(47)

 

الفصل الخامس

في الوقائع التي حدثت في أيّام عمره الشريف صلى‏الله‏عليه‏و‏آله

وذكر غزواته على نحو الاجمال والاختصار

        قال المؤرخون : ولد النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بعد هبوط آدم عليه‏السلام لستة آلاف سنة ومائة وثلاث وستين سنة ، وتوفّت امّه آمنة (رضي اللّه‏ عنها) في سنة (6169) وكان رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله مع آمنة امّه ، فلمّا بلغ ستّ سنين استأذنت من عبد المطّلب أن تأخذ محمّدا صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى أخواله بني عدي بن النجار بالمدينة ، فلمّا أذن لها خرجت به ومعها حاضنته امّ ايمن ، فنزلت به في دار النابغة (مدفن عبد اللّه‏ والد النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ) فأقامت عندهم شهرا ثم رجعت به امّه الى مكّة .

        فلمّا كانوا بالأبواء ـ ما بين مكة والمدينة ـ توفيّت امّه آمنة ودفنت هناك ، ولما كان قبر آمنة في مكّه ، كما هو الظاهر ، فقد قيل أنه نقل من الأبواء الى مكّة .

        ولما ماتت آمنة رجعت به أمّ أيمن الى مكّة وسلّمته الى عبد المطّلب ، فازداد له حبّا وحنانا وكان لا يأكل الا بحضور النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        وقيل : كان يوضع لعبد المطّلب فراشا في ظلّ الكعبة كل يوم ، لا يجلس عليه أحد الاّ هو اجلالاً له ، وكان بنوه وقومه يجلسون حوله ، الاّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فقد كان يخرج من البيت ويجلس على ذلك الفراش ، فيأخذه عبد المطّلب ويجلسه معه ويقبله ويقول : « ما رأيت قبلةً أطيب ولا جسدا ألين منه » .

        وتوفى عبد المطّلب في سنة (6171) وهو صلى‏الله‏عليه‏و‏آله إبن ثمان سنين .

        قيل : لمّا أدركت عبد المطّلب الوفاة ، بعث الى ابي طالب وهو في سكرات الموت ومحمد على صدره ، فوصّاه برسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ورعايته وأن يحفظه بلسانه وماله ويده ، وقال له : انّه واللّه‏ سيسودكم ويملك أمركم ثم أخذ عهدا من أبي طالب ، وقال : الآن هان عليّ الموت ، ثم جعل محمدا صلى‏الله‏عليه‏و‏آله على صدره وبكى ، وأمر بناته بالبكاء عليه ورثائه قبل أن يموت ، فجاءت ستّ من بناته ، وأنشدت كلّ واحدةٍ منهنّ قصيدة في حقّه ، الى أن توفي وكان عمره الشريف حينذاك مائة وعشرين سنة .

        وقد وردت روايات كثيرة في مدحه ، منها انّه اول من قال بالبداء ، وأنّه يبعث بجمال الملوك وسيماء الانبياء يوم القيامة .

        وروي انّه سنّ في الجاهلية خمس سنن أجراها اللّه‏ له في الاسلام :

        الاولى : حرّم زوجات الآباء على الابناء ، فأنزل اللّه‏ عزوجل : « وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ »(1) .

(48)

 

        الثانية : وجد كنزا فاخرج منه الخمس وتصدق به ، فأنزل اللّه‏ عزّوجل : « وَاعْلَمُوا أَنَّمآ غَنِمْتُمْ مِنْ شَيءٍ فَأَنَّ للّه‏ خُمُسَهُ »(1) .

        الثالثة : لمّا حفر زمزم جعلها لسقاية الحاجّ ، فأنزل اللّه‏ عزّوجل : « أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ ... »(2) .

        الرابعة : سنّ في القتل مائة من الابل ، فأجرى اللّه‏ ذلك في الاسلام .

        الخامسة : انّه لم يكن للطواف عددٌ عند قريش ، فسنّ فيهم عبد المطّلب سبعة أشواط ، فأجرى اللّه‏ ذلك في الاسلام(3) .

        وكان لا يستقسم بالأزلام ، ولا يعبد الاصنام ، ولا يأكل ما ذبح على النصب ويقول : أنا على دين أبي ابراهيم عليه‏السلام ... وسيأتي في باب احوال الامام الرضا عليه‏السلام أشعار من عبد المطّلب استشهد بها الامام عليه‏السلام .

        وفي سنة (6174) خرج أبو طالب رضى‏الله‏عنه الى الشام للتجارة ، وكان عمر النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله اثنتي عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام .

        وفي رواية أنّه : « لمّا بلغ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أراد أبو طالب أن يخرج الى الشام في عير قريش ، فجاء رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وتشبّث بالزمام وقال : يا عمّ على من تخلفني لا على أمّ ولا على أب ، ... فرقّ له أبو طالب ورحمه وأخرجه معه ، وكانوا اذا ساروا تسير الى رأس رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله غمامة تظلّله من الشمس ، فمرّوا في طريقهم برجل يقال له بحيرى(4) .

        فلمّا رأى الغمامة تسير معهم نزل من صومعته ، واتّخذ لقريش طعاما وبعث اليهم يسألهم أن يأتوه ، وقد كانوا نزلوا تحت شجرة فبعث اليهم ، يدعوهم الى طعامه ، فقالوا له : يا بحيرى واللّه‏ ما كنّا نعهد هذا منك ، قال : قد أحببت أن تأتوني .

        فأتوه وخلّفوا رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في الرحل ، فنظر بحيرى الى الغمامة قائمة ، فقال لهم : هل بقي منكم أحد لم يأتني ؟ فقالوا : ما بقي منّا الاّ غلام حدث خلّفناه من الرحل ، فقال : لا ينبغي أن يتخلّف عن طعامياحدٌ منكم فبعثوا الى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فلمّا أقبل أقبلت الغمامة ، فلمّا نظر اليه بحيرى قال : من هذا الغلام ؟ قالوا : إبن هذا وأشاروا الى أبي طالب ، فقال له بحيرى : هذا ابنك ؟ قال أبو طالب : هذا إبن أخي ، قال : ما فعل أبوه ؟ قال : توفّى وهو حمل ، فقال بحيرى لأبي طالب : ردّ هذا الغلام الى بلاده ، فانّه إن

 

(1) النساء : 22 .
(2) الانفال : 41 .
(3) التوبة : 19 .
(4) راجع الخصال : 313 .
(5) بحيرى هو جرجيس بن ابي ربيعة وكان على شريعة عيسى (ع) وكان راهبا كبير السن . (منه رحمه‏الله )
(49)

 

علمت به اليهود ما أعلم منه قتلوه ، فانّ لهذا شأنا من الشأن هذا نبيّ هذه الامة ، هذا نبّي السيف »(1) .

        يقول المؤلف : وقع الخلاف على انّه هل ذهب أبو طالب مع النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى الشام ؟ أو رجع به الى مكة بسبب كلام الراهب ؟ أو انّ ابا طالب ذهب وحده الى الشام دون النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ؟ لكل وجهٍ قائل ، واللّه‏ العالم .

        وفي سنة (6188) تزوج النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بخديجة (رضي اللّه‏ عنها) ، وكان عمره الشريف آنذاك خمسا وعشرين سنة ، واما خديجة فهي بنت خويلد إبن اسد بن عبد العزى بن قصيّ بن كلاب .

        تزوجت أولاً بعتيق بن عاند المخزومي ، فولدت له ولدا سمّي جارية ، ثم تزوجت بعده بأبي هالة بن منذر الأسدي ، وولدت له هند بن أبي هالة ، فلمّا توفي اصبحت ذات ثروةٍ عظيمة فكانت تتجر بها حتى صارت من أثرياء قريش ، وقيل : كانت تُخرج ثمانين الفا من الابل للتجارة .

        وكان على سقف دارها قبّة من حرير أخضر مشدودة بحبال من الحرير ، وقصّة زواجها مع النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله معروفة ، وذكرها خارج عن هذا المختصر ، لكن نكتفي برواية واحدة .

        روى الكليني وغيره انّه : « لمّا أراد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أن يتزوّج خديجة بنت خويلد ، أقبل أبو طالب في أهل بيته ومعه نفر من قريش حتى دخل على ورقة بن نوفل عمّ خديجة ، فابتدأ أبو طالب بالكلام فقال :

        الحمد لربّ هذا البيت الذي جعلنا من زرع ابراهيم وذريّة اسماعيل وأنزلنا حرما آمنا ، وجعلنا الحكام على الناس ، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه ، ثم انّ إبن أخي هذا يعني رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ممّن لا يوزن برجل من قريش الاّ رجح به ، ولا يقاس به رجل الاّ عظم عنه ، ولا عدل له في الخلق ، وان كان في المال ، فانّ المال رفد جار ، وظلّ زائل ، وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة ، وقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها ، والمهر عليّ في مالي الذي سألتموه عاجله وآجله ، وله وربّ هذا البيت حظٌّ عظيم ، ودين شايع ، ورأي كامل .

        ثم سكت أبو طالب فتكلّم عمّها وتلجلج وقصر عن جواب أبي طالب ، وأدركه القطع والبهر وكان رجلاً من القسّيسين ، فقالت خديجة مبتدئة : يا عمّاه انّك وان كنت أولى بنفسي منّي في الشهود فلست أولى بي من نفسي ، قد زوجتك يا محمد نفسي ، والمهر عليّ في مالي ، فأمر عمّك فلينحر ناقة فليولم بها ، وأدخل على أهلك ، قال أبوطالب : أشهدوا عليها بقبولها محمدا وضمانها المهر في مالها .

 

(1) كمال الدين للصدوق : 187 ، البحار 15:200 .
(50)

 

        فقال بعض قريش : يا عجباه المهر على النساء للرجال ؟ فغضب أبو طالب غضبا شديدا وقام على قدميه ، وكان ممّن يهابه الرجال ويكره غضبه ، فقال : اذا كانوا مثل إبن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر ، واذا كانوا أمثالكم لم يزوجوا الاّ بالمهر الغالي ، ونحر أبو طالب ناقةً ودخل رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بأهله ، فقال رجل من قريش يقال له عبد اللّه‏ بن غنم :

 هنيئا مريئا يا خديجة قد جرت

 لك الطير فيما كان منك بأسعد

 تزوّجت خير البريّة كلها

 ومن ذا الذي في الناس مثل محمّد ؟

 وبشّرَ به البرّان عيسى بن مريم

 وموسى بن عمران فيا قرب موعد

 أقرّت به الكتّاب قدما بأنّه

 رسول من البطحاء هادٍ ومهتد »(1)

        وكانت ولادة أمير المؤمنين عليه‏السلام في سنة (6193) ـ كما سيأتي في الباب الثالث ـ وكان عمر النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ثلاثين سنة .

        وفي سنة (6198) لمّا صار عمره الشريف خمسة وثلاثين سنة ، هدّمت قريش الكعبة وبنوها من جديد وزادوا في طولها وعرضها ، ورفعوا جدرانها كما ذكر في محلّه .

        وفي سنة (6203) في اليوم السابع والعشرين من رجب الذي صادف في يوم النيروز ، بُعث النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وعمره الشريف أربعون سنة .

        روي عن الحسن العسكري عليه‏السلام انّه قال : « فلمّا استكمل أربعين سنة ونظر اللّه‏ عزوجل الى قلبه فوجده أفضل القلوب وأجلّها وأطوعها وأخشعها وأخضعها ، أذن لأبواب السماء ففتحت ومحمّد ينظر اليها ، وأذن للملائكة فنزلوا ومحمّد ينظر اليهم ، وأمر بالرحمة فنزلت عليه من لدن ساق العرش الى رأس محمد وغمرته ، ونظر الى جبرئيل الروح الامين المطوّق بالنور طاووس الملائكة هبط اليه وأخذ بضبعه وهزّه وقال : يا محمّد اقرأ ، قال : وما اقرأ ؟ قال : يا محمّد « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الاْءِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ـ الى قوله ـ ما لَمْ يَعْلَمْ »(2) ثم أوحى اليه ما أوحى اليه ربّه عزوجل ... »(3) .

        وفي رواية أخرى : « ثم أنزل اللّه‏ تعالى ، جبرائيل وميكائيل عليهماالسلام ، ومع كل واحد منهما سبعون الف ملك ، وأتى بالكرسي ووضع تاجا على رأس محمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وأعطى لواء الحمد بيده ، فقال : أصعد عليه وأحمد اللّه‏(4) ، فلمّا نزل عن الكرسي توجّه الى

 

 (1) البحار 16:13 ، وفروع الكافي 5:374 .
(2) العلق : 1 ـ 5 .
(3) التفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السلام : 156 ، سورة البقرة : 21 ، عنه البحار 17:309 .
(4) وفي رواية انّه كان من ياقوتة حمراء ، مرقاة من زبرجد ، ومرقاة من لؤلؤ (منه رحمه‏الله ) .
(51)

 

خديجة ، فكان كل شيء يسجد له ويقول بلسان فصيح : السلام عليك يا نبيّ اللّه‏ (السلام عليك يا رسول اللّه‏) ، فلمّا دخل الدار ، صارت الدار منوّرة فقالت خديجة : وما هذا النور ؟ قال : هذا نور النبوة ، قولي لا اله الا اللّه‏ محمدا رسول اللّه‏ ، فقالت : طال ما قد عرفت ذلك ، ثم أسلمت ، فقال : يا خديجة إنّي لأجد بردا ، فدثّرت عليه فنام فنودي :

        « يَآ أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنذِرْ ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ... »(1) .

        فقام وجعل اصبعه في أذنه وقال : اللّه‏ أكبر ، اللّه‏ أكبر ، فكان كل موجود يسمعه يوافقه »(2) .

        أظهر النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله دعوته في سنة (6207) بعد ما كان يدعوهم ثلاث سنين في الخفاء ... فجاءه جبرئيل بهذه الاية : « فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ »(3) .

        فذهب صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى جبل صفا وأنذر الناس ودعاهم الى الدين المبين وتلا عليهم القران ... ولاقى منهم الأذى والعذاب والمشقّة ، وذكره لا يناسب هذا المختصر ، وقد ذكرنا في النوع الخامس من معجزاته ما يناسب هذا المقام .

