(82)

 

        فقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : « اللّه‏ اكبر ، خربت خيبر! انّا اذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين »(1) .

        فتفأل صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بخراب حصونهم لمّا رآهم على تلك الهيئة وبيدهم ادوات التخريب ، اما اليهود فانهم استعدوا للقتال وجعلوا النساء والذراري في قلعة كتيبة ، وجعلوا الغلة والثمار في حصن ناعم ، واجتمع رجال الحرب في قلعة نطاة ، فقال الحباب بن المنذر :

        هؤلاء اليهود يحبّون هذه النخيل أكثر من اولادهم وأهلهم وعشيرتهم ، فاذا قطعناها زاد حزنهم وهمّهم ، فأمر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بقطعها ، فقطعت أربعمائة نخلة .

        وعلى أي حال نشبت الحرب بين المسلمين واليهود ، وافتتح المسلمون اكثر القلاع ، ثم حاصروا قلعة قموص وكانت أصلب من بقية القلاع .

        وأصيب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بوجع شديد في رأسه الشريف ، فلم يتمكن من الحضور في المعارك ، فكان كل يوم يعطي الراية لاحد الاصحاب ، فيأخذ الراية في الصباح لمقاتلة القوم ، ولكن يرجع من دون أيّ فتح ، أبو بكر أخذ الراية في يوم فرجع منهزما ، وفي اليوم الاخر أخذها عمر ثم رجع كذلك منهزما ، كما قال إبن ابي الحديد ـ من علماء أهل السنة ـ في قصيدته لفتح خيبر :

 وان أنس لا أنس الذَيْنِ تقدما

 وَفَرّهُما والفرّقَدْ عَلِما حُوبُ

 وللراية العظمى وقد ذهَبا بها

 ملابسُ ذلٍّ فوقها وجلابيبُ

 يَشُملُّهْما من آل موسى شَمَرْدَلٌ

 طويل نِجاد السيف أَجْيَدَ يعبوبُ

 عَذَرتكما انّ الحِمام لمُبغضٌ

 وانّ بقاء النفس للنّفسِ محبوب

        فلمّا رجع عمر في المساء قال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : « لأعطين الراية غدا رجلاً كرارا غير فرّار ، يحب اللّه‏ ورسوله ، ويحبّه اللّه‏ ورسوله ، ولا يرجع حتى يفتح اللّه‏ على يده »(2) .

        فاجتمع الاصحاب في الغد وتتطاولت أعناقهم علّهم يكونوا ذلك الرجل ، فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : أين عليّ بن ابي طالب ؟ فقالوا : يا رسول اللّه‏ هو يشتكي عينيه ولا يقدر على النهوض ، فقال : أرسلوا اليه ، فذهب سلمة بن الأكوع الى علي عليه‏السلام وأخذ بيده وجاء به الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فوضع النبي رأسه في حجره وبصق في عينه فبرأ في وقته من الرمد .

        قال حسان بن ثابت :

 وكان علي أرمد العين يبتغي

 دواء فلمّا لم يحس مداويا

 شفاه رسول اللّه‏ منه بتفلة

 فبورك مرقيا وبورك راقيا

 

 

(1) غزوات الرسول لابن سعد : 106 .
(2) اعلام الورى : 107 .
(83)

 

 وقال سأعطي الراية اليوم صارما

 كَميّا محبّا للرسول مواليا

 يحب الهي والاله يحبه

 به يفتح اللّه‏ الحصون الأوابيا

 فأصفى بها دون البريّة كلّها

 عليّا وسمّاه الوزير المواخيا(1)

        فأعطى الراية عليا ، فأخذها وخرج مهرولاً حتى وصل لى حصن قموص ، فخرج مرحب متبخترا من الحصن كعادته ومرتجزا :

 قد علمت خيبر انّي مرحب

 شاكيالسلاح بطل مجرب

        فأقبل عليه عليّ عليه‏السلام قائلاً :

 أنا الذي سمّتني امّي حيدرة

 ضرغام آجام وليثٌ قسورة

        فلمّا سمع مرحب رجز علي عليه‏السلام تذكر قول ظئره الكاهنة بانّك قاتل كل من قاتلك ، وغالب كل من غالبك ، الاّ من تسمّى عليك بحيدرة فانّك ان وقفت له هلكت ، فلمّا تذكر هذا هرب خوفا فتمثّل له ابليس في صورة حبر من أحبار اليهود وقال له : حيدرة في الدنيا كثير ، الى أين تفرّ ؟ فرجع وأراد أن يضرب عليا عليه‏السلام فسبقه وضربه ضربة بذي الفقار على رأسه ، فهلك في الحال .

        ثم قتل عليه‏السلام بعده ربيع بن ابي الحقيق (بضم الحاءوفتح القاف) وهو من صناديد اليهود وعنتر الخيبر وكان من أبطال اليهود المعروف بالشجاعة والقساوة ، وكذلك قتل مرّة وياسر وأمثالهم من ابطال وشجعان اليهود .

        وهرب اليهود الى حصن قموص واغلقوا بابه ، فجاء علي عليه‏السلام الى باب القلعة شاهرا سيفه ، وأخذ تلك الباب الحديدية وهزّها وأخرجها من مكانها ، فاهتزّ الحصن هزّةً شديدةً وسقطت صفية بنت حيي بن أخطب من على سريرها وأصاب وجهها جرح .

        فأخذ عليه‏السلام الباب وقلعها وجعلها درعا وحارب القوم ، فانهزم اليهود في جحورهم ، ثم جعل عليه‏السلام الباب قنطرة على الخندق ووقف هو على شرف الخندق ، فعبر جيش المسلمين عليها ، ثم أخذها ورماها الى اربعين ذراعا . فجاء اربعون رجلاً ليحركوها من مكانها فلم يقدروا ، وانشد الشعراء سيّما شعراء العرب في هذا المقام اشعارا كثيرة ، وحريّ بنا ذكر ابياتٍ من شعر الشيخ الازري رحمه‏الله ، قال وللّه‏ درّه :

 وله يوم خيبر فتكات

 كبرت منظرا على من رأها

 يوم قال النبي انّي لأعطي

 رايتي ليثها وحاميحماها

 فاستطالت أعناق كل فريق

 ليروا أي ماجد يعطاها

 فدعا أين وارث الحلم والبـ

 أس مجير الايّام من باساها

 أين ذو النجدة العُلى لو دعته

 في الثريا مروعة لباها

 

 

 (1) الارشاد : 37 ، وعنه في البحار 21:16 .
(84)

 

 فأتاه الوصي أرمد عين

 فسقاها من ريقة فشفاها

 ومضى يطلب الصفوف فولّت

 عنه علما بأنّه امضاها

 وبرى مرحبا بكف إقتدارٍ

 أقوياء الاقدار من ضعفاها

 ودحى بابها بقوة باس

 لو حمته الافلاك منه دحاها

 عائذٌ للمؤمّلينَ مجيب

 سامِعٌ ما تُسِرُّ من نجويها

        في رواية : انّه قدم جعفر من الحبشة في اليوم الذي فتحت خيبر ، فسرّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بقدومه ، وعلّمه صلاة جعفر المعروفة ، وكان جعفر حاملاً الهدايا والتحف الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فكان من جملتها قطيفة منسوجة بالذهب ، فأعطاها النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لعليّ عليه‏السلام ، فأخذها وجعلها سلكا سلكا فباعها فكانت ألف مثقال ، ففرقها على مساكين المدينة ولم يدع عنده شيئا منها .

        ثم كانت في السنة السابعة عمرة القضاء ، وذلك انّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لما رجع من خيبر عزم على زيارة بيت اللّه‏ الحرام ، فأمر أصحابه في شهر ذي القعدة بالتهيؤ للسفر لقضاء عمرة الحديبية ، فخرج معه الذين شهدو الحديبية وغيرهم وحملوا السلاح خفية ، حذرا من غدر المشركين بهم ، وكانت معهم سبعون بدنة .

        فركب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله على ناقته القصوى ، وأصحابه معه فرسانا وراجلين حاملي السيوف في أغمادها ، فوصلوا الى الجحون وخرجوا منها الى مكّة ملبين .

        وكان خطام البعير بيد عبد اللّه‏ بن رواحة ، فدخل رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله البيت على تلك الهيئة ، وبيده محجن يستلم به الحجر الاسود وأمر أصحابه بالاضطباع في الطواف واظهار التجلد والشدّة كي لا يرى المشركون فيهم ضعفا ورخاوةً ، فصارت الهرولة والاسراع في الطواف سنّة ، ثم مكث صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في مكّة ثلاثة ايّام ورجع الى المدينة .

        وتزوج رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بامّ حبيبة بنت أبي سفيان وكان زفافها في هذه السنة ، وكانت قبل ذلك زوجة عبد اللّه‏ بن جحش ، فأسلمت معه وهاجرا سويّة الى الحبشة ، فارتدّ زوجها هناك ومات على دين النصارى ، ولكنها بقيت على اسلامها حتى وصلت رسالة الى النجاشي من رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أن يزوجه ايّاها ، فجمع النجاشي المسلمين وفيهم جعفر بن ابي طالب فعقدها وكالة عن النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وكان وكيل ام حبيبة خالد بن سعيد بن العاص .

        وخطب النجاشي خطبة قال فيها : « الحمد للّه‏ الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار ، أشهد أنّ لا اله الاّ اللّه‏ ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، وانّه الذي بشر به عيسى بن مريم ، أما بعد فانّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كتب اليّ أن أزوجه ام حبيبة بنت أبي سفيان ، فأجبت الى ما دعا اليه رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وقد أصدقتها أربعمائة دينار » .

        ثم سكب الدنانير بين يدي القوم ، فتكلم خالد بن سعيد فقال : « الحمد للّه‏ أحمده وأستعينه واستغفره ، وأشهد أن لا اله الاّ اللّه‏ ، وانّ محمّدا عبده ورسوله ، أرسله

(85)

 

بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، أما بعد فقد أجبت الى ما دعا اليه رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وزوّجته امّ حبيبة بنت أبي سفيان ، فبارك اللّه‏ لرسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله »(1) .

        فقبض خالد الدنانير ، ثم أمر النجاشي بالطعام ، فأكل الجميع ثم تفرّقوا .

« حوادث السنة الثامنة للهجرة »

        وكانت في هذه السنة وقعة مؤتة ، وهي قرية من قرى البلقاء في اراضي الشام ، وسبب هذه الغزوة انّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بعث الحارث بن عمير الازدي الى ملك بصرى بكتاب ـ وهي قصبة من قصبات الشام ـ فلمّا نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني وكان من المقربين لقيصر ، فأوثقه وقتله .

        فلمّا بلغ ذلك رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أمر الجيش بالاستعداد للحرب ، وأن يخرجوا الى أرض الجرف ، وذهب صلى‏الله‏عليه‏و‏آله معهم الى هناك وكانوا ثلاثة الاف مقاتل ، ثم عقد الراية البيضاء وأعطاها لجعفر بن ابي طالب وجعله أمير الناس ، فان قتل جعفر فزيد بن حارثة ، فان أصيب زيد فعبد اللّه‏ بن رواحة ، فان أصيب إبن رواحة فليرتض المسلمون بينهم رجلاً فليجعلوه عليهم .

        فقال نفر من اليهود : يا أبا القاسم ان كنت نبيا ، فسيصاب من سمّيت ، انّ الانبياء من بني اسرائيل لو عدّوا مائة كذلك قتلوا أجمع .

        ثم أمرهم صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بالذهاب الى مقتل حارث ، وان يدعوا الكفار الى الاسلام فان أبوا حاربوهم ... فانطلق الجيش حتى وصل مؤتة ، فلمّا وصل الخبر الى شرحبيل بعث الى قيصر وطلب منه المدد ، فبعث اليه بمائة الف مقاتل أو أكثر ليحارب جيش المسلمين .

        واستعد المسلمون للقتال واصطفوا كأنّهم بنيان مرصوص ، ولم يدخل في قلوبهم شيء من الخوف لكثرة الأعداء ، فخرج جعفر ونادى يا معشر الناس انزلوا من جيادكم وقاتلوا مشاة ، وذلك ليعلم المسلمون انّه لا مفرّ من القتال ، فيحاربوا بشدّة .

        ونزل جعفر من جواده وعقره ، وأخذ الراية بيده وهجم على الاعداء ، فلمّا اشتد القتال حوصر جعفر بين الاعداء فقطعوا يده اليمنى ، فأخذ الراية باليسرى وقاتل حتى اصيب من الأمام بخمسين جرحا لم يكن واحد منها وراء ظهره ، ثم قطعت شماله فأخذ الراية بساعديه واحتضنها فجاء من الكفار من ضربه على ظهره بالسيف فقتله ، فلمّا سقطت الراية رفعها زيد بن حارثة وقاتل قتالاً شديدا حتى قتل ، فأخذها عبد اللّه‏ بن رواحة بعده وقاتل حتى قتل .

