منتهى الآمال في تواريخ النبي والآل

تأليف الشيخ عبّاس القمّي

تلخيص وتحقيق وترجمة السيد هاشم الميلاني

(1)

 

(2)

 

(3)

 

(4)

 

تقديم :

        العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي

بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم(1)

        والحمد للّه‏ ، والصلاة والسلام على رسول اللّه‏ محمد ، وآله الطاهرين .

        إن من البديهي : أن الناس كما يختلفون في طبائعهم ، وفي سلائقهم ، فانهم يختلفون ويتفاوتون في أمور اُخرى أيضاً . فتجد التنوع والاختلاف في التوجهات والطموحات ، ثم يظهر ذلك بصورة وبأخرى ولو جزئياً على شكل بوادر و لمحات في كثير من المفاهيم والتصورات .

        مع تأكيدنا على وجود قواسم مشتركة هي التي تهيمن على المسار العام ، وتتحكم فيه ، وإليها يرجع الغالي ، وبها يلحق التالي .

        التنوع في المجالات كافة :

        وطبيعى أن يتجلّى هذا التنوع والاختلاف ـ إن صح التعبير ـ بصورة إيجابية وبناءة ، وحتى خلاقة فى مجالات كثيرة على شكل صور وجودية حيّة ، فيها الكثير من الابداع والجمال . وتحمل في حناياها لمحات ولفتات تعتصر منا دون اختيار المزيد من الإعجاب بها ، بل و الانبهار المحيَّر في أحيان كثيرة .

        ثم هي تسهم ـ شئنا أو أبينا ـ في اثراء الفكر ، وفي صقله ، ثم في بلورة الملامح الجمالية وصياغها ، وتعطيها المزيد من النقاء والصفاء ، حتى لتصبح قادرة على أن تعكس نفسها في مرآة الفطرة والوجدان ، بكل ما لديها من طاقات وقدرات في نطاق التنوع والخلاقية في أبعد مدى لهما .

        حتى العلوم النقلية :

        وليس يمكننا استثناء المجالات الثقافية ، وتدوين العلوم والمعارف ، حتى وكان فيها بصورة تقريرية من هذه الظاهرة ؛ فإن ذلك ينسحب حتى على علوم الحديث ، والسيرة ، والتراجم والتأريخ أيضاً ؛ لأن اختلاف السلائق فيها قد ترك له آثاراً

 

(1) لما كنت اترجم الكتاب وأنا في المؤسسة الإسلامية للترجمة ، طلبنا من سماحة العلامة السيد جعفر العاملي كتابة مقدمة لهذا الكتاب ، فتفضّل سماحته بهذه المقدمة ، ولكن للأسف لم نتمكن من طباعتها آنذاك ، ولذا رأيت من المناسب ايرادها هنا ، مع تقديم الاعتذار إلى سماحة العلامة السيد العاملي ، والعذر عند كرام الناس مقبول .
(5)

 

بارزة ؛ حينما وجدنا : أنه قد أسهم في ابراز حقائق ، وتأكيد ملامح متنوعة وأساسية قد أفادت الباحثين كثيراً ، حينما فتحت لهم آفاقاً رحبة ، زاخرة وزاهرة ، مرصعة بالكثير الكثير من الدرر النادرة والفاخرة .

        ضرورة الانفتاح على تراث الآخرين :

        فاتضح مما تقدم ضرورة الانفتاح على كل التراث الفكري لسائر الشعوب ، والأمم ، للاستفادة من تجاربهم ، والإفادة من منجزاتهم في اثراء الفكر الانساني ، وبلورة التجربة الحضارية ، مادام أن ذلك يفتح أمام الانسان آفاقاً جديدة ، ويسهل له الحصول على وسائل وأدوات لو انضمت إلى ما هو موفر لديه ، لجعلته أكثر فاعلية ، وأبعد أثراً في الهيمنة على نواميس الحياة ، وتذليل صعوباتها ، والتمكن من قدراتها مهما اختلفت وتنوعت .

        الترجمة وسيلة :

        وإذا كان حاجز اللغة هو أول ما يواجه الانسان في حركته نحو الوصول إلى ذلك والحصول عليه ، فان الوسيلة الطبيعية والمعقولة هي استخدام اسلوب الترجمة للفكر المدون لأمة من الناس ، إلى اللغات الحية الاخرى التي تتداولها سائر الأمم .

        حيث إن ذلك من شأنه أن يتيح الفرصة لاكبر عدد من الناس ، للاطلاع على ما توصل إليه الآخرون ، والوقوف على منجزاتهم الحضارية ، ثم على خصائصهم الفكرية ، والحياتية على اختلافها .

        فمؤسسات الترجمة إذن تصبح ضرورة لابد منها ، ولا غنى عنها لأية أمة تريد أن تخرج من حالة الجمود ، والانغلاق ، والتقوقع ، لتنطلق في مسيرتها الحياتية التكاملية ، بقوة وثبات .

        لأن ذلك يجعل هذة الأمة قادرة على أن ترفد فكرها ، وثقافتها ، وحركتها ، بما يزيد ذلك قوة ، وحيوية ، وتجذراً وأصالة ، ورسوخاً .

        الأمانة والدقة :

        وعلى هذا الاساس اهتم العلماء بالترجمة ، ثم اهتموا بأن تكون الترجمة لأي مضمون تحتوي شروطاً اساسية ، هي :

        1 ـ الدقة .

        2 ـ الامانة .

        3 ـ الصفاء .

        4 ـ الوضوع .

        حيث يفترض أن يصبح ذلك المضمون ، ولو في نطاقه الخاص ركيزة في موقع لا يحتله سواه في مجمل التكوين الفكري ، أو النفسي ، أو الحضاري للأمة .

        ولابد من التأكد من سلامة تلك الركيزة ، ومن ثباتها ، وقوتها ، وصلابتها ؛ إذ

(6)

 

بدون ذلك يحدث الخلل ، وتتسرب العاهات من هنا وهناك ، لتشكل عثرات تؤلم وتدمي ، وشراكاً بل شباكاً تعيق ، أو سهاماً تصيب فتصمي .

        مشكلة الجمال والطراوة :

        ولا نريد هنا : أن نتجاهل ما يقرره الكثيرون من أن للترجمة من لغة إلى لغة أخرى سلبية تحرج من يتصدى لهذه المهمة ، ويفترض فيه أن يتحمل مسؤولية ما يقدمه من نتاج وتواجهه فيما يبذله من جهد .

        وهذه السلبية هي : أن عملية الترجمة تحدث نوعاً من الخلل في الاسلوب البياني ، و توجب التدني والانحطاط في الاداء ، بالاضافة إلى ظاهرة التفكك في الناحية التعبيرية في الأمر الذي يفقد الترجمة قسطاً وافراً من الجمالية والطراوة التي كانت للنص الأول والأساس .

        فيحدث نتيجة لذلك تجاذب مثير فيما بين الرغبة بالحفاظ على الناحية الجمالية ، والاحتفاظ بطراوة التعبير وعذوبته ، وبين ما يفرضه واقع الالتزام بأصول الترجمة ومبانيها .

        فجاء الاسلوب التوفيقي ليقترح قدراً من التحرر من الناحية التعبيرية والبيانية ، بحيث يتم التخلي عن الناحية الأسلوبية والتعبيرية لصالح الإحتفاظ بروح المعنى ، وأصله بصورة عامة .

        وقد كان لهذا الاسلوب أنصاره والمدافعون عنه ، ومعارضوه والمنتقدون له . وربما بدا للبعض : أنه ليس ثمة خيار إلا اختيار أحد الطريقين والتخلي عن الآخر ، فإما الدقة والحرفية من دون اسلوب ، وإما الاسلوب والتعبير ، دون أن يكون ثمة دقة في البيان .

        ليس ثمة مشكلة حقيقية :

        غير أن الذي يبدو لنا هو : أنه ليس ثمة مشكلة حقيقية ، تستعصي على الحل ، إذا أخذنا بنظر الاعتبار : أن لكل لغة خصائصها ومميزاتها ، التي لو روعيت لأمكن تلافي كثير مما يقف هؤلاء وأولئك عنده . فمثلاً ، إذا كان من خصائص لغةٍ مّا : أن يتأخر الفعل ويتقدم المفعول ، فلا يجب مراعاة ذلك حين النقل إلى لغة أخرى ، ليس من خصائصها ذلك ، بل يجري فيه وفق الاصول والضوابط المرعية في اللغة المنقول إليها .

        وكذا الحال لو كان تقديم كلمة يفيد تخصيصاً ، أو تعظيماً أو تحقيراً في لغةٍ وكان ما يفيد ذلك في لغة أخرى نحو آخر من البيان ، فلابد من التزام ضوابط اللغة المنقول إليها للاحتفاظ بتلك الخصوصية بالذات .

        وما ذلك إلا لأن الألفاظ قوالب للمعاني ، سواء في ذلك المفردات ، أو التراكيب في خصائصها المختلفة . فلابد من صب تلك المعاني في قوالبها بالطريقة التي تحفظ لنا المعنى المقصود ، دون تفريط في النواحي الجمالية ، واعتماد الطراوة في الأسلوب

(7)

 

والعذوبة والرصانة في البيان .

        المؤسسة الاسلامية للترجمة :

        حين نريد أن نتحدث عن « المؤسسة الإسلامية للترجمة » فاننا يمكن أن نقول : إنها حركة واعية ومسؤولة ، في نطاق اثراء الفكر الاسلامي ، وخطوة سديدة على طريق تحقيق الهدف الأقصى ببناء الصرح الثقافي والحضاري الشامخ والعتيد .

        وقد اختارت كتاب « منتهى الآمال » ليكون باكورة أعمالها ، وهو تأليف عالم جليل ، ومحدث خبير وقدير ، عرفت تآليفه بالمتانة والرصانة ، إلى جانب عذوبة في التعبير ، وسهولة في التقسيم والتبويب ، ثم هو يقدم لقارئه مطالب مختارة ومنتقاة ؛ تظهر ما لدى المؤلف من ذوق رفيع ، ومن صفاء قريحة ، وسلامة سليقة .

        وحين لاحظت بعض صفحات ترجمة هذا الكتاب للأخ الكريم الفاضل ، والالمعي الكامل السيد هاشم مرتضى الميلاني ، وجدتها على درجة مقبولة من الوضوح والسهولة ، وقد روعيت فيه الأمانة والرصانة ، إلى درجة تعبر عن الجهد المشكور الذي بذلته هذه المؤسسة لانجاز ترجمة هذا الكتاب القيِّم .

        نشكر اللّه‏ سعي المترجم ، وسعي القائمين على هذه المؤسسة ، والعاملين فيها ، والمنتسبين إليها ، ووفقهم وسددهم لما هو أهم ، ونفعه أتم وأعم .

        والحمد للّه‏ ، وصلاته وسلامه على عباده الذين اصطفى ، محمد وآله الطاهرين .

قم المشرفة ـ ليلة الثلاثاء 4 شهر رمضان المبارك سنة 1414 ه ق

جعفر مرتضى العاملي

(8)

 

(9)

 

مقدمة المؤلف :

        الحمد للّه‏ رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ، وبعد :

        يقول هذا الفقير العديم البضاعة ، المتمسك بأذيال أهل بيت الرسالة ، العباس بن محمد رضا القمي ـ ختم اللّه‏ لهما بالحسنى والسعادة ـ : لما ثبت بمقتضى الاخبار الكثيرة انّ اعظم الطاعات وأشرف القربات ، احياء أمر أئمة الدين والمقربين لدى رب العالمين ، والبكاء على ما أصابهم من محن وبلايا ، كما ورد عن الإمام الصادق عليه‏السلام حيث قال للفضيل بن يسار :

    « تجلسون وتتحدثون ؟ فقال : نعم ، فقال : ان تلك المجالس أحبها فاحيوا أمرنا ، فرحم اللّه‏ من أحيى أمرنا . يا فضيل من ذكرنا أو ذكرنا عنده ففاضت عيناه ولو مثل جناح الذباب غفر اللّه‏ له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر »(1) .

        وروي باسانيد معتبرة عن مولانا الإمام زين العابدين عليه‏السلام انه قال :

        « أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي دمعة حتى تسيل على خدّه بوّأه اللّه‏ بها في الجنة غرفاً يسكنها أحقاباً ، وأيّما مؤمن دمعت عيناه دمعاً حتى يسيل على خده لأذى مسّنا من عدوّنا في الدنيا بوّأه اللّه‏ مبوء صدق في الجنة ، وأيّما مؤمن مسّه أذى فينا فدمعت عيناه حتى يسيل دمعه على خدّيه من مضاضة ما اُوذي فينا صرف اللّه‏ عن وجهه الاذى وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار »(2) .

        لهذا خطر ببالي تأليف كتاب في ذكر ولادة ومصائب سيد المرسلين وعترته الطيبين صلوات اللّه‏ عليهم أجمعين ، وذكر قليل من فضائلهم ومناقبهم وخُلقهم ، ليفوز المؤمنون بقراءتها وسماعها ثواب احياء أمرهم ، ويصلوا بالبكاء والحزن على مصائبهم العظيمة إلى درجات المقربين .

        فجمعت هذا الكتاب في غاية الايجاز والاختصار ، وسمّيته « منتهى الآمال في تواريخ النبي والآل » ورتبته على أربعة عشر باباً بعدد المقربين عند رب الأرباب .

 

(1) الوسائل 10:391 ح2 ، عن قرب الاسناد : 36 .
(2) البحار 44:281 ، تفسير القمي 2:291 ، كامل الزيارات : 106 ـ 107 .
(10)

 

الباب الاول

في تاريخ اشرف الكائنات وشافع يوم العرصات وأفضل جميع أهل الارض والسموات خاتم النبيين وسيد المرسلين محمد المصطفى صلى‏الله‏عليه‏و‏آله

(11)

 

(12)

 

الفصل الاول

في بيان ولادة رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وغرائب معجزاته حين ولادته

        اعلم انّ المشهور بين علماء الامامية انّ ولادته صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كانت في السابع عشر من ربيع الاول ، ونقل العلامة المجلسي الاجماع على هذا(1) ، وذهب اكثر علماء أهل السنّة الى أنها كانت في الثاني عشر منه ، واختاره الكليني وبعض افاضل الشيعة(2) ، وقد ألّف شيخنا العلامة النوري طاب ثراه رسالةً في هذا الباب تسمى بميزان السماء في تعيين مولد خاتم الانبياء .

        والمشهور انّ ولادته كانت عند طلوع الفجر من يوم الجمعة ، في العام الذي جاؤوا بالفيل لتخريب الكعبة المعظمة ، فاهلكهم اللّه‏ تعالى بحجارة من سجّيل .

        وكانت ولادته في داره المباركة بمكة ثم وهبها النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لعقيل بن ابي طالب ، فباعها أولاده لمحمد بن يوسف أخي الحجاج فأدخلها في داره ، فلمّا كانت خلافة هارون ، أخذتها الخيزران امّه فأخرجتها من بيت محمد بن يوسف وجعلتها مسجدا يصلي فيه الناس ، وفي سنة (659) سعى الملك المظفر ـ والي اليمن ـ في عمارته ، وهو الان على حالته مزار للناس .