        وبدأ كفّار قريش بايذاء وتعذيب المسلمين ، وكانوا يلبسونهم الدروع ، ويوقفونهم في الشمس ليتبرّؤوا من محمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        وهاجر أصحاب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى الحبشة في سنة (6208) وذلك لمّا اشتدّت قريش في أذى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله واصحابه الذين آمنوا معه بمكّة ... فأمرهم رسول اللّه‏ بالهجرة الى أرض الحبشة ، والأحباش من أهل الكتاب ، والنجاشي ملك الحبشة يومئذٍ وكان لا يظلم أحدا ... وهذه هي اول هجرة وقعت لبعض المسلمين ، والهجرة الكبرى هي التي هاجر فيها رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من مكّة الى المدينة .

        ومن جملة من هاجر الى الحبشة ، عثمان بن عفّان وزوجته رقيّة ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة مع زوجته سهلة ، ورزقه اللّه‏ هناك محمد بن أبي حذيفة ، وهاجر أيضا الزبير بن العوام ، ومصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبو سلمة مع زوجته أم سلمة ، وعثمان بن مضعون ، وعامر بن ربيعة ، وجعفر بن ابي طالب رضى‏الله‏عنه مع زوجته اسماء بنت عميس ، وعمرو بن سعيد بن العاص وأخوه خالد مع زوجتيهما ، وعبد اللّه‏ بن جحش مع زوجته أم حبيبة بنت ابي سفيان ، وأبو موسى الاشعري ، وأبو عبيدة الجراح ، وجمع آخر يزيدون على ثمانين نفر .

 

(1) المدثّر : 1 ـ 2 .
(2) البحار 18:196 .
(3) الحجر : 94 .
(52)

 

        فخرجوا من مكّة في شهر رجب ، وركبوا السفينة متوجّهين الى الحبشة ، فأمنوا هناك من كيد المشركين وعبدوا اللّه‏ مطمئنين .

        قال أبو طالب يحضّ النجاشي على نصرة النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله :

 « تعلم مَليكُ الحبش أنّ محمّدا

 نبيّ كموسى والمسيح بن مريم

 أتى بالهدى مثل الذي أتيا به

 فكلٌّ بأمر اللّه‏ يَهدى و يعصم

 وانّكم تتلونه في كتابكم

 بصدق حديث لا حديث المرجّم

 وانّك ما يأتيك منّا عصابة

 بفضلك الاّ عاودوا بالتكرّم

 فلا تجعلوا للّه‏ ندّا وأسلِموا

 فانّ طريق الحقّ ليس بمظلم »(1) .

        وفي سنة (6209) بعد البعثة بخمس سنين ، ولدت فاطمة (صلوات اللّه‏ عليها) بنت رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، كما يأتي في الباب الثاني انشاء اللّه‏ .

        ودخل رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الشعب في سنة (6210) وذلك انّه لمّا أسلم حمزة وحمى النجاشي من عنده من المسلمين ، وكان المسلمون حينذاك في حمى ابي طالب ، اجتمعت قريش فيما بينهم ، وقرّروا بأجمعهم قتل محمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        فلمّا بلغ ذلك أبو طالب جمع بني هاشم وبني عبد المطلب ، ودخلوا الشعب المعروف بشعب أبي طالب ، واشترك جميع أولاد عبد المطّلب ـ مسلمون وغير مسلمين ـ في نصرة رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله واطاعة لأبي طالب ، وللنزعة القبلية عندهم ، الاّ أبولهب فانه أبى ذلك .

        فكان أبو طالب يحرس النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بالليل والنهار ، وجعل العيون على طرفي الوادي ، وكان أمير المؤمنين عليه‏السلام يبيت مكانه ، وكان حمزة يحرسه في كل ليلة ، فلمّا رأى ذلك كفّار قريش ، وعلموا انّه لا طريق لهم للوصول الى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، اجتمع اربعون نفرا من اكابرهم في دار الندوة ، وتعاهدوا على أن لا يؤاكلوا أحدا من بني هاشم ولا يكلموهم ، ولا يبايعوهم ، ولا يزوّجوهم ، ولا يتزوجوا منهم ، ولا يصالحوهم ، حتى يدفعوا اليهم محمدا ليقتلوه ، وكتبوا ذلك في صحيفة وختموها وجعلوها عند أم الجلاس خالة أبي جهل تحتفظ بها .

        وكان أهل مكة لا يجسرون على أن يبيعوا لبني هاشم شيئا ، ومن باع اليهم شيئا انتهبوا ماله وآذوه ، الاّ في موسم الحج فكانوا يخرجون من الشعب ويشترون الاطعمة لكن قريش لم ترض بهذا فكانوا يزيدون على السعر ويشترونه لأنفسهم .

        ولو أرسل أحد الى الشعب شيئا من الطعام بسبب القرابة آذوه ونهبوا ماله ، وكانوا يعذبون كل من خرج من الشعب .

        فممن أرسل الطعام الى الشعب هشام بن عمرو ، وحكيم بن حزام بن خويلد

 

 (1) اعلام الورى ، ص 55 ـ وقصص الانبياء للرواندي ، ص 323 ، وقد وردت في اربعة ابيات .
(53)

 

أخو خديجة ، وأبو العاص بن الربيع (ختن النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ) فكان يأتي بالبعير في الليل وعليها البرّ والتمر الى باب الشعب ، ثم يصيح بها فتدخل الشعب فيأكله بنو هاشم ، فقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فيه : « لقد صاهرنا أبو العاص فأحمدنا صهره » .

        وبقوا على ذلك ثلاث سنين حتى نالهم الجهد الشديد ، وسمعت أصوات الصبيان من الشعب وهم يتضاغون من الجوع ، فكره بعض المشركين ذلك ، وهم هشام بن عمرو ، وزهير بن اميّة بن المغيرة ، ومطعم بن عدي ، وأبو البختري ، وزمعة بن الاسود بن المطلب بن أسد .

        فهمّوا على نقض العهد وخرق الصحيفة ، فلمّا أتوا في صباح اليوم الثاني رأوا طواغيت قريش قد اجتمعوا في الكعبة ، فدار بينهم الحديث حول الصحيفة ، فاذا بأبي طالب خارج من الشعب مع ثلّة من قومه ، ودخل الكعبة وجلس ، فظنّ أبو جهل أن أبا طالب قد نفذ صبره مما لاقاه من المشاق والمصائب وجاء ليسلّم إبن أخيه ... فابتدأ أبو طالب بالكلام وقال :

        قد جئتكم في أمر لعلّ الصلاح يكون فيه ، فانّ إبن أخي قد أخبرني ولم يكذبني انّ اللّه‏ عزوجل قد بعث على صحيفتكم الارضة ، فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وتركت اسم اللّه‏ ، فابعثوا الى صحيفتكم فان كان صادقا فارجعوا عمّا أنتم عليه من الظلم والجور ، وان كان كاذبا فلكم عليّ أن أدفعه اليكم تقتلوه .

        فلمّا أتوا بها من أم الجلاس ، وفتحوها لم يجدوا فيها حرفا واحدا الاّ « باسمك اللهم » ... فأخذها مطعم بن عدي وخرقها وقال : نحن برآء من هذه الصحيفة القاطعة العادية الظالمة ، فرجع أبو طالب الى الشعب .

        وجاءه في اليوم الثاني الخمسة الذين تقدّم ذكرهم مع رهط من قريش ، فأخرجوا بني عبد المطلب من الشعب واسكنوهم بيوتهم لكن المشركين لم يكفّوا آذاهم عن المسلمين بعد ذاك ، ولاقى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله منهم ما لا يناسب ذكره هذا المختصر .

        وفي عام (6213) توفّى أبو طالب وخديجة ، اما أبو طالب فاتفقت وفاته في ستّة وعشرين من رجب في أواخر السنة العاشرة من البعثة ، فبكى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في هذه المصيبة ، وكان يتّبع جنازته ويقول : « وصلت رحما وجزيت خيرا يا عمّ » .

        وامّا خديجة (رضي اللّه‏ عنها) فانها توفت بعد ثلاثة أيام من وفاة ابي طالب ، وقيل بعد خمسة وثلاثين يوما ، ودفنها رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بيده في حجون مكة ... واغتمّ النبي بعد وفاتها كثيرا حتى قلّ خروجه من الدار ، وسمّى ذلك العام بعام الحزن .

        قال أمير المؤمنين عليه‏السلام في رثائهما :

 أَعَيْنَيَّ جودا بارك اللّه‏ فيكما

 على هالكين ما ترى لهما مثلاً

 على سيد البطحاء وإبن رئيسها

 وسيدة النسوان اوّل من صلّى

(54)

 

 مصابهما أدجى لي الجوّ والهوا

 فبتّ أقاسي منهما الهمّ والثكلى

 لقد نصرا في اللّه‏ دين محمد

 على من بغى في الدين قد رعيا الاّ

        ومن رثائه عليه‏السلام لأبي طالب :

 أبا طالب عصمة المستجير

 وغيث المحول ونور الظلم

 لقد هدّ فقدك أهل الحفاظ

 فصلّى عليك وليّ النعم

 ولقّاك ربك رضوانه

 فقد كنت للطهر من خير عمّ(1)

        لمّا توفّي أبو طالب زاد المشركون من خصومتهم وأذاهم للنبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، حتى انّ أحد السفهاء نثر التراب على رأسه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ولم يكن للنبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الاّ الصبر .

        وفي عام (6214) خرج النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى الطائف لدعوة أهلها للإسلام ، وذكرنا قصّته على نحو الاجمال في باب معجزاته في استيلائه على الشياطين والجنّ .

        وفي نفس العام تزوج صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من سودة (بفتح السين) بنت زمعة ، وهي اوّل امرأة تزوجها بعد خديجة ، ولم يتزوج عليها في حياتها ، ثم تزوج بعائشة وهي بنت ستّ سنين ، وكان زفافها في اوّل الهجرة ، وفي هذا العام أيضا دخل الانصار في الاسلام .

        وفي عام (6215) كان معراج النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        اعلم انّه ثبت بالايات الكريمة والاحاديث المتواترة أن اللّه‏ تعالى عرج برسوله الكريم في ليلة واحدة من مكة الى بيت المقدس ، ثم الى السماوات حتّى بلغ سدرة المنتهى والعرش الاعلى ، وأراه اللّه‏ من آيات السماوات والارض ، وعلّمه الاسرار الخفيّة والمعارف اللاّمتناهية ، وان النبي الكريم عَبَدَ اللّه‏ تعالى في البيت المعمور تحت العرش ولاقى الانبياء ، ودخل الجنّة ورأى منازل أهل الجنّة ، كل ذلك كان في ليلة واحدة ببدنه و بروحه لا بروحه فقط ، في اليقظة لا في المنام ، وعلى ذلك دلّت الاخبار المتواترة من طرق الخاصة والعامة ، ولا خلاف بين القدماء من علماء الشيعة في هذا المطلب .

        قال العلامة المجلسي : « ومن شك في جسمانية المعراج فشكّه ينشأ امّا من قلّة التتبع في آثار وأخبار النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله والائمة الطاهرين أو لعدم الاعتماد على أخبار حجج اللّه‏ والوثوق بشبهات غير المتدينين من الحكماء ، وإلاّ فأيّ داع للانسان المعتقد انكار وتأويل الاف الاحاديث الواردة بالطرق المختلفة في اثبات أصل المعراج وخصوصياته الصريحة في المعراج الجسماني ، بمجرد الاستبعاد وشبهات الحكماء الواهية ؟ ... »(2) .

        ولا ينافي ورود (عرجت بروحه) في بعض النسخ بدل (عرجت به) وهذا مثل

 

 (1) تذكرة الخواص لإبن الجوزى : 9 .
(2) حياة القلوب 3:699 ، البحار 18:289 .
(55)

 

قوله (جئتك بروحي) ببيان ليس هنا محل ذكره ، وقد ذكره شيخنا النوري في كتابه تحيّة الزائر(1) مفصّلاً .

        واعلم انّ المتفق عليه كون المعراج قبل الهجرة ، وهل كان في ليلة السابع عشر من شهر رمضان ، أو في ليلة أحدى وعشرين ، لستة أشهر قبل الهجرة ؟ أو كان في ربيع الاول لسنتين بعد البعثة ؟ فيه خلاف وأيضا الخلاف في مكان عروجه بأنه هل كان من بيت أم هاني ؟ أو من شعب أبي طالب ؟ أو من المسجد الحرام ؟ قال تعالى :

        « سُبْحَانَ الَّذي أَسْرى بِعَبْدِه لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الاْءَقْصَى »(2) .

        قيل : انّ المراد من المسجد الحرام مكة المعظمة بأسرها لا خصوص البيت لانها محل الصلاة والاحترام ، والمشهور على انّ المسجد الاقصى هو بيت المقدس ، ولكن الذي يظهر من الاحاديث الكثيرة انّ المراد منه هو البيت المعمور الذي يقع في السماء الرابعة وهو أبعد المساجد .

        ووقع الخلاف على انّ معراجه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كان مرّة واحدة أو مرّتين أو اكثر ، والظاهر من الاحاديث المعتبرة تعدده ، ويحمل عليه اختلاف رواية حديث المعراج .

        روى العلماء عن الامام الصادق عليه‏السلام انه قال :

        « عرج النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله مائة وعشرين مرّة ، ما من مرّة الاّ وقد أوصى اللّه‏ عزوجل فيها النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بالولاية لعليّ والائمة عليهم‏السلام اكثر مما أوصاه بالفرائض »(3) .

        قال البوصيري :

 سريتَ من حرم ليلاً الى حرم

 كما سرى البدر في داج من الظلم

 فظلتَ ترقى الى أن نلتَ منزلةً

 من قاب قوسين لم تدرك ولم ترم

 وقدمتك جميع الانبياء بها

 والرسل تقديم مخدوم على خدمه

 وانت تخترق السبع الطباق بهم

 في موكب كنت فيه صاحب العلم

 حتى اذا لم تدع شأوا لمستبقٍ

 من الدنو ولا مرقى لمستنم

        وفي عام (6216) وقعت بيعة العقبة الثانية لأهل المدينة ، وذلك انهم عاهدوا رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أن يحفظوه ويحرسوه كما يحفظوا أنفسهم ، وأن يمنعوه ما يمنعوا أنفسهم ، ثم ذهبوا الى المدينة ، فلمّا علم المشركون بهذا الأمر زاد حقدهم وغيظهم ، فاجتمع اربعون نفرا من دُهاتهم في دار الندوة للمشورة ، وظهر لهم الشيطان على هيئة شيخ من أهل نجد ، فصار رأيهم على أن يختاروا من كل قبيلة رجلاً ويسلّحوه حساما عضبا ، فيهجموا عليه بغتة ويقتلوه ، فيذهب دمه في قريش جميعا ، فلا يستطيع

 

(1) تحية الزائر : 290 ـ 263 .
(2) سورة الاسراء : 1 .
(3) الخصال 2:600 ، والبحار 18:387 .
(56)

 

بنو هاشم وبنو عبدالمطّلب مناهضة قبائل قريش في صاحبهم ، فيتركوا الامر الى الدية.

