، فلما لاح الوقت أتيته ومعي إناء فيه ماء ، ثم أيقظته فأسبغ الوضوء ، وقام ولبس ثيابه وفتح باب الحجرة ، ثم نزل إلى ساحة الدار .

وكانت في الدار إوز (1) قد أهديت إلى أخي الحسين ، فلما نزل خرجن وراءه ورفرفن وصحن في وجهه ـ ولم يصحن قبل تلك الليلة ـ فقال (عليه السلام) : (لا إله إلا الله ، صوارخ تتبعها نوائح ، وفي غداة غد يظهر القضاء) .

فقلت : يا أبتاه هكذا تتطير ؟ !

ــــــــــــــــــــ

(1) إوز ـ بكسر الهمزة وفتح الواو وتشديد الزاي ـ : البط ، كما في (مجمع البحرين) للطريحي . وقيل : الإوز : طائر يشبه البط في شكله العام ولكنه اكبر منه حجماً وأطول عنقاً . كما في كتاب (المعجم الوسيط) .

الصفحة60

فقال : (يا بنية ! ما منا ـ أهل البيت ـ من يتطير ، ولا يتطير به ، ولكن قول جرى على لساني) .

ثم قال ـ عليه السلام ـ : (يا بنية ! بحقي عليك إلا ما أطلقتيه ، فقد حبست ما ليس له لسان ، ولا يقدر على الكلام إذا جاع أو عطش ، فأطعميه واسقيه وإلا خلي سبيله يأكل من حشائش الأرض) .

فلما وصل إلى الباب عالجه ليفتحه ، فتعلق الباب بمئزره ، فانحل مئزرة حتى سقط ، فأخذه وشده وهو يقول :

أشـدد حيازيمك للموت    فإن المـوت لا قيكـا

ولا تجـزع من الموت     إذا حــل بنـاديكـا

كما أضحكـك الـدهر      كذاك الدهـر يبكيكـا

ثم قال : (اللهم بارك لنا في الموت ، الله مبارك لي في لقائك) .

تقول السيدة أم كلثوم :

وكنت أمشي خلفه ، فلما سمعته يقول ذلك قلت : واغوثاه يا أبتاه ! أراك تنعى نفسك منذ الليلى ؟ !

فقال ـ عليه السلام ـ : (يا بنية ! ما هو بنعاء ، ولكنها


الصفحة61

دلالات وعلامات للموت . . يتبع بعضها بعض) .

ثم فتح الباب وخرج .

فجئت إلى أخي الحسن فقلت: يا أخي قد كان من أمر أبيك الليلة كذا وكذا ، وهو قد خرج في هذا الليل الغلس ، فالحقه (1) .

فقام الحسن (عليه السلام) وتبعه ، فلحق به قبل أن يدخل الجامع ، فأمره الإمام بالرجوع ، فرجع .

أيها القارئ الكريم :

هنا ننقل ما ذكره المؤرخون ، ثم نعود إلى حديث السيدة زينب عليها السلام :

لقد جاء الإمام علي (عليه السلام) حتى دخل المسجد ، فصعد على المئذنة ووضع سبابتيه في أذنيه وتنحنح ، ثم أذن فلم يبق في الكوفة بيت إلا اخترقه صوته ، ثم نزل عن المئذنة وهو يسبح الله ويقدسه ويكبره ، ويكثر من الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .

وكان يتفقد النائمين في المسجد ويقول للنائم : الصلاة

ــــــــــــــــــــ

(1) الغلس ـ بفتح اللام ـ : ظلمة آخر الليل كما في (القاموس) للفيروز آبادي . وقيل : ظلام آخر الليل إذا اختلط بضوء الصباح . كما في كتاب (مجمع البحرين) للطريحي .

الصفحة62

يرحمك الله ، قم إلى لصلاة المكتوبة ، ثم يتلو : (إِنّ الصّلاَةَ تَنْهَى‏ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ) (1) .

. . . . ثم اتجه نحو المحراب وقام يصلي ، وكان (عليه السلام) يطيل الركوع والسجود ، فقام ابن ملجم (لعنه الله) لارتكاب أكبر جريمة في تاريخ الكون ، وأقبل مسرعاً حتى وقف بأزاء الاسطوانة التي كان الإمام يصلي عندها (2)، فأمهله حتى صلى الركعة الأولى وسجد السجدة الأولى ورفع رأسه منها ، فتقدم اللعين ورفع السيف وهزه ثم ضرب الإمام على رأسه الشريف، فوقعت الضربة على مكان الضربة التي ضربه عمرو بن عبدود العامري ، يوم الخندق .