        وظهرت غرائب وعجائب حين ولادته صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        قال الامام الصادق عليه‏السلام : « كان ابليس لعنه اللّه‏ يخترق السماوات السبع ، فلمّا ولد عيسى حجب عن ثلاث سماوات وكان يخترق اربع سماوات ، فلمّا ولد رسول اللّه‏ حجب عن السبع كلها ، ورميت الشياطين بالنجوم وقالت قريش : هذا قيام الساعة الذي كنّا نسمع أهل الكتب يذكرونه وقال عمرو بن اميّة ـ وكان من ازجر أهل الجاهلية ـ : انظروا هذه النجوم التي يهتدى بها ويعرف بها أزمان الشتاء والصيف ، فان كان رمي بها فهو هلاك كل شيء ، وان كانت ثبتت ورمي بغيرها فهو أمر حدث ، واصبحت الاصنام كلّها صبيحة ولد النبي ليس منها صنم الا وهو منكبّ على وجهه ، وارتجس في تلك الليلة أيوان كسرى ، وسقطت منه اربعة عشر شرفة ، وغاضت بحيرة ساوة ، وفاض وادي السماوة ، وخمدت نيران فارس ، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ، ورأى المؤبذان في تلك الليلة في المنام أبلاً صعابا تقود خيلاً عرابا ، قد قطعت دجلة ، وانسربت في بلادهم ، وانقصم طاق الملك كسرى من وسطه ، وانخرقت عليه دجلة العوراء ،

 
(1) جلاء العيون للمجلسي : 64 ، حياة القلوب 2:127 .
(2) الكافي 1:364 .
(13)

 

وانتشر في تلك الليلة نور من قبل الحجاز ثم استطار حتى بلغ المشرق ، ولم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا الاّ أصبح منكوسا والملك محزونا لا يتكلم يومه ذلك ، وانتزع علم الكهنة ، وبطل سحر السحرة ، ولم تبق كاهنة في العرب الاّ حجبت عن صاحبها ، وعظمت قريش في العرب وسمّوا آل اللّه‏ عزوجل . انّما سمّوا آل اللّه‏ لأنهم في بيت اللّه‏ الحرام . وقالت آمنة : انّ إبني واللّه‏ سقط فاتقى الارض بيده ، ثم رفع رأسه الى السماء فنظر اليها (ثم خرج منه نور حتى نظرت الى قصور بصرى) وسمعت في الضوء قائلاً يقول : انك قد ولدت سيد الناس فسميه محمدا ، وأتى به عبد المطّلب فأخذه فوضعه في حجره ، ثم قال :

 الحمد للّه‏ الذي اعطاني

 هذا الغلام الطيب الأردان

قد ساد في المهد على الغلمان

        ثم عوّذه بأركان الكعبة وقال فيه اشعارا ، قال :

        وصاح ابليس لعنه اللّه‏ في أبالسته ، فاجتمعوا اليه فقالوا : ما الذي أفزعك يا سيدنا ؟ فقال لهم : ويلكم لقد انكرت السماء والارض منذ الليلة ، لقد حدث في الارض حدث عظيم ، فاخرجوا وانظروا ما هذا الحدث الذي قد حدث ، فافترقوا ثم اجتمعوا اليه فقالوا : ما وجدنا شيئا ، فقال ابليس لعنه اللّه‏ : انا لهذا الامر ، ثم انغمس في الدنيا فجالها حتى انتهى الى الحرم فوجد الحرم محفوظا بالملائكة فذهب ليدخل فصاحوا به ، فرجع ثم صار مثل الصرّ وهو العصفور فدخل من قبل حَرَى(1) ، فقال له جبرئيل : وراك لعنك اللّه‏ ، فقال له : حرف أسألك عنه يا جبرائيل ! ما هذا الحدث الذي حدث منذ الليلة في الارض ؟ فقال له : ولد محمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فقال له : هل لي فيه نصيب ؟ قال : لا ، قال : ففي أمّته ؟ قال : نعم ، قال : رضيت »(2) .

        وعن أمير المؤمنين عليه‏السلام ، قال : « لمّا ولد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله القيت الاصنام في الكعبة على وجوهها ، فلمّا أمسى سمع صيحة من السماء : جاء الحق وزهق الباطل انّ الباطل كان زهوقا » .

        وورد انّه : « أضاء تلك الليلة جميع الدنيا ، وضحك كل حجر ومدر وشجر ، وسبّح كل شيء في السماوات والارض للّه‏ عزوجل ، وانهزم الشيطان وهو يقول : خير الامم ، وخير الخلق ، واكرم العبيد ، واعظم العالم محمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله »(3) .

        ونقل الشيخ احمد بن ابي طالب الطبرسي في كتابه الاحتجاج عن الامام موسى بن جعفر عليه‏السلام انّه قال : « ... ومحمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله سقط من بطن امه واضعا يده اليسرى على

 

(1) حَرَى : الناحية .
(2) البحار 15:257 ، عن الأمالي للصدوق : 235 ، وفي كمال الدين 1:196 ، والخرائج 1:69 ـ 71 .
(3) البحار 15:274 .
(14)

 

الارض ، ورافعا يده اليمنى الى السماء ويحرك شفتيه بالتوحيد ، وبدا من فيه نور رأى أهل مكة منه قصور بصرى والشام وما يليها ، والقصور الحمر من أرض اليمن وما يليها ، والقصور البيض من اصطخر وما يليها ، ولقد أضاءت الدنيا ليلة ولد النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله حتّى فزعت الجن والانس والشياطين وقالوا : حدث في الارض حدث ، ولقد رأت الملائكة ليلة ولد تصعد وتنزل وتسبّح وتقدّس ، وتضطرب النجوم وتتساقط النجوم ، علامات لميلاده ، ولقد همّ ابليس بالظعن(1) في السماء لما رأى من الأعاجيب في تلك الليلة وكان له مقعد في السماء الثالثة والشياطين يسترقون السمع ، فلمّا رأوا الأعاجيب أرادوا أن يسترقوا السمع فاذا هم قد حجبوا من السماوات كلها ، ورموا بالشهب دلالة لنبوته صلى‏الله‏عليه‏و‏آله »(2) .

الفصل الثاني

في بيان احواله صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أيام رضاعته

        ورد في حديث معتبر عن الصادق عليه‏السلام انّه قال : « لمّا ولد النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله مكث اياما ليس له لبن ، فألقاه على ثدي نفسه ، فأنزل اللّه‏ فيه لبنا فرضع منه اياما حتى وقع أبو طالب على حليمة السعدية فدفعه اليها »(3) .

        وفي حديث آخر قال عليه‏السلام : « انّ عليا عليه‏السلام ذكر لرسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ابنة حمزة (ليتزوجها) ، فقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : اما علمت انها ابنة أخي من الرضاعة ، وكان رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وعمّه حمزة قد رضعا من امرأة »(4) .

        وروى إبن شهر آشوب : « انّه ارضعته ثويبة مولاة أبي لهب ، ثم ارضعته حليمة السعدية ، فلبث فيهم خمس سنين ، وخرج مع أبي طالب في تجارته وهو إبن تسع سنين ، ويقال : إبن اثنتي عشرة سنة ، وخرج الى الشام في تجارة لخديجة وله خمس وعشرون سنة »(5) .

        وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه‏السلام انّه قال : « ولقد قرن اللّه‏ به صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من لدن أن كان فطيما ، أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن اخلاق العالم ،

 

(1) الظعن : سار ، (أي السير) / لسان العرب (ن) .
(2) الاحتجاج : 331 ـ عنه في البحار 15:260 .
(3) الكافى 1:373 باب مولد النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم .
(4) الكافي 5:445 ، البحار 15:34 .
(5) المناقب 1:233 .
(15)

 

ليله ونهاره ، ولقد اتبعته اتباع الفصيل إثر أمّه ، يرفع لي في كل يوم من اخلاقه علما ، ويأمرني بالإقتداء به ، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء ، فأراه ولا يراه غيري ولم يجمع بيت واحد يومئذ بالاسلام غير رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وخديجة وانا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة وأشمّ ريح النبوة ... »(1) .

وقد روى إبن شهر آشوب والقطب الراوندي وجمع آخر انّه :

        « ذكرت حليمة بنت أبي ذؤيب عبد اللّه‏ بن الحرث من مضر ، زوجة الحرث ابن عبد العزى المضري ، انّ البوادي اجدبت ، وحملنا الجهد على دخول البلد ، فخرجت على أتان(2) لي قمراء ، معنا شارف(3) لنا واللّه‏ ما تبض بقطرة وما ننام ليلنا أجمع من صبيّنا الذي معنا من بكائه من الجوع ما في الثدي ما يغنيه ، وما في شارفنا يغذيه ، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء فما منّا امرأة الا وقد عرض عليها رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فتأباه وذلك انا ، انّما كنّا نرجوا المعروف من أبي الصبي ، فاذا برجل ينادي ايتها المرتضعات هل منكن من لم تأخذ طفلاً ؟ فقلت من هو هذا ؟ قيل : عبد المطلب بن هاشم سيد مكة ، فذهبت اليه ، فقال لي : من انت ؟ قلت حليمة من بني سعد فتبسم وقال : بخ بخ خصلتان جيدتان سعد وحلم فيهما عزّ الدهر وعزّ الابد ، ثم قال يا هذه عندي بني لي يتيم اسمه محمد وأبين المرضعات أخذه ، لانه يتيم ، وانّما يكرم الظئر الوالد .

        فحملته لأنّي لم أجد غيره وذهبت الى بيت آمنة ، فلما وضعته في حضني فتح عينه لينظر بهما اليّ فسطع منهما نور ، فشرب من ثدي الايمن ساعة ولم يرغب في الايسر اصلاً واستعمل في رضاعه عدلاً ، فناصف فيه شريكه فاقبل ثدياي باللبن ، وقام زوجي الى شارفنا تلك يلمسها بيده ، فاذا هي حافل فحلبها وأرواني من لبنها وروى الغلمان ، فقال :

        يا حليمة لقد اصبنا سمة ، مباركة فحملته على الاتانٍ وكانت قد ضعفت عند قدومي مكة فجعلت تبادر سائر الحمر اسراعا وقوةً ونشاطا ، واستقبلت الكعبة وسجدت لها ثلاث مرات ، وقالت : برئت من مرضي وسلمت من غثّي وعليّ سيد المرسلين وخاتم النبيين وخير الاولين والاخرين ، فكان الناس يتعجبون منها ومن سمني وبرئي ودرّ لبني .

        فلمّا انتهينا الى غار خرج رجل يتلألأ نوره الى عنان السماء وسلّم عليه وقال : انّ اللّه‏ تعالى وكّلني برعايته ، وقابلنا ظباءً وقلن : يا حليمة لا تعرفين من تربين ، هو أطيب الأطيبين وأطهر الاطهرين ، وما علونا قلعة ولا هبطنا واديا الاّ سلّموا عليه ، فعرفت

 

(1) نهج البلاغة ، الخطبة رقم 192 ، المعروفة بالقاصعة .
(2) اتان : أنثى الحمار .
(3) الشارف : الناقة التي قد أسنت / لسان العرب (ف) .
(16)

 

البركة والزيادة في معاشنا ورياشنا حتى اثرينا وكثرت مواشينا واموالنا ، ولم يحدث في ثيابه ، ولم تبد عورته ، ولم يحتج في اليوم الاّ مرّة ، وكنت ارى شابا على فراشه يعدل له ثيابه ، فربيته خمس سنين ويومين .

        فقال لي يوما : أين يذهب اخواني كل يوم ؟ قلت : يرعون غنما ، فقال : انّني اليوم أرافقهم ، فلمّا ذهب معهم أخذه ملائكة وعلوه على قلّة جبل وقاموا بغسله وتنظيفه ، فأتاني ابني وقال : ادركي محمدا فانه قد سلب ، فأتيته فاذا هو بنور يسطع في السماء فقبلته ، فقلت : ما أصابك ؟ قال : لا تحزني انّ اللّه‏ معنا ، فانتشر منه فوح مسك أذفر ، فرآه كاهن وصاح وقال : هذا الذي يقهر الملوك ويفرّق العرب » .

        وروي عن إبن عباس انّه قال : كان يقرب الى الصبيان يصبحهم فيختلسون ويكفّ ، ويصبح الصبيان غمصا رمصا(1) ويصبح صقيلاً دهينا(2) .

        وروي بسند معتبر آخر انّه نادى شيخ على الكعبة يا عبد المطّلب انّ حليمة امرأة عربية وقد فقدت ابنها اسمه محمد ، فغضب عبد المطّلب وكان اذا غضب خاف الناس منه ، فنادى يا بني هاشم ، يا بني غالب اركبوا فقد محمد ، وحلف ان لا أنزل حتى اجد محمدا أو أقتل ألف اعرابي ومائة قرشيّ ، وكان يطوف حول الكعبة وينشد اشعارا منها :

 يا ربّ ردّ راكبي محمدا

 ردا اليّ واتخذ عندي يدا

 يا ربّ ان محمدا لن يوجدا

 تصبح قريش كلهم مبددا

        فسمع نداءا : انّ اللّه‏ لا يضيع محمدا ، فقال : أين هو ؟ قال : في وادي فلان ، تحت شجرة أمّ غيلان ، فلمّا ذهبوا الى الوادي رأوه يأكل الرطب من أم غيلان وحوله شابان ، فلمّا قربوا منه ذهب الشابان وكانا جبرائيل وميكائيل عليهماالسلام فسأله من انت ؟ وماذا تصنع ؟ قال : انا ابن عبد اللّه‏ بن عبد المطّلب ، فحمله عبد المطّلب على عنقه وطاف به حول الكعبة وكانت النساء قد اجتمعن عند آمنة على مصيبته فلمّا رآها تمسّك بها ، وما التفت الى أحد(3) .

        فلما أتى الى امّه ربته أمّ ايمن الحبشية جارية ابيه عبد اللّه‏ وقد ورثها النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وكان لا يشكو من الجوع والعطش ، وكان يأتي زمزم فيشرب منها شربة ولا يحتاج الى الطعام ، وربما عرض عليه الطعام فيقول : انا شبعان .

 

(1) غمصا رمصا : الغمص هو شيء ترمى به العين مثل الزبد يجمد ويكون في ناحية العين والرمص الذي يكون في أصول الهدب / لسان العرب (ص) .
(2) صقيلاً دهينا : الصقل هو الجلاء والصقيل : جلاه ؛ دهينا : أي كأنه مطلي بالدهن / لسان العرب (ل) .
(3) المناقب لابن شهر آشوب 1:32 ، الخرائج والجرائح 1:81 ، 242 .
(17)

 

* * *

(18)

 

الفصل الثالث

في بيان خلقته وشمائله صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ونبذة من اخلاقه واوصافه الحميدة صلى‏الله‏عليه‏و‏آله

        اعلم انّ ذكر اوصاف النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وبيان شمائله بمنزلة من يريد شرب ماء البحر بالقدح ، أو كالذي يريد ادخال قرص الشمس من نافذة في بيته ، ولكن نزين الكتاب بذكر جملة منها يليق بالمقام .

        « كان رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فخما مفخمّا ، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر ، اطول من المربوع ، وأقصر من المشذّب(1) ، عظيم الهامة ، رجل الشعر ، ان انفرقت عقيقته فرق(2) ، والاّ فلا يجاوز شعره شحمة أذنية ، اذا هو وفرة(3) .