        وذكرنا في آخر فصل من معاجز الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ما يخص هذا المقام فليراجع .

 

(1) البحار 21:44 .
(86)

 

        اما غزوة ذات السلاسل فملخّصها ، انّ أهل وادي يابس اجتمعوا في اثني عشر الف فارس ، وتعاهدوا وتواثقوا ان لا يتخلّف رجل عن رجل حتى يموتوا كلّهم على خلق واحد ، ويقتلوا محمدا صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وعلي بن أبي طالب عليه‏السلام .

        فنزل جبرئيل على محمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فأخبره بقصّتهم ، وأمره أن يبعث أبا بكر اليهم في اربعة الاف فارس من المهاجرين والانصار ، فأرسله وأمره اذا رآهم أن يعرض عليهم الاسلام فان تابعوا والاّ قاتلهم ، فيقتل مقاتليهم ، ويسبي ذراريهم ، ويستبيح أموالهم.

        فسار أبو بكر ومن معه من المهاجرين والانصار سيرا خفيفا حتى انتهوا الى أهل وادي يابس ، فخرج منهم مائتا رجل مدججين بالسلاح وأتوا أبا بكر وقالوا له : أما واللاّت والعزى لو لا رحم ماسّة وقرابة قريبة ، لقتلناك وجميع اصحابك قتلة تكون حديثا لمن يكون بعدكم ، فارجع أنت ومن معك وارتجوا العافية ، فانّا انما نريد صاحبكم بعينه وأخاه علي بن أبي طالب .

        فرأى أبوبكر المصحلة في الرجوع فرجع مع الجيش ، ولما أتى الى رسول اللّه‏ قال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : يا أبا بكر خالفت أمري ولم تفعل ما أمرتك به ، وكنت لي واللّه‏ عاصيا فيما أمرتك ، ثم بعث عمر ومعه المهاجرين والانصار ، فكانت قصته كقصة صاحبه(1) ، ثم دعا صلى‏الله‏عليه‏و‏آله عليا وأوصاه بما أوصى به أبا بكر وعمر ، وأخبره أنّ اللّه‏ سيفتح عليه وعلى أصحابه ، فخرج عليّ عليه‏السلام ومن معه من المهاجرين والانصار ، فسار بهم سيرا غير سير أبي بكر وعمر ، وذلك انّه أعنف بهم في السير ، فساروا على هذا السير المتعب حتى اذا كانوا قريبا منهم بحيث يرونه ويراهم أمر أصحابه أن ينزلوا .

        فخرج اليه مائتا رجل شاكي السلاح فقالوا له : من أنت ؟ قال : أنا عليّ بن أبي طالب إبن عمّ رسول اللّه‏ وأخوه ورسوله اليكم ، ادعوكم للاسلام ، وأن يكون لكم ما للمسلمين ، وعليكم ما عليهم من خير وشرّ .

        فقالوا له : ايّاك أردنا وأنت طلبتنا ، فاستعد للحرب العوان ، واعلم انّا قاتلوك وقاتلوا أصحابك ، والموعد فيما بيننا وبينك غدا ضحوة ، فقال لهم عليّ عليه‏السلام : ويلكم! تهدّدونني بكثرتكم وجمعكم ، فأنا أستعين باللّه‏ وملائكته والمسلمين عليكم ، ولاحول ولا قوّة الاّ باللّه‏ العليّ العظيم .

        فلمّا جنّ الليل ، أمر عليّ عليه‏السلام أصحابه أن يحسنوا الى دوابهم ويقضموا ويسرجوا ، فلمّا انشقّ عمود الصبح صلّى بالناس بغلس ، ثم أغار عليهم بأصحابه فلم يعلموا حتى وطأتهم الخيل ، فما أدرك آخر أصحابه حتى قتل مقاتليهم ، وسبى ذراريهم ، واستباح أموالهم ، وخرّب ديارهم ، وجاء بالاسارى والاموال معه ، وأنزل اللّه‏ تعالى سورة العاديات ، قال تعالى :

 

(1) وفي رواية انّه بعث عمرو بن العاص بعدهما ، فرجع خائبا كما رجعا (منه رحمه‏الله ) .
(87)

 

        « وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحَا » قسما بخيل الغزاة تعدو ، فتضبح ضبحا .

        « فَالْموُرِيَاتِ قَدْحَا » التي توري النار أي تخرجها بحوافرها من حجارة الارض .

        قال علي بن ابراهيم القمي : « كانت بلادهم فيها حجارة ، فاذا وطأتها سنابك الخيل كانت تنقدح منها النار »(1) .

        « فَالْمُغِيَراتِ صُبْحَا » قسما بالتي تغير على العدو صباحا .

        « فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعَا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعَا » أي ثارت الغبرة من ركض الخيل فأحاطوا بجمع الكفار .

        « إِنَّ الاْءنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ » أي انّ الانسان كفور بربه ، وانّه شاهد على هذا العداء ، وانّه لشديد الحبّ للمال والحياة .

        « أَفَلاَ يَعْلَمُ إذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِى الصُدُورِ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرُ »(2) .

        رُوي انّه كانت لأمير المؤمنين عصابة لا يتعصب بها حتى يبعثه النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في وجه شديد ، فلمّا أراد الخروج مضى الى منزل فاطمة عليهاالسلام فالتمس العصابة منها ، فقالت : أين تريد ؟ وأين بعثك أبي ؟ قال : الى وادي الرمل ، فبكت اشفاقا عليه ، فدخل النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وهي على تلك الحال ، فقال لها : ما لك تبكين ؟ أتخافين أن يقتل بعلك ، كلاّ ان شاء اللّه‏ تعالى ، فقال له عليّ عليه‏السلام : لا ، تنفس عليّ بالجنّة يا رسول اللّه‏ ؟(3) .

        فخرج عليه‏السلام وشيّعه النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى مسجد الاحزاب ، فلمّا رجع خرج النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله مع أصحابه يستقبله فقام المسلمون له صفين ، فلمّا رأى سلطان الولاية شمس سماء النبوة قذف بنفسه من على الفرس ، وأهوى الى قدميه الشريفة يقبلهما ، فقال له صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : « اركب فانّ اللّه‏ تعالى ورسوله عنك راضيان »(4) ، فبكى أمير المؤمنين عليه‏السلام فرحا وانصرف الى منزله وتسلّم المسلمون الغنائم .

        فقال النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لبعض من كان معه في الجيش : كيف رأيتم أميركم ؟ قالوا : لم ننكر منه شيئا الاّ انه لم يؤم بنا في صلاة الاّ قرأ بنا فيها بقل هو اللّه‏ أحد ، فقال النبي : سأسأله عن ذلك . فلمّا جاءه قال له : لِمَ لَمْ تقرأ بهم في فرائضك الا بسورة الاخلاص ؟ فقال : يا رسول اللّه‏ أحببتها ، قال النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : فانّ اللّه‏ قد أحبك كما أحببتها ، ثم قال له : يا عليّ لو لا انّني اشفق أن تقول فيك طوائف ما قالت النصارى في عيسى بن مريم ، لقلت

 

(1) تفسير القمي 2:434 ، المناقب لابن شهر آشوب 3:140 .
(2) سورة العاديات : 1 ـ 12 .
(3) الارشاد : 60 .
(4) الارشاد : 61 ، مع اختلاف ما .
(88)

 

فيك اليوم مقالاً لا تمرّ بملأ منهم الا أخذوا التراب من تحت قدميك ... »(1) .

        يقول هذا الفقير : انّ أمير المؤمنين عليه‏السلام لمّا ظفر بالاعداء ، قتل أكثر رجالهم ، وسبى نسائهم وذراريهم ، وأسر باقي رجالهم وأوثقهم بالسلاسل ، فسمّيت هذه الغزوة بذات السلاسل ، وموضع القتال يبعد عن المدينة بخمسة منازل .

فتح مكة المعظمة :

        لمّا صالح رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قريشا عام الحديبيّة ، كان من شروطهم أن لا يتعرض أحد الفريقين الى جار الآخر وحليفه من القبائل ، فدخلت خزاعة في حلف النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وعهده ، ودخلت كنانة وبني بكر في حلف قريش ، وكان بين القبيلتين شرٌ قديم .

        وفي أحد الايام هجا شخص من بني بكر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، ومنعه غلام من بني خزاعة ولكن البكري أصرّ على هجائه ، فحمل الخزاعي عليه وضربه ضربا شديدا ، فصارت بني بكر صفا واحدا على بني خزاعة لنصرة صاحبهم ، واستصرخوا قريشا .

        فنبذت قريش عهد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وراء ظهورها ، وأعانت بني بكرا بالكراع والسلاح ، وأغاروا على بني خزاعة ليلاً وقتلوا منهم عشرين رجلاً ، فلمّا بلغ ذلك رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قال : لا نصرت ان لم أنصر بني كعب .

        ثم أرسل الرسل الى القبائل ومعهم كتاب من رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، انّه من آمن باللّه‏ فليحضر الى المدينة شاكي السلاح أوّل شهر رمضان ، وأمر كل من في المدينة بالاستعداد ، وجعل العيون في الطرق والشوارع كي لا يصل الخبر الى مكة .

        فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا الى قريش يخبرهم بعزم النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وأعطاه الى امرأة اسمها سارة كي توصله الى قريش ، فوضعته في ذؤابتها وذهبت الى مكة .

        فنزل جبرئيل عليه‏السلام على النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وأخبره الخبر ، فأرسل أمير المؤمنين عليه‏السلام مع جمع آخر في طلبها كي يأخذ الكتاب منها ، فلمّا وصلوا اليها انكرت وأقسمت باللّه‏ انّها لا تحمل شيئا وأصرّت على الانكار ، فسلّ أمير المؤمنين عليه‏السلام سيفه وقال : أخرجي الكتاب والاّ واللّه‏ لأضربنّ عنقك ، فلمّا رأت هذا أخرجت الكتاب وسلّمته الى علي عليه‏السلام ، فجاء به الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فسأل صلى‏الله‏عليه‏و‏آله حاطبا عن سبب هذا الفعل ، فقال : انّ لي بمكة عشيرة ولي بها أهل ، فأردت أن أتخذ عندهم يدا ليحفظوني فيهم .

        فنزلت هذه الاية : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآئَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ ... »(2) .

        وخرج النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من المدينة في الثاني من شهر رمضان ، وقيل في العاشر منه في عشرة الاف رجل . قال إبن عباس : انّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله تناول قدحا في منزل عسفان ،

 

(1) الارشاد : 61 .
(2) سورة الممتحنة : 1 .
(89)

 

وشرب منه الماء وأفطر ، ولم يصم حتى وصل مكة .

        قال جابر : لمّا أفطر النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قيل له انّ بعض الناس لم يفطروا ، فقال : اولئك العصاة ، اولئك العصاة . امّا العباس عمّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فانه خرج مع أهله من مكة مهاجرا الى المدينة ، فلقى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في منزل سقيا وقيل في ذي الحليفة ، فسر النبي بلقياه وقال : انّها آخر هجرة كما انّ نبوتي آخر نبوة ، فبعث أهله الى المدينة ولازم هو ركب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        فسار صلى‏الله‏عليه‏و‏آله حتى وصل الى أربعة فراسخ من مكة ، فنزل في مرّ الظهران ، فقال العباس في نفسه : ان دخلها رسول اللّه‏ عنوة فهو هلاك قريش الى آخر الدهر ، فأراد الخروج الى أراك كي يلقى أحدا ويخبرهم الخبر ، فخرج على بغلة رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قاصدا الى أراك ، وفي الطريق سمع صوت أبي سفيان وبديل بن ورقاء يتكلّمان ، فقال : يا أبا سفيان فعرفه وقال له : يا أبا الفضل بابي أنت وأمي ما وراك ؟ وما حدث ؟

        قال العباس : ويلٌ لك هذا رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في اثني عشر الف من المسلمين ، قال : فما تأمرني ؟ قال : تركب عجز هذه البغلة فأستأمن لك رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله واعلم انّ أمر الحراسة في هذا الليلة بيد عمر بن الخطاب ، فان رآك قتلك [ لانّه كانت بين عمر وأبي سفيان خصومة في الجاهليّة ، وقيل انّ هند زوجة ابي سفيان كانت تؤالف وتحابب وتخالط فتيان من قريش وكان عمر من جملتهم ، ولذا كان يحقد على أبي سفيان رقيبه على هند ] .