        فاجتمعوا في أول ليلة من شهر ربيع الاول حول دار النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ليهجموا عليه ويقتلوه في فراشه ، فهبط عليه جبرئيل وأخبره بمكرهم ، ونزلت هذه الاية المباركة :

        « وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذينَ كَفَروُا لِيُثْبِتوُكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أو يُخْرِجُوكَ ... »(1) .

        فأُمر أن يبيِّت عليا عليه‏السلام مكانه ويخرج هو الى المدينة ، فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لعلي عليه‏السلام : انّ الروح هبط عليّ يخبرني أنّ قريشا اجتمعت على قتلي ، وأمرني ربّي أن أهجر دار قومي ، وأن أنطلق الى غار ثور ، وانّه أمرني ان آمرك بالمبيت على مضجعي لتخفى بمبيتك عليه أثري ، فما أنت قائل وصانع ؟ فقال عليّ عليه‏السلام : أو تسلمن بمبيتي هناك يا نبيّ اللّه‏ ؟ قال : نعم ، فتبّسم علي عليه‏السلام ضاحكا وأهوى الى الارض ساجدا شكرا ، فكان أول من سجد للّه‏ شكرا ، فلما رفع رأسه قال : امض لما أمرت فداك نفسي ، ومرني بما شئت أكن فيه بمشيّتك وما توفيقيالاّ باللّه‏ ، ثم ضمّه النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى صدره وبكيا معا ، فأخذ جبرئيل يد النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وأخرجه من الدار وقرأ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله :

        « وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْديهِمْ سَدّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ »(2).

        ونثر التراب على وجوههم وقال : شاهت الوجوه ، وذهب الى غار ثور ، وفي رواية : انّه ذهب الى بيت امّ هاني ، وفي الصباح ذهب الى الغار .

        اما أمير المؤمنين عليه‏السلام فانّه بات تلك الليلة على فراش النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وتغشّى ببرده الأخضر الخضرمي ، فأراد المشركون الهجوم في الليل ، فمنعهم أبو لهب وقال : انّ في البيت نساءا وأطفالاً ، فنحرسه الليلة ونهجم عليه صباحا ، فعند ما أصبح الصباح دخلوا الدار ، فوثب عليّ عليه‏السلام في وجوههم ، فقالوا له : أين محمّد ؟ قال : أجعلتموني عليه رقيبا ، ألستم قلتم نخرجه من بلادنا ؟ فقد خرج عنكم ، فنزلت هذه الاية في حق عليّ عليه‏السلام :

        « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللّه‏ِ وَاللّه‏ُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ... »(3) .

        ومكث رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ثلاثة ايام في الغار ، ثم خرج في اليوم الرابع الى المدينة ، فحل بها في الثاني عشر من شهر ربيع الاول ، في السنة الثالثة عشرة من البعثة ، فصارت هذه الهجرة مبدأ تاريخ المسلمين .

        وفي السنة الاولى من الهجرة آخى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بين المهاجرين والانصار ، وجعل عليا عليه‏السلام أخاه ، وكان زفاف عائشة في شهر شوال منها .

« حوادث السنة الثانية للهجرة »

 

(1) الانفال : 30 .
(2) يس : 8 .
(3) البقرة : 207 .
(57)

 

        تحوّلت القبلة في هذه السنة من بيت المقدس الى الكعبة ، وتزوّج أمير المؤمنين عليه‏السلام بفاطمة (صلوات اللّه‏ عليها) ، ونزلت سورة هل أتى في حق أهل البيت ، وذُكرت فيها جميع أنواع النعم في الجنة الاّ الحور العين ، ولعل ذلك اجلالاً لفاطمة عليهاالسلام ، وفرض صيام شهر رمضان في هذه السنة في آخر شهر شعبان ، وصدر فيها حكم القتال مع المشركين ، وبعد سبعين يوما مضت من السنة الثانية وقعت غزوة الابواء ، والابواء قرية كبيرة ما بين مكة والمدينة وفيها قبر آمنة (رضي اللّه‏ عنها) أُمّ الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وفي جوارها قرية أخرى تسمى (ودّان) ـ بفتح الواو وتشديد الدال ـ ولذا سميّت هذه الغزوة أيضا بغزوة ودّان ، ورجع رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله منها من غير قتال وانتهى الامر الى الصلح ، وكانت الراية حينذاك بيد حمزة رضى‏الله‏عنه .

        وليعلم انّ الحروب التي شارك رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فيها تسمى غزوة ، والتي لم يشارك فيها تسمى سرية أو بعثة ، والسرية تحتوي على جمع من الجنود ، أقلّها تسعة واكثرها أربعمائة ، وقيل : السريّة أقلّها مائة وأكثرها خمسمائة ، وأكثر منها تسمى بالمنس ، واذا جاوزت الثمانمائة تسمى بالجيش ، واذا جاوزت الاربعة الاف تسمى جحفلاً .

        واختلفت الاقوال في عدد غزواته صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، قيل تسعة عشر ، وقيل سبعة وعشرون ، ولكن القتال وقع في تسعٍ منها .

        وفي شهر ربيع الآخر وقعت غزوة بواط ، وذلك انّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله خرج بمائتي رجل قاصدا قافلة قريش ، لكنّه رجع من دون أن يصيبها ، وبواط اسم جبل من جبال جهينة في ناحية رضوى ، ورضوى (بفتح الراء وسكون الضاء على وزن سكرى) جبل بين مكة والمدينة قرب ينبع ، وهو الذي تعتقد الكيسانيّة بوجود محمد بن الحنفية فيه حيا حتى يحين وقت ظهوره .

        ثم وقعت بعدها غزوة ذي العُشيرة ، والعشيرة (بضم العين وفتح الشين) موضع لقبيلة بني مُدلج (بضم الميم) بين مكة والمدينة ، وذلك ان النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله سمع بخروج ابي سفيان للتجارة الى الشام ، فلحقه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى ارض ذي العشيرة فلم يدركه ، فجاء اليه وفد من كبراء بني مدلج ، وانتهى الامر الى المصالحة والمهادنة .

        وفي شهر جمادى الاخرة من هذه السنة وقعت غزوة بدر الاولى ، وذلك لأن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله سمع انّ كُرز بن جابر الفهريّ خرج من مكّة مع رجال من قريش واغاروا على ضواحي المدينة ، ونهبوا ابلاً كانت لرسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وبعض المواشي والدواب لآخرين وساقوها الى مكة .

        فخرج رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في طلبه حتى بلغ واديا يقال له سفوان (بفتح الاول والثاني) من ناحية بدر ، وكان حامل اللواء عليّ عليه‏السلام ، فمكث صلى‏الله‏عليه‏و‏آله هناك قرب بئرٍ ثلاثة أيّام ، وبحث عن المشركين فلم يجدهم ، فرجع الى المدينة .

(58)

 

        ووقعت أيضا في هذه السنة ، غزوة بدر الكبرى وملخصها : انّه خرج مشركوا قريش كعتبة ، وشيبة ، والوليد بن عتبة ، وابي جهل ، وابي البختري ، ونوفل بن خويلد ، وجمع كثير من صناديد مكة ورجال الحرب فيها حيث بلغ عددهم تسعمائة وخمسين نفرا لقتال النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فخرجوا من مكة حاملين أدوات الطرب ، ومصطحبين النساء المغنيّات ، للهو واللعب ومعهم مائة فرس وسبعمائة بعير ، وكان على كل واحد من أكابر قريش اطعام الجيش في كل يوم بأن ينحر لهم عشرا من الابل .

        وخرج رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله مع ثلاثمائة وثلاثة عشر من اصحابه من المدينة الى ان وصلوا الى أرض بدر ـ وهي اسم بئر رمى المسلمون فيها قتلى المشركين ـ فلما وصل النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى هناك اشار الى الارض قائلاً : هنا مصرع فلان ، وهناك مصرع فلان ، فعدّد مصرع كل القتلى من صناديد قريش ، فكان كما قال .

        ولمّا وصل المشركون صعدوا على تلّ ونظروا الى جيش المسلمين مستخفين بهم ، والمسلمون أيضا نظروا الى العدو بعين الاحتقار والاستخفاف ، كما قال تعالى :

        « وَإذْ يُريكُمُوهُمْ إذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّه‏ُ أمْرا كَانَ مَفْعُولاً وَإلَى اللّه‏ِ تُرْجَعُ الاْمُوُرُ »(1) .

        وبعد رؤيتهم جيش النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله نزلوا خلف ذلك التلّ بعيدا عن الماء ، وبعثوا عمر بن وهب مع جماعة للتفحص وليرى هل للمسلمين كمين أو لا ، فجال بفرسه حتى طاف عسكر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يمينا وشمالاً ، ثم رجع وقال : « ما لهم كمين ولا مدد ، ولكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع ، اما ترونهم خرسا لا يتكلمون ، يتلمّظون تلمّظ الافاعي ، ما لهم ملجأ الا سيوفهم ، وما أراهم يولّون حتى يقتلوا ، ولا يقتلون حتى يقتلوا بعددهم ، فارتاؤوا رأيكم »(2) .

        فلما سمع هذا حكيم بن حزام حرّض عتبة على ترك الحرب والمصالحة ، فقال له عتبة : اذهب الى إبن الحنظليّة يعني ابا جهل ، وقل له أن يترك الحرب ويصالح ابناء عمّه ، فجاء حكيم الى ابي جهل وابلغه رسالة عتبة ، فقال أبو جهل : جبن وانتفخ سحره ، ويخاف على ابنه ابي حذيفة الذي في جيش المسلمين ، فجاء حكيم الى عتبة وأخبره بمقولة أبي جهل ، فلمّا تلاقى قال عتبة لأبي جهل : يا مصفرّا أسته ، مثلي يجبن ؟ ستعلم قريش أيّنا ألأم وأجبن .

        اما رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فانه وإن علم شقاء قريش وعدم تسليمهم ، لكن لأجل قوله تعالى : « وَإنْ جَنَحُوا لِلْسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا »(3) بعث اليهم رسولاً وقال : « يا معشر قريش

 

(1) الانفال : 44 .
(2) البحار 19:224 .
(3) الانفال : 61 .
(59)

 

انّي أكره ان أبدؤكم فخلّوني والعرب وارجعوا » .

        فقال عتبة : ما ردّ هذا قوم قطّ فأفلحوا ، يا معشر قريش انّ محمدا له إلٌّ وذمّةٌ ، فاسمعوا نصحه ، فغاظ ابا جهل قوله وقال له : ما هذه الغوغاء ؟ أمن خوف بني عبد المطلب تحتال الرجوع ؟ فغضب عتبة ونزل من ناقته ، وطلب من ابي جهل البراز ليعلم من الجبان ، فتوسط كبراء قريش بينهم لكن عتبة لردع تهمة الجبن عنه لبس درعه وشدّ عمامته ، وكان لا يلبس الخوذة لكبر رأسه .

        وتقدم هو وأخوه شيبة وابنه الوليد وجالوا في الميدان ، وكانت نيران الحرب قد اندلعت ، فطلبوا المبارز ، فبرز اليهم ثلاثة نفر من الانصار وانتسبوا لهم ، فقالوا : ارجعوا انّما نريد الاكفاء من قريش ، فأمر صلى‏الله‏عليه‏و‏آله عليا وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بالمبارزة ، فجاؤوا الى الميدان ولهم زئير كزئير الاسد ، قال حمزة : انا حمزة بن عبد المطلب اسد اللّه‏ واسد رسوله ، فقال عتبة : كفؤ كريم وانا اسد الحلفاء وانا اسد المطيبين ، فبرز عليّ عليه‏السلام للوليد ، وحمزة لشيبة ، وعبيدة لعتبة ، فقال علي عليه‏السلام :

 انا ابن ذي الحوضين عبد المطلب

 وهاشم المطعم في العام السغب

أوفي بميثاقي وأحمي عن حسب

        فحمل عليه‏السلام على الوليد ، فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من أبطه ، قيل : أخذ الوليد يده المقطوعة وضرب بها رأس عليّ عليه‏السلام ، ثم ذهب الى ابيه هاربا ، فشدّ عليه عليه‏السلام ، فضرب فخذه فسقط ميّتا .

        وتقدم حمزة وشيبة فتكادما الموت طويلاً حتى تكسرت سيوفهما ودروعهما ، وأخذا يتصارعان ، فقال المسلمون : يا عليّ أما ترى الكلب قد بهر عمّك ؟ فحمل عليه‏السلام وقال : يا عمّ طأطيء رأسك ، وكان حمزة أطول من شيبة ، فأدخل حمزة رأسه في صدره فضربه عليّ عليه‏السلام فطرح نصفه ، اما عبيدة فانه ضرب رأس عتبة فشقّه ، وضرب عتبة رجل عبيدة فقطعها ، فجاء أمير المؤمنين عليه‏السلام الى عتبة وبه رمقٌ فأجهز عليه وقتله ، ولذا قال لمعاوية : « وعندي السيف الذي أعضضته بجدّك وخالك وأخيك في مقام واحد »(1) .

        فحمل حمزة وعليّ عبيدةَ الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فبكى كثيرا حتى سالت دموعه على وجه عبيدة ، وقد سال مخ ساقه منها .

        فاستشهد عند رجوعهم الى المدينة في أرض روحاء أو صفراء ، ودفن هناك وكان أسنّ من رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بعشر سنين ، وهذه الاية نزلت في حقهم :

        « هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيبٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ

 

(1) نهج البلاغة ، الكتاب رقم 64 .
(60)

 

فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ »(1) .