        أزهر اللون ، واسع الجبين ، أزجّ الحواجب ، سوابغ في غير قرن ، بينهما له عرق يدرّه الغضب ، أقنى العرنين ، له نور يعلوه ، يحسبه من لم يتأمله أشمّ ، كثّ الّلحية ، سهل الخدّين ، ضليعُ الفم ، أشنب ، مفلج الاسنان ، دقيق المسربة ، كأنّ عنقه جيد دمية في صفاء الفضّة ، معتدل الخلق ، بادنا متماسكا ، سواء البطن والصدر بعيد ما بين المنكبين ، ضخم الكراديس ، أنور المتجرّد ، موصول ما بين الّلبة والسرّة بشعر يجري كالخطّ ، عاري الثديين والبطن ممّا سوى ذلك ، أشعر الذراعين والمنكبين ، وأعالي الصدر ، طويل الزندين ، رحب الراحة ، شثن الكفّين والقدمين ، سائل الاطراف ، سبط القصب ، خمصان الأخمصين ، مسيح القدمين ، ينبو عنهما الماء ، اذا زال زال قلعا ، يخطو تكفّؤا ، ويمشي هونا ، ذريع المشية ، اذا مشى كانّما ينحطّ في صبب ، واذا التفت

 

(1) المشذّب : الطويل البائن الطول .
(2) كان حلق الشعر في ذلك الزمان يعد قبيحا فلذا نرى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لم يحلق رأسه ، لئلّا يفعل امرا يعد في العرف قبيحا ، لكن بعد ما ذهب قبحه نرى الائمة عليهم‏السلام يحلقون شعر رأسهم (منه رحمة اللّه‏)
(3) بالجملة ، فهو صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كان مشهورا بالحسن والصباحة والاعتدال والتناسب في السمرة حتى انّه يروى عن إبن عباس ان نوره صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لو قيس بنور الشمس لغلبها وكلّما جلس قرب المصباح ذهب بنوره وحديث ام معبد معروف واشعار خديجة في مدحه مشهورة والتي منها :
 جاء الحبيب الذي اهواه من سفر
 والشمس قد اثرت في وجهه اثرا
 عجبت للشمس من تقليل وجنته
 والشمس لا ينبغي ان تدرك القمرا
وأيضا :
 نواحي زليخا لو رأين جبينه
 لأثرن بالقطع القلوب على الايدي
 ولو سمعوا في مصر أوصاف وجهه
 لما بذلوا في سوم يوسف من نقد
(منه رحمه‏الله )
(19)

 

التفت جميعا ، خافض الطرف ، نظره الى الارض اطول من نظره الى السماء ، جلٌ نظره الملاحظة ، يبدر من لقيه بالسلام ، مواصل الاحزان ، دائم الفكر ، ليست له راحة ولا يتكلّم في غير حاجة ، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه ، يتكلّم بجوامع الكلم فصلاً ، لا فضول فيه ولا تقصير ، دمثا ليس بالجافي ولا بالمهين ، تعظم عنده النعمة وإن دقّت ، لا يذمّ منها شيئا غير انّه كان لا يذمّ ذواقا ولا يمدحه ، لا تُغضبه الدنيا وما كان لها ، فاذا تعوطي الحقّ لم يعرفه احد ، ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له ، اذا أشار بكفّه كلها ، واذا تعجّب قلّبها ، واذا تحدّث اتّصل بها ، يضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى ، وإذا غضب أعرض وأشاح ، واذا فرح غضّ طرفه ، جلّ ضحكه التبسّم ، يفترّ عن مثل حبّ الغمام .

        وكان من سيرته في جزء الأمة ايثار أهل الفضل باذنه ، وقسمه على قدر فضلهم في الدين ، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم والأمّة من مسألته عنهم وإخبارهم بالذي ينبغي ، ويقول :

        « ليبلّغ الشاهد منكم الغائب ، وأبلغوني حاجة من لا يقدر على ابلاغ حاجته » لا يقيد من احد عثرة ، يدخلون روّادا ولا يفترقون الاّ عن ذواق ويخرجون أدلّة ، يحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن احد بشره ولا خلقه ويتفقّد اصحابه ، لا يغفل مخافة ان يغفلوا أو يميلوا ، ولا يقصر عن الحقّ ولا يجوزه ، الذين يلونه من الناس خيارهم ، أفضلهم عنده أعمّهم نصيحةً للمسلمين ، وأعظمهم عنده منزلةً أحسنهم مواساةً وموازرةً .

        لا يجلس ولا يقوم الا على ذكر ، ولا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها ، واذا انتهى الى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك ، ويعطي كل جلسائه نصيبه ، ولا يحسب احد من جلسائه أنّ احدا اكرم عليه منه ، من جالسه صابره حتى يكون هو المنصرف عنه ، من سأله حاجة لم يرجع الاّ بها أو بميسور من القول ، قد وسع الناس منه خلقه ، وصار لهم أبا ، وصاروا عنده في الحقّ سواء ، مجلسه مجلس حلم وحياء وصدق وأمانة ، لا ترفع فيه الاصوات ولا تؤبن فيه الحرم ولا تنثى فلتاته ، متعادلين متواصلين فيه بالتقوى ، متواضعين يوقّرون الكبير ، ويرحمون الصغير ، ويؤثرون ذا الحاجة ، ويحفظون الغريب .

        كان دائم البشر ، سهل الخلق ، ليّن الجانب ، ليس بفظّ ولا صخّاب ولا فحّاش ولا عيّاب ولا مدّاح ، يتغافل عمّا لا يشتهي ، فلا يؤيس منه ولا يخيّب فيه مؤمّليه ، كان لا يذمّ احدا ، ولا يعيره ، ولا يطلب عورته ولا عثراته »(1) .

        وفي خبر انّه جاء شاب الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فقال له : أتأذن لي بالزنا ، فنهره الاصحاب

 

(1) البحار 16:148 ـ 153 ، مع الاختصار .
(20)

 

واغلظوا عليه ، فأدناه النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله منه وقال له : اتحبّ أن يُزنى بأمّك أو أختك أو بنتك أو خالتك أو عمّتك ؟ قال : لا يا رسول اللّه‏ ، فقال له : كلّ الناس كذلك ، ثمّ وضع يده المباركة على صدره وقال : « اللّهم اغفر ذنبه وطهّر قلبه وحصّن فرجه »(1) .

        ينقل إبن هشام في سيرته انّه : « هجم جند الاسلام على جبل طي وفتحوه واخذوا الاسرى الى المدينة ، فكانت بنت حاتم الطائي فيهم ، فمرّ بها رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فقامت اليه وقالت : يا رسول اللّه‏ (هلك الوالد وغاب الوافد فامنُن عليّ منّ اللّه‏ عليك) ، فلم يجبها الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، ففي اليوم الثالث أشار لها علي بن أبي طالب عليه‏السلام أن تعيد طلبتها ، فقالت : يا رسول اللّه‏ هلك الوالد وغاب الوافد فامنن عليَّ منَّ اللّه‏ عليك ، فعفى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله عنها وقال : لا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك الى بلادك » .

        نعم ، هكذا كانت سيرته صلى‏الله‏عليه‏و‏آله مع الكفّار .

        ذكر ارباب السير انّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم كان اذا بعث سريّة يجمعهم ويقول لهم :

        « اغزوا بسم اللّه‏ ، وفي سبيل اللّه‏ تعالى ، قاتلوا من كفر باللّه‏ ، ولا تغدروا ، ولا تغلّوا ، ولا تمثلّوا ، ولا تقتلوا وليدا ، ولا متبتلاً في شاهق ، ولا تحرقوا النخل ، ولا تغرقوه بالماء ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تحرقوا زرعا ، لانكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون اليه ، ولا تعقروا من البهائم ممّا يؤكل لحمه الاّ ما لابد لكم من أكله ... »(2) .

        وكان صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ينهى عن القاء السمّ في بلاد المشركين ، فكان هذا دأبه مع الاعداء والمشركين وكان جهاد النفس عنده أكبر الجهاد حيث قال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لأصحابه حين رجوعهم من سريّة :

        « مرحبا بقومٍ قضوا الجهاد الاصغر ، وبقي عليهم الجهاد الاكبر ، فقيل : يا رسول اللّه‏ ما الجهاد الاكبر ؟ قال : جهاد النفس »(3) .

        وفي رواية معتبرة السند : « قال رجل : يا رسول اللّه‏ أسرع إليك الشيب ، قال : شيّبتني هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعمّ يتسائلون »(4) .

        وفي رواية : « انّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لم يورث دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا وليدةً ولا شاةً ولا بعيرا ، ولقد قبض صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وانّ درعه مرهونة عند يهودي من يهود المدينة بعشرين صاعا من شعير ، استلفها نفقة لأهله »(5) .

 

 

(1) سيرة ابن هشام 4:225 ، مع الاختصار .
(2) البحار 19:179 .
(3) الكافي ج 5 .
(4) البحار 16:192 ، وفي الخصال : 199 .
(5) البحار 16:219 ، وفي قرب الاسناد : 91 .
(21)

 

        وعن الرضا عليه‏السلام قال : « قال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أتاني ملك ، فقال : يا محمّد انّ ربك يقرئك السلام ويقول : ان شئت جعلت لك بطحاء مكة ذهبا ، قال : فرفع رأسه الى السماء وقال : يا ربّ اشبع يوما فاحمدك وأجوع يوما فأسألك ...

        وقال عليه‏السلام أيضا : ما شبع النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من خبز بُر ثلاثة أيام حتى مضى لسبيله »(1) .

        وقال أمير المؤمنين عليه‏السلام : « كنّا مع النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في حفر الخندق اذ جاءت فاطمة ومعها كسيرة من خبز ، فدفعتها الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فقال النبي : ما هذه الكسيرة ؟ قالت : خبزته قرصا للحسن والحسين جئتك منه بهذه الكسيرة ، فقال النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : يا فاطمة أما انّه اول طعام دخل جوف ابيك منذ ثلاث »(2) .

        وروي عن إبن عباس انّه قال : « كان رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يجلس على الارض ويأكل على الارض ، يعتقل الشاة ويجيب دعوة المملوك على خبز الشعير »(3) .

        وفي حديث انّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كان يقول في كلّ يوم ثلاث مائة وستين مرّة : الحمد للّه‏ رب العالمين كثيرا على كل حال ، ولم يقم من مجلس وإن قلّ مكثه فيه إلاّ واستغفر خمسة وعشرين مرة، وكان يقول سبعين مرّة : استغفر اللّه‏ ، وسبعين مرّة : اتوب الى اللّه‏(4) .

        وفي رواية إبن خولي انّه : « جاءه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله إبن خولي بإناء فيه عسل ولبن فأبى أن يشربه فقال : شربتان في شربة وإناءان في إناءٍ واحد فأبى أن يشربه ، ثم قال : ما أحرّمه ولكني اكره الفخر والحساب بفضول الدنيا غدا وأحبّ التواضع ، فان من تواضع للّه‏ رفعه اللّه‏ »(5) .

        وفي رواية بسند صحيح عن الصادق عليه‏السلام انّه قال :

        « كان رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يصوم حتى يقال لا يفطر ، ويفطر حتى يقال لا يصوم ثم صام يوما أو أفطر يوما ، ثم صام الاثنين والخميس ثم آل من ذلك الى صيام ثلاثة أيام في الشهر؛ الخميس في أول الشهر وأربعاء في وسط الشهر والخميس في آخر الشهر ... »(6) ، وكان يصوم شعبان حتى قبض صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        قال إبن شهر آشوب : « امّا آدابه : فقد جمعها بعض العلماء والتقطها من الاخبار ، كان النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله احكم الناس وأحلمهم وأشجعهم وأعدلهم وأعطفهم ، لم تمسّ يده يد امرأة لا تحلّ ، وأسخى الناس لا يثبت عنده دينار ولا درهم ، فان فضل ولم يجد من يعطيه ويجنّه الليل لم يأو الى منزله حتى يتبرأ منه الى من يحتاج اليه ، لا يأخذ مما أتاه

 

(1) البحار 16:220 ، عن عيون اخبار الرضا (ع) .
(2) البحار 16:225 .
(3) البحار 16:247 ، محاسن : 409 .
(4) الكافي 2:504 .
(5) مكارم الاخلاق : 32 .
(6) وسائل الشيعة 7:305 .
(22)

 

اللّه‏ الاّ قوت عامه فقط من يسير ما يجد من التمر والشعير ويضع سائر ذلك في سبيل اللّه‏ ، ولا يسأل شيئا الا اعطاه ثم يعود الى قوت عامه فيؤثر منه حتى ربما احتاج قبل انقضاء العام ان لم يأته شيء ، وكان يجلس على الارض وينام عليها ويأكل عليها ، وكان يخصف النعل ، ويرقع الثوب ، ويفتح الباب ، ويحلب الشاة ، ويعقل البعير فيحلبها ، ويطحن مع الخادم اذا أعيى ، ويضع طهوره بالليل بيده ولا يتقدمه مطرق ، ولا يجلس متكئا ، ويخدم في مهنة أهله ، ويقطع اللحم ، واذا جلس على الطعام جلس محقّرا .

        وكان يلطع أصابعه ولم يتجشّأ قط ، ويجيب دعوة الحرّ والعبد ولو على ذراع أو كراع ، ويقبل الهديّة ولو انّها جرعة لبن ، ويأكلها ولا يأكل الصدقة ، ولا يثبت بصره في وجه احد ، يغضب لربه ولا يغضب لنفسه ، وكان يعصّب الحجر على بطنه من الجوع ، يأكل ما حضر ولا يرد ما وجد ، لا يلبس ثوبين ، يلبس بردا حبرة يمنيّة وشملة جبة صوف والغليظ من القطن والكتان ، واكثر ثيابه البياض ، ويلبس العمامة تحت العمامة ، يلبس القميص من قبل ميامنه ، وكان له ثوب للجمعة خاصة وكان اذا لبس جديدا أعطى خلق ثيابه مسكينا ، وكان له عباءٌ يفرش له حيث ما ينقل تثنى تثنيتين ، يلبس خاتم فضة في خنصره الأيمن ، يحبّ البطيخ ، ويكره الريح الردية ويستاك عند الوضوء ، ويردف خلفه عبده أو غيره ، ويركب ما أمكنه من فرس أو بغلة أو حمار ويركب الحمار بلا سرج وعليه العذار ، يمشي راجلاً وحافيا بلا رداء ولا عمامة ولا قلنسوة ويشيّع الجنائز ويعود المرضى في أقصى المدينة ، يجالس الفقراء ويؤاكل المساكين ويناولهم بيده ، ويكرم أهل الفضل في اخلاقهم ويتألّف أهل الشرف بالبر لهم ، يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على غيرهم الاّ بما أمر اللّه‏ .

        ولا يجفو على احد ، يقبل معذرة المعتذر اليه ، وكان اكثر الناس تبسّما ما لم ينزل عليه القرآن ولم تجر عظة ، وربما ضحك من غير قهقهة ، لا يرتفع على عبيده وامائه في مأكل ولا في ملبس ، ما شتم احدا بشتمة ولا لعن امرأة ولا خادما بلعنة ، ولا لاموا احدا الاّ قال دعوه ، ولا يأتيه احد حرا وعبدا وأمة الاّ قام معه في حاجته ، لا فظ ولا غليظ ولا صخّاب في الاسواق ، ولا يجزي بالسيّئة السيّئة ولكن يغفر ويصفح ، ويبدأ من لقيه بالسلام ، ومن رامه بحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف ، ما أخذ أحد يده فيرسل يده حتى يرسلها ، واذا لقى مسلما بدأه بالمصافحة ، وكان لا يقوم ولا يجلس الا على ذكر اللّه‏ ، وكان لا يجلس اليه احد وهو يصلّي الاّ خفّف صلاته وأقبل عليه وقال : ألك حاجة ؟ وكان اكثر جلوسه أن ينصب ساقيه جميعا ، وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس ، وكان اكثر ما يجلس مستقبل القبلة ، وكان يكرم من يدخل عليه حتى ربما بسط ثوبه ويؤثر الداخل بالوسادة التي تحته ، وكان في الرضا والغضب لا يقول الاّ حقّا ، وكان يأكل القثّاء بالرطب وبالملح ، وكان أحب الفواكه الرطبة اليه البطيخ والعنب ، واكثر طعامه الماء والتمر وكان يتمجّع اللبن بالتمر ويسمّيها الأطيبين ، وكان

(23)

 

أحب الطعام اليه اللحم ، ويأكل الثريد باللحم ، وكان يحبّ القرع وكان يأكل لحم الصيد ولا يصيده .

        وكان يأكل الخبز والسمن ، وكان يحبّ من الشاة الذراع والكتف ومن القدر الدبا ، ومن الصباغ الخلّ ، ومن التمر العجوة ومن البقول الهندباء والبادروج والبقلة الليّنة »(1) .