        فركبا بغلة رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وقصدا خيمته ، فرآهما عمر فجاء الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وقال : يا رسول اللّه‏ هذا أبو سفيان عدوّ اللّه‏ قد أمكن اللّه‏ منه بغير عهد ولا عقد ، فدعني أضرب عنقه ، فقال العباس : يا رسول اللّه‏ انّي قد أجرته .

        قال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لأبي سفيان : يا أبا سفيان أسلم تسلم ، قال : فما نصنع باللات والعزّى ؟ فقال له عمر : أسلح عليهما(1) ، قال أبو سفيان : أفٍ لك ما أفحشك ، ما يدخلك يا عمر في كلامي وكلام إبن عمّي ، فقال له عمر : لو كنت خارج هذه الخيمة ما أمكنك هذا الجواب ، فنهاه النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله عن الغلطة ، وأمر العباس أن يبيّت أبا سفيان عنده حتى الصباح ، فلمّا أصبح سمع بلالاً يؤذن ، قال : ما هذا المنادي ؟ قال العباس : هذا مؤذن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فنظر أبو سفيان الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وهو يتوضأ وأيدي المسلمين ممدودة ، فليس قطرة تصيب رجلاً منهم الاّ مسح بها وجهه واستبق صاحبه ، فما كانت قطرة تصل الى الارض قط ، قال أبو سفيان : باللّه‏ لم أر كاليوم قط كسرى ولا قيصر ... فجاء بعد الصلاة الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وأسلم خوفا على نفسه ، فقال العباس : يا رسول اللّه‏ انّ أبا سفيان يحب الفخر فلو خصّصته بمعروف ، فقال : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن

 

(1) سلح أي تغوّط .
(90)

 

ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن أغلق بابه وكفّ يده فهو آمن ، ومن دخل الكعبة ووضع سلاحه فهو آمن .

        ثم أمر صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أن يجعل أبو سفيان في مضيق كي يرى جيش الاسلام عند عبوره ، فوضع هناك وكان ينظر الى أفواج الجند من أمامه ، ثم ظهرت الكتيبة التي كان رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فيها ، وهم خمسة الاف رجل من ابطال المهاجرين والانصار ، مدججين بالسلاح والحديد ، لابسين الدروع الداوديّة ، قاعدين على الجياد والابل الحمراء ، فقال أبو سفيان : يا عباس لقد أصبح ملك إبن أخيك عظيما ، قال : ويحك انها النبوة .

        ثم خرج أبو سفيان وذهب مسرعا الى مكة ، فرأته قريش من بعيد ورأت الغبار خلفه ولم يعلموا وصول النبي بعدُ ، فصاح بهم أبو سفيان : ويلٌ لكم هذا محمد في جيش كالبحر الموّاج ، واعلموا انّ من دخل بيتي كان آمنا ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن دخل البيت الحرام كان آمنا ، قالت قريش : قبّحك اللّه‏ ، ما هذا الخبر الذي أتيت به ؟ وأخذت هند تجر لحية أبي سفيان وتقول : اقتلوا هذا الشيخ الاحمق لئلا يتكلم بهذا الكلام .

        واجتمع جند الاسلام فوجا بعد فوج في ذي طوى ، ثم لحقهم رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فاجتمع المسلمون حوله ، فتذكر صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بعد ما رأى كثرة المسلمين وفتح مكة ايّام غربته ووحدته حينما خرج منها ، فوضع جبينه الطاهر على المحمل وسجد للّه‏ شكرا ، لانّه لما خرج من مكة وهاجر منها الى المدينة التفت نحوها وقال : « اللّه‏ يعلم انّني أحبك ، ولو لا أنّ أهلك أخرجوني عنك لما آثرت عليك بلدا ، ولا ابتغيت عليك بدلاً ، وانّي لمغتمّ على مفارقتك »(1) .

        ثم نزل صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الحجون (بفتح الحاء وضمّ الجيم وهو موضع من مكّة فيه قبر خديجة رضي اللّه‏ عنها) ودخل خيمته ، فاغتسل وخرج شاكي السلاح راكبا على راحلته قارئا سورة الفتح ، حتى وصل الى البيت الحرام فاستلم الحجر الاسود بمحجنه ، فكبّر وكبّر المسلمون معه، بحيث دوّى صداه في جميع جبال مكة ووديانها .

        ثم نزل صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من على ناقته ، وتوجّه الى كسرالاصنام التي كانت حول الكعبة ، فكان يشير اليها بعصاه ويقول : « وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقَا »(2) .

        « ... وَمَا يُبْدِى‏ءُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ »(3) .

        فكانت الاصنام تقع على وجوهها الى الارض الا بعض الاصنام الكبيرة كانت

 

(1) البحار 21:122 .
(2) الاسراء : 81 .
(3) سورة سبأ : 49 .
(91)

 

على سطح الكعبة ، فأمر صلى‏الله‏عليه‏و‏آله عليّا أن يضع قدميه على منكبيه ويصعد الى السطح ويلقي الاصنام منه الى الارض ، فصعد عليه‏السلام والقى بالاصنام الى الارض ، ونزل هو من الميزاب تأدبا للنبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فلمّا وصل الى الارض تبسّم فسأله النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله عن السبب فقال : ألقيت نفسي من مكان رفيع ولم يصبني شيء ، فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : كيف يصيبك أذا وقد حملك محمد وأنزلك جبرائيل .

        ثم أخذ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله مفاتيح الكعبة ففتح بابها ، وأمر أن تمحى صور الملائكة والانبياء المرسومة في جوف البيت ، ثم أخذ بعضادتي الباب وهلّل التهليلات المعروفة ، وخاطب أهل مكّة فقال : ماذا تقولون ؟ وماذا تظنّون ؟ قالوا : نقول خيرا ونظنّ خيرا ، أخ كريم وإبن أخ كريم وقد قدرت .

        فرقّ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قلبه وظهرت دمعته ، فلمّا رأى أهل مكة ذلك أخذوا بالبكاء والنحيب ، فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : اني أقول كما قال أخي يوسف : « لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَومَ يَغْفِرُ اللّه‏ُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ »(1) .

        ثم ذكر لهم جناياتهم ومعاداتهم له وايذاءهم له ، وقال : « الا لبئس جيران النبي كنتم ، لقد كذّبتم وطردتم ، وأخرجتم وفللتم ، ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلوني ، فاذهبوا فأنتم الطلقاء »(2) .

        ثم دخل وقت الظهر ، فأمر بلالاً فصعد على الكعبة وأذّن ، وكان جمع من المشركين في البيت وجمع آخر على الجبال ، فلمّا سمعوا الاذان ، بدأ بعض منهم بالكلام البذيء الفاحش ، منهم عكرمة بن ابي جهل قال : اكره أن أسمع صوت أبن رياح ينهق على الكعبة ، وقال خالد بن أسيد : الحمد للّه‏ الذي أكرم أبا عتاب من هذا اليوم أن يرى إبن رياح قائما على الكعبة ، وقال أبو سفيان : أمّا انا فلا أقول شيئا ، واللّه‏ لو نطقت لظننت أنّ هذه الجدر تخبر به محمدا .

        فابلغ جبرئيل عليه‏السلام ذلك الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فأحضرهم وقال لكل مقالته ، فأسلم بعض منهم ، ثم جاء رجال قريش للبيعة وفيهم أبو قحافة ، وكان آنذاك كهلاً واعمى ، ونزلت سورة : « إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّه‏ِ وَالْفَتْحُ »(3) .

        ثم كانت بيعة النساء ، فوضع صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يده في طست من الماء ، فقال لكل من تريد بيعته أن تضع يدها فيه لانّه لا يصافح النساء ، وقيل : انّ أمية أخت خديجة أخذت البيعة من النساء للنبيّ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فنزلت هذه الاية :

        « يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنتِ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللّه‏ِ شَيْئا وَلاَ يَسْرِقْنَ

 
(1) سورة يوسف : 92 .
(2) البحار 21:132 ، المناقب 1:209 .
(3) النصر : 1 .
(92)

 

وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتنٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّه‏َ إِنَّ اللّه‏َ غَفُورٌ رَحِيمٌ »(1) .

        فقامت امّ حكيم بنت الحارث بن هشام(2) ، وزوجة عكرمة بن أبي جهل وقالت : يا رسول اللّه‏ ما هذا المعروف الذي أمرنا اللّه‏ أن لا نَعْصِيَنَّك فيه ؟ فقال : الاّ تُخمشنَ وجها ، ولا تلطمْنَ خدا ، ولا تنتفْنَ شعرا ، ولا تمزقنَ جيبا ، ولا تسودْنَ ثوبا ، ولا تدعوَنَّ بالويل والثبور عند قبر ، فبايعهنَّ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله على هذه الشروط .

ذكر غزوة حنين :

        أسلمت أكثر قبائل العرب بعد فتح مكة لكن قبيلتي هوازن وثقيف ـ وفيهما رجال أبطال ـ تكبرت وأبت أن تسلم ، وتعاهدوا على قتال النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        فأخذ مالك بن عوف النصري ـ رئيس هوازن ـ بتجهيز الجيش والتهيؤ للقتال ، وساقوا معهم أموالهم ونساءهم وذراريهم ، وكانوا أربعة الاف مقاتل ، فبعث مالك رسولاً الى قبيلة بني سعد واستنصرهم ، فأبوا وقالوا : انّ محمدا رضيعنا وربي فينا فلا نحاربه ، ولكن بتكرار الرسل والكتب وبالخدعة أغوى مالك جمعا منهم فالتحقوا به .

        وأخذ مالك يستعد ويجمع الرجال والمقاتلين من اكناف البلاد حتى بلغ عددهم ثلاثين الف مقاتل بطل ، فخرج بهم ونزل في وادي حنين .

        فلمّا بلغ ذلك رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أخذ بالاستعداد والتهيؤ للقتال ، وخلّف عتاب بن اسيد على مكة ، وأمر معاذ بن جبل بالبقاء معه لتعليم الناس وارشادهم ، ثم خرج في الفي رجل من أهل مكة وعشرة الاف ممن كان معه ، فكان المجموع اثني عشر الف رجل ، وقيل كانوا ستة عشر الف رجل ، وأخذ مائة درع وبعض أدوات الحرب من صفوان بن امية عارية ، وذهب الى حنين .

        وفي رواية انّ ابا بكر أعجبته كثرة الجيش فقال : لن نغلب اليوم من قلة فعانهم(3) بعجبه بهم ، قال اللّه‏ تعالى : «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه‏ُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ »(4) .

        ومن ناحية أخرى ، فقد أمر مالك بن عوف جمعا من رجاله بأن يكمنوا في طريق جيش المسلمين كي يهجموا عليهم بغتة .

        أما رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فانه عقد اللواء الاكبر بعد الفجر ودفعه الى أميرالمؤمنين عليه‏السلام ، ووزّع ما بقى من الرايات بين قوّاد الجيش وانحدر في وادي حنين ، فكان خالد بن

 

(1) الممتحنة : 12 .
(2) وقيل انّ السائلة كانت ام حكيم بنت الحارث بن عبد المطّلب (منه رحمه‏الله )
(3) عان عينا الرجل : أصابه بالعين .
(4) سورة التوبة : 25 .
(93)

 

الوليد اوّل من وصل الى الوادي ، ومعه جمع من المسلمين ولم يكن معهم سلاح ، وكان في طريق المسلمين مضيق لم يمكنهم العبور منه بأجمعهم ، فتفرقوا بسببه وأخذ كل فوج منهم طريقا .

        فهجمت هوازن بغتة وخرجت من كمينها لمّا رأت تمزّق جيش المسلمين ، وأخذت تضربهم بالسهام ، فأول من انهزم من المسلمين فوج خالد بن وليد ومعه قبيلة بني سليم ، وانهزم بعدهم مشركوا قريش الذين أسلموا حديثا ، ثم انهزم بعدهم أصحاب الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بعد ما أصابهم الضعف .

        وكان النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله جالسا على بغلة بيضاء ، وقيل كان جالسا على (الدلدل) ، فلمّا رأى انهزام الجيش أخذ يناديهم ويقول : الى أين أيها الناس .

        فانهزم جميع الجيش ولم يبق مع النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الا عشرة أشخاص ، تسعة من بني هاشم وعاشرهم أيمن بن أم ايمن الذي قتل على يد مالك ، وبقي هؤلاء التسعة ، منهم العباس بن عبد المطلب وكان على يمين الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، والفضل بن العباس على يساره.