فوقع الإمام (عليه السلام) على وجهه قائلاً : بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ، فزت ورب الكعبة ، هذا ما و عد الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله .

وسال الدم على وجهه الشريف ، وشيبته المقدسة ، وعلى

ــــــــــــــــــــ

(1) سورة العنكبوت ، الآية 45 .
(2) الأسطوانة : العمود الذي يعتمد عليه سقف البناء . وكلمة (أسطوانة) معربة من اللغة الفارسية ، وأصلها : (ستون) أو (أستون) .
المحقق

الصفحة63

صدره وأزياقه (1) ، حتى اختضبت شيبته وتحقق ما أخبر عنه الرسول الكريم .

وفي هذه اللحظة الأليمة هتف جبرئيل ـ بين السماء والأرض ـ ذلك الهتاف السماوي الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ الأنبياء والأوصياء .

لقد هتف جبرئيل بشهادة الإمام علي (عليه السلام) كما هتف ـ يوم أحد ـ بفتوته وشهامته يوم قال : (لا فتى إلا علي لا سيف إلا ذوالفقار) .

فقد اصطفقت أبواب المسجد الجامع (2) ، وضجت الملائكة في السماء ، وهبت ريح عاصفة سوداء مظلمة ، ونادى جبرئيل بصوت سمعه كل مستيقظ :

(تهدمت ـ والله ـ أركان الهدى ، وانطمست ـ والله ـ نجوم السماء وأعلام التقى ، وانفصمت ـ والله ـ العروة الوثقى ، قتل ابن عم محمد المصطفى ، قتل الوصي المجتبى ، قتل علي المرتضى ، قتل ـ والله ـ سيد الأوصياء ، قتله أشقى

ــــــــــــــــــــ

(1) أزياق ـ جمع زيق .. بالكسر ـ : زيق القميص : ما أحاط بالعنق من القميص . كما في كتاب القاموس وتاج العروس . وبتعبير آخر : زيق ، فتحة القميص التي يدخل الإنسان رأسه منها .
المحقق
(2) إصطفقت : ضربت بعضها ببعض ، ضرباً يسمع منه الصوت .

الصفحة64

الأشقياء) .

فلما سمعت السيدة أم كلثوم نعي جبرئيل لطمت على وجهها وخدها ، وشقت جيبها وصاحت : واأبتاه ! واعلياه ! وامحمداه ! واسيداه !

.... ثم حملوا الإمام ـ والناس حوله يبكون وينتحبون ـ وجاؤوا به إلى الدار. فاقبلت بنات رسول الله وسائر بنات الإمام، وجلسن حول فراشه ينظرن إلى أسد الله وهو بتلك الحالة، فصاحت السيدة زينب وأختها: أبتاه من للصغير حتى يكبر؟! ومن للكبير بين الملأ؟!

يا ابتاه ! حزننا عليك طويل ، وعبرتنا لا ترقأ (1) .

فضج الناس ـ من وراء الحجرة ـ بالبكاء والنحيب ، وشاركهم الإمام (عليه السلام) وفاضت عيناه بالدموع.

وفي ليلة الحادية والعشرين من شهر رمضان ، في الساعة الأخير من حياة الإمام (عليه السلام) كانت السيدة زينب (عليها السلام) جالسة عنده تنظر في وجهه ، إذ عرق جبين الإمام ، فجعل يمسح العرق بيده ، فقالت زينب : يا أبه أراك تمسح جبينك؟

قال : يا بنية سمعت جدك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

ــــــــــــــــــــ

(1) لا ترقأ : لا تنقطع ، أو لا تجف .

الصفحة65

يقول : (إن المؤمن إذا نزل به الموت ودنت وفاته عرق جبينه وصار كاللؤلو الرطب ، وسكن انينه) .

فعند ذلك ألقت زينب بنفسها على صدر أبيها وقالت : يا ابه حدثتني أم أيمن بحديث كربلاء ، وقد أحببت أن أسمعه منك (1) .

فقال (عليه السلام) : (يا بنية ! الحديث كما حدثتك أم أيمن، وكأني بك وبنساء أهلك لسبايا بهذا البلد ، خاشعين تخافون أن يتخطفكم الناس، فصبراً صبر).