        قال الشيخ الطبرسي : انّ من تواضع النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله انّه كان يوم خيبر ويوم قريضة والنضير على حمار مخطوم بحبل من ليف تحته اكاف من ليف ، وكلما مرّ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله على طفل أو امرأة سلّم عليهم ، وأتى ذات يوم اليه رجل يكلمه فأرعد ، فقال : هوّن عليك فلست بملك(2) .

        قال انس بن مالك : « كانت لرسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله شربة يفطر عليها ، وشربة للسحر ، وربّما كانت واحدة وربّما كانت لبنا ، وربّما كانت الشربة خبزا يماث ، فهيّأتها له صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ذات ليلة فاحتبس النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فظننت انّ بعض اصحابه دعاه ، فشربتها حين احتبس فجاء صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بعد العشاء ساعة ، فسألت بعض من كان معه هل كان النبي أفطر في مكان أو دعاه أحد ؟ فقال : لا ، فبتّ بليلة لا يعلمها الا اللّه‏ من غم أن يطلبها منّي النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ولا يجدها فيبيت جائعا ، فأصبح صائما وما سألني عنها ولا ذكرها حتى الساعة »(3) .

        وقال أيضا : خدمت النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله عشر سنين ، فلم يقل أُف ، ولم يطلب منّي شيئا ولم يؤاخذني على فعل .

        يقول المطرزي في المُغرب : كان لمالك بن أنس أخٌ من أمّه يسمّى أبو عمير ، فرآه النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ذات يوم مهموما مغموما ، فسأل عن سببه ، قيل : مات نغيره (عصفوره الصغير) فجعل صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يقول (مازحا) : يا ابا عمير ما فعل النغير(4) .

        « وروي عن النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله انّه امر أصحابه بذبح شاة في سفر ، فقال رجل من القوم : عليّ ذبحها ، وقال الاخر : عليّ سلخها ، وقال الاخر : عليّ قطعها ، وقال الاخر : عليّ طبخها ، فقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : عليّ أن ألقط لكم الحطب ، فقالوا : يا رسول اللّه‏ لا تتعبنّ ـ بآبائنا وامهاتنا انت ـ نحن نكفيك ، قال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : عرفت انكم تكفوني ، ولكن اللّه‏ عزوجل يكره من عبده اذا كان مع اصحابه أن ينفرد من بينهم »(5) .

        وربّما أتوه في الايام الباردة بالإناء وفيه الماء ـ ليضع يده فيها للبركة ـ وكان صلى‏الله‏عليه‏و‏آله

 

(1) مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 1:145 .
(2) مكارم الاخلاق : 15 ، ملخّصا .
(3) البحار 16:247 .
(4) راجع المناقب 1:147 .
(5) مكارم الاخلاق : 252 البحار 76:273 .
(24)

 

يفعل من دون كراهة .

        « وكان رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يؤتى اليه بالصبي الصغير ليدعو له بالبركة ، أو يسمّيه فيأخذه فيضعه في حجره تكرمة لأهله ، فربّما بال الصبي عليه ، فيصيح بعض من رآه حين يبول ، فيقول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : لا تزرموا بالصبي ، فيدعه حتى يقضي بوله ثم يفرغ له من دعائه أو تسميته ، ويبلغ سرور اهله فيه ولا يرون انه يتأذى ببول صبيّهم ، فأذا انصرفوا غسل ثوبه بعده »(1) .

        وفي رواية : « انّ أمير المؤمنين عليه‏السلام صاحب رجلاً ذمّيا ، فقال له الذمّي : أين تريد يا عبد اللّه‏ ؟ فقال عليه‏السلام : أريد الكوفة ، فلمّا عدل الطريق بالذمّي عدل معه أمير المؤمنين عليه‏السلام ، فقال له الذمّي : ألست زعمت انّك تريد الكوفة ؟ فقال له : بلى ، فقال له الذمّي : فقد تركت الطريق ، فقال له : قد علمت ، قال : فلم عدلت معي وقد علمت ذلك ؟ فقال له أمير المؤمنين عليه‏السلام : هذا من تمام حسن الصحبة ان يشيّع الرجل صاحبه هنيئة اذا فارقه وكذلك أمرنا نبينا صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فقال له الذمي : هكذا قال ؟ قال : نعم ، قال الذمّي : لا جرم انّما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة فأنا أشهدك انّي على دينك ، ورجع الذمّي مع أمير المؤمنين عليه‏السلام فلمّا عرفه أسلم »(2) .

        ولنعم ما قال البوصيري :

 محمّد سيد الكونين والثقلين

 والفريقين من عرب ومن عجم

 فاق النبيين في خَلق وفي خُلق

 ولم يدانوه في علم ولا كرم

 وكلهم من رسول اللّه‏ ملتمس

 عرفا من البحر أو رشفا من الديم

 فهو الذي تمّ معناه وصورته

 ثم اصطفاه حبيبا باريء النسم

 فمبلغ العلم فيه انّه بشر

 وانّه خير خلق اللّه‏ كلهم

        وعن أنس بن مالك انّه قال :

        « خدمت النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله تسع سنين(3) فما اعلمه قال لي قط : هلا فعلت كذا وكذا ؟ ولا عاب عليّ شيئا قط ، فلم اشمّ نكهة أطيب من نكهته ، وما أخرج ركبتيه بين جليس له قط ، وأدركه اعرابي فأخذ بردائه فجبذه جبذة شديدة حتى نظرت الى صفحة عنق الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وقد أثرت به حاشية الرداء من شدّة جبذته ، ثم قال له : يا محمد مر لي من مال اللّه‏ الذي عندك ، فالتفت اليه رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فضحك وأمر له بعطاء »(4) ، ولهذه الاخلاق الكريمة نزلت « وَ إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ »(5).

 

(1) مكارم الاخلاق : 25 ، البحار 76:273 .
(2) الكافي 2:491 .
(3) وفي البحار عشر سنين .
(4) البحار 16:230 .
(25)

 

        روي عن إبن عباس انّه : « قال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : أنا أديب اللّه‏ وعليّ أديبي ، أمرني ربّي بالسخاء والبر ، ونهاني عن البخل والجفاء »(1) .

        وبلغت شجاعته صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم مرتبة قال فيها اسد اللّه‏ الغالب عليه‏السلام :

        « كنّا اذا احمرّ البأس ولقي القوم القوم ، اتقينا برسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فما يكون أحد أقرب الى العدوّ منه »(2) .

        وعن إبن عباس قال : « كان رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله اذا حدّث الحديث أو سأل عن الامر كرّره ثلاثا ليفهم ويفهم عنه »(3) .

        « وكان صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لا يأكل الثوم ولا البصل والكراث ، وما ذمّ رسول اللّه‏ طعاما قط ، كان اذا أعجبه أكله واذا كرهه تركه ، ويأكل بثلاثة أصابع ومما يليه ، ولا يتناول من بين يدي غيره فاذا كان الرطب والتمر جلّت يده ، ويؤتي بالطعام فيشرع قبل القوم ثم يشرعون ، وكان صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يلحس الصفحة ، واذا فرغ من طعامه لعق أصابعه الثلاث التي أكل بها واذا أكل غسل يديه غسلاً جيدا ثم مسح بفضل الماء الذي في يده وجهه ، وكان لا يأكل وحده ما يمكنه ، وكان صلى‏الله‏عليه‏و‏آله اذا شرب بدأ فسمّى وحسا حسوة وحسوتين ثم يقطع فيحمد اللّه‏ ، ثم يعود فيسمّي ثم يزيد في الثالثة ، وربّما شرب بنفس واحد حتى يفرغ وكان صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يشرب في الاقداح التي يتخذ من الخشب وفي الجلود ويشرب في الخزف ويشرب من أفواه القرب والاداوي وكان صلى‏الله‏عليه‏و‏آله اذا غسل رأسه ولحيته غسلهما بالسدر ، وكان يحبّ الدهن ويكره الشعث واذا استأذن ، استأذن ثلاثا ، وكان يأكل بأصابعه الثلاث وربّما استعان بالرابعة وكان يأكل بكفها كلها ولم يأكل باصبعين ... »(4) ، وكان يغلب ريح عرقه ، ريح كل العطور ، وكان بصاقه ذا بركة ويشفي المريض ، وكان يقرأ ويكتب مع انّه امّي ، ولم تهرم دابة ركبها .

        « لم يشمّ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله به منذ خلقه اللّه‏ تعالى رائحة كريهة ، كان ينطق بلغات كثيرة ، كان لا يمرّ على شجرة الا سلّمت عليه ، ولم يجلس عليه الذباب ، ولم تدن منه هامة ، ولا سامة ، كان اذا مشى على الارض السهلة لا يبين لقدمه أثر ، واذا مشي على الصلبة بان أثرها »(5) .

        كان يقول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : « خمس لا ادعهنّ حتى الممات : الاكل على الحضيض مع العبيد ، وركوبي الحمار مؤكفا ، وحلبي العنز بيدي ، ولبس الصوف ، والتسليم على

 

(1) سورة القلم ، الاية 4 .
(2) البحار 16:231 .
(3) البحار 16:232 .
(4) البحار 16:234 .
(5) مكارم الاخلاق للطبرسي : 49 ، 30 ، 31 ، ملخّصا .
(6) مناقب إبن شهر آشوب 1:124 ، 126 .
(26)

 

الصبيان »(1) .

        « وكان صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يمزح ولا يقول الا الحق ، فقد استدبر رجلاً من ورائه وأخذ بعضده وقال : من يشتري هذ العبد ـ يعني عبد اللّه‏ ـ وإنّه قال لامرأة وذكرت زوجها : أهذا الذي في عينيه بياض ؟ فقالت : لا ما بعينيه بياض ، وحكت لزوجها فقال : أما ترين بياض عيني اكثر من سوادها ؟ وقالت عجوز من الانصار للنبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : اُدع لي بالجنّة فقال : انّ الجنّة لا يدخلها العجز ، فبكت المرأة ، فضحك النبي وقال : أما سمعت قول اللّه‏ تعالى :

        « إِنَّآ أَنشَأْناهُنَّ إنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارا »(2) .

        ومزاحه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله مع العجوز الأشجعيه وبلال والعباس معروفة ، وروى إبن شهر آشوب انّه قبّل جدّ خالد القسري امرأةً ، فشكت الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فأرسل اليه فاعترف وقال : ان شئت أن تقتص فلتقتص ، فتبسّم رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وأصحابه ، فقال : أو لا تعود ؟ فقال : لا واللّه‏ يا رسول اللّه‏ ، فتجاوز عنه(3) .

        يقول المؤلّف :

        كل عاقل لو نظر الى اخلاقه الحسنة وسيرته الحميدة بنظر الانصاف والتدبر تيقّن حقيقة نبوته صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فانّ هذه الاخلاق الشريفة لا تصدر الاّ بالاعجاز ، لأنه نشأ في بيئة لم يكن لها الى الصلاح والاخلاق الحسنة سبيل ، وتدور اخلاقهم مدار العصبية والجاهلية والعناد والنزاع والتغاير والتحاسد والفساد ، وكانوا يطوفون حول البيت عرايا كالحيوانات ليس عليهم ثياب مع الصفير والتصفيق ، كما قال تعالى في وصفهم :

        « وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البَيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً »(4) .

        قوم هذه عبادتهم فكيف تكون سائر اعمالهم ؟ والان بعد مضي اكثر من ثلاثمائة والف سنة من بعثة النبي وقبولهم الاسلام طوعا أو كرها ، لو ذهب الذاهب الى صحاري مكة وبواديها وما حولها ، لرآهم في أيّ درجة من الانسانية يعيشون وفي أيّ درجة من الانحطاط يغوصون .

        فالنبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله نشأ وعاش في هذا المجتمع المنحط والبيئة السافلة ، وظهرت له هذه الاخلاق والمحامد والمحاسن ، من علم وحلم وكرم وسخاء وعفاف وشجاعة ومروءة وسائر الاوصاف الكمالية التي عجز عن احصائها علماء الفريقين ولم يذكر في كتبهم من فضائله وسجاياه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله عشر معشارها ، ثم اعترفوا بالعجز عن احصائها وتدوينها ، واللّه‏ العالم .

 

(1) البحار 16:215 .
(2) سورة الواقعة : 35 ـ 36 ، المناقب 1:148 .
(3) المناقب 1:149 .
(4) الانفال : 35 .
(27)

 

* * *

الفصل الرابع

في نبذة من معاجزه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله

        اعلم ان للنبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله معجزات لم تكن لغيره من الانبياء ، وانه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله جاء بمثل معجزاتهم كلها . وذكر إبن شهر آشوب انّ للنبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله اربعة آلاف واربعمائة واربعين معجزة ، وذكرت منها ثلاثة آلاف(1) .

        يقول هذا الفقير : انّ جميع افعاله واقواله واخلاقه معجزة سيّما أخباره بالمغيّبات ـ كما يأتي ذكره ـ مضافا الى معجزاته قبل الولادة حينها ، كما أحاط بها أهل الفن .

        وأقوى وأبقى معجزاته هي القرآن ، الذي عجز البلغاء والفصحاء عن الاتيان بمثله ، واعترفوا بهذا العجز والانكسار ، وافتضح كل من أراد أن يأتي بمثله ، كمسيلمة الكذّاب ، والاسود العنسي ، وغيرهما .

        ومن جملة ما قاله مسيلمة في قبال سورة الذاريات ، هذه الخزعبلات : « والزارعات زرعا ، فالحاصدات حصدا ، فالطاحنات طحنا ، فالخابزات خبزا ، فالآكلات أكلاً » .

        وفي قبال سورة الكوثر قال لعنه اللّه‏ : « انّا أعطيناك الجاهر ، فصل لربك وهاجر ، انّ شانئك هو الكافر » .

        ومن جملة ما قاله الاسود في قبال سورة البروج : « والسماء ذات البروج ، والارض ذات المروج ، والنساء ذات الفروج ، والخيل ذات السروج ونحن عليها نموج ، بين اللوى والفلوج » ، وأيضا :

        « يا ضفدع بنت ضفدعين ، نقي نقي كم تنقين ، لا الشارب تمنعين ، ولا الماء تكدرين ، اعلاك في الماء واسفلك في الطين » .

        فهذه هي معجزة القرآن الكريم حيث يأتي مسيلمة والأسود بهذا الكلام الغير موزون ، ويجعلونه وحياً منزلاً ويتلونه أمام جمع كثير ، وهما رغم كونهما من الحرب ولكن لم نر تفوّه أيّ عربي بهكذا كلام قبيح ، بل يمسك عنه لعلمه بقبحه .

 
(1) المناقب 1:144 .
(28)

 

        وكل من أراد الاطلاع على نبذة من اعجاز القرآن فليراجع المجلّد الثاني من كتاب حياة القلوب للمجلسي رضى‏الله‏عنه (1) .

        وبالجملة فنحن نشير هنا وفي هذا الكتاب المبارك عدة أنواع من معاجزه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

النوع الاول :

        المعاجز التي صدرت في الأجرام السماويّة ، كشقّ القمر ، وردّ الشمس ، وتضليل الغمام ، ونزول المطر والاطعمة والفواكه من السماء عليه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وغيرها ونكتفي هنا بذكر اربعٍ منها :

1 ـ شقّ القمر :

        قال اللّه‏ تعالى : « اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انشَقَّ القَمَرُ وَ إن يَرَوْاْ ءَايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ »(2) .

        روى اكثر مفسري العامة والخاصة انّ هذه الايات نزلت بعد ما طلب مشركوا قريش في مكة من النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله معجزة ، فأشار النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى القمر فانشقّ فلقتين بقدرة اللّه‏ تعالى ، وفي رواية انها كانت في ليلة الرابع عشر من ذي الحجة(3) .