        وكان أمير المؤمنين عليه‏السلام يقاتل بين يديه ويدفع عنه المشركين ، وكان أبو سفيان بن الحارث ، وربيعة بن الحارث ، وعبد اللّه‏ بن الزبير بن عبد المطلب ، وعتبة ، ومعتب ابنا ابيلهب ، حول النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        فلمّا رأى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ذلك أخذ يقاتل القوم وهو على بغلته ويرتجز :

 أنا النبي لا كَذِبْ

 أنا بن عبد المطّلب

        ولم يقاتل صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في حرب قط الاّ في هذه الغزوة ، وفي رواية عن الفضل بن العباس انّه قال : ضرب عليّ عليه‏السلام يومئذ أربعين مبارزا كلّهم يقدّه حتى أنفه وذكره (أي ينشق أنفه وذكره الى شقين) ، قال : وكانت ضرباته مبتكرة(1) ، أي يقتلهم بالضربة الاولى ولا يحتاج الى الثانية .

        وكان رجل من هوازن يقال له : أبو جرول أمام القوم على جمل أحمر ، وبيده راية سوداء في رأس رمح طويل ، اذا ادرك أحد المسلمين قتله ثم يرفع رايته فيتبعه المشركون ، وكان يرتجز ويقول :

 أنا أبو جرول لا براح

 حتى نبيح اليوم أو نُباح

        فصمد له أمير المؤمنين عليه‏السلام فضرب عجز بعيره فصرعه ، كما فعل ببعير أصحاب الجمل ، ثم ضرب أبا جرول فقدّه نصفين وقال :

 قد علم القوم لدى الصباح

 انّي لدى الهيجاء ذو نضاح

        فضعف المشركون بعده وكانت هزيمتهم بقتله ، فنادى العباس وكان رجلاً جهوريّا صيّتا : يا معشر الانصار ، يا أصحاب بيعة الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرة ،

 

(1) البحار 21:179 .
(94)

 

فرجع المسلمون ولحقوا المشركين .

        فأخذ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قبضة من التراب ونثرها على الاعداء فقال : « شاهت الوجوه » ، وقال أيضا : « الّلهم انّك أذقت اوّل قريش نكالاً فأذق آخرها نوالاً »(1) وفي رواية انّه نزلت خمسة الاف من الملائكة يومذاك لنصرة المسلمين .

        ففرّ مالك بن عوف ومعه جمع من هوازن وثقيف الى الطائف ، وذهب جمع آخر الى الاوطاس ـ موضع يبعد عن مكة ثلاثة منازل ـ وفرّ بعضهم الى بطن النخلة ، ونادى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من قتل كافرا فله سلاحه ولباسه .

        قيل : انّ ابا طلحة قتل عشرين رجلاً وسلبهم ، واستشهد أربعة من المسلمين في هذه الحرب ، وبعد ما انهزم المشركون تبعهم الف وخمسمائة رجل مقاتل من المسلمين ، فقتلوا كل من وجدوه الى ثلاثة ايّام حتى سبوا جميع نسائهم وأموالهم .

        فأمر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أن توضع الغنائم بأرض الجعرانة كي تقسم على الجميع بالسوية ، وكانت ستة الاف أسير ، واربعة وعشرين الف ناقة ، وأكثر من أربعين الف شاة ، وأربعين كيلو فضة ، وكانت من بين الاسرى شيماء (على وزن حمراء) بنت حليمة أخت النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله رضاعا ، فلمّا عرّفت نفسها تلطّف صلى‏الله‏عليه‏و‏آله اليها ونزع بردته وبسطها لها فأجلسها عليها ، ثم أكبّ عليها يسألها ويتكلّم معها ، ثم خيّرها صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بين البقاء معه والذهاب الى عشيرتها ، فاختارت الرجوع الى الوطن ، فأعطاها غلاما وقيل أعطاها جارية وناقتين وشياه .

        وبعد هذا تكلمت مع النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في شفاعة قومها والاسرى من هوازن ، فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : امّا نصيبي ونصيب بني عبد المطلب فهو لك ، وامّا ما كان للمسلمين فاستشفعي بي عليهم .

        فلمّا صلّوا الظهر قامت فتكلّمت ، فوهب لها الناس أجمعون رعاية لحق رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الا الاقرع بن حابس وعيينة بن حصن فانّهما أبيا أن يهبا ، فأقرع رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بينهم ثم قال : اللهم توّه سهميهما (أي أجعله حقيرا) فأصاب أحدهما خادما لبني عقيل ، وأصاب الآخر خادما لبني نمير ، فلمّا رأيا ذلك وهبا ما منعا .

        ثم أمر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله مناديا ينادي في وادي أوطاس حينما قسمت النساء : ان لا توطأ الحبالى حتّى يضعن ، ولا غير الحبالى حتى يستبرأن بحيضة . وأحرم رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من الجعرانة ، وقد بقي من ذي القعدة اثنا عشر يوما ، فذهب الى مكة وطاف بالبيت وأتمّ العمرة ، وأبقى عتاب بن أسيد حاكما على مكة ، وكان يعطيه في كل يوم درهما من بيت المال ، وكثيرا ما كان يخطب عتاب ويقول :

        « ايّها الناس أجاع اللّه‏ كبد من جاع على درهم ، فقد رزقني رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله درهما

 

(1) الارشاد : 75 .
(95)

 

كل يوم ، فليست بي حاجة الى أحد »(1) .

        وتوفّت في هذه السنة زينب بنت رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله زوجة أبي العاص بن الربيع (قيل انّه صنع لها تابوتا وهو أوّل تابوت صنع في الاسلام) وولدت له ولدين ، احدهما عليّ وقد مات قبل بلوغه ، والثاني أمامة التي تزوجها أمير المؤمنين عليه‏السلام بعد وفاة المظلومة فاطمة الزهراء عليهاالسلام حسب وصيّتها له .

        وفي هذه السنة أيضا وُلِدَ للنبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ابراهيم .

« حوادث السنة التاسعة للهجرة »

        في مستهل هذه السنة بعث رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله عامليه لاخذ الزكاة من قبائل المسلمين ، إلا انّ بني تميم امتنعوا من اعطاء الزكاة فخرج اليهم خمسون رجلاً من المسلمين لمجازاتهم ، وأغاروا عليهم بغتة وسبوا أحد عشر رجلاً وأحدى عشرة امرأة وثلاثين طفلاً وجاؤوا بهم الى المدينة .

        فجاء كبار القوم من بني تميم الى المدينة ، منهم عطارد بن حاجب بن زرارة ، بن بدر ، وعمرو بن اهتم ، وأقرع بن حابس ومعهم خطيبهم وشاعرهم ، فلمّا قدموا المدينة أخذوا يطوفون حول حجرات النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ويقولون أخرج يا محمد ، فأيقظوا النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من نوم القيلولة ، فنزلت هذه الاية المباركة :

        « إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرَا لَهُمْ وَاللّه‏ُ غَفُورٌ رَحِيمٌ »(2) .

        فقالوا للنبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : جئنا بشاعرنا وخطيبنا كي نتكلّم معك بطريق المفاخرة ، فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ما بالشعر بعثت ، ولا بالفخار أمرت .

        فقام عطارد وأنشأ خطبة في فضل بني تميم ، ثم أنشد الزبرقان بن بدر(3) هذه الاشعار :

 نحن الكرام فلا حيّ يعادلنا

 نحن الرؤوس وفينا السادة الرفع

 ونطعم الناس عند القحط كلّهم

 من الشريف اذا لم يونس القزع(4)

        فلمّا أتمّ خطيب بني تميم أمر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ثابت بن قيس خطيب الانصار أن يقوم ويخطب ، فقام وخطب خطبة أفصح وأطول من خطبتهم ، ثم أمر حسّانا أن يقوم ويجيبهم ، فقام وأنشد قصيدة منها هذه الابيات :

 

(1) سيرة إبن هشام 4:143 .
(2) سورة الحجرات : 4 ـ 5 .
(3) زبرقان ، بكسر الزاء بمعنى القمر ، وهو لقب حصين بن بدر ولقّب به لجماله أو لصفرة عمامته . (منه رحمه‏الله )
 (4) القزع : السحاب المتفرّق .
(96)

 

 انّ الذوائب من فهر وأخوتهم

 قد بينوا سنة للناس تتبع

 يرضى بها كل من كانت سريرته

 تقوى الاله وبالأمر الذي شرعوا

 قوم اذا حاربوا ضروا عدوّهم

 أو حاولوا النفع من أشياعهم نفعوا

 سجية تلك منهم غير محدثة

 انّ الخلايق فاعلم شرها البدع

 لا يرفع الناس ما أوهت اكفّهم

 عند الدفاع ولا يوهون ما رفعوا

 ان كان في الناس سباقون بعدهم

 فكل سبق لأدنى سبقهم تبع

 لا يجهلون وان حاولت جهلهم

 في فضل أحلامهم عن ذاك متسع

 إن عفة ذكرت في الوحي عفتهم

 لا يطمعون ولا يرديهم الطمع

        فقال أقرع بن حابس : واللّه‏ انّ محمدا لمؤتى له من الغيب ، لخطيبه أخطب من خطيبنا ، وشاعره أشعر من شاعرنا فأوثقوا اسلامهم ، ثم أطلق صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أسراهم وأعطى لكل واحد منهم جائزة تليق بشأنه .

ذكر غزوة تبوك :

        تبوك (بفتح التاء وضم الباء) موضع ما بين الحِجْر ـ وهي ديار ثمود وبلادهم الذين قال اللّه‏ تعالى فيهم : « كذّب حجر المرسلين » ـ والشام واسم حصن وبئر سار اليه جيش المسلمين ، وتسمى هذه الغزوة بالفاضحة أيضا لان المنافقين عرفوا فيها وانفضحوا ، وسمي الجيش بجيش العسرة لما لحقهم من العسرة والجوع ، وهي من أواخر غزوات النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        وكان سبب هذه الغزوة انّ جمعا من التجّار خرجوا من الشام الى المدينة للتجارة ، فأشاعوا بالمدينة أنّ الروم قد اجتمعوا لغزو المدينة ومعهم قبائل لخم وحذام وعاملة وغسّان وقد قدم عسكرهم البلقاء ، فأمر صلى‏الله‏عليه‏و‏آله المسلمين بالتهيؤ والاستعداد للحرب ، لكن شقّ عليهم الخروج للقتال لانّه كان وقت ادراك الثمار وحصاد الغلاّت ، ولبعد المسافة وكثرة الاعداء وشدّة الحرّ ، فأنزل اللّه‏ تعالى :

        « يَا أَيَّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللّه‏ِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاْءَرْضِ ... »(1) .

        فجمعت النفقات والصدقات من المسلمين وكان لابي عقيل الانصاري عملٌ اجرته صاعان من التمر ، فوضع صاعا منه عند عياله وأعطى الصاع الآخر للنبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فأمر أن يجعل في الصدقات ، فسخر منه المنافقون وقالوا بعض الأقاويل فنزلت هذه الاية :

        « الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِى الصَّدَقتِ ... »(2) .

 

 

(1) سورة التوبة : 38 .
(2) سورة التوبة : 79 .
(97)

 

        وأرسلت النساء حليها الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لتشارك في تجهيز الجيش ، فقام النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بتجهيز الجيش وأمر الجيش أن يأخذوا معهم اعداد اضافية من النعل لان المنتعل يعد كالفارس في تحمّله ، وبلغ جيش المسلمين ثلاثين الف مقاتل وفيهم الف فارس ... ثم جاء اثنان وثمانون نفرا الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فاعتذروا من اللحوق بالجيش لفقرهم وعسرهم وغيرها من الاعذار الواهية ، فاستغنى صلى‏الله‏عليه‏و‏آله عنهم ونزلت هذه الاية :

        « وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الاْءعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ ... »(1) .

        وتخلف أيضا جمع من المنافقين من دون عذر ، وكانوا يجبنون الناس ويخذلونهم ويقولون : أيرى محمد انّ حرب الروم مثل حرب غيرهم ، لا يرجع منهم أحد أبدا ، فكانوا يكثرون الكلام في هذا الباب ، فنزلت هذه الاية الكريمة :

        « فَرِحَ الُْمخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلفَ رَسُولِ اللّه‏ِ ... »(2) .

        ولمّا أذن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله للمنافقين بالقعود والتخلف عن المسير مع الجيش نزلت الاية : « عَفا اللّه‏ُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ... »(3) .

        فلمّا بقي المنافقون في المدينة عزموا على نهب بيت النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فيما اذا طال سفر النبي أو انكسر جيش المسلمين ، واخراج أهله وعياله من المدينة ، فعلم صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ذلك فخلف أمير المؤمنين عليه‏السلام مكانه كي لا يصل المنافقون الى قصدهم ، وكذلك لاظهار انّ الخلافة بعده لا تصلح الاّ لأمير المؤمنين عليه‏السلام .