ثم التفت الإمام إلى ولديه الحسن والحسين (عليهما السلام) وقال : (يا أبا محمد ويا أبا عبد الله ، كأني بكما وقد خرجت عليكما من بعدي الفتن من ها هنا وها هنا ، فاصبرا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين .

يا ابا عبد الله ! أنت شهيد هذه الأمة ، فعليك بتقوى الله والصبر على بلائه .

ثم أغمي عليه وأفاق ، وقال : هذا رسول الله وعمي حمزة وأخي جعفر وأصحاب رسول الله ، وكلهم يقولون : عجل قدومك علينا فإنا إليك مشتاقون .

ــــــــــــــــــــ

(1) سوف نذكر لمحة سريعة عن أم أيمن ، في فصل (بعض ما روي عن السيدة زينب عليها السلام) .

الصفحة66

ثم أدار عينيه في وجوه أهل بيته وقال لهم :( استودعكم الله) ، وتلا قوله تعالى (لِمِثْلِ هذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) (1) وقوله سبحانه (إِنّ اللّهَ مَعَ الّذِينَ اتّقَوْا وَالّذِينَ هُم مُحْسِنُونَ) (2).

ثم تشهد الشهادتين وفارق الحياة .

فعند ذلك صرخت زينب وأم كلثوم وجميع نسائه وبناته ، وشققن الجيوب ، ولطمن الخدود ، وارتفعت الصيحة في الدار .

.... ولما فرغ أولاد الإمام (عليه السلام) من تغسيله، نادى الإمام الحسن أخته زينب وقال: يا أختاه هلمي بحنوط جدي رسول الله ـ وكان قد نزل به جبرئيل من الجنة ـ .

فبادرت السيدة زينب مسرعة حتى أتته به ، فلما فتحته فاحت الدار لشدة رائحة ذلك الطيب .

أيها القارئ الكريم : هذا بعض ما يرتبط بالسيدة زينب في حياة أبيها العظيم الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد اقتطفنا ما يرتبط بمقتل أبيها من كتابنا : الإمام علي من المهد إلى اللحد .

ــــــــــــــــــــ

(1) سورة الصافات ، الآية 61 .
(2) سورة النحل ، الآية 128 .

الصفحة67

السيدة زينب (عليها السلام) مع أخيها الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)

إن الاحترام اللائق، والتقدير الرفيع كان متبادلاً بين السيدة زينب الكبرى وبين أخيها الأكبر ، وهو السبط الأول لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : الإمام الزكي، الحسن المجتبى عليه السلام .

إن السيدة زينب كانت تنظر إلى أخيها الامام الحسن من مناظرين:

1 ـ منظار الأخوة .

2 ـ منظار الإمامة .

فمن ناحية : يعتبر الإمام الحسن الأخ الأكبر للسيدة زينب (عليها السلام) ومن المعلوم أن الأخ الأكر له مكانة خاصة عند الإخوة والأخوات ، وقد ورد في الحديث الشريف : (الأخ الأكبر


الصفحة68

بمنزلة الأب) (1) .

ومن ناحية أخرى : يعتبر الإمام الحسن (عليه السلام) إمام زمان السيدة زينب بعد شهادة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ولهذا فإن احترامها لاخيها كان ينبعث من هذين المنطلقين .

وتجدر الإشارة إلى أن كل ما سنذكره ـ من الروابط القلبية بين السيدة زينب والإمام الحسين ـ فهي ثابتةً بينها وبين أخيها الإمام الحسن أيضاً .

وإذا كان التاريخ قد سكت عن التفاصيل فإن أصل الموضوع ثابت .

ونكتفي ـ هنا ـ بما ذكر في بعض الكتب من موقف السيدة زينب حينما حضرت عند أخيها الإمام الحسن ساعة الوفاة :

(. . . وصاحت زينب : وا أخاه ! وا حسناه ! وا قلة ناصراه ! يا أخي من الوذ به بعدك ؟ !

وحزني عليك لا ينقطع طول عمري ! ثم إنها بكت على أخيها وهي تلثم خديه وتتمرغ عليه ، وتبكي طويل) (2) .

ــــــــــــــــــــ

(1) الحديث مروي عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) . ذكر في كتاب (بحار الأنوار) ج 75 ، 335 ، طبع لبنان عام 1403 هـ .
(2) معالي السبطين ، للمازندراني ، ج 1 ، المجلس التاسع .