2 ـ ردّ الشمس :

        « عن اسماء بنت عميس انّها قالت : انّ عليا بعثه رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في حاجة وقد صلّى النبي العصر ولم يصلّها علي ، فلمّا رجع وضع رأسه في حجر عليّ وقد أوحى اللّه‏ اليه فجلّله بثوبه ، فلم يزل كذلك حتى كادت الشمس تغيب ، ثم انّه سري عن النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فقال : أصلّيت يا علي ؟ قال : لا ، فقال النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : اللهم ردّ على عليّ الشمس ، فرجعت حتى بلغت نصف المسجد »(4) .

3 ـ انزال المطر :

        وروت الخاصة والعامة ايضاً انّ قبائل العرب لما اتفقوا على ايذاء النبي 6 دعى وقال : اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم كسني يوسف ، فأصابهم سنون ، فأتاه رجل فقال : فو اللّه‏ ما اتيتك حتى لا يخطر لنا فحل ولا يتردد منا رائح ، فقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : « اللهم دعوتك فأجبتني ، وسألتك فأعطيتني ، اللهم فاسقنا غيثا ، مغيثا ، مريئا ، سريعا ، طبقا ، سجّالاً ، عاجلاً غير رائث ، نافعا غير ضار » ، فما قام حتى ملأ كل شيء ، ودام عليهم جمعة ، فأتوه فقالوا : يا رسول اللّه‏ انقطعت سبلنا وأسواقنا ، فقال النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : حوالينا ولا علينا ، فانجابت السحابة عن المدينة وصار فيما حولها ، وأمطروا

 

(1) حياة القلوب 3:409 ـ 429 ، الباب الرابع عشر .
(2) القمر : 1 ـ 2 .
(3) راجع الارشاد للمفيد 1:84 ، تفسير القمي 2:340 ، تفسير الطبري 11:544 ، البحار 17:357 .
(4) البحار 17:359 .
(29)

 

أشهرا »(1).

        ثم قال النبي قرة عين لأبي طالب ، وقال بعض الاصحاب بيتا له عليه‏السلام :

 وابيضَ يُسْتَسْقَى الغَمامُ بوجهه

 ثمال اليتامى عصمة للأرامل

4 ـ تسبيح العنب :

        « روي بسند معتبر عن ام سلمة انّ فاطمة عليهاالسلام جاءت الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله حاملة حسنا وحسينا وفخارا فيه حريرة(2) فقال : ادعي إبن عمك ، فأجلس أحدهما على فخذه اليمنى والاخر على فخذه اليسرى ، وعليا وفاطمة احدهما بين يديه والآخر خلفه ، فقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، ثلاث مرّات ، وانا عند عتبة الباب ، فقلت : وانا منهم ؟ فقال : انت الى خير وما في البيت احد غير هؤلاء وجبرئيل ، ثم أغدف عليهم كساء خيبريّا فجلّلهم به وهو معهم ، ثم أتاه جبرئيل بطبق فيه رمّان وعنب فأكل النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فسبح (العنب والرمان) ثم اكل الحسن والحسين فتناولا فسبّح العنب والرمان في ايديهما ، ثم دخل عليّ فتناول منه فسبّح أيضا ، ثم دخل رجلٌ من الصحابة وأراد أن يتناول ، فقال جبرئيل : انّما يأكل من هذا نبيّ أو ولد نبيّ أو وصيّ نبي »(3) .

النوع الثاني :

        معجزاته صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في الجمادات والنباتات ، كسلام الشجر والمدر عليه ، ومشي الشجرة بأمره ، وتسبيح الحجر بيده ، وانقلاب الجذع سيفا لعكاشة في بدر ولعبد اللّه‏ بن جحش في احد ، وانقلاب سعف النخلة سيفا لأبي دجانة ، وانغماس قوائم جواد سراقة في الارض لمّا تبع النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في اوّل الهجرة وغيرها ، فنكتفي هنا بذكر جملة منها :

        الاولى : روت العامة والخاصة بأسانيد كثيرة : « انّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لمّا بنى مسجده كان فيه جذع نخل الى جانب المحراب يابس عتيق ، اذا خطب يستند عليه ، فلمّا اتخذ له المنبر وصعد حنّ ذلك الجذع كحنين الناقة الى فصيلها ، فنزل رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فاحتضنه فسكن من الحنين ، ثم رجع رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ويسمّى الحنّانة الى أن هدم بنو أميّة المسجد وجدّدوا بناءه فقلعوا الجذع »(4) .

        وفي رواية انه قال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : لو لم أحتضنه لحنّ الى يوم القيامة ، وورد في رواية أخرى ان رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أمر بقطع ذلك الجذع ودفنه تحت المنبر .

 

(1) البحار 17:230 ، وانظر الخرائج 1:58 ـ 59 .
(2) الحريرة : الدقيق يطبخ بلبن أو دسم
(3) الخرائج 1:48 ـ وعنه في البحار 17:359 .
(4) الخرائج 1:165 ، البحار 17:365 .
(30)

 

        الثانية : « قال أمير المؤمنين عليه‏السلام : ولقد كنت معه لمّا أتاه الملأ من قريش ، فقالوا : يا محمد انّك قد ادّعيت عظيما لم يدعه آباؤك ولا أحد من بيتك ، ونحن نسألك أمرا إن أنت أجبتنا اليه وأريتناه علمنا انّك نبيّ ورسول ، وإن لم تفعل علمنا انك ساحر كذاب ، فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : « وما تسألون ؟ » قالوا : تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك ، فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : إنّ اللّه‏ على كل شيء قدير ، فإن فعل اللّه‏ لكم ذلك ، أتؤمنون وتشهدون بالحقّ ؟ قالوا : نعم ، قال : فانّي سأوريكم ما تطلبون ، وانّي لأعلم انّكم لا تفيؤون الى خير ، وانّ فيكم من يطرح في القليب ومن يحزّب الاحزاب .

        ثم قال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : يا ايتها الشجرة! إن كنت تؤمنين باللّه‏ واليوم الاخر وتعلمين إني رسول اللّه‏ ، فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يديّ باذن اللّه‏ ، فو الذي بعثه بالحق ، لانقلعت بعروقها ، وجاءت ولها دويّ شديد وقصف كقصف أجنحة الطير ، حتى وقفت بين يدي رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله مرفرفة ، وألقت بغصنها الأعلى على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وببعض أغصانها على منكبي وكنت عن يمينه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فلمّا نظر القوم الى ذلك قالوا علوّا واستكبارا : فمرها فليأتك نصفها ويبقى نصفها ، فأمرها بذلك ، فأقبل اليه نصفها كأعجب اقبال وأشده دويّا ، فكادت تلتف برسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فقالوا كفرا وعتوّا : فمر هذا النصف فليرجع الى نصفه كما كان ، فأمره صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فرجع ، فقلت أنا : لا اله الاّ اللّه‏ ، انّي اوّل مؤمن بك يا رسول اللّه‏ ، واوّل من أقرّ بأنّ الشجرة فعلت ما فعلت بأمر اللّه‏ تعالى تصديقا بنبوّتك ، واجلالاً لكلمتك ، فقال القوم كلّهم : بل ساحر كذّاب ، عجيب السحر ، خفيف فيه ، وهل يصدقك في أمرك الاّ مثل هذا ؟! (يعنونني) »(1) .

        يقول هذا الفقير : انّ مؤلف ناسخ التواريخ يقول : هذه المعجزة المنقولة عن لسان علي عليه‏السلام في حق رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، تشبه قضية ابرهة وظهور الابابيل ، لان عليا عليه‏السلام كان وصيّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ومفترض الطاعة وصادقا ومصدقا ، ولا يمكن أن يكذب على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في اطاعة الشجرة له ومجيئها اليه ثم رجوعها الى مكانها لاسيما مع استماع اكثر من عشرين الف نفر في مسجد الكوفة ، وفيهم من حضر ذلك الموقف وشاهد هذه المعجزة ، وأيضا لا يمكن القول بتحريف خطبة علي عليه‏السلام لعدم توفّر هذه الفصاحة والبلاغة لأيّ أحد ، مضافاً إلى أنّ خطبه عليه‏السلام مضبوطة ومحفوظة من زمن صدر الاسلام ، لدى العلماء ، انتهى .

        الثالثة : روى الراوندي عن الصادق عليه‏السلام انه قال : « انّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله اقبل الى الجعرانة فقسّم فيها الاموال ، وجعل الناس يسألونه فيعطيهم حتى ألجؤوه الى شجرة ، فأخذت برده وخدشت ظهره حتى رحلوه عنها وهم يسألونه ، فقال : ايّها الناس ردّوا عليّ بردي ، واللّه‏ لو كان عندي عدد شجر تهامة نعما لقسمته بينكم ، ثم ما ألفيتموني

 

(1) نهج البلاغة ، خطبة 192 ، القاصعة ، وفي البحار 17:389 .
(31)

 

جبانا ولا بخيلاً ، ثم خرج من الجعرانة في ذي القعدة ، قال : فما رأيت تلك الشجرة الاّ خضراء كأنّما يرشّ عليها الماء »(1) .

        الرابعة : روى إبن شهر آشوب : « انّ الطفيل بن عمرو نهته قريش عن قرب النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فدخل المسجد محشّوا أذنيه بكرسف لكيلا يسمع صوته ، فكان يسمع ، فأسلم ، ثم قال : يا رسول اللّه‏ انّي امرئ مطاع في قومي ، فادع اللّه‏ ان يجعل لي آية تكون لي عونا على ما ادعوهم الى الاسلام ، فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : (اللهم اجعل له آية) ، فانصرف الى قومه اذ رأى نورا في طرف سوطه كالقنديل »(2) .

النوع الثالث :

        معجزاته في الحيوانات ، كتكلم عجل آل ذريح وحث الناس على نبوته ، وتكلم الرضيع والذئب والابل والشاة المسمومة معه وغيرها من الحكايات الكثيرة ، فنكتفي بذكر بعضها :

        الاولى : روى الراوندي وإبن بابوية عن ام سلمة (رضي اللّه‏ عنها) انها قالت :

        « كان النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يمشي في الصحراء ، فناداه مناد : يا رسول اللّه‏ مرتين ، فالتفت فلم ير أحدا ، ثم ناداه فالتفت فاذا هو بظبية موثّقة ، فقالت : انّ هذا الاعرابي صادني ولي خشفان في ذلك الجبل ، أطلقني حتى أذهب وأرضعهما وأرجع فقال : وتفعلين ؟ قالت : نعم ان لم أفعل عذبني اللّه‏ عذاب العشّار ، فأطلقها فذهبت فأرضعت خشفيها ثم رجعت فأوثقها فجاء الاعرابي ، فقال : يا رسول اللّه‏ أطلقها فأطلقها ، فخرجت تعدو وتقول : أشهد ان لا اله الا اللّه‏ وانّك رسول اللّه‏ »(3) .

        وفي رواية إبن شهر آشوب : « انّها كانت مربوطة بطنب خيمة يهودي ، فخلّى سبيلها فخرجت وحكت لخشفيها ما جرى ، فقالا : لا نشرب اللبن وضامنك رسول اللّه‏ في اذى منك ، فخرجت مع خشفيها على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله واثنت عليه وجعلا يمسحان رؤوسهما برسول اللّه‏ ، فبكى اليهودي وأسلم وقال : قد اطلقتها واتخذ هناك مسجدا ، فخنق رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في اعناقها بسلسلة وقال : حرمت لحومكم على الصيادين »(4) .

        الثانية : روى جمع من المشايخ بأسانيد كثيرة عن الامام الصادق عليه‏السلام انه قال :

        « كان رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ذات يوم قاعدا اذ مرّ به بعير فبرك بين يديه ورغا ، فقال عمر : يا رسول اللّه‏ أيسجد لك هذا الجمل ؟ فأن سجد لك فنحن أحقّ أن نفعل ، فقال : لا بل اسجدوا للّه‏ ، انّ هذا الجمل يشكوا أربابه ويزعم انّهم أنتجوه صغيرا واعتملوه ، فلمّا

 

(1) الخرائج 1:98 ـ وعنه في البحار 17:379 .
(2) مناقب إبن شهر آشوب 1:118 .
(3) قصص الانبياء للراوندي : 310 ـ عنه البحار 17:402 .
(4) مناقب إبن شهر آشوب 1:95 .
(32)

 

كبر وصار أعون كبيرا ضعيفا أرادوا نحره ، ولو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها »(1) .

        ثم دعا صاحبها وقال له : انّه يشكوا اليّ ، لأنك تريد نحره ، قال : صدقت يا رسول اللّه‏ انّ لنا وليمة فأردنا أن ننحره فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : لا تقتلوه ودعوه .

        الثالثة : روى الراوندي وغيره من محدثي العامة والخاصة :

        « انّ سفينة مولى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قال : خرجت غازيا فكسر بي ، فغرق المركب وما فيه وأفلتّ وما عليّ الاّ خرقه قد اتزرت بها ، وكنت على لوح ، وأقبل اللوح يرمي بي على جبل في البحر ، فاذا صعدت وظننت انّي نجوت ، جاءتني موجة فانتسفتني ، ففعلت بي مرارا ، ثم انّي خرجت أشتدّ على شاطيء البحر فلم تلحقني ، فحمدت اللّه‏ على سلامتي ، فبينا أنا امشي إذ بصر بي أسد فأقبل (نحوي) يزأر يريد أن يفترسني ، فرفعت يديّ الى السماء فقلت : الّلهم انّي عبدك ومولى نبيك نجّيتني من غرق ، أفتسلط عليّ سبعك ؟

        فألهمت أن قلت : ايها السبع ، انا سفينة مولى رسول اللّه‏ ، احفظ رسول اللّه‏ في مولاه فو اللّه‏ انّه لترك الزئير وأقبل كالسّنور يمسح خدّه بهذه الساق مرّة وبهذه (الساق) أخرى ، وهو ينظر في وجهي مليّا .

        ثم طأطأ ظهره و أومأ اليّ : أن اركب ، فركبت ظهره ، فخرج يخبّ بي ، فما كان بأسرع من أن هبط جزيرة ، واذا فيها من الشجر والثمار وعين عذبة من ماء ، دهشت فوقف وأومأ اليّ أن أنزل ، فنزلت فبقي واقفا حذاي ينظر ، فأخذت من تلك الثمار واكلت وشربت من ذلك الماء فرويت ، فعمدت الى ورقة فجعلتها لي مئزرا واتزرّت بها ، وتلحّفت بأخرى وجعلت ورقة شبيهة بالمزود فملأتها من تلك الثمار ، وبلّلت الخرقة التي كانت معي لأعصرها اذا احتجت الى الماء فأشربه فلمّا فرغت ممّا أردت أقبل اليّ فطأطأ ظهره ثم أومأ اليّ أن أركب ، فلمّا ركبت ، أقبل بي نحو البحر في غير الطريق الذي أقبلت منه .

        فلمّا سرت على البحر اذا مركب سائر في البحر ، فلوّحت لهم ، فاجتمع أهل المركب يسبّحون ويهلّلون ويرون رجلاً راكبا أسدا ، فصاحوا يا فتى من أنت ؟ أجنّي أم انسي ؟ قلت : انا سفينة مولى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله رعى الاسد في حق رسول اللّه‏ ففعل ما ترون فلمّا سمعوا ذكر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله حطّوا الشراع وحملوا رجلين في قارب صغير ، ودفعوا اليهما ثيابا ، فجاءا اليّ ونزلت من الاسد ، ووقف ناحية مطرقا ينظر ما أصنع ، فرميا اليّ بالثياب وقالا : ألبسها فلبستها فقال أحدهما : اركب ظهري حتى أحملك الى القارب ، أيكون السبع أرعى لحق رسول اللّه‏ من أمّته ؟ فاقبلت على الاسد ، فقلت :

 

(1) قصص الانبياء للراوندي : 287 ـ وعنه في البحار 17:398 .
(33)

 

جزاك اللّه‏ خيرا عن رسول اللّه‏ ، فو اللّه‏ لنظرت الى دموعه تسيل على خدّه ما يتحرّك ، حتى دخلت القارب وأقبل يلتفت اليّ ساعة بعد ساعة حتى غبنا عنه »(1) .