        فلمّا خرج صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قال المنافقون : انّما خلّف عليا استثقالاً منه ، فلمّا بلغ أمير المؤمنين عليه‏السلام ذلك خرج من المدينة ولحق النبي بالجرف وأخبره مقولتهم ، فأمره النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بالرجوع وقال له :

        « أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى الاّ انّه لا نبي بعدي »(4) .

        ولم يلحق المسلمين من العسرة والشدة ما لحقهم في هذه الغزوة ، وكان لكل عشرة من المسلمين بعير ، يركب الرجل ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك ، وكان لكل رجلين منهم تمرة يأخذها اذا جاع فيمصّها ثم يعطيها صاحبه فيمصّها ، وكان زادهم الشعير المسوس والتمر الزهيد والأهالة السنخة(5) ، وكانوا ينحرون البعير ـ مع قلّته ـ ويشربون ما في جوفه من الماء لشدّة الحرّ وقلّة الماء عندهم ، ولذا سمّي هذا الجيش بجيش العسرة لملاقاتهم لتلك الشدائد الثلاث (قلّة المركب ، وقلّة الماء

 

(1) التوبة : 90 .
(2) سورة التوبة : 81 .
(3) سورة التوبة : 43 .
(4) الارشاد : 83 ، البحار 21:207 ، وغيرها من المصادر الكثيرة .
(5) الاهالة : ما أذيب من الألية والشحم ، والسنخة : المتغيرة الريح .
(98)

 

والطعام ، وشدّة الحرّ) قال اللّه‏ تعالى : «لَقَدْ تَّابَ اللّه‏ُ عَلَى النَّبِىِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالاْءنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ...»(1) .

        وظهرت معاجز كثيرة لرسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في هذه الغزوة كاخباره صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بمقالة المنافقين ، وتكلّمه مع الجبل وجوابه بلسان فصيح ، وتكلّمه مع الجنّي الذي ظهر على صورة حيّة عظيمة في الطريق ، واخباره عن الناقة الضالة ، وازدياد ماء بئر تبوك ببركته صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى غير ذلك من المعاجز والايات .

        ولمّا انتشر خبر نزول النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله والمسلمين في اراضي تبوك دعا هراقليوس ـ امبراطور اروبا والشام وبيت المقدس والذي كان آنذاك فيحمص ـ الناس الى تصديق النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله والايمان به ، وكان يحب النبى صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في أوّل الامر وعلى رواية انّه أسلم ، ولكن الناس عصوه وجبنوه وعارضوه الى درجة انّه خاف على ملكه وسلطانه ، فسكت لمّا رأى ذلك من قومه .

        امّا النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فانّه لما علم كذب خبر استعداد قيصر للهجوم على المدينة جمع صناديد الاصحاب واستشارهم في الهجوم على الروم واحتلال ممالك بني الاصفر أو الرجوع الى المدينة ، فكان رأي البعض في الرجوع ، فرجع صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من هناك الى المدينة .

        وكانت قصة اصحاب العقبة عند رجوعه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وهم رهط من المنافقين أرادوا ان يعقروا بعير النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في العقبة ويقتلوه . فجاء جبرئيل عليه‏السلام فأخبر النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ذلك ، فركب دابته وأمر عمارا أن يقودها ، وأمر حذيفة أن يسوقها ، فلما وصل الى العقبة أمر أن لا يجتازها أحدٌ قبله ، فصعد بنفسه العقبة ورأى المنافقين وعلى وجوههم الأقنعة كي لا يعرفوا ، فصاح بهم الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فانهزموا ، وأخذ عمار وحذيفة يضربان رواحلهم .

        قال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لحذيفة : من عرفت من القوم ، فقال : لم أعرف منهم أحدا ، فأخبره بأسمائهم وأمره بالكتمان ، ولذا كان حذيفة يمتاز عن سائر الصحابة لمعرفته بالمنافقين ويقال له : صاحب السرّ الذي لا يعلمه غيره . وقد روى البعض هذه القصة في رجوع النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من حجة الوداع .

        وفي رجوعه من تبوك هدم رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله مسجد ضرار الذي بناه المنافقون كي يكون في مقابل مسجد قبا ، ولكي يصلي فيه أبو عامر الفاسق ، فأمر صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بقلعه من اساسه ، فصار موضع يقذف فيه الخبائث ، فنزلت في شأنه وشأن مسجد قبا هذه الاية الشريفة :

        « وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدا ضِرَارا ... »(2) .

 

 

(1) سورة التوبة : 117 .
(2) سورة التوبة : 107 .
(99)

 

        فلمّا دخل صلى‏الله‏عليه‏و‏آله المدينة وقد بقي من شهر رمضان بقية ، ذهب الى المسجد كعادته فصلّى فيه ركعتين ثم ذهب الى البيت .

        وبعد رجوع النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من تبوك وفي العشرة الاخيرة من شوال ، مرض عبد اللّه‏ بن أبيّ رأس المنافقين ، وبقي عشرين يوما على تلك الحالة حتى مات في ذي القعدة ، وامّا سبب رعاية النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لحقه وعنايته له فمن أجل ابنه عبد اللّه‏ ولأجل حِكَمٍ أخرى لم يقف عليها أحد ، واعتراض عمر على النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله مذكور في محله(1) .

        وفي هذه السنة أرسل رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ابابكر الى مكّة لقراءة الايات الاوائل من سورة البراءة ، فلمّا خرج من المدينة أحرم من ذي الحليفة وذهب الى مكة ، فنزل جبرئيل عليه‏السلام على النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ومعه سلام من اللّه‏ عليه فقال : لا يؤديها الاّ أنت أو رجل منك ، وفي رواية أخرى قال : لا يبلّغ عنك الاّ عليّ .

        فأمر عليّا عليه‏السلام بالذهاب خلف ابي بكر ، وأن يأخذ الايات منه ويبلّغها بنفسه ويقرأها على الناس ، فلقيه في منزل (الروحاء) فأخذ الايات منه ثم ذهب الى مكة فقرأها على الناس .

        وروي عن الصادق عليه‏السلام في أحاديث معتبرة ان عليّا عليه‏السلام وافى بها الموسم ، فبلّغ عن اللّه‏ وعن رسوله بعرفة والمزدلفة ويوم النحر عند الجمار ، وفي ايام التشريق كلها ينادي بالايات التي بعث بها مخترطا سيفه قائلاً : لا يطوف بالبيت عريان ولا عريانة ، ولا مشرك الا من كان له عهد عند رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فمدّته الى هذه الاشهر الاربعة .

        وفي رواية انّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أرسل أبابكر في اول ذي الحجة فلحقه عليّ عليه‏السلام في اليوم الثالث في الروحاء ، فأخذ الايات منه وذهب الى مكة ورجع أبو بكر الى المدينة . والاخبار في عزله وارسال عليّ عليه‏السلام كثيرة في كتب العامة والخاصة .

        وتوفي في السنة التاسعة النجاشي ملك الحبشة ، ففي اليوم الذي مات فيه أخبر

 

(1) اعتراض عمر على النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كما ذكره عليّ بن ابراهيم القمي في تفسيره (الجزء الاول ، ص 302) انّه :
        لمّا رجع رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى المدينة ، مرض عبد اللّه‏ بن أُبَي وكان ابنه عبد اللّه‏ بن عبد اللّه‏ مؤمنا فجاء الى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وأبوه يجود بنفسه فقال : يا رسول اللّه‏ بأبي أنت وأمي انّك ان لم تأت أبي كان ذلك عارا علينا ، فدخل رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله على ابيه والمنافقون عنده فقال ابنه عبد اللّه‏ بن عبد اللّه‏ : يا رسول اللّه‏ استغفر له ، فاستغفر له (النبي) فقال عمر : ألم ينهك اللّه‏ يا رسول اللّه‏ أن تصلي عليهم أو تستغفر لهم فأعرض عنه رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فأعاد عليه فقال له : ويلك إنّي خيرت فأخترت انّ اللّه‏ يقول :
        « استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر اللّه‏ لهم » .
        فلمّا مات عبد اللّه‏ جاء ابنه الى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فقال بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه‏ ان رأيت أن تحضر جنازته ، فحضره رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وقام على قبره ، فقال له عمر يا رسول اللّه‏ ألم ينهك اللّه‏ أن تصلّي على أحد منهم مات أبدا وأن تقوم على قبره ؟ فقال له رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : ويلك وهل تدري ما قلت ؟ انّما قلت اللهم احش قبره نارا وجوفه نارا وأصله نارا ، فبدا من رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ما لم يكن يحب .
(100)

 

النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بموته في ذلك اليوم وقال لهم : اليوم مات رجل صالح قوموا للصلاة عليه . وقيل : ان جنازته ظهرت امام النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فصلّى عليه مع أصحابه .

« حوادث السنة العاشرة للهجرة »

قصة المباهلة مع نصارى نجران :

        روى الشيخ الطبرسي وجمع آخر انّه : قدم على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وفد نجران فيهم بضعة عشر رجلاً من أشرافهم وثلاثة نفر يتولّون أمورهم ، العاقب(1) وهو أميرهم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون الاّ من رأيه وأمره واسمه عبد المسيح ، والسيد(2) وهو ثمالهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم ، وأبو حارثة إبن علقمة(3) الاسقف وهو حبرهم وامامهم وصاحب مدارسهم وله فيهم شرف ومنزلة ، وكانت ملوك الروم قد بنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم من علمه واجتهاده في دينهم .

        فلمّا توجهوا الى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله جلس أبو حارثة على بغلة والى جنبه أخ له يقال له : كرز ، وبشر بن علقمة يسايره ، اذ عثرت بغلة أبي حارثة فقال كرز : تعس الأبعد ـ يعني رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ـ فقال له أبو حارثة : بل أنت تعست ، قال له : ولِمَ يا أخ ؟ فقال : واللّه‏ انّه النبي الذي كنّا ننتظره ، قال كرز : فما يمنعك ان تتبعه ؟ فقال : ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفّونا وموّلونا وأكرمونا وقد أبوا الاّ خلافه ، ولو فعلت نزعوا منّا كلّ ما ترى ، فأضمر عليها منه أخوه كرز ... فلمّا قدم على النبي أسلم .

        قال : فقدموا على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وقت العصر وفي لباسهم الديباج وثياب الحبرة على هيئة لم يقدم بها أحد من العرب ، ... ثم أتوا رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فسلّموا عليه فلم يردّ عليهم السلام ولم يكلّمهم ، فانطلقوا يتتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وكانا معرفة لهم ، فوجدوهما في مجلس من المهاجرين فقالوا : انّ نبيّكم كتب الينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له ، فأتيناه وسلّمنا عليه فلم يرد سلامنا ولم يكلّمنا ، فما الرأي ؟ فقالا لعليّ بن أبي طالب عليه‏السلام : ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ قال : أرى

 

(1) ومنهم أسهم بن النعمان ويسمّى بأسقف نجران وكان كالعاقب في علوّ المرتبة والسمو .(منه رحمه‏الله )
(2) جاء في النسخة الفارسية بدل السيد ، عبد المسيح ، لكن ورد في المصدر وفي بقية المصادر ما اثبتناه .
(3) اسمه حصين بن علقمة وكان نسبه من بكر بن وائل وكان عمره مائة وعشرين سنة ، وكان معتقدا بنبوة رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله باطنا . (منه رحمه‏الله )
(101)

 

أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ثم يعودون اليه ، ففعلوا ذلك فسلّموا فردّ عليهم سلامهم ثم قال : والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرّة الاولى وانّ ابليس لمعهم .

        ثم ساءلوه ودارسوه يومهم ، وقال الأسقف : ما تقول في المسيح يا محمد ؟ قال : هو عبد اللّه‏ ورسوله(1) . قالوا لرسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : هل رأيت ولدا من غير ذكر ؟ فنزلت :

        « إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه‏ِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ »(2) .

        فلمّا طالت المناظرة والحّوا في عصيانهم وخصومتهم ، أنزل اللّه‏ تعالى :

        « فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوا نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَّعْنَتَ اللّه‏ِ عَلَى الْكذِبِينَ »(3) .

        فقالوا للنبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : نباهلك غدا ، وقال أبو حارثة لأصحابه : انظروا محمدا في غد ، فان غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته ، وان غدا بأصحابه فباهلوه فانّه على غير شيء ، فذهب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله صباحا الى بيت عليّ عليه‏السلام ، فأخذ بيد الحسن والحسين وخرج من المدينة وبين يديه عليّ عليه‏السلام وفاطمة عليهاالسلام تتبعه .