الصفحة69

العلاقات الودّية بين السيدة زينب (عليها السلام) وأخيها الإمام الحسين (عليه السلام)

إن روابط المحبة ، والعلاقات الودية بين الإخوة والأخوات كانت من قديم الزمان ، حتى صارت يضرب بها المثل في المحبة والمودة بين اثنين ، فيقال : كأنهما أخوان ، أو كأنهما أخ وأخت .

ولكن العلاقات الودية وروابط المحبة بين الإمام الحسين وبين أخته السيدة زينب (عليهما السلام) كانت في القمة وكانت تمتاز بمزايا ، ولا أبالغ إذا قلت : لا يوجد ولم يوجد في العالم أخ وأخت تربطهما روابط المحبة والوداد مثل الإمام الحسين وأخته السيدة زينب . فإن كلاً منهما كان قد ضرب الرقم القياسي في مجال المحبة الخالصة ، والعلاقات القلبية .

وكيف لا يكونان كذلك وقد تربيا في حجر واحد وتفرعا


الصفحة70

من شجرة واحدة ؟ !

ولم تكن تلك العلاقات منبعثة عن عاطفة القرابة فحسب ، بل عرف كل واحد منهما ما للآخر من الكرامة ، وجلالة القدر وعظم الشأن .

فالسيدة زينب تعرف أخاها بأنه :

سيد شباب أهل الجنة وريحانة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعلم بأن الله تعالى قد أثنى على أخيها في آيات كثيرة من القرآن الكريم ، كآية المباهلة ، وآية المودة ، وآية التطهير ، وسورة (هل أتى) ، وغيرها من الآيات والسور .

بالاضافة إلى أنها عاشت سنوات مع اخيها في بيت واحد ، وشاهدت ما كان يتمتع به اخوها من مكارم الأخلاق والعبادة والروحانية ، وعرفت ما لأخيها من علو المنزلة وسمو الدرجة عند الله عزوجل .

وتعلم انه إمام منصوب من عند الله تعالى ، منصوص عليه بالإمامة العظمى والولاية الكبرى من الرسول الأقدس صلى الله عليه وآله وسلم .

مع توفر شروط الإمامة ولوازمها فيه ، كالعصمة ، والعلم بجميع أنواع العلوم ، وغير ذلك .

وهكذا يعرف الإمام الحسين (عليه السلام) أخته السيدة زينب


الصفحة71

حق المعرفة ، ويعلم فصائلها وفواضلها وخصائصها .

ومن هنا يمكن لنا أن نطلع على شيء من مدى الروابط القوية بين هذا الأخ العظيم وأخته العظيمة .

وقد جاء في التاريخ : أن الإمام الحسين (عليه اسلام) كان يقرأ القرآن الكريم ـ ذات يوم ـ فدخلت عليه السيدة زينب ، فقام من مكانه وهو يحمل القرآن بيده ، كل ذلك احتراماً لها (1) .

ــــــــــــــــــــ

(1) كتاب (ذخيرة المعاد) للشيخ زين العابدين المازندراني .

الصفحة72


الصفحة73

الفصل الثالث

زواج السيدة زينب (عليها السلام)

عبد الله بن جعفر

لماذا لم يخرج عبد الله مع الإمام الحسين (عليه السلام)


الصفحة74


الصفحة75

زواج السيدة زينب (عليها السلام)

لمّا بَلَغت السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) مَبلَغ النساء ، خطَبَها ـ فيمَن خطَبَها ـ ابنُ عمّها : عبد الله بن جعفر بن أبي طالب .

وكان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يَرغَبُ أن يتزوّج بناته من أبناء عُمومتهنّ : أولاد عقيل وأولاد جعفر ، ولعلّ السبب في ذلك هو كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ حينَ نظر الى أولاد الإمام علي وأولاد جعفر بن أبي طالب ـ فقال : ـ (بَناتُنا لبَنينا ، وبَنونا لبَناتن) (1) .

وحصلت الموافقة على الزواج ، وتمّ العقد المبارك في جوّ عائلي يَغمره الودّ والمحبّة ، وزُفّت السيدة زينب (عليها

ــــــــــــــــــــ

(1) كتاب (مناقب آل أبي طالب) لابن شهرآشوب المتوفى عام 588 للهجرة ، ج 3 ص 305 ، فصل : في أزواجه وأولاده ، وذكره الشيخ المجلسي في (بحار الأنوار) ج 42 ص 92 ، باب 120 .