        ووقع الرعب في قلوب المشركين وفي قلب ابي جهل بعد قتل هؤلاء الثلاثة ، وكان يحرّضهم على القتال ، فجاء ابليس في صورة سراقة بن مالك وقال :

        انّي جارٌ لكم أدفعوا اليّ رايتكم ، فدفعوا اليه راية الميسرة ، وركض امامهم وشوقهم على القتال ، فنظر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وقال لاصحابه : « غضّوا أبصاركم وعضّوا على النواجذ » ثم دعا وطلب النصر من اللّه‏ ، فأرسل اللّه‏ الملائكة لنصرتهم ، قال تعالى :

        « وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه‏ُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ـ الى قوله ـ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوَّمِينَ »(2) .

        فلما رأى ابليس الملائكة ولّى هاربا ، وضرب الراية على الارض ونكص على عقبيه ، فجاءه منبِّه بن الحجاج وأخذ رداءه وقال :يا سراق أين أتخذلنا في هذه الحالة ؟ فضرب على صدره وقال : انّي أرى ما لا ترى ، قال تعالى :

        « فَلَمَّا تَرَاءَتِ الفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إنِّي أَخَافُ اللّه‏َ وَاللّه‏ُ شَدِيدُ العِقَابِ »(3) .

        وكان عليّ عليه‏السلام يهجم على القوم كالليث الغضبان ، حتى قتل منهم ستة وثلاثين رجلاً ، وقد روي عنه عليه‏السلام انّه قال : « لقد عجبت يوم بدر من جرأة القوم ، وقد قتلت الوليد بن عتبة اذ أقبل حنظلة بن ابي سفيان ، فلما دنا مني ضربته ضربة بالسيف ، فسالت عيناه ولزم الارض قتيلاً »(4) .

        وقُتل سبعون رجلاً من أبطال قريش في تلك المعركة ، منهم : عتبة ، وشيبة ، والوليد بن عتبة ، وحنظلة بن ابي سفيان ، وطعيمة بن عدي ، والعاص بن سعيد ، ونوفل بن خويلد ، وأبو جهل .

        ولمّا رأى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله رأس ابي جهل مقطوعا سجد للّه‏ شكرا ، ثم انهزم جيش المشركين فلحقهم المسلمون ، وأسروا منهم سبعين نفرا ، وكانت هذه الحادثة في اليوم السابع عشر من شهر رمضان .

        كان النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط في جملة الاسرى ، فأمر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بقتلهم ، وقد كانوا من أعداء النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وعقبة هو الذي تفل على وجه النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بمشورة أمية بن خلف الذي قُتل أيضا .

        ولمّا قتل النضر على يد أمير المؤمنين عليه‏السلام رثته اخته بقصيدة من جملتها هذه

 

(1) الحج : 19 .
(2) آل عمران : 123 ـ 125 .
(3) الانفال : 48 .
(4) الارشاد للمفيد : 41 ، البحار 19:280 ، كشف الغمّة : 185 ، مع اختلاف يسير .
(61)

 

الابيات :

 أمحمد يا خير ضن‏ءِ كريمة

 في قومها والفحل فحلٌ معرق

 ما كان ضرّك لو مننت وربما

 منّ الفتى وهو المغيظ المحنق

 فالنضر أقرب من أسَرْتَ قرابة

 وأحقّهم ان كان عتق يُعتق

        وفي رواية : ان رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لمّا بلغه هذا الشعر قال : لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه(1) .

        ووقعت في هذه السنة غزوة بني قينقاع ، في النصف من شهر شوال بعد مضي عشرين شهرا للهجرة ، وقينقاع (بفتح القاف وسكون الياء) طائفة من يهود المدينة .

        اعلم انّ الكفار انقسموا بعد هجرة النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى ثلاثة اقسام :

        قسم منهم : عاهدوا ان لا يحاربوا رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ولا يساعدوا اعداءه ، وهم يهود بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع ، والقسم الثاني : حاربوا النبي وعادوه ، وهم كفار قريش ، والقسم الثالث : اعتزلوا الفريقين واخذوا جانب الحياد ، فكانوا ينتظرون لمن يكون الامر حتى يكونوا معه وهم طوائف العرب ، لكنّ قسما منهم كان يميل الى الرسول في الباطن ، ويحب ظهوره كقبيلة خزاعة ، وقسما منهم على العكس كبني بكر ، وقسما يظهر المحبة والولاء ويكتم الحقد والحسد كالمنافقين ، فكان بنو قينقاع اول طائفة نقضت عهدها وذلك :

        « انّ امرأة من العرب قدمت بِجَلَبٍ(2) لها فباعته بسوق بني قينقاع فجلست الى صائغ بها ، فعمد الصائغ الى طرف ثوبها ، فعقده الى ظهرها ، فلمّا قامت انكشفت سوءتها ، فضحكوا بها فصاحت ، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ، وكان يهوديا ، وشدّت اليهود على المسلم فقتلوه ... »(3) .

        فجمع رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كبراءهم وحذّرهم من نقض العهد وقال : احذروا من اللّه‏ مثل ما نزل بقريش من النقمة ، وأسلموا فانّكم قد عرفتم انّي نبيّ مرسل ، فقالوا : يا محمد انّك ترى انّا قومك ؟ لا يغرنّك انّك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصةً ، انّا واللّه‏ لئن حاربناك لتعلمن انّا نحن الناس ، فنزل جبرئيل صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بهذه الاية :

        « وَإمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ الَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ...»(4) .

        فاستخلف صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أبا لبابة مكانه في المدينة ، وأعطى الراية بيد حمزة رضى‏الله‏عنه وخرج اليهم ، فانهزم اليهود الى قلاعهم خوفا من الحرب ، فحوصروا خمسة عشر يوما حتى

 

(1) سيرة إبن هشام 3:44 .
(2) الجلب (بتحريك اللام) كلّ ما يجلب للأسواق ليباع فيها .
(3) سيرة إبن هشام 3:51 ، السيرة الحلبية 2:208 ، البداية والنهاية 4:463 .
(4) الانفال : 58 .
(62)

 

ضاق عليهم ، فخرجوا من حصونهم ناكسي رؤوسهم ، ترهقهم الذلّة فأمر صلى‏الله‏عليه‏و‏آله منذر بن قدامة أن يشدّ أيديهم ويوثقهم بالاغلال ، وكانوا سبعمائة رجلٍ وأراد قتلهم ، فأصرّ عبد اللّه‏ بن ابيّ كبير المنافقين على الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أن يحسن اليهم ولا يقتلهم ، فعند ذلك أمرهم رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أن يخرجوا من وطنهم ، ويدعوا اموالهم وضياعهم ودورهم ، فذهبوا الى أذرعات الشام .

        وكانت في هذه السنة في شهر شوال غزوة قرقرة الكدر (بقافين مفتوحتين وكاف مضمومة) وهو ماء لبني سليم يبعد ثلاثة منازل عن المدينة .

        وذلك ان النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله علم باجتماع رهط من بني سليم وبني غطفان في قرقرة الكدر للاغارة على المسلمين ليلاً ، فخرج صلى‏الله‏عليه‏و‏آله اليهم بمائتي رجل معطيا الراية الى عليّ عليه‏السلام ، فلمّا وصل الى هناك لم يجدهم ولم يلق كيدا فرجع الى المدينة ، وقيل انها كانت في السنة الثالثة للهجرة .

        وفي السنة الثانية أيضا كانت غزوة السويق في العشرة الاخيرة من ذي القعدة أو في ذي الحجّة من هذه السنة ، وذلك انّ ابا سفيان نذر أن لا يمس رأسه من جنابة حتى يغزو محمدا صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فخرج في مائتي راكب من قريش ليبرّ بيمينه ، حتى وصلوا الى ناحية يقال لها العريض ، فقتلوا رجلاً من الانصار يقال له معبد (بفتح الميم وسكون العين) بن عمرو مع أجيره ، وحرقوا بيتا أو بيتين مع بعض النخيل ، ثم انصرفوا راجعين وظنّ اباسفيان انّه وفى بنذره ... ، فلمّا سمع بذلك رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله خلّف ابا لبابة مكانه وخرج مسرعا في مائتي رجل اليهم حتى بلغ قرقرة الكدر ، فلمّا سمع أبو سفيان بخروج رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في طلبه خاف وأسرع هاربا ، وأمر رجاله بالقاء ما معهم من الزاد والاسراع في الهرب ، فلمّا أدرك المسلمون ذلك الموضع كان أبو سفيان قد فاتهم ، ورأوا متاع المشركين وقد القوه الى الارض خوفا من المسلمين ، ولذلك سميت بغزوة ذات السويق ، وكانت مدة هذه الغزوة خمسة أيّام ، وقيل انها كانت في السنة الثالثة للهجرة .

        وكانت ولادة الامام الحسن عليه‏السلام في هذه السنة على قولٍ ، وقيل في السنة الثالثة ، وسيأتي تفصيلها في الباب الرابع .

« حوادث السنة الثالثة للهجرة »

        في هذه السنة كانت غزوة غطفان (بفتح الغين وسكون الطاء) وسميت بغزوة ذي أَمَرّ وغزوة أنمار أيضا ، وهي أرض في ناحية نجد ، وكان سبب هذه الغزوة أن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بلغه أن جمعا من بني ثعلبة ومحارب مجتمعون في ذي أَمَرّ ، يريدون أن يصيبوا من أطراف المدينة وعليهم رجل يقال له دعثور بن الحارث وعلى قول الخطيب : غَوْرَث .

(63)

 

        فخرج صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في اربعمائة وخمسين رجلاً ، فهرب دعثور ورجاله الى ذرا الجبال ولم يصب المسلمون احدا الا رجلاً من بني ثعلبة ، فجاؤوا به الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فعرض عليه الاسلام فأسلم ، ثم أصابهم مطر غزير ، حتى بلّت ثيابهم وتقاطر الماء منها ، فنزع صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ثيابه ونشرها على شجرة لتجفّ ، ثم اضطجع تحتها ... فجاءه دعثور شاهرا سيفه وقال : « يا محمد من يمنعك منّي اليوم » قال : اللّه‏ ، ودفعه جبرئيل في صدره فوقع السيف من يده ، فأخذه رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وقام على رأسه فقال : من يمنعك منّي ؟ قال : لا أحد وأنا أشهد أن لا اله الا اللّه‏ وأن محمدا رسول اللّه‏ ، فأعطاه رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله سيفه ، فأقبل على قومه وجعل يدعوهم للاسلام ، ونزلت هذه الاية :

        « يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه‏ِ عَلَيْكُمْ إذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ... »(1) .

        فرجع صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى المدينة ، وكانت مدة هذه الغزوة واحدا وعشرين يوما ، وقيل في هذه السنة قتل كعب بن أشرف اليهودي في الرابع عشر من ربيع الاول ، وكان شديدا على المسلمين وهو الذي هجا النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        وفي هذه السنة وقعت غزوة البحران (بالحاء المهملة على وزن سكران) وبحران موضع في ناحية الفرع (بضم الفاء) والفرع قرية من قرى الربذة ، وذلك انّ جمعا من بني سليم تجمّعوا ببحران ، فبلغ ذلك رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فسار اليهم في ثلاثمائة ، فلمّا صار الى بحران وجدهم قد تفرقوا ، فانصرف ولم يلق كيدا .

        وفي السنة الثالثة أيضا كانت ولادة الامام الحسين عليه‏السلام ، وتزوج صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فيها حفصة في شهر شعبان وزينب بنت خزيمة في شهر رمضان .

        وفي السنة الثالثة أيضا كانت غزوة (احد) في شهر شوال وهو جبل معروف بالقرب من المدينة ، يبعد عنها فرسخا واحدا ، وذلك انّ قريشا زادت من حقدها وبغضها للمسلمين بعد واقعة بدر ، وما برحت تستعد للحرب حتى جمعت خمسة الاف رجل مع ثلاثة الاف بعير ومائتي جواد ، فخرجوا يطلبون الحرب مع رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وصحبوا بعض النساء معهم ليبكين على القتلى ، ويثرن الحمية في قلوب الرجال ، ويشجّعنهم على القتال ، فلمّا بلغ ذلك رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله خرج مع اصحابه اليهم ، وتلاقوا في احد ، فجعل صلى‏الله‏عليه‏و‏آله جبل احد خلفه وجبل عينين على شماله ، والمدينة أمامه ، وكان في جبل عينين ثغرةٌ يخاف الكمين منها ، فجعل صلى‏الله‏عليه‏و‏آله عبد اللّه‏ بن جبير عليها وقال له :

        « ان رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تبرحوا من هذا المكان ، وان رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا وألزموا مراكزكم »(2) .

 

(1) سورة المائدة : 11 .
(64)

 

        فلمّا سوى الصفوف قام وخطب فقال :

        « ايها الناس أوصيكم بما أوصاني به اللّه‏ في كتابه من العمل بطاعته ، والتناهي عن محارمه (وساق الخطبة الشريفة الى قوله) قد بين لكم الحلال والحرام ، غير انّ بينهما شبها من الامر لم يعلمها كثير من الناس الاّ من عصم ، فمن تركها حفظ عرضه ودينه ، ومن وقع فيها كان كالراعي الى جنب الحمى أوشك أن يقع فيه وما من ملك الاّ وله حمى ، الا وأنّ حمى اللّه‏ محارمه ، والمؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد اذا اشتكى تداعى عليه سائر جسده ، والسلام عليكم »(1) .

        اما المشركون فانهم استعدوا للحرب وسوّوا الصفوف ، وجعلوا خالد بن الوليد مع خمسمائة رجل على الميمنة ، وعكرمة بن ابي جهل مع خمسمائة رجل على الميسرة ، وصفوان بن امية مع عمرو بن العاص على الفرسان ، وعبد اللّه‏ بن ربيعة على الرماة ، وكانوا مائة رامي ، وقدّموا هبل وهو على بعير ، وحملوا النساء خلفهم ، واعطوا الراية الى طلحة بن أبي طلحة .