        فلمّا رأى ذلك رؤساء نجران قال أبو حارثة : من هؤلاء الذين معه ؟ قالوا : هذا إبن عمّه زوج ابنته يتقدمه ، وهذان ابنا ابنته ، وهذه بنته أعزّ الناس عليه وأقربهم الى قلبه ، وتقدم رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فجثا على ركبتيه فأخذ السيد والعاقب أولادهم وجاؤوا للمباهلة .

        قال أبو حارثة : جثا واللّه‏ كما جثا الانبياء للمباهلة ، فكع(4) ولم يقدم على المباهلة ، فقال له السيد : أين تذهب ؟ قال : لا انّي لأرى رجلاً جريئا على المباهلة ، وانا أخاف أن يكون صادقا ، فلا يحول واللّه‏ علينا الحول وفي الدنيا نصراني يطعم الماء ، وفي رواية أخرى انّه قال : انّي لأرى وجوها لو سألوا اللّه‏ أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله ، فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الارض نصراني الى يوم القيامة .

        ثم جاء أبو حارثة الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فقال : يا أبا القاسم انّا لا نباهلك ولكن نصالحك ، فصالحنا على ما ننهض له ، فصالحهم على ألفي حلّة قيمة كل حلّة أربعون درهما ، وعلى عارية ثلاثين درعا وثلاثين رمحا وثلاثين فرسا ان كان حربٌ ، فكتب لهم بذلك كتابا فانصرفوا راجعين الى بلادهم(5) .

        قال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله والذي نفسي بيده لو لا عنوني لمسخوا قردة وخنازير ،

 

(1) اعلام الورى : 135 ملخّصا ، عنه البحار 21:336 .
(2) آل عمران : 59 .
(3) آل عمران : 61 .
(4) كع الرجل عن الامر أي جبن عنه وأحْجَم .
(5) البحار 21:336 ، ملخّصا ، وانظر مجمع البيان 1:451 ، اعلام الورى 1:257 .
(102)

 

ولاضطرم الوادي عليهم نارا ، ولاستأصل اللّه‏ نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر ، ولما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا كلّهم . فلمّا رجع وفد نجران لم يلبث السيد والعاقب الاّ يسيرا حتى رجعا الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فأسلما .

        روى صاحب الكشاف وجمع من العامة في صحاحهم عن عائشة انّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله خرج وعليه مرط كساء مرحّل من شعر أسود ، فجاء الحسن فأدخله ، ثم جاء الحسين فأدخله ، ثم فاطمة ثم عليّ ، ثم قال :

        « ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه‏ُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبِيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا »(1) .

        وقال الزمخشري أيضا : فان قلت : ما كان دعاؤه الى المباهلة الاّ ليتبيّن الكاذب منه ومن خصمه ، وذلك امر يختص به وبمن يكاذبه ، فما معنى ضمّ الابناء والنساء ؟

        قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله ، واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزّته وأفلاذ كبده وأحبّ الناس اليه لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبّته وأعزّته هلاك الاستئصال ان تمّت المباهلة ، وخصّ الابناء والنساء لانّهم أعزّ الاهل والصقهم بالقلوب ، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ، ومن ثمّت كانوا يسوقون مع انفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب .

        وقدّمهم في الذكر على الأنفس لينبّه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم ، وليؤذن بأنهم مقدّمون على الانفس مفدون بها ، وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم‏السلام ، (انتهى)(2) .

        وفي السنة العاشرة أيضا كانت حجة الوداع ، روى الشيخ الكليني انّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أقام بالمدينة عشر سنين لم يحجّ ثم أنزل اللّه‏ عزوجل عليه : « وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ »(3) .

        فأمر المؤذّنين أن يؤذّنوا بأعلى أصواتهم بأنّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يحج في عامه هذا ، فعلم به من حضر المدينة وأهل العوالي والاعراب واجتمعوا لحجّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وانّما كانوا تابعين ينظرون ما يؤمرون ، ويتّبعونه أو يصنع شيئا فيصنعونه ، فخرج رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في أربعٍ بقين من ذي القعدة .

        فلمّا انتهى الى ذي الحليفة زالت الشمس ، ثم أمر الناس بنتف الابط وحلق العانة والغسل والتجرد في ازار ورداء . فاغتسل صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ثم خرج حتى أتى المسجد الذي عند الشجرة ، فصلّى فيه الظهر وعزم بالحج مفردا لعدم تشريع حج التمتع بعد ، وخرج

 

(1) الاحزاب ، الاية 33
(2) الكشاف 1:369 ، عنه في البحار 21:281 .
(3) الحج : 27 .
(103)

 

حتى انتهى الى البيداء عند الميل الاوّل ، فصُف له سماطان فلبّى بالحج مفردا وقال :

        « لبيك الّلهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، انّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك » .

        وكان رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يكثر من ذي المعارج ، وكان يلبّى كلمّا لقى راكبا ، أو علا أكمة ، أو هبط واديا ، ومن آخر الليل ، وفي ادبار الصلوة ، وساق الهدي ستّا وستين أو أربعا وستين وقيل مائة ، حتى انتهى الى مكة في سلخ أربع من ذي الحجّة .

        فلمّا انتهى الى باب المسجد استقبل الكعبة ـ وذكر إبن سنان انّه باب بني شيبة ـ فحمد اللّه‏ وأثنى عليه وصلّى على أبيه ابراهيم ثم أتى الحجر فاستلمه ، فلمّا طاف بالبيت صلى ركعتين خلف مقام ابراهيم عليه‏السلام ودخل زمزم فشرب منها ثم قال :

        « اللهم انّي أسألك علما نافعا ، ورزقا واسعا ، وشفاءً من كل داءٍ وسقم » .

        فجعل يقول ذلك وهو مستقبل الكعبة ، ثم عاد الى الحجر فاستلمه ، ثم خرج الى الصفا وقال : انّ الصفا والمروة من شعائر اللّه‏ فأبدء بما بدأ اللّه‏ تعالى به ، وانّ المسلمين كان يظنون انّ السعي بين الصفا والمروة شيء صنعه المشركون ، فأنزل اللّه‏ عزوجل :

        « إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَآئِرَ اللّه‏ِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ... »(1) .

        ثم أتى الصفا فصعد عليه واستقبل الركن اليماني ، فحمد اللّه‏ وأثنى عليه ودعا مقدار ما يقرأ سورة البقرة مترسلاً ، ثم انحدر الى المروة فوقف عليها كما وقف على الصفا ، ثم انحدر وعاد الى الصفا فوقف عليها ، ثم انحدر الى المروة حتى فرغ من سعيه .

        فلمّا فرغ من سعيه وهو على المروة أقبل على الناس بوجهه ، فحمد اللّه‏ وأثنى عليه ثم قال : انّ هذا جبرئيل ـ وأومأ بيده الى خلفه ـ يأمرني أن آمر من لم يسق هديا أن يحل ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت مثل ما أمرتكم ، ولكنّي سقت الهدي ولا ينبغي لسائق الهدي أن يحلّ حتى يبلغ الهدي محلّه .

        فقال له رجل من القوم : لنخرجنّ حجاجا ورؤوسنا وشعورنا تقطر ، فقال له رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، أما انّك لن تؤمن بهذا أبدا .

        فقال له سراقة بن مالك بن جعشم الكناني : يا رسول اللّه‏ علّمنا ديننا كأنّا خلقنا اليوم ، فهذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم لما يستقبل ؟

        فقال له رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : بل هو للأبد الى يوم القيامة ، ثم شبّك أصابعه وقال : دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة .

 

(1) سورة البقرة : 158 .
(104)

 

        وقدّم عليّ عليه‏السلام من اليمن على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وهو بمكة فدخل على فاطمة عليهاالسلام ، وهي قد أحلّت فوجد ريحا طيبة ووجد عليها ثيابا مصبوغة فقال : ما هذا يا فاطمة ؟ فقالت : أمرنا بهذا رسول اللّه‏ ، فخرج علي عليه‏السلام الى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله مستفتيا ، فقال : يا رسول اللّه‏ انّي رأيت فاطمة قد أحلّت وعليها ثياب مصبوغة!! فقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : أنا أمرت الناس بذلك فأنت يا علي بما أهللت ؟ قال : يا رسول اللّه‏ إهلالاً كاهلال النبي ، فقال له رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : قرّ على إحرامك مثلي وأنت شريكي في هديي .

        وقال الصادق عليه‏السلام : ونزل رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بمكّة بالبطحاء هو وأصحابه ولم ينزل الدور ، فلمّا كان يوم التروية عند زوال الشمس أمر الناس أن يغتسلوا ويهلّوا بالحجّ ، وهو قول اللّه‏ عزوجل الذي أنزل على نبيّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : « ... فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ... »(1).

        فخرج النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وأصحابه مهلّين بالحجّ حتّى أتى منى ، فصلّى الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والفجر . ثم غدا والناس معه وكانت قريش تفيض من المزدلفة وهي جمع ويمنعون الناس أن يفيضوا منها(2) ، فأقبل رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وقريش ترجوا أن تكون افاضته من حيث كانوا يفيضون ، فأنزل اللّه‏ تعالى : « ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ... »(3) .

        يعني ابراهيم واسماعيل واسحاق عليهم‏السلام في افاضتهم منها ومن كان بعدهم ، فلمّا رأت قريش أنّ قبة رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قد مضت كأنّه دخل في أنفسهم شيء للذي كانوا يرجون من الافاضة من مكانهم ، حتى انتهى الى نمرة وهي بطن عرنة بحيال الأراك ، فضربت قبّته وضرب الناس أخبيتهم عندها ، فلمّا زالت الشمس خرج رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ومعه قريش ، وقد اغتسل وقطع التلبية حتى وقف بالمسجد ، فوعظ الناس وأمرهم ونهاهم .

        ثم صلّى الظهر والعصر بأذان وإقامتين ، ثم مضى الى الموقف فوقف به فجعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته يقفون الى جانبها ، فنحاها ففعلوا مثل ذلك فقال : ايّها الناس ليس موضع أخفاف ناقتي بالموقف ، ولكن هذا كله ـ وأومأ بيده الى الموقف ـ فتفرق الناس وفعل مثل ذلك وأمر الناس بالدعة(4) .

        قال الصادق عليه‏السلام : انّ المشركين كانوا يفيضون من قبل ان تغيب الشمس ، فخالفهم رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فأفاض بعد غروب الشمس وقال :

 

(1) آل عمران : 95 ، والمراد من المتابعة ، المتابعة في حج التمتّع . (منه رحمه‏الله )
(2) كانت قريش لاتتجاوز المشعر الحرام وتقول نحن أهل الحرم ولا نخرج منه ، والناس يذهبون الى عرفات ، فلمّا كانوا يذهبون الى المشعر تخرج قريش معهم الى منى . (منه رحمه‏الله )
(3) البقرة : 199 .
(4) الكافي 4:245 ـ 250 .
(105)

 

        ايّها الناس انّ الحج ليس بوجيف الخيل ولا ايضاع الابل ، ولكن اتقوا اللّه‏ وسيروا سيرا جميلاً ، لا توطئوا ضعيفا ، ولا توطئوا مسلما ، وتؤدّوا واقتصدوا في السير ، فانّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كان يكفّ ناقته حتى يصيب رأسها مقدم الرجل ويقول : ايّها الناس عليكم بالدعة(1) .

        وانتهى صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى المزدلفة وهو المشعر الحرام ، فصلّى المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد واقامتين ، ثم أقام حتى صلّى فيها الفجر ، وعجّل ضعفاء بني هاشم بليل ، وأمرهم أن لا يرموا الجمرة ـ جمرة العقبة ـ حتى تطلع الشمس .

        فلمّا أضاء له النهار أفاض حتى انتهى الى منى ، فرمى جمرة العقبة ، وكان الهدي الذي جاء به رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أربعة وستين أو ستة وستين وجاء علي عليه‏السلام بأربعة وثلاثين أو ستة وثلاثين ، فنحر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ستة وستين ، ونحر علي عليه‏السلام أربعة وثلاثين بدنة .

        وأمر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أن يؤخذ من كلّ بدنة منها جذوة من لحم ثم تطرح في برمة ثم تطبخ ، فأكل رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وعلي وحسيا من مرقها ، ولم يعطيا الجزّارين جلودها ولا جلالها ولا قلائدها وتصدّق به ، وحلق وزار البيت ورجع الى منى وأقام بها حتى كان اليوم الثالث من آخر أيام التشريق ، ثم رمى الجمار ونفر حتى انتهى الى الابطح(2) .