الصفحة76

السلام) إلى دار زوجها عبد الله بن جعفر .. بكلّ إجلال واحترام . وأنجَبَت منه أولاداً كانوا ثمرات تلك الشجرة الطيّبة ، وفروع أغصانها ، فلقد وَرِثوا المجد والشرف من الجانبين (1) .

ــــــــــــــــــــ

(1) هناك نظريّة تقول : (إنّ الزواج من الأقارب شيء مذموم ، وينبغي الإبتعاد عنه لكي يكون النسل الناتج من الزوجين نَسلاً سليما من ناحية الصحّة البدنية والنفسيّة) .
ولهذه النظرية مؤيّدون ومخالفون . ونحن نذكر تعليقنا عليها من خلال عدّة نقاط :
النقطة الأولى : إنّ مجرّد الزواج من الأقارب ليس شيئا مذموما ، بل المذموم هو الزواج منهم في بعض الحالات ، وهي :
الحالة الأولى : فيما لو كان الرجل أو المرأة مُصاباً بمرض ينتقل الى النسل عن طريق الوراثة ، وكان ذلك المرض منتشراً بين سائر أفراد العشيرة ، فحينئذ يُفضّل عدم الزواج من الأقارب .. في حالة العِلم أو الظن بوجود المرض في الطرف الآخر ـ الذي هو من الأقارب ـ .
الحالة الثانية : فيما لو عُلم عدم وجود الإنسجام بين فَصيلة دم هذا وفصيلة دم تلك ، وأنّ الزواج بين هذين سوف يُسبّب إشكالات مهمّة في النسل والذريّة .
وإليك هذا المثال للحالة الأولى من هاتين الحالتين :
=

الصفحة77

ــــــــــــــــــــ

= هناك مرض يُعبر عنه بـ (التكسّر في الدم) وهو منتشر في بعض العوائل والعشائر ـ ونسأل الله تعالى الشفاء العاجل لكلّ مؤمن ومؤمنة ـ ، فلو كان الرجل مُصاباً بهذا المرض وتزوّج امرأة سليمة ، تكون نسبة إحتمال إنتقال المرض إلى نسله 10% ـ مثلاً ـ ، لكنّه لو تزوّج بامرأة من أقربائه وهي مُصابة بنفس المرض ، ترتفع نسبة إحتمال إنتقال المرض إلى 80% أو أكثر ، حسب اختلاف الحالات .
وحينما نُلاحظ هذا المثال ـ بدقّة ـ يتّضح لنا أنّه ليس مجرّد الزواج من الأقارب أمراً مذموماً ، بل المذموم : هو اختيار زوج غير سليم أو زوجة غير سليمة ، حيث يعني ذلك : عدم إتّخاذ إجراءات وقائيّة كافية لضمان مستقبل صحّي جيّد للنسل والذريّة .
وهذا لا يختصّ بالأقارب ، بل هو عام .. يشمل الأباعد أيضاً . فلا ينبغي فتح باب جديد ـ في علم الطب ـ تحت عنوان : (كراهة أو مخاطر الزواج من الأقارب) ، فإنّ ذلك يعني : التفكير حول القضايا تفكيراً سطحياً ، والغفلة عن المضاعفات المؤسفة الناتجة عن التطبيق ـ بشكل عام ـ لهذه النظريّة غير الناضجة .
النقطة الثانية : لقد ذكرت في التعاليم الاسلاميّة ـ الواردة في موضوع الزواج والعلاقات الزوجية ـ أسباب كثيرة للتعوّق والتشوّه في
=

الصفحة78

ــــــــــــــــــــ

= الخِلقة ، والإصابة بالأمراض البدنيّة والنفسيّة ، وغير ذلك من انواع الإعوجاج في النسل والذريّة ، وهي عامّة للجميع .. ولا تختصّ بالأقارب . وهي جديرة بالدراسة والإهتمام ، فيَلزم معرفتها والتطبيق الحرفي لها ، والإعتماد عليها .. لا على النظريّات التي تَشكو من عدم النُضج .
النقطة الثالثة : إن نظرية (كراهة الزواج من الأقارب) وصلت إلينا مِن بلاد الغرب ، وهي تعتمد ـ أولاً وأخيراً ـ على التجارب التي أجريَت في المجتمعات الغربيّة فقط . فلعلّ هناك أسباباً أخرى تورث التعوّق إجتمعت ـ عندهم ـ مع عامل الزواج من الأقارب ، فسبّبت ـ معاً أو لوحدها ـ التشوّه والإعاقة .
والأسباب الأخرى هي مثل :
الممارسة الجنسية بعد شُرب الخمر وفي حالة السكر .
أو تكوّن النطفة من لحم الخنزير ، أو بعض الحيوانات أو الأسماك التي حرّم الله تعالى أكل لحومها .
أو إنعقاد النطفة بعد الإسراف في عدد الممارسات الجنسية .
أو الإهمال الكامل لجميع الإرشادات الدينيّة المرتبطة باللحظات الأولى لتكوّن الجنين . وما أشبه ذلك من الأسباب الأخرى .
=