        فسأل رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله عن حامل لواء المشركين قيل نفرٌ من بني عبد الدار ، فقال : نحن أحق بالوفاء منهم ، فدعا مصعب بن عمير من بني عبد الدار وأعطاه اللواء ، فكان يحمله أمام النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، ثم جاء طلحة بن أبي طلحة كبش الكتيبة وصاحب راية المشركين وطلب المبارزة ، فبرز اليه أمير المؤمنين عليه‏السلام وهو يرتجز فقال له : من أنت يا غلام ؟ قال : انا عليّ بن ابي طالب ، قال : قد علمت يا قضم انّه لا يجسر عليّ احدٌ غيرك ، فشدّ عليه طلحة وضربه فاتقاه أمير المؤمنين عليه‏السلام بالدرع ، ثم ضربه عليه‏السلام على مقدم رأسه ، فشجّه وسال مخّه منه وصرع على الارض ، وبدت عورته ، وحلّفه بالرحم ، فانصرف عليّ عليه‏السلام عنه ... ففرح رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بقتله وكبّر ، فكبّر المسلمون معه ... ثم جاء بعد طلحة أخوه مصعب ورفع اللواء ، فقتله علي عليه‏السلام فجاء كل من كان من بني عبد الدار فقتلوا حتى لم يبق منهم احد ، فجاء عبد لهم يسمى صوأب ، ورفع الراية ، فقتله أمير المؤمنين عليه‏السلام وألحقه بمواليه .

        قيل انّ صوأب كان غلاما حبشيا ، عظيم الجثة كأنه برج ، فلمّا قتل مواليه احمرّت عيناه وكان الزبد يسيل من فمه ، فأقسم الاّ يقتل الا محمدا صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فهابه المسلمون ، فخرج اليه أمير المؤمنين عليه‏السلام فضربه ضربة شقّ بها ظهره ووقع على الارض نصفين ، ثم هجم المسلمون على المشركين فهزموهم ، وسقط هبل من على الجمل ، فأكبّ المسلمون على الغنائم ، فلمّا رأى اصحاب الثغرة ذلك ، عصو أمر الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وأمَرَ قائدهم عبد اللّه‏ بن جبير ، ونزلوا لأخذ الغنائم ، وتركوا عبد اللّه‏ مع

 

(1) البحار 20:46 .
(2) شرح نهج البلاغة لابن ابي حديد 14:232 ، البحار 20:126 .
(65)

 

عشرة من اصحابه هناك .

        فلمّا رأى خالد ذلك ، خرج من الكمين مع عكرمة بن ابي جهل في مائتي فارس ، فقتل عبد اللّه‏ ومن معه ، وهجم من الخلف على المسلمين ، فبادر بقتلهم ورفعت راية المشركين ، ونادى ابليس وقد تصور في صورة جعيل بن سراقة : الا انّ محمدا قد قتل ، فاضطرب المسلمون لهذا النداء ، وأخذ بعضهم يضرب بعضا حتى قتل يمان والد حذيفة ، وتركوا رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وراء ظهورهم ، وولّوا مدبرين .

        وجاء أمير المؤمنين عليه‏السلام يحمي النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يمينا وشمالاً حتى اصيب بتسعين جرحا في وجهه وصدره ويده ورجله ، ونادى منادٍ من السماء : « لا فتى الا عليّ ولا سيف الا ذو الفقار » وقال جبرئيل لرسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : هذه مواساة ومروّة من عليّ لك ، فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : انّه منّي وانا منه ، فقال جبرئيل عليه‏السلام : وانا منكما .

        قيل ان عبد اللّه‏ بن قميئة توجه الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يريد قتله ، فذّب مصعب بن عمير ـ صاحب راية المسلمين ـ عن الرسول حتى قطعت يده اليمنى ، فأخذ الراية بشماله فقطعت ، فلمّا استشهد جاء ملك في صورته ورفع الراية ، ثم رمى عبد اللّه‏ بن قميئة رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بحجر فكسر انفه ورباعيته وشجّه في وجهه ، فكان صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يمسح الدم مخافة ان يسقط على الارض ، وينزل اللّه‏ العذاب وهو يقول :

        « كيف يفلح قوم شجّوا نبيهم وهو يدعوهم الى اللّه‏ » .

        ثم رمى عتبة إبن ابي وقاص الرسول بحجر فكسر اسنانه ، و ضرب بعضهم النبي بالسيف فلم يؤثر فيه لانه كان لابسا درعين ، وقيل : أصابه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله سبعون ضربة بالسيف لكن اللّه‏ وقاه وحفظه منها جميعا ، فكان يقول : اللهم اغفر لقومي فانّهم لا يعلمون .

        امّا حمزة رضى‏الله‏عنه فقد استشهد على يد وحشي ، عبد جبير بن مطعم ، وذلك انّ حمزة بينا كان يهجم على المشركين كالليث الغضوب ويقتلهم ويبددهم ، رماه وحشي بحربة في خاصرته فخرجت من مثانته ، فسقط على الارض واستشهد ، وقيل ضربه في عانته ، ثم اتاه وحشي فشقّ صدره ، وأخرج كبده وجاء به الى هند زوجة ابي سفيان ، فأخذته ووضعته في فمها فجعله اللّه‏ كالحجر ، فرمته من فيها وأبى اللّه‏ أن يدخل جزءا من جسمه الشريف في جوف كافر ، ولذا سميت بآكلة الاكباد .

        ثم جاءت الى مصرع حمزة فقطعت أذنيه وبعض اعضائه ، فشدتهما في عنقها فتأست بها نساء قريش وذهبن الى مصارع المسلمين ، وأخذن يمثلن بهم ويجعلن اعضاءهم حليّا وأسورة ، ثم جاء أبو سفيان الى مصرع حمزة وجعل يضرب فمه برأس النبل ويقول : ذق يا عقق(1) .

 

 

(1) ذق يا عقق : أي ذق جزاء فعلك يا عاق .
(66)

 

        فقال حليس بن علقمة : « يا معشر بني كنانة انظروا الى من يزعم انّه سيد قريش ما يصنع بابن عمّه الذي قد صار لحما »(1) ، فاستحى أبو سفيان وخجل وقال : استرها عليّ .

        واستشهد في هذه الغزوة سبعون رجلاً من اصحاب النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بعدد أسارى بدر من الكفار ، بعد أن رضي المسلمون منهم بالفدية دون قتلهم على أن يستشهد منهم في السنة القادمة بعددهم ، ولما وصل خبر استشهاد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى المدينة خرجت اربع عشرة امرأة من نساء أهل البيت وأقاربهن ، وفيهن فاطمة الزهراء عليهاالسلام الى احد ، فجاءت عليهاالسلام الى ابيها واعتنقته وأخذت تبكي لمّا رأت جراحاته الكثيرة ، فكان علي عليه‏السلام يجيء بالماء في ترسه وفاطمة تغسل الدم عن وجهه ، فلما رأت الدم لا يرقأ أخذت قطعة حصير فاحرقته حتى صار رمادا ، ثم الصقته بالجرح حتى تماسك وكان صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يداوي الجرح في وجهه بعظم بال حتى يذهب أثره .

        روى علي بن ابراهيم القمي انّه :

        « قال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : من له علم بعمّي حمزة ، فقال حارث بن الصمة (بكسر الصاد وتشديد الميم) أنا أعرف موضعه ، فجاء حتى وقف على حمزة فكره أن يرجع الى رسول اللّه‏ فيخبره ، فقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لأمير المؤمنين عليه‏السلام : يا عليّ اطلب عمّك ، فجاء عليّ عليه‏السلام فوقف على حمزة فكره أن يرجع اليه ، فجاء رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله حتى وقف عليه ، فلمّا رأى ما فعل به بكى ثم قال : واللّه‏ ما وقفت موقفا قط أغيظ عليّ من هذا المّكان ، لأن امكنني اللّه‏ من قريش لامثلن بسبعين رجلاً منهم ، فنزل عليه جبرئيل عليه‏السلام فقال :

        « وَإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهْ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصَّابِرِينَ »(2) .

        فقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : بل أصبر ، فألقى على حمزة بردة كانت عليه ، فكانت اذا مدّها على رأسه بدت رجلاه واذا مدّها على رجليه بدا رأسه ، فمدّها على رأسه والقى على رجليه الحشيش ، وقال : لو لا انّي احذر نساء بني عبد المطلب لتركته للعادية والسباع حتى يحشر يوم القيامة من بطون السباع والطير ، وامر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بالقتلى فجمعوا فصلّى عليهم ودفنهم في مضاجعهم ، وكبّر على حمزة سبعين تكبيرة(3) .

        قيل : أمر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أن يدفن حمزة وعبد اللّه‏ بن جحش ـ إبن اخته ـ في قبر واحد ، وكذلك أمر أن يدفن عبد اللّه‏ بن عمرو بن حرام أبو جابر مع عمرو بن الجموح في قبر واحد ، وهكذا دُفِن كلٌّ مع صاحبه ، فكان يدفن في قبر واحد اثنان أو ثلاثة من

 

(1) البحار 20:97 .
(2) سورة النحل : 126 .
(3) تفسير القمي 1:123 .
(67)

 

الشهداء ، وكانوا يدفنون مع ثيابهم الملطّخة بالدماء ، وكان صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يقول :

        « زمّلوهم في ثيابهم ودمائهم فانّه ليس من كلمٍ كُلم في اللّه‏ الاّ وهو يأتي اللّه‏ يوم القيامة واللون لون الدم والريح ريح المسك » .

        وورد في الحديث : انّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كفّن حمزة لانّه سلبت ثيابه وكان عاري الجسد(1) ، وقيل انّ قبر عبد اللّه‏ وعمرو كان مما يلي السيل ، فلمّا جاء السيل على قبرهما أتى بجثة عبد اللّه‏ ، وكان قد أصابه جرح في وجهه فيالمعركة وكانت يده على وجهه ، فاميطت يده عن جرحه فسال الدم ، فردّت الى مكانها فسكن الدم .

        قال جابر : رأيت أبي بعد ست وعشرين سنة في حفرته كأنه نائم ما تغيّر من حاله كثير ولا قليل ، والحرمل الذي كان على رجليه باق كهيئته .

        ولمّا انصرف الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى المدينة كانت القبائل تخرج اليه وتحمد اللّه‏ على سلامته وتنسى قتلاها ، فخرجت الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كبيشة ام سعد بن معاذ ، فقال سعد وبيده زمام جواد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : يا رسول اللّه‏ هذه أمّي أتت اليكم ، فلمّا دنت عزّاها رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بمصاب ابنها عمرو بن معاذ ، فقالت : لا تؤلمني هذه المصائب في جنب سلامتك ، فدعا لها الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بالاجر وتخفيف الحزن ، ثم أمر صلى‏الله‏عليه‏و‏آله سعد بن معاذ أن يصرف الجرحى من قومه الى منازلهم لمداواتهم .

        فذهب الجرحى الى بيوتهم وهم ثلاثون بامر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وكان البكاء يسمع من اكثر بيوت المدينة ، فلما سمع رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بكاء النوائح على قتلاهنّ ترقرقت عيناه وبكى ، ثم قال : لكن حمزة لا بواكي له اليوم ، فلمّا سمعه سعد بن معاذ وأسيد بن حُضير ، قالا لنساء الانصار : لا تبكينّ امرأة حميمها حتى تأتي الى فاطمة عليهاالسلام فتواسيها في البكاء على حمزة ثم تبكي على قتيلها .

        فلمّا سمع رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الواعية على حمزة قال : ارجعن رحمكنّ اللّه‏ فقد آسيتنّ بانفسكنّ . فاتخذت سنّة ، انّه اذا مات الميت منهم بدأن البكاء على حمزة ثم بكين على ميتهنّ .

        وكانت هذه الواقعة في النصف من شوال في السنة الثالثة للهجرة ، وقيل انّ قريشا وصلت الى احد في الخامس من شوال في يوم الخميس ، وبدأت الحرب في يوم السبت ، واللّه‏ العالم .

        ثم كانت غزوة حمراء الاسد ، وهو موضع يبعد عن المدينة ثمانية أميال .

        وملخّصها انّ الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله احتمل رجوع قريش وهجومهم على المدينة مرّة ثانية ، فأمر بلالاً أن ينادي ويبلّغهم حكم اللّه‏ القادر القهار في من شهد القتال في معركة أحد ومن جرح فيها أيضا ، وهو وجوب خروجهم الى العدو ، فترك الجرحى علاجهم

 

(1) الكافي 3:210 .
(68)

 

ولبسوا السلاح فوق جروحهم وأخذ الراية عليّ بن ابي طالب عليه‏السلام ، مع انّه عليه‏السلام قد أصابه ثمانون جرحا في تلك الواقعة كما ورد في الخبر ، وكانت بعض جراحاته عميقة الى درجة تدخل فيها الفتيلة ، وبكى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لمّا رآه في تلك الحال وكان عليه‏السلام ممددا على نطع ، لكنّه خرج مع كل هذه الالام وبقي مع النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله اياما في حمراء الاسد ، وفي الرجوع ظفروا بمعاوية بن المغيرة الاموي وأبي عزّة الجُمحي ، وكان أبو عزّة قد أسر في بدر لكن الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله اطلق سراحه رحمةً به ، وأخذ عليه العهود أن لا يقاتله ولا يعين على قتاله ، لكنه نكث العهد وخرج مع المشركين يوم أحد ، فلمّا أتى به رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قال : يا محمد امنن عليّ فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : « المؤمن لا يلدغ من جحرٍ مرّتين » فأمر بقتله ، فقتل .

« حوادث السنة الرابعة للهجرة »

        في هذه السنة وفي شهر صفر قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر الملقّب بملاعب الاسنّة على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من اراضي نجد الى المدينة ، وكان سيد قبيلة بني عامر بن صعصعة ، فعرض عليه رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الاسلام فلم يسلم وقال : يا محمد انّ أمرك هذا الذي تدعوا اليه حسن جميل ، فلو بعثت رجالاً من أصحابك الى أهل نجد فيدعوهم الى أمرك ، رجوت ان يستجيبوا لك .

        فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : انّي أخشى عليهم أهل نجد فقال أبو براء : انا لهم جار فابعثهم فليدعوا الناس الى أمرك ، فبعث صلى‏الله‏عليه‏و‏آله سبعين نفرا وقيل أربعين من خيار أصحابه ، منهم : منذر بن عمرو ، وحرام (بكسر الحاء مثل كتاب) بن ملحان (بكسر الميم) مع أخيه سليم (مثل زبير) والحارث بن الصمّة (بكسر الصاد) وعمر بن فهيرة (كجهينة) ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي ، وعمرو بن اميّة الضمري (بفتح الضاد وسكون الميم) وغيرهم من وجهاء الصحابة والقراء والعباد ، من الذين كانوا يجمّعون الحطب في النهار وينفقوا ثمنه على اصحاب الصفة ، ويقومون في الليل الى السواري للصلاة ، وكانوا يجمعون الحطب لنساء النبي أيضا ، فأمر صلى‏الله‏عليه‏و‏آله على هذه السريّة منذر بن عمرو ، وأرسل معهم رسالة الى كبراء نجد وقبيلة بني عامر يحثّهم فيها على تعلم شريعة الاسلام .

        فساروا حتى نزلوا بئر معونة (بفتح الميم وضم العين) ـ وهي بئر بين ارض بني عامر وحرّة بني سليم في نجد ـ وعسكروا بها ، وسرحّوا ظهرهم وأعطوا الابل الى رجل من الانصار يقال له عمرو بن امية ، وقيل الى الحارث بن الصمة ليعلفها ، ثم أخذ حرام بن ملحان رسالة النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ليبلغها عامر بن الطفيل بن مالك العامري إبن أخي عامر بن مالك ، فلمّا اتاهم بكتاب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لم يقبله عامر ، وقيل أخذه ورمى به الى الارض .

(69)

 

        فقال حرام : يا أهل بئر معونة انّي رسول اللّه‏ اليكم ، فخرج اليه رجل برمح وضربه في جنبه فخرج من الجانب الآخر ، فقال : فزت ورب الكعبة .

        ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين ، فأبوا أن يجيبوه الى ما دعاهم اليه لجوار أبي براء للمسلمين ، فاستصرخ عليهم قبائل بني سليم وعصية ورعلاً وذكوان فأجابوه الى ذلك ، فخرجوا حتى غشوا القوم وقاتلوهم حتى قتلوهم عن آخرهم ، الاّ كعب بن زيد فانّهم تركوه وبه رمق ظنا منهم انه قد قتل ، فعاش حتى قتل يوم الخندق ، ثم أخذوا عمرو بن امية أسيرا ، فلمّا أخبرهم انّه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجزّ ناصيته ، وأعتقه عن رقبةٍ كانت امّه قد نذرت عتقها ...

        فخرج عمرو الى المدينة حتى اذا كان بالقرقرة ، أقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا معه في ظلّ هو فيه ، وكان مع العامريّين عقدٌ من رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وجوار لم يعلم به عمرو بن امية ، فلمّا ناما عدا عليهما وقتلهما وهو يرى انّه قد أصاب بهما ثأر اصحابه من بني عامر ، فلمّا قدم عمرو بن امية على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أخبره الخبر .

        فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : لقد قتلت قتيلين لأدينهما (أي أدفع ديتهما) ، فأعطى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ديتهما الى اهلهما .

        وتألم رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كثيرا من استشهاد هؤلاء الرهط ، وقيل انّه أخذ يلعن قبائل رعل وذكوان وعصيّة الى شهرٍ أو أربعين يوما ، وأضاف اليهم قبائل بني لحيان العضل (بفتح العين وسكون الضاد) والقارة ، وذلك انّ سفيان بن خالد الهذلي اللحياني أرسل جماعة من مشركي قبائل العضل والقارة الى المدينة فأظهروا الاسلام حيلة وخدعة ، فقالوا لرسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : ابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا ويعلّموننا شريعة الاسلام ، فارسل صلى‏الله‏عليه‏و‏آله معهم عشرة من كبراء اصحابه منهم عاصم بن ثابت ، ومرثد (بضم الميم وسكون الراء وفتح الثاء) بن ابي مرثد ، وخبيب (بضم الميم وفتح الباء) بن عدي ، وسبعة آخرين ... فخرجوا مع القوم الى بطن الرجيع وهو ماء لهذيل ، فغدروا بهم وقتلوا سبعة منهم ، وأعطوا الامان الى ثلاثة منهم ثم لم يفوا بعهدهم وقتلوهم ، فسمّيت هذه السرية سرية الرجيع .

        وحزن أبو برّاء لهذه الحادثة كثيرا حتى مات من الحزن والالم ، وهجاهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك ، لخيانتهم ونقضهم العهد ، ومات عامر بن الطفيل بلعنة رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ايّاه ، وكان في بيت امرأة سلولية فأصابته غدّة كغدة البعير فمات منها .

        وفي هذه السنة أيضا وقعت غزوة بني النضير وبني قريظة ، وكانت قريظة سبعمائة نفر وبنو النضير ألفا وهم اكثر مالاً وأحسن حالاً من قريظة ، وكانوا حلفاء لعبد اللّه‏ بن أبّي ، فكتبوا كتابا بينهم يقضي انّ أيّ رجل من اليهود من بني النضير قتل رجلاً من بني قريظة ان يجنيّه ويحمّم ، والتجنية ان يقعد على جمل أو حمار مستدبرا ويلطخ وجهه بالحمأة (القير) ويدفع نصف الدية ، وايّما رجل من بني قريظة قتل رجلاً من بني

(70)

 

النضير يدفع اليه الدية كاملة ويقتل به ، فكانوا يعيشون في المدينة في أمان النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بشرط أن لا يقاتلوه ولا يعينوا على قتاله ...

        فقتل رجل من بني قريظة رجلاً من بني النضير ، فبعث اليهم بنو النضير ان ابعثوا الينا بدية المقتول وبالقاتل حتى نقتله ، فقالت قريظة : ليس هذا حكم التوراة وانّما هو شيء غلبتمونا عليه ، فأما الدية واما القتل ، والا فهذا محمد بيننا وبينكم .

        فلمّا جاؤوا الى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله حكم بمقتضى ما قاله بنو قريظة ، فتألم بنو النضير وأضمروه في انفسهم حتى تتاح لهم الفرصة فينتقموا ، الى ان حدثت قضية عمرو بن امية وقتله العامريّينِ الذَيْنِ كانا في جوار رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        فجاء صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى بني النضير يستعينهم في الدية ، فقالوا : نعم يا ابا القاسم نعينك على ما أحببت ، ثم دعوه ليدخل حصنهم ويكون ضيفهم ، فكره صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الدخول الى الحصن واتكأ على جداره ، فخلا بعضهم ببعض فقالوا : انكم لن تجدوا الرجل على مثل حالته هذه ، ثم قالوا : من يعلو على هذا الجدار ويلقي عليه صخرة ؟

        فجاء جبرئيل عليه‏السلام وأخبر النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بغدرهم ، فذهب الى المدينة وأرسل محمد بن مسلمة اليهم ليأمرهم بالخروج من المدينة ، لأنهم نقضوا العهد وغدروا ، ولو رأى منهم أحدا بعد عشرة ايّام فسيقتله ، ولمّا تهيّؤوا للرحيل أرسل اليهم عبد اللّه‏ بن أبي ان لا تخرجوا فانّ معي الفين من قومي يحمونكم ، فان قاتلتم قاتلت معكم وان خرجتم خرجت معكم .

        قال اللّه‏ تعالى : « أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لاِءخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أحَدا أبَدا وَإنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللّه‏ُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ »(1) .

        فأقاموا واصلحوا حصونهم وتهيؤوا للقتال ، وبعثوا الى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله انّا لا نخرج فاصنع ما انت صانع ، فقام رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وكبّر وكبّر اصحابه ، فأعطى الراية الى علي بن ابي طالب عليه‏السلام وقدّمه اليهم ، وخرج هو بعده وصلّى صلاته الاخرى هناك ، وغدر بهم عبد اللّه‏ إبن أبيّ ولم يعنهم .

        قال تعالى : « كَمَثَلِ الْشَّيْطَانِ إذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إنِّي أخَافُ اللّه‏َ رَبَّ الْعَالَمِينَ »(2) .

        وبقى اليهود خمسة عشر يوما في حصونهم محاصرين ، فأمر صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بقطع نخلهم الاّ نوع واحد منها كان عليه تمر يقال له عجوة ، وقيل في سبب ذلك ، أن لا يطمعوا في البقاء هناك بعد هذا .

 

(1) سورة الحشر : 11 .
(2) سورة الحشر : 16 .
(71)

 

        واستسلمت اليهود وأرسلت الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله تريد الامان والخروج بأموالها ، فقال لهم : أخرجوا ولكم دمائكم وما حملت الابل ، فأبوا ان يقبلوا وبقوا اياما ثم قالوا : نخرج ولنا ما حملت الابل ، فقال : لا ولكن تخرجون ولا يحمل أحد منكم شيئا ، فخافوا على انفسهم وأخذوا يخربون بيوتهم بأيديهم لئلا تصير للمسلمين .

        قال تعالى : « يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ »(1) .

        وولّى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله اخراجهم الى محمد بن مسلمة ، فجعل لكل ثلاثة منهم بعيرا وسقاء ، وقيل خرجوا مع ستمائة بعير كانت لهم وتركوا السلاح والاثاث مكانه ، وخرجوا وهم يضربون الدف والمزامير كناية على انّهم لم يحزنوا على ترك بلادهم وأثاثهم ، فذهب قسم منهم الى الشام ، وقسم الى الاذرعات ، وقسم آخر ذهبوا الى خيبر .

        فلمّا غنم رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من بني النضير جمع الانصار وقال : « ان أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء عليّ من بني النضير ، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم ، وان أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم » .

        قال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ : يا رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بل تقسمه بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا ، ونادت الانصار رضينا وسلّمنا يا رسول اللّه‏ ، فدعا لهم رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وقال : « اللهم ارحم الانصار وابناء الانصار وأبناء أبناء الانصار » .

        ونزلت هذه الاية الكريمة في حقّهم : « وَالَّذِينَ تَبَوَّؤ الْدَارَ وَالإيْمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ الَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »(2) .

        فقسّم صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ما أفاء اللّه‏ عليه على المهاجرين دون الانصار الاّ رجلين كانا محتاجين هما سهل بن حنيف الانصاري وأبو دجانة ، لأنهم كانوا في غاية الفقر ، ثم سلّم المزارع والابار والانهار الى أمير المؤمنين عليه‏السلام الذي جعلها وقفا لاولاد فاطمة عليهاالسلام .

« حوادث السنة الخامسة للهجرة »

        في هذه السنة تزوج النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بزينب بنت جحش ، ونزلت آية الحجاب حين زفافها .

        وكانت في هذه السنة أيضا غزوة المريسيع (بضم الميم وفتح الراء) وهو ماء

 

(1) سورة الحشر : 2 .
(2) سورة الحشر ، الاية 9
(72)

 

لبني خزاعة بين مكة والمدينة من ناحية القديد وكان بنو المصطلق ينزلون فيه .

        وتسمّى هذه الغزوة أيضا بغزوة بني المصطلق ، والمصطلق (بضم الميم وسكون الصاد وفتح الطاء وكسر اللام) لقب جذيمة بن سعد ، وهم من بطون خزاعة ، وكان سيدهم الحارث بن أبي ضرار ، وسبب هذه الغزوة ان الحارث بن أبي ضرار دعا قومه ومن قدر عليه الى حرب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فلمّا بلغ ذلك رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله خرج اليهم في يوم الاثنين في الثاني من شهر شعبان مصطحبا معه ام سلمة وعائشة .

        فنزل في طريقه الى واد وعر مخوفٍ ، فلمّا كان آخر الليل هبط عليه جبرئيل يخبره بأن كفار الجن قد استبطنوا الوادي يريدون كيده وايقاع الشرّ باصحابه ، فأرسل أمير المؤمنين عليه‏السلام الى حربهم فظفر بهم (قد ذكرنا هذه القصة في باب معجزات النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ) .

        ثم دخل صلى‏الله‏عليه‏و‏آله اراضي المريسيع وحارب حارثا وقومه ، وقُتل صفوان صاحب راية المشركين على يد قتادة ، فسقطت راية المشركين الى الارض ، وقتل أمير المؤمنين عليه‏السلام رجلاً منهم اسمه مالك وكذلك ابنه ، فانهزم جيش حارث فتبعهم المسلمون وقتلوا منهم عشرة ، واستشهد من المسلمين واحدا .

        ولمّا انتصر المسلمون بعد ثلاثة ايام من الحرب سبوا النساء والذراري والنعم وكانت الابل ألفي بعير والشياه خمسة الاف والسبي مائتي امرأة منهم برّه بنت حارث بن أبي ضرار ، فكانت في سهم ثابت بن قيس بن شماس ، فكاتبها فسألت رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في كتابتها فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : « أو خير من ذلك ؟ » فقالت : وما هو ؟ قال : أؤدّي عنك كتابتك وأتزوجك ، فقالت : نعم يا رسول اللّه‏ .

        فتزوجها وسمّاها الجويرية وأدخلها في سلك زوجاته ، فلمّا وصل الخبر الى الناس قالوا : أصهار رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يسترقّون ؟ فأعتقوا ما كان في أيديهم من نساء بني المصطلق ، قالت عائشة : لا اعلم امرأة اعظم بركة على قومها منها .

        ومكث صلى‏الله‏عليه‏و‏آله هناك اربعة ليال ثم رجع ، وفي الرجوع وقعت قضية جهجاه بن سعيد الغفاري وسنان الجهني ، وقال عبد اللّه‏ بن أبي المنافق : لان رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الاعزّ منها الاذلّ ، يعني بالاعز نفسه وبالاذل رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله (نعوذ باللّه‏) فأخبر زيد بن ارقم رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بكلام عبد اللّه‏ بن أُبَي ، فجاء إبن أبي قال : والذي انزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك‏قطّ وانّ زيدا لكاذب .

        فتأثر زيد كثيرا مما قيل فيه الى ان نزلت سورة « وإذا جاءك المنافقون » ، فبان صدق زيد ونفاق إبن أبي ، وعند الرجوع من هذه الغزوة حدثت قضية افك عائشة أيضا .