        روى المفيد والطبرسيانّه : « لمّا قضى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله نسكه أشرك عليا في هديه ، وقفل الى المدينة معه المسلمون حتى انتهى وهو معه والمسلمون حتى انتهى الى المكان المعروف بغدير خم ، وليس بموضع اذ ذاك يصلح للمنزل لعدم الماء فيه والمرعى ، فنزل صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في الموضع ونزل المسلمون معه .

        وكان سبب نزوله في هذا المكان ، نزول القرآن عليه بتنصيب أمير المؤمنين عليّ بن ابي طالب عليه‏السلام خليفة في الأمة بعده ، وقد كان تقدّم الوحى اليه في ذلك من غير توقيت له ، فأخره لحضور وقت يأمن فيه الاختلاف منهم عليه .

        وعلم اللّه‏ عزوجل انّه ان تجاوز غدير خم انفصل عنه كثير من الناس الى بلدانهم واماكنهم وبواديهم ، فأراد اللّه‏ أن يجمعهم لسماع النصّ على أمير المؤمنين عليه‏السلام وتأكيد الحجة عليهم فيه .

        فأنزل اللّه‏ تعالى : « يَا أَيَّهُا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ ... يعني في استخلاف علي عليه‏السلام والنص بالامامة عليه ... وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّه‏ُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ... »(3) .

        فأكّد الفرض عليه بذلك وخوّفه من تأخير الامر فيه وضمن له العصمة ومنع

 

(1) الكافي 4:467 .
(2) الكافي 4:245 ـ 250 .
(3) المائدة : 67 .
(106)

 

الناس منه . فنزل رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في المكان الذي ذكرناه لما وصفناه من الامر له بذلك وشرحناه ، ونزل المسلمون حوله وكان يوما قائظا شديد الحرّ ، فأمر صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بدوحات هناك فقمّ ما تحتها ، وأمر بجمع الرحال في ذلك المكان ووضع بعضها فوق بعض ، ثم أمر مناديه فنادى في الناس : الصلاة جامعة .

        فاجتمعوا من رحالهم اليه ، وانّ أكثرهم ليلفّ ردائه على قدميه من شدة الرمضاء ، فلمّا اجتمعوا صعد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله على تلك الرحال حتى صار في ذروتها ، ودعا أمير المؤمنين عليه‏السلام فرقى معه حتى قام عن يمينه .

        ثم خطب الناس فحمد اللّه‏ وأثنى عليه ، ووعظ فأبلغ في الموعظة ، ونعى الى الامة نفسه ، وقال : انّي قد دعيت ويوشك أن أجيب ، وقد حان منّي خفوق من بين أظهركم ، وانّي مخلف فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا : كتاب اللّه‏ وعترتي أهل بيتي ، فانهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض .

        ثم نادى بأعلى صوته : ألست أولى بكم منكم بأنفسكم ؟ قالوا : اللهم بلى ، فقال لهم على النسق من غير فصل وقد أخذ بضبعي أمير المؤمنين عليه‏السلام فرفعهما حتى بان بياض أبطيهما :

        « فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، وأخذل من خذله » .

        ثم نزل صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وكان وقت الظهيرة فصلّى ركعتين ، ثم زالت الشمس فأذن مؤذنه لصلاة الفرض فصلّى بهم الظهر ، وجلس صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في خيمته وأمر عليا عليه‏السلام أن يجلس في خيمة له بازائة ، ثم أمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجا فوجا فيهنّؤوه بالمقام ويسلّموا عليه بامرة المؤمنين ، ففعل الناس ذلك كلّهم ، ثم أمر أزواجه وسائر نساء المؤمنين معه أن يدخلن عليه ويسلمن عليه بأمرة المؤمنين ففعلن .

        وكان فيمن أطنب في تهنئته بالمقام عمر بن الخطاب ، وأظهر له من المسرّة به وقال فيما قال : بخٍ بخٍ لك يا عليّ!! أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة!!

        وجاء حسّان بن ثابت الى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فقال : يا رسول اللّه‏ أتأذن لي أن أقول في هذا المقام ما يرضاه اللّه‏ ؟ فقال له : قل يا حسان على اسم اللّه‏ ، فوقف على نشز من الارض ، وتطاول المسلمون ، لسماع كلامه فأنشأ يقول :

 يناديهم يوم الغدير نبيّهم

 بخم وأسمِع بالرسول مناديا

 وقال فمن مولاكم ووليكم ؟

 فقالوا ولم يبدو هناك التعاديا

 الهك مولانا وأنت ولينا

 ولن تجدنّ منا لك اليوم عاصيا

 فقال له قم يا عليّ فانني

 رضيتك من بعدي اماما وهاديا

 فمن كنت مولاه فهذا وليّه

 فكونوا له أنصار صدق مواليا

 هناك دعا ، اللهم والي وليّه

 وكن للذي عادى عليا معاديا(1)

(107)

 

 

        فقال له رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : لا تزال يا حسان مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك(1) . وذلك إشعار منه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله على عدم ثبات حسان على ولاية أمير المؤمنين عليه‏السلام كما ظهر أثره بعد وفاته صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        وأيضا للكميت الشاعر قصيدة في هذا المقام نذكر ثلاثة ابيات منها :

 ويوم الدوح دوح غدير خم

 ابان له الولاية لو أطيعا

 ولكن الرجال تبايعوها

 فلم أر مثلها خطرا مَنيعا

 ولم أر مثل ذاك اليوم يوما

 ولم أر مثله حقا أضيعا

        ولانّ وفاة النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله صادفت أوائل العام الحادي عشر الهجري بعد سفر حجة الوداع ، فنبدأ بذكر وفاته صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

* * *

 

 (1) قد روت العامة والخاصة هذه الاشعار متواترا . (منه رحمه‏الله )
(2) الارشاد : 93 ـ 95 ، عنه في البحار 21:386 .
(108)

 

الفصل السادس

في بيان كيفيّة وقوع المصيبة الكبرى والداهية العظمى

في وفاة خاتم الأنبياء محمّد المصطفى صلى‏الله‏عليه‏و‏آله

        اعلم انّه ذهب أكثر علماء الفريقين على ان وفاة سيد الانبياء صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في يوم الاثنين ، وذهب أغلب علماء الشيعة على انّه كان في اليوم الثامن والعشرين من صفر ، وقال أكثر علماء العامة انّه كان في اليوم الثاني والعشرين من ربيع الاول .

        روي في كشف الغمّة عن الامام الباقر انّه قال : قبض رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وهو إبن ثلاث وستين سنة في سنة عشر من الهجرة ، فكان مقامه بمكة أربعين سنة ، ثم نزل عليه الوحي في تمام الأربعين ، وكان بمكة ثلاث عشرة سنة ، ثم هاجر الى المدينة وهو إبن ثلاث وخمسين سنة ، فأقام بالمدينة عشر سنين ، وقبض صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في شهر ربيع الاول يوم الاثنين لليلتين خلتا منه(1) .

        يقول المؤلف : انّ وقوع وفاته صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في اليوم الثاني من ربيع الاول ، يوافق قول بعض من علماء العامة ولم يقل به أحد من علماء الشيعة ، ولعل هذه الفقرة من الرواية محمولة على التقية .

        واعلم انّه قد كثرت الروايات في كيفية وفاته صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ووصاياه ، ونكتفي هنا بما اختاره الشيخ المفيد والشيخ الطبرسي (رضوان اللّه‏ عليهما) فقد قالا :

        انّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله تحقق من دنوّ أجله ما كان قدم الذكر به لأمّته ، فجعل صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يقوم مقاما بعد مقام في المسلمين يحذرهم الفتنة بعده والخلاف عليه ، ويؤكد وصايتهم بالتمسك بسنته والاجماع عليها والوفاق ، ويحثّهم على الاقتداء بعترته ، والطاعة لهم والنصرة ، والحراسة والاعتصام بهم في الدين ، ويزجرهم عن الخلاف والارتداد .

        وكان فيما ذكره من ذلك ما جاءت به الروات على الاتفاق والاجتماع من قوله صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : ايها الناس انّي فرطكم وانتم واردون علي الحوض ، ألا وانّي سائلكم عن الثقلين ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فانّ اللطيف الخبير نبأني انّهما لن يفترقا حتى يلقاني وسألت ربّي ذلك فأعطانيه ، ألا وانّي قد تركتهما فيكم ، كتاب اللّه‏ وعترتي أهل بيتي ، ولا تسبقوهم فتفرقوا ، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا ، ولا تعلموهم فانهم اعلم منكم .

        ايها الناس لا ألفينّكم بعدي ترجعون كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ،

 

(1) كشف الغمّة 1:13 .
(109)

 

فتلقوني في كتيبة كبحر السيل الجرار ، الا وانّ عليّ بن ابي طالب أخي ووصيي ، يقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ، وكان صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يقوم مجلسا بعد مجلس بمثل هذا الكلام ونحوه .

        ثم انّه عقد لأسامة بن زيد بن حارثة الإمرة ، وأمره وندبه أن يخرج بجمهور الامة الى حيث أصيب أبوه من بلاد الروم ، واجتمع رأيه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله على اخراج جماعة من مقدمي المهاجرين والانصار في معسكره حتى لا يبقى في المدينة عند وفاته من يختلف في الرئاسة ، ويطمع في التقدم على الناس بالامارة ، ويستتب الامر لمن استخلفه من بعده ، ولا ينازعه في حقه منازع ، فعقد له الامرة على ما ذكرناه .

        وجدّ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في اخراجهم وأمر أسامة بالبروز عن المدينة بمعسكره الى الجرف ، وحثّ الناس على الخروج اليه والمسير معه ، وحذّرهم من التلوّم والابطاء عنه .

        فبينما هو في ذلك اذ عرضت له الشكاة التي توفي فيها ، فلما أحس بالمرض الذي عراه أخذ بيد عليّ عليه‏السلام واتبعه جماعة من الناس وتوجّه الى البقيع ، فقال لمن اتبعه : انّي قد أمرت بالاستغفار لأهل البقيع ، فانطلقوا معه حتى وقف بين أظهرهم وقال :

        « السلام عليكم يا أهل القبور ليهنئكم ما أصبحتم فيه ، مما فيه الناس ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها » .

        ثم استغفر لأهل البقيع طويلاً ، وأقبل على أمير المؤمنين عليه‏السلام فقال له : انّ جبرئيل عليه‏السلام كان يعرض عليّ القرآن كل سنة مرّة ، وقد عرضه عليّ العام مرّتين ولا أراه الاّ لحضور أجلي .

        ثم قال : يا علي انّي خيّرت بين خزاين الدنيا والخلود فيها أوالجنة فاخترت لقاء ربي والجنة ، فاذا أنا متّ فاغسلني واستر عورتي فانّه لا يراها أحدٌ الاّ أُكمِه ، ثم عاد الى منزله فمكث ثلاثة ايام موعوكا ، ثم خرج الى المسجد معصوب الرأس معتمدا على أمير المؤمنين عليه‏السلام بيمنى يديه وعلى الفضل بن العباس باليد الاخرى حتى صعد المنبر فجلس عليه ، ثم قال : معاشر الناس قد حان منّي خفوق من بين أظهركم ، فمن كان له عندي عدة فليأتني أعطه أياها ، ومن كان له عليّ دين فليخبرني به .

        معاشر الناس ليس بين اللّه‏ وبين أحد شيء يعطيه به خيرا أويصرف عنه به شرا الا العمل ، ايها الناس لا يدعي مدع ولا يتمنى متمن والذي بعثني بالحق نبيا لا ينجّي الا عمل مع رحمة ولو عصيت لهويت .

        اللهم هل بلّغت ؟ ثم نزل فصلّى بالناس صلاة خفيفة ودخل بيته ، وكان اذ ذاك في بيت أم سلمة (رضي اللّه‏ عنها) فأقام به يوما أو يومين .

        فجاءت عائشة اليها تسألها أن تنقله الى بيتها لتتولى تعليله ، وسألت أزواج النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في ذلك فأذِنَّ لها ، فانتقل صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى البيت الذي أسكنه عائشة واستمر المرض

(110)

 

فيه أياما وثقل .

        فجاء بلال عند صلاة الصبح ورسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله مغمور بالمرض ، فنادى : الصلاة يرحمكم اللّه‏ فأوذن رسول اللّه‏ بندائه ، فقال : يصلي بالناس بعضهم فانّي مشغول بنفسي ، فقالت عائشة : مروا ابابكر! وقالت حفصة : مروا عمرا! فقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله حين سمع كلامهما ، ورأى حرص كل واحدة منهما على التنويه بابيها وافتتانهما بذلك ورسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله حيّ : اكفُفْنَ فانكنّ كصويحبات يوسف .