        الرابعة : روى مشايخ الحديث انه :

        « كان رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله اذا أراد حاجة أبعد في المشي ، فأتى يوما واديا لحاجة فنزع خفّه وقضى حاجته ، ثم توضأ وأراد لبس خفّه ، فجاء طائر أخضر ، فحمل الخفّ فارتفع به ، ثمّ طرحه فخرج منه أسود (حيّة) »(2) .

        وفي رواية اخرى انّه أخذ الحية من الخفّ ثم طار ، ولذا نهى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله عن صيده وقتله .

        يقول هذا الفقير : قد نقلت شبيه هذه الحكاية عن أمير المؤمنين عليه‏السلام ، وهي كما قال أبو الفرج عن المدائني انّه : خرج السيد الحميري ذات يوم من عند بعض أمراء الكوفة بعد أن أركبه فرسا وخلع عليه ، فوقف بالكناسة ثم قال : يا معشر الكوفيين من جاءني منكم بفضيلة لعليّ بن ابي طالب لم أقل فيها شعرا أعطيته فرسي هذا وما عليّ .

        فجعلوا يحدّثونه وينشدهم حتى أتاه رجل منهم وروى حديثا عن ابي الزغل المرادي قال : انّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‏السلام قام يتطهّر لأجل الصلاة ، فنزع خفّه فانسابت فيه أفعى ، فلمّا عاد ليلبسه انقضى غراب فأخذه وحلق به ثم القاه فخرجت الافعى منه ، فلمّا سمع السيّد هذه الفضيلة وفى بعهده وأنشد :

 ألا يا قوم للعجب العجاب

 لخف أبي الحسين وللحباب(3)

النوع الرابع :

        معجزاته في احياء الموتى ، وشفاء المرضى ، ومعجزات اعضائه الشريفة كانتهاء وجع عين عليّ عليه‏السلام ببركة بصاقه الشريف ، واحياء الظبي الذي أكل من لحمه ، واحياء ماعز الرجل الانصاري الذي دعى النبي إلى بيته ، وتكلّم فاطمة بنت أسد (رضي اللّه‏ عنها) معه في القبر ، واحياء الفتى الذي له ام عجوز عمياء ، وشفاء جرح سلمة بن الأكوع الذي اصيب في خيبر ، والتحام يد معاذ بن عفرا ، وساق محمد بن مسلمة ، وعبد اللّه‏ عتيك ، وعين قتادة ، واشباعه الآلاف بتميرات يسيرة قليلة ، وسقي اصحابه ومواشيهم بالماء الذي نبع من بين اصابعه ، الى غير ذلك ، ونحن نكتفي بذكر جملة منها :

        الاولى : روى الراوندي والطبرسي وجمع آخر : « انّ امرأة أتته بصبي لها ترجو بركته بأن يسمّه ويدعو له ، وكان به عاهة فرحمها ، والرحمة صفته ، فمسح يده على

 

(1) الخرائج والجرائح 1:136 ـ عنه في البحار 17:409 .
(2) قصص الانبياء للراوندي : 314 ، والبحار 17:405 .
 (3) راجع المناقب لابن شهر آشوب 2:307 ، مع اختلاف ، البحار 41:243 .
(34)

 

رأس الصبي فاستوى شعره وبرئ داؤه ، فبلغ ذلك أهل اليمامة فأتوا مسيلمة بصبيّ فسألوه ، فمسح رأسه فصلع ، وبقي نسله الى يومنا هذا صلعا »(1) .

        يقول هذا الفقير : لقد ذكرت معجزات معكوسة من هذا القبيل عن مسيلمة ، من قبيل انّه تفل في بئر فصار ماؤه أجاجا ، وانّه شرب من دلو ثم أفرغه في بئر ليكثر ماءه فنشف البئر ، ولمّا ألقوا ماء وضوئه في بستانٍ يبس البستان ولم تثمر أشجاره بعد ذلك ، وقال له رجل : عندي ابنان فادع اللّه‏ في حقهم ، فدعا مسيلمة ، فلمّا ذهب الرجل الى داره رأى أحد اولاده قد أكله الذئب ، والاخر وقع في البئر ومات ، ومسح على عين أرمد فعمي ... فقيل : انّى لك بهذه المعاجز المعكوسة ، فقال : كلّ من يشكّ فيّ تنعكس معجزاتي بالنسبة اليه .

        الثانية : روى السيد المرتضى وإبن شهر آشوب : « انّ النابغة الجعدي ـ من شعراء رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ـ انشد رسول اللّه‏ قوله :

 بلغنا السماء مجدنا وجدودنا

 وانّا لنرجوا فوق ذلك مظهرا

        فقال : الى أين يا إبن أبي ليلى ؟ قال : الى الجنة يا رسول اللّه‏ ، قال : أحسنت لا يفضض اللّه‏ فاك ، قال الراوي : فرأيته شيخا له مائة وثلاثون سنة وأسنانه مثل ورق الأقحوان نقاءً وبياضا ، قد تهدم جسمه الاّ فاه »(2) .

        وفي رواية أخرى : « كلّما سقطت له سن نبتت له اخرى أحسن منها »(3) .

        الثالثة : قال أبو هريرة : « اتيت الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بتميرات فقلت ادع اللّه‏ لي بالبركة يا رسول اللّه‏ ، قال : فوضعهنّ في يده ثم دعا بالبركة قال : فجعلتها في جراب ، فلم نزل نأكل منه ونطعم وكان لا يفارقني ، فلمّا قتل عثمان كان على حقوي فسقط وذهب وكنت عنه في شغل »(4) .

        وأنشد أبو هريرة هذا البيت أسفا على ذهاب جرابة الذي كان التمر فيه!!

 للناس همّ ولي في الناس همّان

 همّ الجراب وقتل الشيخ عثمان

        الرابعة : في رواية انّه :

        « ذهب النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله مع بعض أصحابه الى دار ابي الهيثم ، فقال : مرحبا برسول اللّه‏ ما كنت أحبّ أن تأتيني وأصحابك الاّ وعندي شيء ، وكان لي شيء ففرّقته في الجيران فقال : أوصاني جبرئيل بالجار حتى حسبت انّه سيورّثه ، قال : فنظر النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى نخلة في جانب الدار ، فقال : يا عليّ ائتني بقدح ماء فشرب منه ثم مجّ فيه ثم رشّ على النخلة

 

(1) البحار 18:8 ، اعلام الورى : 37 ، الخرائج 1:29 .
(2) البحار 18:11 ، الخرائج 1:51 .
(3) مناقب إبن شهر آشوب 1:84 .
(4) مناقب إبن شهر آشوب 1:104 .
(35)

 

فتملّت أعذاقا من بُسر ورطب ما شئنا ، فقال : هذا من النعيم الذي يكون لكم في القيامة »(1) .

        الخامسة : روى الراوندي انّه : « كان لبعض الانصار عناق فذبحها وقال لاهله : اطبخوا بعضا ، واشووا بعضا فلعلّ رسولنا يشرّفنا ويحضر بيتنا الليلة ويفطر عندنا ، وخرج الى المسجد ، وكان له ابنان صغيران وكانا يريان أباهما يذبح العناق ، فقال أحدهما للآخر : تعال حتى أذبحك ، فأخذ السكين وذبحه فلمّا رأتهما الوالدة صاحت ، فعدا الذابح فهرب فوقع من الغرفة فمات ، فسترتهما وطبخت وهيّأت الطعام ، فلمّا دخل النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله دار الانصاري نزل جبرئيل عليه‏السلام وقال : يا رسول اللّه‏ استحضر ولديه ، فخرج أبوهما يطلبهما فقالت والدتهما : ليسا حاضرين ، فرجع الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وأخبره بغيبتهما ، فقال : لابد من احضارهما ، فخرج الى امّهما فأطلعته على حالهما ، فأخذهما الى مجلس النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فدعا اللّه‏ فأحياهما وعاشا سنين »(2) .

        السادسة : روي عن سلمان رحمه‏الله : « انّه لمّا نزل صلى‏الله‏عليه‏و‏آله دار أبي ايوب لم يكن له سوى جدي وصاع من شعير ، فذبح له الجدي وشواه ، وطحن الشعير وعجنه وخبزه ، وقدّم بين يدي النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فأمر بأن ينادي : الا من أراد الزاد فليأت الى دار أبي ايوب ، فجعل أبو ايوب ينادي والناس يهرعون كالسيل حتى امتلأت الدار ، فأكل الناس بأجمعهم والطعام لم يتغيّر ، فقال النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله اجمعوا العظام فجمعوها ، فوضعها في إهابها ، ثم قال : قومي باذن اللّه‏ تعالى ، فقام الجدي فضجّ الناس بالشهادتين »(3) .

        السابعة : روى الطبرسي والراوندي وجمع آخر : « انّ أبا برّاء ملاعب الاسنّة كان به استسقاء فبعث اليه لبيد بن ربيعة وأهدى له فرسين ونجائب ، فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : لا أقبل هدية مشرك ، قال لبيد : ما كنت أرى أن رجلاً من مضر يردّ هديّة أبي برّاء فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لو كنت قابلاً هدية من مشرك لقبلتها ، قال : فانّه يستشفيك من علّة أصابته في بطنه ، فأخذ بيده حثوة من الارض فتفل عليها ثم أعطاه وقال : دُفها بماء ثم أسقه إيّاه ، فأخذها متعجّبا يرى انّه قد استهزء به ، فأتاه فشربه وأُطلق من مرضه كأنما أنشط من عقال »(4) .

        الثامنة : من المعاجز المتواترة المنقولة عند الخاصة والعامة ان النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لما هاجر من مكة ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة ودليلهم عبد اللّه‏ بن أريقط الليثي ، فمروا على ام معبد الخزاعية ... فسألوا تمرا ولحما ليشتروه فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك ، واذا القوم مرمّلون(5) ، فقالت : لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى ، فنظر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله

 

(1) البحار 18:42 ، مع اختلاف وزيادة .
(2) البحار 18:16 ، عن الخرائج :926 .
(3) البحار 18 :20 .
(4) اعلام الورى : 38 ، والخرائج 1:33 ، مع الاختصار ، البحار 18:22 .
(5) المرمّل هو الذي نفد زاده .
(36)

 

في كسر خيمتها فقال : ما هذه الشاة يا ام معبد ؟ قالت : شاة خلّفها الجهد عن الغنم ، فقال : هل بها من لبن ؟ قالت : هي اجهد من ذلك ، قال : أتأذنين أن أحلبها ؟ قالت : نعم بأبي انت وأمّي ، إن رأيت بها حلبا فاحلبها ، فدعا رسول اللّه‏ بالشاة فمسح ضرعها وذكر اسم اللّه‏ وقال : « الّلهم بارك في شاتها » .

        فتفاجّت ودرّت فدعا رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بإناء لها يريض(1) الرهط فحلب فيه ثجّا(2) حتى علته الّثمال فسقاها فشربت حتى رويت ثم سقى اصحابه فشربوا حتى رووا ، فشرب آخرهم وقال : « ساقي القوم آخرهم شربا » .

        فشربوا جميعا علاًّ بعد نهل حتى أراضوا ، ثم حلب فيه ثانيا عودا على بدء فغادره عندها ثم ارتحلوا منها ، فقلّما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد فلمّا رأى اللبن ، قال : من أين لكم هذا والشاة عازب ولا حلوبة في البيت ؟ قالت : لا واللّه‏ الاّ انّه مرّ بنا رجل مبارك كان في حديثه كيت وكيت ... »(3) .

        فلمّا قصّت عليه القضيّة قال : لعلّه الذي ظهر بمكة يدعي النبوة .

        التاسعة : روى جمع من محدثي الخاصة والعامة عن جابر الانصاري انه قال :

        « كان في منزلي صاع من شعير وشاة مشدودة ، فصرت الى اهلي فقلت : رأيت الحجر على بطن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وأظنّه جائعا ، فلو أصلحنا هذا الشعير وهذه الشاة ودعونا رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الينا كان لنا قربة عند اللّه‏ ، قالت : فاذهب فاعلمه فإن أذن فعلناه ، فذهبت فقلت له : يا رسول اللّه‏ ان رأيت أن تجعل غداءك اليوم عندنا ، قال : وما عندك ؟ قلت : صاع من شعير وشاة ، قال : أفأصير إليك مع من احبّ أو انا وحدي ؟ قال : فكرهت أن اقول انت وحدك ، قلت : بل مع من تحبّ ، وظننته يريد عليا عليه‏السلام بذلك ، فرجعت الى اهلي فقلت : اصلحي انت الشعير وانا أصلح الشاة ، ففرغنا من ذلك وجعلنا الشاة كلّها قطعا في قدر واحدة وماءا وملحا ، وخبزت اهلي ذلك الدقيق ، فصرت اليه وقلت : يا رسول اللّه‏ قد اصلحنا ذلك .

        فوقف على شفير الخندق ونادى بأعلى صوته : يا معشر المسلمين أجيبوا دعوة جابر ، فخرج جميع المهاجرين والانصار ، فخرج النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله والناس ، ولم يكن يمرّ بملأ من أهل المدينة الاّ قال : أجيبوا دعوة جابر ، فاجتمع سبعمائة شخص في رواية ، وفي رواية اخرى ثمانمائة ، ووفي رواية ألف شخص . قال جابر : فأسرعت الى اهلي وقلت : قد أتانا ما لا قبل لنا به ، وعرفتها خبر الجماعة ، فقالت : ألست قد عرّفت رسول

 

(1) يريض الرهط : أي يرويهم بعض الري .
(2) الثج : السيلان ، فحلب فيه ثجا : أي لبنا سائلاً كثيرا .
(3) اعلام الورى : 32 ، الخرائج 1:25 .
(37)

 

اللّه‏ ما عندنا ؟ قلت : بلى ، قالت : فلا عليك ، هو أعلم بما يفعل ، فكانت أهلي أفقه منّي .

        فأمر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الناس بالجلوس خارج الدار ودخل هو وعلي عليه‏السلام الدار وفي رواية : انه لم يكن موضع للجلوس ، فكان صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يشير إلى الحائط والحائط يبعد حتى تمكنوا منه . فنظر في التنور والخبز فيه فتفل فيه وكشف القدر فنظر فيها ، ثم قال للمرأة : اقلعي من التنور رغيفا رغيفا ، وناوليني واحدا بعد واحد ، فجعلت تقلع رغيفا وتناوله اياه وهو وعلي يثردان في الجفنة ، فلمّا امتلأت الجفنة بالثريد غرف عليها من القدر وقال : أدخل عليّ عشرة من الناس ، فدخلوا وأكلوا حتى شبعوا ، ثم قال : يا جابر إئتني بالذراع ، ثم قال : أدخل عليّ عشرة ، فدخلوا وأكلوا حتى شبعوا ، والثريد بحاله ، ثم قال : هات الذراع فأتيته به ، فقال : أدخل عشرة ، فاكلوا وشبعوا ، ثم قال : هات الذراع ، قلت : كم للشاة من ذراع ؟ ... قد أتيت بثلاث أذرع ، قال : لو سكتّ لأكل الجميع من الذراع ، فلم يزل يدخل عشرة ويخرج عشرة ، حتى اكل الناس جميعا .