        وفي شهر شوال من هذه السنة كانت معركة الخندق ، ويقال لها غزوة الاحزاب أيضا ، لان قريشاً استمدّت العون من كل قبيلة وحزب لقتال المسلمين ، وذلك انّ

(73)

 

النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لمّا أجلى بني النضير عن بلادهم زاد بغضهم وكيدهم عليه ، فذهب عشرون نفرا من كبرائهم الى ابي سفيان ، منهم : حيّ بن أخطب ، وسلاّم (بتشديد اللام) بن ابي الحُقيق (كزبير) ، وكنانة بن الربيع ، وهوذة بن قيس (بفتح الهاء) ، وأبو عامر الراهب المنافق ، فاجتمعوا مع ابي سفيان وخمسين نفرا من صناديد قريش في مكة ، وذهبوا الى بيت اللّه‏ الحرام وتعاهدوا على ان لا يتركوا حرب محمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله حتى الممات ، وألصقوا صدورهم على البيت واكّدوا هذه المعاهدة .

        ثمّ استمدّ كل من قريش واليهود من حلفائهم ، فخرج أبو سفيان بأربعة الاف رجلاً من مكة معهم الف بعير وثلاثمائة فرس ، فلمّا وصلواالى مرّ الظهران ، التحق بهم الفا رجل من قبائل أسلم وأشجع وكنانة وفزازة وغطفان ، وهكذا كانت القبائل تلتحق بهم الى ان بلغوا عشرة الاف نفرا .

        فلمّا بلغ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ذلك ، ندب الناس وأخبرهم خبر عدوّهم وشاورهم في أمرهم فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق وقال : كنّا في بلادنا عند هجوم العدو فحفر خندقاً ليكون القتال من جهة واحدة ، فاستحسن الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كلامه وأمر أصحابه بحفر الخندق ، فكان كل عشرة رجال يحفرون أربعين ذراعا وقيل عشرة أذرع ، وكان صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يعمل معهم ويساعدهم ترغيبا لهم .

        وكمل حفر الخندق بعد شهر ، فجعلوا طرقه على ثمانية أبواب ، وجعل صلى‏الله‏عليه‏و‏آله على كل باب رجلاً من المهاجرين ورجلاً من الانصار مع جماعة يحفظونه ، وجعل الذراري والنساء في الاطام .

        اما أبو سفيان فانه دعا حيي بن أخطب وأرسله الى بني قريظة كي ينقظون عهدهم مع النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فخرج حتى أتى كعب بن أسد سيد بني قريظة ، فلمّا سمع كعب صوت إبن أخطب أغلق دونه حصنه ، فاستأذن عليه فأبى ان يفتح له ، فاستأذن مرة اخرى وقال : ويحك افتح لي جئتك بعزّ الدهر ، وببحر طام ، جئتك بقريش على سادتها وقادتها .

        قال كعب : انّي قد عاهدت محمدا ولست بناقض ما بينه وبيني ، ولم أر منه الا وفاءً وصدقا ، فلم يزل حيي بكعب يفتل منه في الذروة والغارب حتى دخل الحصن وقال لكعب : لئن رجعت قريش ولم يصيبوا محمدا أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك .

        فنقض كعب عهده وبريء مما كان عليه فيما بينه وبين رسول للّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فعظم عند ذلك البلاء واشتدّ الخوف على المسلمين وبلغت القلوب الحناجر ، وأتاهم عدوّهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظنّ المؤمنون كل الظنّ ، وكان النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يعدهم النصر والظفر .

        قال تعالى : « إذْ جاؤوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ

(74)

 

الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللّه‏ِ الظُّنُونَا »(1) .

        فأقام المشركون على الخندق بضعة وعشرين ليلة في تشديد وتضييق على المسلمين ، فنجم النفاق من بعض المنافقين ورغّبوا المسلمين في الذهاب الى المدينة محتجّين بانّ بيوتهم عورة وليس لها احد ، كما قال تعالى :

        « ... وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إنْ يُرِيدُونَ إلاَّ فِرَارا »(2) .

        ولم يكن بين الجيوش مقاتلة الا الرمي بالنبال والاحجار ، الا انّ فوارس من قريش منهم عمرو بن عبدود ، ونوفل بن عبد اللّه‏ بن المغيرة ، وضرار بن الخطاب ، وهبيرة بن ابي وهب ، وعكرمة بن ابي جهل ، ومرداس الفهري ، قد تلبّسوا للقتال وخرجوا على خيولهم فاقتحموا الخندق وجعلوا يجيلون خيلهم في الميدان ، وكان عمرو ينادي بالمبارزة والمسلمون كأنّ على رؤوسهم الطير لمكان عمرو بن عبدود والخوف منه ، لانّه كان يعدّ بالف فارس ، وكان يسمى فارس يليل ، فلذا لم يجرأ أحدٌ من المسلمين على التكلم مضافا الى تخذيل إبن الخطاب وذكره شجاعة عمرو ، كأنّه يعتذر عن المسلمين فكان ذلك سببا في زيادة خوفهم وفي تأذي النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فقال النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : ألا من يدفع عنّا هذا العدوّ ؟ فقال علي عليه‏السلام : أنا يا رسول اللّه‏ ، فسكت النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وأعاد عمرو كلامه ونادى : من يبارز ، أيها الناس تزعمون انّ قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار ، ألا يحب أحدكم أن يرحل إلى الجنة أو يرسل عدوّه إلى النار ؟ ثم اجال فرسه وقال :

 ولقد بححت من النداء

 بجمعكم هل من مبارز

        فقال النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : من يدفع عنّا هذا الكلب ؟ فلم يجب أحد بل قام عليّ وقال : أنا يا رسول اللّه‏ ، فقال له النبي : انّه عمرو ، فقال عليّ : وأنا عليّ بن أبي طالب ، فأذن له وألبسه درعه ذات الفضول وعمّمه عمامته التي تسمى بالسحاب فقدّمه ودعا له ، فذهب اليه قائلاً في جوابه :

 لا تعجلنّ فقد أتا

 ك مجيب صوتك غير عاجز

 ذو نيّةٍ وبصيرةٍ

 والصدق منجي كلّ فائز

 إنّي لأرجو أن تقوم

 عليك نائحة الجنائز

 من ضربة نجلاء يبقى

 ذكرها عند الهزائز (3)

        فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : برز الايمان كلّه الى الشرك كلّه ، ثم انّ عليا عليه‏السلام دعا عمرا لثلاثة اشياء :

 

(1) سورة الاحزاب : 10 .
(2) سورة الاحزاب : 13 .
 (3) كنز الفوائد : 137 ، البحار 20:215 ، شرح النهج 19:61 .
(75)

 

اما ان يسلم ، وامّا ان يترك الحرب ، وامّا ان ينزل عن فرسه ويحارب ، فاختار الثالثة وكان يبطن الخوف من أبي الحسن فقال : ألا غيرك يا بن أخي من أعمامك من هو أسنّ منك ، فانّي أكره أن أريق دمك وكان أبوك نديما لي ، ما امن إبن عمّك حين بعثك اليّ أن اختطفك برمحي هذا ، فأتركك شائلاً بين السماء والارض لا حيّ ولا ميّت ؟

        فقال عليه‏السلام : دع هذا فانّي أحب أن أهريق دمك في سبيل اللّه‏ ، فنزل عمرو من جواده فعقره ، وسلّ سيفه وهجم على أمير المؤمنين عليه‏السلام ، فثارت بينهما عجاجة ، فضرب عمرو رأس عليّ عليه‏السلام فاستقبلها بدرقته فقدّها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجّه ، فضربه عليه‏السلام وهو كالليث المجروح على رجله فقطعها فوقع عمرو على قفاه ، فجلس عليه‏السلام على صدره ، قال عمرو : قد جلست منّي مجلسا عظيما ، فاذا قتلتني فلا تسلبني حلّتي ، قال عليه‏السلام : هو أهون عليّ من ذلك(1) .

        قال إبن أبي الحديد : فثارت لهما غبرةٌ وارتهما عن العيون ، الى ان سمع الناس التكبير عاليا من تحت الغبرة ، فعلموا أنّ عليّا قتله وانجلت الغبرة عنهما ، وعليّ راكب على صدره يحزّ رأسه(2) .

        وقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين ، ولقد ذكر الشيخ الازري قصة قتل عمرو بن عبدود في قصيدته الهائية ، وأرى من المناسب ايرادها هنا ، قال رحمه‏الله :

 ظهرت منه في الورى سطوات

 ما أتى القوم كلّهم ما اتيها

 يوم غصت بجيش عمرو بن ود

 لهوات الفلا وضاق فضاها

 وتخطى الى المدينة فردا

 لا يهاب العدى ولا يخشاها

 فدعاهم وهم الوف ولكن

 ينظرون الذي يشب لظاها

 اين أنتم من قسور عامري

 تتقي الاسد بأسه في شراها

 أين من نفسه تتوق الى الجنات

 أو يورد الجحيم عداها

 فابتدى المصطفى يحدّث عمّا

 يوجر الصابرون في أخريها

 قائلاً انّ للجليل جنانا

 ليس غير المهاجرين يراها

 ومن لعمرو وقد ضمنت على اللّه‏

 له من جنانه أعلاها

 فالتووا عن جوابه كسوام

 لا تراها مجيبة من دعاها

 فاذا هم بفارس قرشي

 ترجف الارض خيفة أن يطاها

 قائلاً ما لها سواى كفيل

 هذه ذمّة عليّ وفاها

 ومشى يطلب البراز كما

 تمشي خماص الحشى الى مرعاها

 

 

(1) البحار 20:226 مع تغيير يسير .
(2) شرح النهج لابن ابي الحديد 19:64 .
(76)

 

 فانتضى مشرفيه فتلقى

 ساق عمرو بضربة فبراها

 والى الحشر أَنَّةُ السيف منه

 بملاءالخافقين رجع صداها

 يا لها ضربة حوت مكرمات

 لم يزن ثقل أجرها ثقلاها

 هذه من علاه أحدى المعالي

 وعلى هذه فقس ما سواها

        قال جابر : « ... وسمعت التكبير فعلمت انّ عليّا عليه‏السلام قتله ، وانكشف أصحابه وعبروا الخندق وتبادر المسلمون حين سمعوا التكبير ينظرون ما صنع القوم ، فوجدوا نوفل بن عبد اللّه‏ في جوف الخندق لم ينهض به فرسه فرموه بالحجارة ، فقال لهم : قتلة أجمل من هذه ، ينزل بعضكم أقاتله فنزل اليه أمير المؤمنين عليه‏السلام ، فضربه حتى قتله ، ولحق هبيرة فأعجزه فضرب قربوس سرجه وسقطت درعه ، وفرّ عكرمة ، وهرب ضرار بن الخطاب ، قال جابر : فما شبّهت قتل عليّ عمرا الاّ بما قصّ اللّه‏ من قصّة داود وجالوت »(1) .

        وبالجملة لمّا انتهى القتال بعث المشركون الى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يشترون جثّة عمرو بن عبدود ونوفل ، فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : هو لكم لا نأكل ثمن الموتى .

        ثم جاءت اخت عمرو وجلست الى جنبه ، ورأت درعه الذي كان من أفخر الدروع لم يسلب ، ومعه سائر ثيابه وسلاحه فقالت : من قتله ؟ قيل : عليّ بن ابي طالب ، فقالت : ما قتله الاّ كفوٌ كريم ، ثم انشدت هذه الابيات :

 لو كان قاتل عمرو غير قاتله

 لكنت أبكي عليه آخر الأبد

 لكن قاتله من لا يعاب به

 من كان يدعا أبوه بيضة البلد(2)

        ولمّا اشتدّ البلاء على المسلمين في هذه المحاصرة جاء أبو سعيد الخدري الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وقال : يا رسول اللّه‏ هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر ؟ فقال : قولوا « اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا » .

        ثم ظهر النفاق من المنافقين وابتدأوا بايذاء المسلمين ، فذهب صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى مسجد الفتح ورفع يديه للدعاء وقال : « يا صريخ المكروبين ... الدعاء » واراد من اللّه‏ تعالى كفاية الاعداء ، فأرسل اللّه‏ عزوجل ريح الصبا حتى تزلزل جيش المشركين واكفأت قدورهم ونزعت فساطيطهم .

        وفي رواية انّ الملائكة نزلت فأطفأت نيرانهم ، وأخرجت وتد الخيام وقطعت حبالها حتى فرّ الاعداء خوفا وجزعا ، وكان السبب الاساسي في هزيمتهم هو قتل عمرو بن عبدود ونوفل ، وقال تعالى : « ... وَكَفَى اللّه‏ُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ ـ [ أي بعلي بن ابي طالب عليه‏السلام ] ـ وَكَانَ اللّه‏ُ قَوِيَّا عَزِيزا »(3) .

 

(1) كشف الغمّة 1:204 .
 (2) المناقب لابن شهر آشوب 1:199 .
(77)

 

        قال بعض العلماء : لو لا انّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بعث رحمة للعالمين لكان هذا الريح الذي هبّ يوم الاحزاب أشدّ وأحرق من الريح العقيم الصرصر الذي جاء على قوم عاد .

        قال حذيفة : انّ ابا سفيان قال : « يا معشر قريش انّكم واللّه‏ ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخفّ ، واخلفتنا بنو قريظة ، وبلغنا عنهم الذي نكره ، ولقينا من شدة الريح ما ترون ، ما تطمئن لنا قدر ، ولا تقوم لنا نار ، ولا يستمسك لنا بناء ، فارتحلوا فانّي مرتحل ، ثم قام الى جمله وهو معقول ، فجلس عليه ، ثم ضربه فوثب به على ثلاث ، فو اللّه‏ ما أطلق عقاله الاّ وهو قائم ... »(1) .

        ثم نهضت قريش وحملت أثقالها ولحقت بأبي سفيان .

        ثم كانت غزوة بني قريظة (بضم القاف) في هذه السنة ، وذلك انّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لما انصرف مع المسلمين من الخندق ، ذهب الى بيت فاطمة عليهاالسلام فوضع لامته واغتسل واستحمّ وتطيّب ، فاتاه جبرئيل عليه‏السلام فقال : أو قد وضعت السلاح يا رسول اللّه‏ ، واللّه‏ ما وضعت الملائكة لامتها ، انّ اللّه‏ يأمرك يا محمد بالمسير الى بني قريظة ، فانّي سابقك ومزلزل بهم حصنهم ، فاجعله كالبيضة التي أصابتها الحجارة .