الصفحة79

ــــــــــــــــــــ

= فهنا ينبغي عدم مُقايسة المجتمع الغربي مع المجتمعات الإسلاميّة النظيفة ـ بالكامل أو بنسبةٍ ما ـ عن الخمر والخنزير، والأجواء المُثيرة لغريزة الجنس، والغفلة عن تعاليم السماء .
وينبغي ـ أيضاً ـ البحث لإكتشاف السبب الرئيسي للتعوّق ، والقيام بتجارب علميّة .. مع الأخذ بعين الإعتبار لتعاليم السماء . وتجنّب الخلط بين المفاهيم والأمور ، والأسباب والمسبّبات .
قل للذي يَدّعي في العلم فلسفةً
حفِظتَ شيئاً وغابت عنك أشياءُ
النقطة الرابعة : يؤسفُنا أنّ بعض المثقّفين من المسلمين ـ الذين يتقبّلون نظريّات الغرب تقبّلاً غير واع ـ يُشجّعون على ترك الزواج من الأقارب بشكل عام ، وهم في جهل أو غفلة عن الأضرار الناتجة من ذلك ، ففي الزواج من غير الأقارب توجد ـ غالباً ـ الفروق والإختلاف في العادات والتقاليد والأجواء والأخلاق ، والجهل بنفسيّة الطرف الآخر وحقيقته ، وهذه الفروق تكون ـ غالباً ـ سبباً رئيسيّاً لِخَلق ارضيّة النزاعات ، وإيجاد جُذور الإختلافات ، وبُروز طبقة من البرود المؤسف الذي يخيّم على العلاقات الزوجيّة والعائليّة . وتكون ـ في النهاية ـ بمنزلة المِعوَل الهدّام لإضعاف أسس الأسرة السعيدة ، ومَنع تكوّن الإنسجام المطلوب بين الزوجين .
=

الصفحة80

ــــــــــــــــــــ

= النقطة الخامسة : هناك بعض العشائر والعوائل التي تعيش في حالة مؤسفة مٍن التنافر والتفكّك الأُسَري ، بسبب ابتعادها عن أخلاقيّات الدين ، وعدم رُضوخها لتعاليم الاسلام المُرتبطة بتركيبة حياة البشر . وفيها يَشِبّ الأطفال على الأحقاد ، وعلى بُغض الأعمام والعَمّات والأخوال والخالات ، وغيرهم مِن أفراد العشيرة ، وتعيش هذه الأُسَر ـ أحياناً ـ مُنغَلقة على نفسها ، فلا تَزاور ولا تعاون ولا صلة أرحام ، ولا وُدّ ولا صفاء .
فإن كانت بعض العوائل تُعاني من هذه الظاهرة المؤسفة ، فلا يعني ذلك أنّها تتصوّر وجود نفس التفكّك في العشائر الأخرى ، وتَقيس بنفسها جميع العوائل ، وبذلك تَضُمّ صوتها إلى مَن يرفع لوحة (كراهة الزواج من الأقارب .. بصورة عامّة) .
النقطة السادسة : حينما نُلقي نظرة فاحصة على المجتمعات الإسلامية المعاصرة نجد عشرات الملايين من الأفراد الذين تزوّجوا من أقاربهم ـ كابن العَم وبنت العَم ـ ولم يحصل في نَسلهم تَعوّق أو هُزال أو غَباء ، أو مرض يكون قد انتقل إليهم بسبب زواج والديهم من الأقارب .
النقطة السابعة : إنّنا حينما نُلاحظ تاريخ أهل البيت (عليهم السلام) نَجد أنّ الزواج من الأقارب كانت ظاهرة منتشرة جدّاً في حياتهم
=
 
الصفحة السابقةالفهرسالصفحة اللاحقة

 

طباعة الصفحةأعلى