        ثم قال : تعال حتى نأكل نحن وانت ، فأكلت انا ومحمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وعلي عليه‏السلام وخرجنا والخبز في التنور بحاله ، والقدر على حالها ، والثريد في الجفنة على حاله ، فعشنا ايّاما بذلك »(1) .

        العاشرة : روي أنّ قتادة بن النعمان أخا ابي سعيد الخدري من أمّ واحدة ، وقد شهد بدرا وأحدا وفقأت عينه يوم أحد ، فجاء الى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فقال : انّ لي امرأة جميلة احبّها وتحبّني ، وانّي جديد عرسٍ ، فأكره أن تراني بهذه الهيئة ، فأخذها صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ووضعها مكانها وقال : « اللهم اكسه الجمال » .

        فكان لا يصيبها وجع ولا رمد ، فلذا قال أحد أبنائه لمّا دخل على عمرو بن عبدالعزيز حينما سأل عن اسمه :

 انا إبن الذي سالت على الخدّ عينه

 فردّت بكف المصطفى أحسن الردّ

 فعادت كما كانت لأوّل مرّة

 فيا حسن ما عين ويا حسن ما ردّ

النوع الخامس :

        معجزاته في كفاية شرّ الاعداء ، كهلاك المستهزئين ، وأكل الاسد عتبة بن أبي لهب ، ودفعه لشرّ ابي جهل ، وابي لهب ، وأم جميل ، وعامر بن الطفيل ، وأزيد بن قيس ، ومعمر بن يزيد ، والنضر بن الحارث ، وزهير الشاعر ... وغيرها من المعاجز ، ونكتفي بذكر جملة منها :

        الاولى : روى على بن ابراهيم وجمع آخر : « انّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قام يصلي وقد حلف

 

(1) البحار 18:33 ، وفي الخرائج 1:27 ، والمناقب لابن شهر آشوب 1:103 .
(38)

 

أبو جهل لئن رآه يصلّي ليدمغنّه ، فجاء ومعه حجر والنبي قائم يصلّي ، فجعل كلّما رفع الحجر ليرميه أثبت اللّه‏ يده الى عنقه ولا يدور الحجر بيده ، فلمّا رجع الى اصحابه سقط الحجر من يده(1) ، ثم قام رجل آخر وهو من رهطه أيضا ، فقال : أنا أقتله ، فلمّا دنا منه فجعل يسمع قراءة رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فأرعب فرجع الى اصحابه ، فقال : حال بيني وبينه كهيئة العجل يخطر بذنبه فخفت أن أتقدم »(2) .

        الثانية : روى مشايخ الحديث في تفسير « إنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ » انّها نزلت بمكة بعد ان نبّئ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بالنبوة ، فأول من اسلم عليّ إبن أبي طالب عليه‏السلام ، ثم خديجة (رضي اللّه‏ عنها) ، ثم دخل أبو طالب على النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وهو يصلّي وعليّ بجنبه ، وكان مع ابي طالب جعفر فقال له أبو طالب : صل جناح إبن عمّك ، فوقف جعفر على يسار رسول اللّه‏ فبدر رسول اللّه‏ من بينهما ، ثم أسلم زيد بن حارثة فكان المصلّون هؤلاء الخمسة فقط ، فلمّا أتى لذلك ثلاث سنين أنزل اللّه‏ عليه : « فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ »(3) .

        وكان المستهزؤون خمسة : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن المطّلب ، والأسود عبد يغوث ، والحارث بن طلاطلة ، والبعض أضافوا الحارث بن قيس . فمرّ الوليد بن المغيرة برسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ومعه جبرئيل فقال جبرئيل : يا محمد هذا الوليد بن المغيرة وهو من المستهزئين بك ، قال : نعم ، وقد كان مرّ برجل من خزاعة على باب المسجد وهو يريش نبلاً له فوطئ على بعضها ، فأصاب أسفل عقبه قطعة من ذلك فدميت ، ومنعه التكبر من اخراجه ، فلمّا مرّ بجبرئيل أشار الى ذلك الموضع الذي أشار اليه جبرئيل أسفل عقبه فسال منه الدم حتى صار الى فراش ابنته ، فانتبهت ابنته وقالت للجارية : انحلّ وكاء القربة ، قال الوليد : ما هذا وكاء القربة ولكنه دم ابيك ، فاجمعي لي ولدي فوصّى لهم وذهب الى الجحيم وبئس المصير .

        ومرّ العاص بن وائل فأشار جبرئيل الى رجله ، فدخل عود في أخمص قدمه وخرجت من ظاهره ومات ، وفي رواية اخرى : دخل في رجله شوك فأخذ يحكّه حتى مات .

        ومرّ الأسود بن المطّلب فأشار جبرئيل الى بصره فعمي ، وكان ينطح رأسه بالحائط حتى مات ، وفي رواية أخرى : أشار الى بطنه ، فكان يشرب الماء حتى انشق بطنه ومات .

        امّا الأسود بن عبد يغوث فانّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله دعا عليه بأن يعمي اللّه‏ بصره وأن يثكله

 

(1) وفي رواية اخرى : فتضرع الى النبي (ص) فدعا له بفرج فزالت
(2) تفسير القمي 2:212 ـ البحار 18:52 ، وفي الخرائج 1:24 ، والمناقب لابن شهر آشوب 1:108 .
(3) سورة الحجر : 95 .
(39)

 

ولده ، فلمّا كان في ذلك اليوم جاء حتّى صار الى كذا ، فأتاه جبرئيل بورقة خضراء فضرب بها وجهه ، فعمي وبقي حتى أثكله اللّه‏ عزوجل في ولده يوم بدر ثم مات .

        ومرّ الحارث بن طلاطلة فأشار جبرئيل الى رأسه فخرج منه القيح حتى مات ، وقيل : لدغته حيّة فمات ، وقيل : أصابته السمائم فتحول حبشيّا فرجع الى اهله ، فانكروه وأخذوا يضربونه حتى قتل .

        وأما الحارث بن قيس فانّه أكل حوتا مالحا فأصابه العطش ، فلم يزل يشرب الماء حتى انشق بطنه(1) .

        الثالثة : روى الراوندي عن إبن مسعود قال : « كنّا مع النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله نصلّي في ظلّ الكعبة ، وناس من قريش وأبو جهل نحروا جزورا في ناحية مكة ، فبعثوا فجاؤوا بسلاها فطرحوه بين كتفيه ، فجاءت فاطمة عليهاالسلام فطرحته عنه ، فلمّا انصرف قال : الّلهم عليك بقريش (الّلهم عليك) بأبي جهل ، وبعتبة ، وشيبة ، والوليد بن عتبه ، واميّة بن خلف وبعقبة بن أبي معيط ، قال عبد اللّه‏ : ولقد رأيتهم قتلى في قليب بدر »(2) .

        الرابعة : روى الراوندي انّه : « صلّى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في بعض الليالي فقرأ « تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ » فقيل لامّ جميل أخت أبي سفيان امرأة ابي لهب : أنّ محمدا لم يزل البارحة يهتف بك وبزوجك في صلاته ويَقنُت عليكما ، فخرجت تطلبه وهي تقول : لئن رأيته لأسمعته ، وجعلت تنشد : من أحسّ لي محمدا ؟ حتى انتهت الى رسول اللّه‏ وأبوبكر جالسٌ معه ، فقال أبو بكر : يا رسول اللّه‏ لو انتحيت فانّ امّ جميل قد اقبلت وأنا خائف أن تسمعك شيئا ، فقال : انها لم ترني ، فجاءت حتى قامت عليه وقالت : يا أبا بكر أرأيت محمدا ؟ قال : لا ، فمضت راجعة الى بيتها .

        فقال أبو جعفر عليه‏السلام : ضرب اللّه‏ بينهما حجابا أصفر ، وكانت تقول له صلى‏الله‏عليه‏و‏آله مذمم ، وكذا قريش كلّهم ، فقال النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : انّ اللّه‏ أنساهم اسمي وهم يعلمون ، يذمّون مذمّما وانا محمد »(3) .

        الخامسة : روى إبن شهر آشوب وجمع آخر انّه : سأل أبو لهب ابا سفيان عن قصّة بدر فقال : انّا لقيناهم فمنحناهم اكتافنا ، فجعلوا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاؤوا ، وأيم اللّه‏ مع ذلك ما مكث الناس ، لقينا رجالاً بيضا على خيل بلق بين السماء والارض لا يقوم لها شيء ، فقال أبو رافع لأم الفضل بنت العباس : تلك الملائكة ، فجعل يضربني ، فضربت امّ الفضل على رأسه بعمود الخيمة ، فلقت رأسه شجة منكرة فعاش سبع ليال ، وقد رماه اللّه‏ بالعدسة(4) ولقد تركه ابناه ثلاثا لا يدفنانه ، وكانت قريش تتقي

 

(1) راجع تفسير القمي : 148 ـ 149 ، مجمع البيان 1:378 .
(2) الخرائج 1:51 ـ وعنه في البحار 18:57 .
(3) الخرائج 2:775 ، البحار 18:59 .
(4) العدسة بثرة تخرج في الجسد وهي من الطاعون تقتل صاحبها .
(40)

 

العدسة ، فدفنوه بأعلى مكة على جدار وقذفوا عليه الحجارة حتى واروه »(1) .

        قال العلامة المجلسي : وقبره واقع في طريق العمرة ، وكل من يمرّ من هناك يقذفه بالحجارة حتى صار تلّا عظيما من الحجر ، ... فتأمّل جيّدا كيف يصبح ذو النسب الشريف ، لا شرف له ولا كرامة ، بسبب مخالفة أمر اللّه‏ ورسوله صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ؟ وكيف يصبح من لا نسب له ولا حسب ، ذا نسب شريف ومقام كريم ويصل الى الدرجات العليا ويلحق بأهل البيت ، بسبب اطاعة اللّه‏ ورسوله صلى‏الله‏عليه‏و‏آله (2) .

النوع السادس :

        معجزاته صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في استيلائه على الجنّ والشياطين وايمان بعض الجنّ به ، ونكتفي بذكر بعضها :

        الاولى : روى عليّ بن ابراهيم : « انّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله خرج من مكّة الى سوق عكاظ ومعه زيد بن حارثة يدعو الناس الى الاسلام ، فلم يجبه أحد ولم يجد من يقبله ، ثم رجع الى مكّة ، فلمّا بلغ موضعا يقال له : وادي مجنّة ، تهجّد بالقرآن في جوف الليل ، فمرّ به نفر من الجن فلمّا سمعوا قراءة رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله استمعوا له ، فلمّا سمعوا قراءته قال بعضهم لبعض : انصتوا ، فلمّا فرغ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من القراءة ولّوا الى قومهم منذرين ، قالوا :

        « يا قومنا انّا سمعنا كتابا انزل من بعد موسى مصدّقا لما بين يديه يهدي الحقّ والى طريق مستقيم يا قومنا اجيبوا داعي اللّه‏ وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب اليم » .

        فجاؤوا الى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فأسلموا وآمنوا وعلّمهم رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله شرائع الاسلام ، فأنزل اللّه‏ تعالى على نبيّه : « قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ »(3) السورة كلّها ، ووليّ عليهم رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله منهم ، وكانوا يعودون الى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في كل وقت ، فأمر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أمير المؤمنين عليه‏السلام أن يعلّمهم ويفقّههم ، فمنهم مؤمنون ومنهم كافرون وناصبون ويهود ونصارى ومجوس ، وهم ولد الجانّ »(4) .

        الثانية : روى المفيد والطبرسي انّه : « لمّا خرج النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى بني المصطلق ونزل بقرب واد وعر ، فلمّا كان آخر الليل هبط عليه جبرئيل عليه‏السلام يخبره عن طائفة من كفّار الجنّ قد استبطنوا الوادي يريدون كيده وايقاع الشرّ بأصحابه ، فدعا

 

(1) المناقب 1:75 ، البحار 18:63 .
(2) حياة القلوب 3:630 .
(3) الجن : 1 .
(4) تفسير القمي 2:299 ، سورة الاحقاف ـ وعنه في البحار 18:89 .
(41)

 

أمير المؤمنين عليه‏السلام وقال : اذهب الى هذا الوادي فسيعرض لك من أعداء اللّه‏ الجنّ من يريدك فادفعه بالقوة التي أعطاك اللّه‏ اياها وتحصّن منهم بأسماء اللّه‏ التي خصّك بها وبعلمها ، وأنفذ معه مائة رجل من أخلاط الناس وقال لهم : كونوا معه امتثلوا أمره .

        فتوجّه أمير المؤمنين الى الوادي ، فلمّا قارب شفيره أمر المائة الذين صحبوه أن يقفوا بقرب الشفير ، ولا يحدثوا شيئا حتى يأذن لهم ، ثم تقدّم فوقف على شفير الوادي وتعوّذ باللّه‏ من اعداء اللّه‏ وسمّاه بأحسن أسمائه وأومأ الى القوم الذين اتبعوه أن يقربوا منه ، فقربوا وكان بينه وبينهم فرجة مسافتها غلوة ، ثم رام الهبوط الى الوادي فاعترضت ريح عاصف كاد القوم يقعون على وجوههم لشدّتها ولم تثبت أقدامهم على الارض من هول ما لحقهم ، فصاح أمير المؤمنين عليه‏السلام :

        « أنا عليّ بن ابي طالب بن عبد المطّلب وصيّ رسول اللّه‏ وإبن عمّه اثبتوا إن شئتم » .

        فظهر للقوم أشخاص كالزّط تخيّل في أيديهم شعل النار ، قد اطمأنّوا وأطافوا بجنبات الوادي ، فتوغّل أمير المؤمنين بطن الوادي وهو يتلو القرآن ويومي بسيفه يمينا وشمالاً فما لبثت الاشخاص حتى صارت كالدخان الاسود وكبّر أمير المؤمنين عليه‏السلام ثم صعد من حيث هبط .

        فقام مع القوم الذين تبعوه حتى أسفر الموضع عمّا اعتراه ، فقال له اصحاب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : ما لقيت يا ابا الحسن فقد كدنا نهلك خوفا واشفاقا عليك ؟ فقال عليه‏السلام : لمّا ترائى لي العدو جهرت فيهم بأسماء اللّه‏ فتضاءلوا وعلمت ما حلّ بهم من الجزع ، فتوغّلت الوادي غير خائف منهم ، ولو بقوا على هيئاتهم لأتيت على آخرهم ، وكفى اللّه‏ كيدهم وكفى المسلمين شرّهم ، وسيسبقني بقيتهم الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فيؤمنوا به .

        وانصرف أمير المؤمنين عليه‏السلام بمن معه الى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فأخبره الخبر فسري عنه ودعى له بخير وقال له : قد سبقك يا علي اليّ من أخافه اللّه‏ بك ، فأسلم وقبلت اسلامه »(1) .

        الثالثة : روى إبن شهر آشوب انّه : « قال تميم الداري : أدركني الليل في بعض طرقات الشام ، فلمّا أخذت مضجعي قلت : أنا الليلة في جوار هذا الوادي ، فاذا منادٍ يقول : عُذ باللّه‏ فان الجنّ لا تجير أحدا على اللّه‏ ، قد بعث نبيُ الأميين رسول اللّه‏ ، وقد صلّينا خلفه بالحجون وذهب كيد الشياطين ، ورميت بالشهب ، فانطلق الى محمد رسول ربّ العالمين »(2) .