        فأذن بلال في الناس أن لا يصلينّ العصر أحد الا في بني قريظة ، فحاصرهم رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله خمسة عشر يوما ، وقيل خمسة وعشرين يوما ، وكانت الحرب بينهم بالنبل والاحجار ، حتى قذف اللّه‏ تعالى الرعب في قلوبهم وجزعوا جزعا شديدا ، فلمّا اشتدّ عليهم الحصار نزلوا من القلاع ورضوا بحكم سعد بن معاذ فيهم .

        فقال سعد : قد حكمت ان تقتل رجالهم ، وتسبى ذراريهم ونساؤهم ، وتقسم غنائمهم وأموالهم بين المهاجرين والانصار ، فكان كما قال فقُتل رجالهم وسبيت نساؤهم وقسمت اموالهم بين المسلمين ، قال تعالى :

        « وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقَا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقَا ، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضَا لَمْ تَطَؤُها وَكَانَ اللّه‏ُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرا »(2) .

        وفي رواية انّ سعد بن معاذ اصابه سهم في وريده يوم الخندق ، فتفجر الدم منه فدعا ربه ان لا يميته حتى تقر عينه من بني قريظة ويرى خذلانهم ، فاستجاب اللّه‏ دعاءه فلمّا انقضى شأن بني قريظة انفجر جرحه واستشهد رحمة اللّه‏ عليه .

        ثم كانت في هذه السنة غزوة دومة الجندل ، وذلك انّه اجتمع في دومة الجندل جمعٌ كثير ، وكانوا يظلمون من مرّ بهم ويقطعون الطريق ، فخرج رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله اليهم

 

(1) سورة الاحزاب : 25 .
(2) سيرة إبن هشام 3:243 .
(3) سورة الاحزاب : 25 ـ 26 .
(78)

 

في اليوم الخامس والعشرين من شهر ربيع الاول في الف رجل ، فلمّا سمعوا قدومه هربوا من هناك وتركوا اموالهم ومواشيهم على حالها ، فأخذها المسلمون ورجعوا الى المدينة من دون ان يلقوا كيدا ، فدخلوها في العشرين من ربيع الثاني .

        والدومة (بضم الدال) تبعد عن الشام بخمسة منازل ، وتقرب جبل طيّ ، وبينهما وبين المدينة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة ، وقيل لها دومة الجندل لبنائها بالاحجار ، والجندل هو الحجر .

« حوادث السنة السادسة للهجرة »

        قيل : ان الحج فرض في هذه السنة ، ونزلت هذه الاية الكريمة : « وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه‏ِ »(1) وقيل انّ الحج فرض في السنة التاسعة .

        وكانت في هذه السنة غزوة ذات الرقاع ، وذلك انه وصل الخبر الى المدينة بانّ قبائل غطفان ، وبني محارب ، وأنمار ، وثعلبة قد جمعوا الجموع وتجهزوا للهجوم على المدينة ، فخلف رسول االلّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ابا ذرا مكانه ، وخرج اليهم في النصف من شهر جمادى الاولى في أربعمائة وقيل في سبعمائة رجل ، متوجها الى نجد إلى أن وصل إلى موضع النخلة ثم نزل ذات الرقاع .

        ولمّا سمع المشركون بقدوم النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله هربوا الى الجبال خوفا ورعبا وتركوا النساء والذراري ، فلمّا وصل المسلمون سبوا نساءهم ، فلما حضر وقت الصلاة خاف المسلمون ان يغير عليهم المشركون وهم مشغولون بالصلاة ، فصلى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله صلاة الخوف بهم ، ونزلت هذه الاية في هذا المقام كما ورد في بعض الروايات :

        « وَإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلوةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ... »(2) .

        وفي وجه تسمية هذه الغزوة بذات الرقاع اختلاف ، قيل : انّما سميّت بذلك لان اقدامهم نقبت من كثرة المشي ، فكانوا يلفّون على أرجلهم الخرق ، وقيل : انّما سميّت ذات الرقاع لانّ الجبل كان ملوّنا بالوان مختلفة كالثوب المرقع ، وقيل : لانّ راياتهم كانت مرقعة ، وقيل : انّ ذات الرقاع اسم شجرة نزل عندها رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        روي انه أصاب المسلمون امرأة من المشركين وكان زوجها غائبا ، فلمّا وصله الخبر خرج يتّبع أثر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فنزل صلى‏الله‏عليه‏و‏آله منزلاً فقال : من يحرسنا هذه الليلة ؟ فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الانصار فأقاما بفمّ الشعب يحرسان الجيش ، فاضطجع المهاجريَ وقال للانصاري : أحرس انت في اول الليل ، وأحرس انا في آخره ، فقام الانصاري يصلّي وجاء زوج المرأة فرأى شخصاً واقفا فرماه بسهم فوضعه

 

(1) سورة البقرة : 196 .
(2) سورة النساء : 102 .
(79)

 

فيه ، فانتزعه وثبت قائما يصلي ، ثم رماه بسهم آخر فأصابه فنزعه وثبت يصلي ، ثم رماه الثالث فوضعه فيه فانتزعه ، ثم ركع وسجد وسلّم وأيقظ صاحبه وأعلمه فوثب ، فلمّا رأهما الرجل عرف انّهما علما به ، فلمّا رأى المهاجري ما بالانصاري قال : سبحان اللّه‏ ألا أيقظتني اوّل ما رماك ، قال : كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها ، فلمّا تتابع عليّ الرمي ركعت وأتممت الصلاة ، فأخبرتك وأيم اللّه‏ لو لا خوفي أن أضيع ثغرا أمرني رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بحفظه لقطع نفسي قبل ان اقطعها .

        يقول هذا الفقير : كان المهاجري عمار بن ياسر ، والانصاري عباد بن بشير ، والسورة التي كان يقرأها سورة الكهف .

        وفي السنة السادسة أيضا كانت غزوة بني لحيان ، ولحيان (بكسر اللام وفتحها) هو إبن هذيل بن مدركة ، وينقسم بنو لحيان الى طائفتين : عضل ، وقارة .

        وحاصلها انّه لمّا قتلت قبيلة هذيل عاصم بن ثابت وخبيب بن عدي وأصحابهما وغدروا بالنبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، حزن كثيرا وأراد عقابهم ، فخرج اليهم في مأتي رجل ، فلمّا علمت بني لحيان بقدومه انهزمت الى رؤوس الجبال ، فمكث صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في اراضيهم أيّاما ، وذهب الى عسفان ثم رجع ، وكانت مدّة هذا السفر اربعة عشر ليلة .

        وفي السنة السادسة أيضا كانت غزوة ذي قرد ، ويقال لها غزوة الغابة ، وقرد (بفتح القاف والراء) ماء يقرب من المدينة ، وذلك انّه كانت لرسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لقاحا وعددها عشرون بعيرا ترعى بالغابة وكان أبوذر فيها ، فأغار عليها عيينة بن حصن الفزاري في أربعين فارسا ، فاستاقوها وقتلوا إبن لابي ذر ورجلاً من بني غفار واخذوا امرأته .

        فامّا المرأة فانّها اغفلتهم ليلاً وركبت بعيرا من اباعر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وفرّت منهم ، فجاءت الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فأخبرته الخبر وقالت : يا رسول اللّه‏ انّي نذرت للّه‏ أن أنحرها ان نجاني اللّه‏ عليها . فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : « بئس ما جزيتها أن حملك اللّه‏ عليها ونجّاك بها ثم تنحرينها ، انّه لا نذر في معصية اللّه‏ ولا فيما لا تملكين »(1) .

        ثم نادى القوم وقال : يا خيل اللّه‏ اركبوا ، فخرج اليهم في خمسمائة وقيل سبعمائة ، وأعطى اللواء الى المقداد وأرسله أمامه ، فأدرك أخريات العدوّ فقتل أبو قتادة مسعدة ، وأدرك سلمة بن الاكوع القوم ماشيا فجعل يرميهم ويقول :

 خذها وانا إبن الاكوع

 واليوم يوم الرضّع

        (من قولهم لئيم راضع رضع اللوم في بطن امّه) فانهزم العدو وذهبوا الى عين ذي قرد ، ثم انهزموا من هناك أيضا ولم يشربوا من مائها خوفا ورهبة من جيش النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

 

(1) سيرة إبن هشام 3:297 .
(80)

 

        وفي السنة السادسة أيضا خرج رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في ذي القعدة الى مكة ، للعمرة ومعه سبعون بدنة للنحر ، فاحرم من مسجد الشجرة مع الف وخمسمائة وعشرين نفرا من اصحابه وقيل الف واربعمائة نفر ، وكانت ام سلمة معه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        فلمّا بلغ ذلك المشركين ، عزموا على منع النبي من دخول مكة وزيارة بيت اللّه‏ الحرام ، فنزل صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قرب بئر قليلة الماء في الحديبية على بعد منزل من مكة .

        فلمّا نزل المسلمون عند البئر نفذ ماؤه بعد دقائق ، فشكوا العطش الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فأخرج سهما وأمر أن يوضع في البئر ، ففار الماء منه حتى شرب القوم منه وارتووا ، وجاء بديل بن ورقاء الخزاعي من قبل قريش الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وأخبره باتفاق قريش على منعه من زيارة بيت اللّه‏ الحرام .

        فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : « ما جئت لحرب ، وانّما جئت لأقضي نسكي ، فأنحر بدني وأخلّي بينكم وبين لحماتها »(1) .

        ثم جاء عروة بن مسعود الثقفي فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله له ما قال لبديل ، وكان عروة يرمق اصحاب النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ويرى عظمة الرسول في أعينهم ، فلمّا رجع الى قريش قال لهم : انّي قد جئت كسرى في ملكه ، وقيصر في ملكه ، والنجاشي في ملكه ، وانّي ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه ، ولقد رأيت قوما لا يتوضأ الاّ ابتدروا وضوءه ، ولا يبصق بصاقا الاّ ابتدروه ومسحوه على وجوههم يلتمسون منه البركة ، ولا يسقط من شعره شيء الاّ أخذوه ، واذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدّون النظر اليه تعظيما له ، وانّه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها .

        ثم أرسل صلى‏الله‏عليه‏و‏آله عثمان الى مكة لتعلم قريش قصده ويبشّر المسلمين بالفرج ، فلمّا ذهب تبعه عشرة من المهاجرين وفجأة وصل الخبر الى المسلمين بأن عثمان وهؤلاء العشرة قتلوا في مكة ، وأشاع الشيطان هذا الخبر في جيش النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فعزم النبي أن لا يبرح مكانه حتى يجازي قريشا ، فجلس الى جنب شجرة سمرة وبايع اصحابه على أن لا يفرّوا ، واذا ثارت الحرب يثبتوا مكانهم . فسمّيت هذه البيعة ببيعة الرضوان لقوله تعالى في سورة الفتح :

        « لَقَدْ رَضَيَ اللّه‏ُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا »(2) .

        فوقع الرعب في قلوب قريش من هذه المعاهدة ، فبعثوا سهيل بن عمرو ، وحفص بن أحنف حتى يكتبوا بينهم صلحا ، فجاء سهيل وكتب صلحا مع النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وملخّصه أن توضع الحرب بينهم عشر سنين ، وأن يكفّ بعضهم عن بعض ، وانّه لا

 

(1) تفسير القمي 2:311 ، البحار 20:349 .
(2) سورة الفتح : 18 .
(81)

 

اسلال(1) ولا اغلال(2) ، وانّه من أتى قريشا من أصحاب محمد لم يتركوه ولم يعادوه ، ومن أسلم من الكفار لا تمانعه قريش ، وأن يرجع رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله عنهم عامه هذا وأصحابه ، ثم يدخل مكة في العام القابل فيقيم فيها ثلاثة أيّام والسيوف في الاغماد ، ومن أتى محمدا بغير اذن وليّه وإن كان مسلماً يرده ولم يقبله .

        وانزعج بعض الصحابة من هذه المصالحة ، وظهر القلق على البعض الاخر لعدم تحقق رؤيا النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الذي رأى انّه ذهب الى مكّة واعتمر وقبض على مفاتيح الكعبة .

        وأظهر إبن الخطاب ما كان مضمرا في باطنه على لسانه وقال : ما شككت في نبوة محمد قط الا يوم الحديبية ، ثم قال لرسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : لماذا نعطي الدنيّة في ديننا ونرضى بهذه المصالحة ؟ فأجابه النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بانّي رسول اللّه‏ ولم أفعل الا ما أمرني ربي .

        قال : يا رسول اللّه‏ ألم تقل لنا أن ندخل المسجد الحرام ونحلق مع المحلقين ؟ فقال : أمن عامنا هذا وعدتك ؟ قال : لا ، فذكر صلى‏الله‏عليه‏و‏آله له انّه سيدخل مكّة ويطوف هناك ، قال تعالى : « لَقَدْ صَدَقَ اللّه‏ُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ... »(3) .

« حوادث السنة السابعة للهجرة »

ذكر فتح خيـبر

        ليعلم انّ سورة الفتح نزلت على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله حين رجوعه من الحديبية ، وكانت تبشر بفتح خيبر ، كما قال تعالى : « ... وَأَثَابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا »(4).

        وكان لخيبر سبعة حصون قويّة واسماؤها : 1 ـ ناعم 2 ـ قموص (كصبور ، وهو جبل قرب خيبر وعليه حصار أبو العتق) 3 ـ كتيبة (بتقديم التاء كالسفينة) 4 ـ شق (بكسر الشين وفتحها) 5 ـ نطاة (بفتح النون) 6 ـ وطيح (كأمير بفتح الواو وكسر الطاء) 7 ـ سلالم (بضم السين وكسر اللام) .

        لمّا رجع رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من الحديبية مكث عشرين يوما في المدينة ، ثم أمر بالتهيؤ للقتال ، فخرج فيالف وأربعمائة رجل الى خيبر ، فلمّا بلغ اليهود ذلك تحصّنوا في قلاعهم ، فأصبحوا يوما وفتحوا حصونهم وغدوا الى أعمالهم معهم المساحي والكرازين والمكاتل فلمّا نظروا الى جيش رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله محاصرا القلاع صاحوا : واللّه‏ هذا محمد وجيشه ، فولّوا هاربين الى حصونهم .

 

(1) الاسلال : السرقة الخفية .
(2) الاغلال : الخيانة .
(3) سورة الفتح : 27 .
(4) سورة الفتح : 18 .