        الرابعة : روى الطبرسي وغيره عن الزهري انّه قال : « لمّا توفّي أبو طالب عليه‏السلام

 

(1) اعلام الورى : 182 ، وعنه أيضا في البحار 18:84 .
(2) المناقب 1:86 ، وعنه في البحار 18:92 .
(42)

 

اشتدّ البلاء على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فعمد لثقيف بالطائف رجاء أن يؤووه ، فوجد ثلاثة نفر منهم هم سادة وهم اخوة عبد ياليل ومسعود وحبيب بنو عمرو ، فعرض عليهم نفسه ، فقال احدهم :

        أنا أسرق ثياب الكعبة ان كان اللّه‏ بعثك بشيء قط ، وقال الاخر : أعجز اللّه‏ أن يرسل غيرك ؟ وقال الآخر : واللّه‏ لا أكلّمك بعد مجلسك هذا أبدا ، ولئن كنت رسولاً كما تقول فلأنت أعظم خطرا من أن يردّ عليك الكلام ، وان كنت تكذب على اللّه‏ فما ينبغي لي أن أكلّمك بعد ، وتهزّؤا به ، وأفشوا في قومهم ما راجعوه به ، فقعدوا له صفّين على طريقه .

        فلمّا مرّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بين صفّيهم جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما الاّ رضخوهما بالحجارة حتّى أدموا رجليه ، فخلص منهم وهما يسيلان دما ، فعمد فجاء الى حائط من حيطانهم ، فاستظلّ في ظلّ نخلة منه وهو مكروب موجع تسيل رجلاه دما ، فاذا في الحائط عتبة إبن ربيعة وشيبة بن ربيعة ، فلمّا رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما للّه‏ ورسوله ، فلمّا رأياه أرسلا اليه غلاما لهما يدعى عِداس معه عنب وهو نصرانيّ من أهل نينوى ، فلمّا جاءه قال له رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله :

        من أيّ أرض أنت ؟ قال : من أهل نينوى ، قال : من مدينة العبد الصالح يونس بن متّى ؟ فقال له عداس : وما يدريك من يونس بن متّى ؟ فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : أنا رسول اللّه‏ ، واللّه‏ تعالى أخبرني خبر يونس بن متّى .

        فلمّا أخبره بما أوحى اللّه‏ اليه من شأن يونس خرّ عداس ساجدا للّه‏ ومعظما لرسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وجعل يقبل قدميه وهما تسيلان الدماء ، فلمّا بصر عتبة وشيبة ما يصنع غلامهما سكتا ، فلمّا اتاهما قالا :

        ما شأنك سجدت لمحمّد وقبّلت قدميه ، ولم نرك فعلت ذلك بأحد منّا ؟ قال : هذا رجل صالح أخبرني بشيء عرفته من شأن رسول بعثه اللّه‏ الينا يدعى يونس بن متّى ، فضحكا وقالا : لا يفتننّك عن نصرانيّتك ، فانّه رجل خدّاع ، فرجع رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى مكة حتى اذا كان بنخلة قام في جوف الليل يصلّي ، فمرّ به نفر من أهل نصيبين من اليمن فوجدوه يصلّي صلاة الغداة ، ويتلو القرآن ، فاستمعوا له ... وانصرفوا الى قومهم محذّرين » .

        وفي رواية أخرى انّه : أُمر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أن ينذر الجنّ ويدعوهم الى اللّه‏ ويقرأ عليهم القرآن ، فصرف اللّه‏ اليه نفرا من الجنّ من نينوى فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : انّي أمرت أن أقرأ على الجنّ الليلة ، فأيّكم يتبعني ؟ فاتبعه عبد اللّه‏ بن مسعود .

        قال عبد اللّه‏ : ولم يحضر معه أحد غيري ، فانطلقنا حتّى اذا كنّا بأعلى مكة ، ودخل نبيّ اللّه‏ شعبا يقال له شعب الحجون وخطّ لي خطا ، ثم أمرني أن أجلس فيه وقال لا تخرج منه حتى أعود إليك ، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن فغشيته أسودة

(43)

 

كثيرة حتّى حالت بيني وبينه ، حتى لم اسمع صوته ، ثم انطلقوا وطفقوا يتقطّعون مثل قطع السحاب ذاهبين حتى بقي منهم رهطٌ ، وفرغ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله مع الفجر فانطلق فبرز ، ثم قال : هل رأيت شيئا ؟ فقلت : نعم رأيت رجالاً سودا مستثفري ثياب بيض قال : اولئك جنّ نصيبين .

        وروى إبن عباس انهم كانوا سبعة نفر من جنّ نصيبين فجعلهم رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله رسلاً الى قومهم وقيل كانوا تسعة نفر منهم »(1) .

النوع السابع :

        معجزاته في اخباره صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بالمغيّبات :

        يقول هذا الفقير : يكفينا في هذا الباب ما سنروي عن اخبار أمير المؤمنين عليه‏السلام بالمغيّبات ، لأنّه عليه‏السلام اقتبسها من مشكاة النبوّة ، قال شيخنا البهائي : « جميع احاديثنا الاّ ما ندر تنتهي الى أئمتنا الاثني عشر ، وهم ينتهون الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لأنّ علومهم مقتبسة من تلك المشكاة »(2) ... ولكن نذكر نبذة من هذه الاخبار تيمّنا وتبرّكا :

        الاول : روى الحميري عن الصادق عليه‏السلام انّه قال : كان النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أخذ من العباس يوم بدر دنانير كانت معه ، فقال : يا رسول اللّه‏ ما عندي غيرها ، فقال : فأين الذي استخبيته عند ام الفضل ؟ فقال : أشهد أن لا اله الاّ اللّه‏ وأشهد انّك رسول اللّه‏ ، ما كان معها أحد حين أستخبيتها(3) .

        فأنزل اللّه‏ تعالى :

        « يَا أَيّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيآ أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىآ إِن يَعْلَمِ اللّه‏ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرا يُؤْتِكُمْ خَيْرا مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّه‏ غَفُورٌ رَّحِيمٌ »(4).

        الثاني : روى ابن بابويه والراوندي عن إبن عباس انّه قال :

        « دخل أبو سفيان على النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يوما ، فقال : يا رسول اللّه‏ أريد أن أسألك عن شيء ، فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : ان شئت أخبرتك قبل أن تسألني ، قال : افعل ، قال : أردت أن تسأل عن مبلغ عمري ، فقال : نعم يا رسول اللّه‏ ، فقال : انّي أعيش ثلاثا وستين سنة ، فقال : أشهد انك صادق ، فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : بلسانك دون قلبك .

        قال إبن عباس : واللّه‏ ما كان الاّ منافقا ، قال : ولقد كنّا في محفلٍ فيه أبو سفيان وقد كُفّ بصره وفينا عليّ عليه‏السلام فأذّن المؤذن ، فلمّا قال : اشهد أنّ محمدا رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، قال أبو سفيان : ها هنا من يحشتم ؟ قال واحد من القوم : لا ، فقال : للّه‏ درّ أخي بني هاشم ،

 
(1) تفسير التبيان سورة الاحقاف ، عنه البحار 18:76 .
(2)
(3) قرب الاسناد 19:66 ، وعنه في البحار 18:105 .
(4) سورة الانفال : 70 .
(44)

 

انظروا أين وضع اسمه! فقال عليّ عليه‏السلام : أسخن اللّه‏ عينك يا أبا سفيان ، اللّه‏ فعل ذلك بقوله عز من قائل : « وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ »(1)، فقال أبو سفيان : أسخن اللّه‏ عين من قال لي ليس ها هنا من يحتشم »(2) .

        الثالث : روى الراوندي عن أبي سعيد الخدريانّه قال :

        « كنّا نخرج في الغزوات مترافقين تسعة وعشرة ، فنقسّم العمل ، فيقعد بعضنا في الرحل وبعضنا يعمل لأصحابه ، يصنع طعامهم ويسقي ركابهم ، وطائفة تذهب الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        فاتفق في رفقتنا رجل يعمل عمل ثلاثة نفر ، يحتطب ويستقي ويصنع طعامنا ، فذكر ذلك للنبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فقال : ذلك رجلٌ من أهل النار ، فلقينا العدو فقاتلناهم فجرح ، فأخذ الرجل سهما فقتل به نفسه ، فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : أشهد انّي رسول اللّه‏ وعبده »(3) .

        الرابع : روى الراوندي : « انّ رجلاً جاء الى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فقال : ما طعمت طعاما منذ يومين فقال : عليك بالسوق ، فلمّا كان من الغد ، أتاه فقال : يا رسول اللّه‏ أتيت السوق أمس فلم أصب شيئا ، فبتّ بغير عشاء .

        قال : فعليك بالسوق ، فأتى بعد ذلك أيضا ، فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : عليك بالسوق ، فانطلق اليها فاذا عير قد جاءت وعليها متاع فباعوه بفضل دينار ، فأخذه الرجل وجاء الى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وقال : ما أصبت شيئا .

        قال : هل أصبت من عير آل فلان شيئا ؟ قال : لا ، قال : بلى ، ضرب لك فيها بسهم ، وخرجت منها بدينار ؟ قال : نعم ، قال : فما حملك على أن تكذب ؟ قال : أشهد انّك صادق ، ودعاني الى ذلك ارادة أن أعلم أتعلم ما يعمل الناس ؟ وأن ازداد خيرا الى خير ، فقال له النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : صدقت ، من استغنى أغناه اللّه‏ ، ومن فتح على نفسه باب مسألة فتح اللّه‏ عليه سبعين بابا من الفقر لا يسدّ أدناه شيء ، فما رؤي سائلٌ بعد ذلك اليوم »(4) .

        الخامس : روي انّ جعفر بن ابيطالب رضى‏الله‏عنه لما قدم من بلاد الحبشة ، بعثه رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى مؤتة في السنة الثامنة ، وهي اسم قرية من قرى بلقاء في أراضي الشام ، وتبعد بمنزلين عن بيت المقدس ، فجعله رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أميرا على الجيش ، ومعه زيد بن حارثة وعبد اللّه‏ بن رواحة ، فجعلهما امراء بعده بالترتيب ، فلمّا وصلوا الى مؤتة بعث اليهم القيصر جيش عظيم لحربهم وصدّهم ، فلمّا استعدّوا للقتال خرج جعفر من الصف شاهرا سيفه فصاح بجيشه : يا قوم إنزلوا من جيادكم وقاتلوهم مشاة ، وذلك

 

(1) سورة الانشراح : 4 .
(2) قصص الانبياء : 249 ، وعنه في البحار 18:107 .
(3) الخرائج 1:61 ، وعنه في البحار 18:111 .
(4) الخرائج 1:89 ، وعنه في البحار 18:114 .
(45)

 

لكثرة عدد الكفار وقلّة عددهم ، فأراد اعلام المسلمين بانّه لا مفرّ ولا ملجأ لهم الاّ القتال .

        فاستثقل جيشه النزول عن الجياد لكن ترجّل هو وعقر فرسه ، وأخذ الراية بيده فهجم على الاعداء وحاربهم من كل جانب ، فبدأت الحرب وحمى الوطيس ، وحصر جعفر بين الاعداء ، فبدؤوا بضربه بالسهام والنبال والسيوف حتى قطعت يده اليمنى ، فأخذ الراية بشماله وحاربهم حتى أُثخن بالجراح ، وأُصيب بخمسين جرحا من أمامه ، وفي رواية أصيب بـ (92) جرحا ، ثم قطعوا شماله فاحتضن الراية بساعديه ، فمرّ عليه كافر وضربه بالسيف فاستشهد رضى‏الله‏عنه ، وسقطت الراية على الارض .

        قال جابر : « فلمّا كان اليوم الذي وقع فيه حربهم صلّى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بنا الفجر ، ثم صعد المنبر ، فقال : قد التقى اخوانكم مع المشركين للمحاربة » ، فأقبل يحدّثنا بكرّات بعضهم على بعض الى أن قال : « قتل زيد بن حارثة وسقطت الراية » ، ثم قال : « قد أخذها جعفر بن أبي طالب وتقدم للحرب بها » ، ثم قال : « قد قطعت يده وقد أخذ الراية بيده الاخرى » ، ثم قال : « قطعت يده الاخرى وقد أخذ الراية في صدره » ، ثم قال : « قتل جعفر بن ابي طالب وسقطت الراية ، ثم أخذها عبد اللّه‏ بن رواحة وقد قتل من المشركين كذا وقتل من المسلمين كذا فلان وفلان » ، الى أن ذكر جميع من قتل المسلمين بأسمائهم ، ثم قال : « قتل عبد اللّه‏ بن رواحة وأخذ الراية خالد بن الوليد ، فانصرف المسلمون » ، ثم نزل عن المنبر وصار الى دار جعفر ، فدعا عبد اللّه‏ بن جعفر فأقعده في حجره ، وجعل يمسح على رأسه ، فقالت والدته اسماء بنت عميس : يا رسول اللّه‏ انّك لتمسح على رأسه كأنّه يتيم ، قال : قد استشهد جعفر في هذا اليوم ، ودمعت عينا رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وقال : قطعت يداه قبل أن يستشهد ، وقد أبدله اللّه‏ من يديه جناحين من زمرّد أخضر ، فهو الان يطير بهما في الجنّة مع الملائكة كيف يشاء »(1) .

        وفي رواية عن الصادق عليه‏السلام قال : قال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لفاطمة : اذهبي فابكي على إبن عمّك فإن لم تدّعي بثكل فما قلت فقد صدقت(2) .

        وقال : على مثل جعفر فلتبك الباكية(3) .

        وفي رواية أخرى : أمر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فاطمة عليهاالسلام أن تتخذ طعاما لأسماء بنت عميس وتأتيها وتسليها ثلاثة أيّام(4) .

        يقول هذا الفقير : نحن وإن خرجنا عن اطار البحث في الجملة لكن ما نقلناه في

 

(1) البحار 21:53 ، الخرائج 1:166 .
(2) البحار 21:57 .
(3) البحار 21:63 .
(4) البحار 21:57 .
(46)

 

محلّه وله فائدة .

        وأخبر أباذر عمّا يصيبه من البلايا والمحن ، وانّه يعيش وحده ويموت وحده ويغسله ويكفنه رجل من أهل العراق ، وأخبر عن احدى نسائه انّها تركب الجمل وتحارب وصيّه وتنبح عليها كلاب الحوأب ، وأخبر أنّ عمارا تقتله الفئة الباغية ، وانّ اللبن آخر زاده من الدنيا ، وأخبر انّ الزهراء عليهاالسلام اوّل من يلحق به من أهل بيته ، وأخبر عن خضاب لحية أمير المؤمنين عليه‏السلام بدم رأسه ، وكان عليه‏السلام يترقب ذلك .

        وأخبر صلى‏الله‏عليه‏و‏آله عن استشهاد الحسين عليه‏السلام واصحابه البررة ومقتلهم وقاتليهم ، وأعطى تراب كربلاء الى أم سلمة وأخبرها بأنّه اذا صار التراب دما عبيطا فقد قتل الحسين ، وأخبر عن استشهاد الامام الرضا عليه‏السلام وانّه يدفن بأرض طوس ، وقال للزبير : انّك اوّل عربي تنكث بيعة أمير المؤمنين ، وقوله لعمّه العباس : ويلٌ لذريتي من ذريّتك ، وأخبر عن الارضة التي أكلت صحيفة قريش الاّ اسم اللّه‏ ، وأخبر عن بناء مدينة بغداد ، وعن موت رفاعة بن يزيد المنافق ، وعن مدة ملك بني اميّة بأنّها ستكون ألف شهر ، وعن قتل معاوية لحجر بن عدي وأصحابه ظلما .

        وأخبر عن واقعة الحرة ، وعن ذهاب بصر إبن عباس ، وزيد بن أرقم ، وعن موت النجاشي ملك الحبشة ، وعن قتل أسود العنسي في اليمن في الليلة التي قتل فيها ، وأخبر عن ولادة محمد بن الحنفّية لعليّ عليه‏السلام وأعطاه اسمه وكنيته ، وأخبر عن دفن ابي أيّوب الانصاري في جنب قلعة القسطنطنيّة ... الى غير ذلك من المعاجز .