        ثم قام صلى‏الله‏عليه‏و‏آله مبادرا خوفا من تقدم أحد الرجلين ، وقد كان أمرهما بالخروج مع أسامة ، ولم يك عنده انهما قد تخلّفا ، فلمّا سمع من عائشة وحفصة ما سمع علم انهما متأخران عن أمره! فبدر لكفّ الفتنة وازالة الشبهة فقام صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وانّه لا يستقل على الارض من الضعف ، فأخذ بيده عليّ بن ابي طالب عليه‏السلام والفضل بن العباس ، فاعتمد عليهما ورجلاه تخطان الارض من الضعف .

        فلمّا خرج الى المسجد وجد أبابكر قد سبق الى المحراب ، فأومأ اليه بيده أن تأخر عنه ، فتأخر أبوبكر وقام رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله مقامه فكبّر وابتدأ الصلاة التي كان قد ابتدأها أبوبكر ، ولم يبن على ما مضى من فعاله .

        فلمّا سلّم انصرف الى منزله واستدعى ابابكر وعمر وجماعة ممن حضر بالمسجد من المسلمين ثم قال : ألم آمركم أن تنفدوا جيش أسامة ؟ فقالوا : بلى يا رسول اللّه‏ ، قال : فلم تأخرتم عن أمري ؟ قال أبوبكر : انّي كنت خرجت ثم رجعت لأجدد بك عهدا ، وقال عمر : يا رسول اللّه‏ انّي لم أخرج لانني لم أحب أن أسأل عنك الركب ، فقال النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : نفّذوا جيش أسامة ، نفّذوا جيش أسامة ، يكررها ثلاث مرّات(1) ، ثم أغمي عليه من التعب الذي لحقه والأسف الذي ملكه ، فمكث هنيئة مغمى عليه ، وبكى المسلمون وارتفع النحيب من أزواجه وولده ونساء المسلمين وجميع من حضر من المسلمين ، فأفاق رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فنظر اليهم ثم قال : ائتوني بدواة وكتف لأكتب اليكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا ثم أغمي عليه .

        فقام بعض من حضر يلتمس دواة وكتفا فقال له عمر : ارجع! فانّه يهجر!! فرجع وندم من حضر على ما كان منهم من التضجيع في احضار الدواة والكتف ، وتلاوموا بينهم وقالوا : انّا للّه‏ وانّا اليه راجعون ، لقد أشفقنا من خلاف رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        فلمّا أفاق قال بعضهم : ألا نأتيك بدواة وكتف يا رسول اللّه‏ ؟ فقال : أبعد الذي قلتم ، لا ولكنّي أوصيكم بأهل بيتي خيرا ، وأعرض بوجهه عن القوم فنهضوا وبقي عنده العباس والفضل بن العباس وعلي بن ابي طالب عليه‏السلام وأهل بيته خاصة ، فقال له العباس : يا رسول اللّه‏ ان يكن هذا الامر فينا مستقرا من بعدك فبشرنا ، وان كنت تعلم انا

 

(1) وفي رواية انّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لعن من تخلّف جيش اسامة ثلاث مرّات . (منه رحمه‏الله )
(111)

 

نغلب عليه فاقض بنا ، فقال : انتم المستضعفون من بعدي وأصمت ، فنهض القوم وهم يبكون قد يئسوا من النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        فلمّا خرجوا من عنده ، قال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : ردّوا عليّ أخي وعمّي ، فانفذوا من دعاهما فحضرا ، فلمّا استقرّ بهما المجلس قال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : يا عمّ رسول اللّه‏ تقبل وصيتي وتنجز عدتي وتقضي ديني ؟ فقال العباس : يا رسول اللّه‏ عمّك شيخ كبير ذو عيال كثير ، وانت تباري الريح سخاءً وكرما ، وعليك وعد لا ينهض به عمّك .

        فأقبل على عليّ بن ابي طالب عليه‏السلام فقال : يا أخي تقبل وصيتي ، وتنجز عدتي ، وتقضي عنّي ديني ، وتقوم بأمر أهلي من بعدي ؟ فقال : نعم يا رسول اللّه‏ ، فقال : ادن منّي ، فدنا فضمّه اليه ثم نزع خاتمه من يده ، فقال له : خذ هذا فضعه في يدك ، ودعا بسيفه ودرعه وجميع لامته فدفع ذلك اليه ، والتمس عصابة كان يشدها على بطنه اذا لبس سلاحه وخرج الى الحرب ، فجيء بها اليه فدفعها الى أمير المؤمنين عليه‏السلام ، وقال له : امض على اسم اللّه‏ تعالى الى منزلك .

        فلمّا كان من الغد حجب الناس عنه وثقل في موضعه ، وكان أمير المؤمنين عليه‏السلام لا يفارقه الا لضرورة ، فقام في بعض شؤونه فأفاق رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله افاقة ، فافتقد عليا عليه‏السلام فقال وأزواجه حوله : ادعوا لي أخي وصاحبي وعاوده الضعف فأصمت .

        فقالت عائشة : ادعوا له ابابكر! فدعي ، فدخل عليه وقعد عند رأسه ، فلمّا فتح عينه نظر اليه ، فأعرض عنه بوجهه فقام أبوبكر فقال : لو كان له اليّ حاجة لأفضى بها اليّ ، فلمّا خرج أعاد رسول اللّه‏ القول ثانية وقال : ادعوا لي أخي وصاحبي ، فقالت حفصة : ادعوا له عمرا ، فدعي فلمّا حضر ورآه رسول اللّه‏ أعرض عنه فانصرف ، ثم قال : ادعوا لي أخي وصاحبي ، فقالت ام سلمة (رضي اللّه‏ عنها) : ادعوا له عليّا فانّه لا يريد غيره فدعي أمير المؤمنين عليه‏السلام .

        فلمّا دنا منه أومأ اليه فأكبّ عليه فناجاه رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله طويلاً ، ثم قام فجلس ناحية حتى اغفى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فلمّا اغفى خرج فقال له الناس : ما الذي أوعز إليك يا ابا الحسن ؟ فقال : علّمني الف باب من العلم فتح لي كل باب الف باب ، وأوصاني بما أنا قائم به ان شاء اللّه‏ تعالى .

        ثم ثقل صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وحضره الموت وأمير المؤمنين عليه‏السلام حاضر عنده ، فلمّا قرب خروج نفسه قال له : ضع يا علي رأسي في حجرك فقد جاء امر اللّه‏ تعالى ، فاذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك ، ثم وجّهني الى القبلة وتولّ امري وصلّ عليّ أول الناس ، ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي ، واستعن باللّه‏ تعالى .

        فأخذ عليّ عليه‏السلام رأسه فوضعه في حجره فأغمي عليه ، فأكبت فاطمة عليهاالسلام تنظر فى وجهه وتندبه وتبكي وتقول :

 وأبيض يُستقى الغمامُ بوجهه

 ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل

(112)

 

 

        ففتح رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله عينه وقال بصوت ضئيل : يا بنية هذا قول عمك ابي طالب لا تقوليه ولكن قولي : « وَمَا مُحَمَّدٌ الاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ... »(1).

        فبكت طويلاً ، فأومأ اليها بالدنوّ منه ، فدنت منه فأسرّ اليها شيئا تهلل وجهها له ، ثم قبض صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ويد أمير المؤمنين عليه‏السلام اليمنى تحت حنكه ، ففاضت نفسه فيها فرفعها الى وجهه فمسحه بها ، ثم وجّهه وغمضه ومد عليه أزاره واشتغل بالنظر في أمره .

        وروي انّ فاطمه عليهاالسلام سُئلت : ما الذي أسرّ إليك رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فسرى عنك به ما كنت عليه من الحزن والقلق بوفاته ؟ قالت : انّه أخبرني انني أول أهل بيته لحوقا به ، وانّه لن تطول المدة بي بعده حتى أدركه فسرى ذلك عنّي ، فلمّا أراد أمير المؤمنين عليه‏السلام غسله استدعا الفضل بن العباس ، فأمره أن يناوله الماء لغسله بعد ان عصبت ، عينه ثم شقّ قميصه من قبل جيبه حتى بلغ الى سرته ، وتولّى غسله وتحنيطه وتكفينه ، والفضل يعاطيه الماء ويعينه عليه ، فلمّا فرغ من غسله وتجهيزه تقدم فصلّى عليه وحده لم يشركه معه أحد في الصلاة عليه .

        وكان المسلمون في المسجد يخوضون فيمن يؤمّهم في الصلاة عليه وأين يدفن ، فخرج اليهم أمير المؤمنين عليه‏السلام وقال لهم : انّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله امامُنا حيّا وميّتا ، فليدخل عليه فوجا بعد فوج منكم فيصلون عليه بغير امام وينصرفون ، وانّ اللّه‏ لم يقبض نبيا في مكان الاّ وقد ارتضاه لرمسه فيه ، واني لدافنه في حجرته التي قبض فيها ، فسلم القوم لذلك ورضوا به .

        ولمّا صلّى المسلمون عليه أنفذ العباس بن عبد المطلب برجل الى ابي عبيدة بن الجراح ، وكان يحفر لأهل مكة ويضرح ، وكان ذلك عادة أهل مكة ، وأنفذ الى زيد بن سهل وكان يحفر لأهل المدينة ويلحد ، فاستدعاهما وقال : اللهم خر لنبيّك فوجد أبو طلحة زيد بن سهل وقال له : احفر لرسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فحفر له لحدا ، ودخل أمير المؤمنين عليه‏السلام والعباس بن عبد المطلب والفضل بن العباس وأسامة بن زيد ، ليتولوا دفن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        فنادت الانصار من وراء البيت يا علي انا نذكرك اللّه‏ وحقنا اليوم من رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أن يذهب ، أدخل منّا رجلاً يكون لنا به حظ من مواراة رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فقال : ليدخل أوس بن خولي ، وكان بدريا فاضلاً من بني عوف من الخزرج .

        فلمّا دخل قال له عليّ عليه‏السلام : انزل القبر ، فنزل ووضع أمير المؤمنين رسول اللّه‏ عليهماالسلام على يديه وأدلاه في حفرته ، فلمّا حصل في الارض قال له : أخرج فخرج ونزل عليّ عليه‏السلام القبر ، فكشف عن وجه رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ووضع خدّه على الارض موجها الى

 

(1) آل عمران : 144 .
(113)

 

القبلة على يمينه ، ثم وضع عليه اللبن وأهال عليه التراب .

        وكان ذلك في يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة احدى عشرة من هجرته صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وهو إبن ثلاثٍ وستين سنة ، ولم يحضر دفن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أكثر الناس! لما جرى بين المهاجرين والانصار من التشاجر في أمر الخلافة! وفات أكثرهم الصلاة عليه لذلك(1) ، (انتهى) .

        ووردت روايات كثيرة ومعتبرة انّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فارق الدنيا شهيدا ، كما روى الصفار بسند معتبر عن الصادق عليه‏السلام انّه قال : سمّ رسول اللّه‏ يوم خيبر ، فتكلّم اللحم فقال : يا رسول اللّه‏ انّي مسموم ، قال : فقال النبي عند موته : اليوم قطعت مطاياي الاكلة التي اكلت بخيبر ، وما من نبيّ ولا وصيّ الا شهيدا(2) .

        وفي رواية اخرى قال عليه‏السلام : سمّت اليهودية النبي في ذراع ، قال : لما أُتي بالشواء اكل من الذراع وكان يحبها ، فأكل ما شاء اللّه‏ ثم قال الذراع : يا رسول اللّه‏ انّي مسموم ، فتركه وما زال ينقض به سمّه حتى مات صلى‏الله‏عليه‏و‏آله (3) .

        وتستحبّ زيارته صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في عقيب كل صلاة بهذه الالفاظ التي علّمها الامام الرضا عليه‏السلام لابن ابي بصير البزنطي قال :

        « السلام عليك يا رسول اللّه‏ ورحمة اللّه‏ وبركاته ، السلام عليك يا محمد بن عبد اللّه‏ ، السلام عليك يا خيرة اللّه‏ ، السلام عليك يا حبيب اللّه‏ ، السلام عليك يا صفوة اللّه‏ ، السلام عليك يا امين اللّه‏ ، أشهد انّك رسول اللّه‏ ، وأشهد انّك محمد بن عبد اللّه‏ ، وأشهد انّك قد نصحت لأمتك ، وجاهدت في سبيل ربك ، وعبدته حتى اتيك اليقين ، فجزاك اللّه‏ يا رسول اللّه‏ أفضل ما جزى نبيا عن امته ، الّلهُمُّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآل مُحَمَّدٍ أفضل ما صلّيت على ابراهيم وآل ابراهيم انّك حميد مجيد »(4) .

* * *

 

(1) الارشاد : 96 ـ 101 .
(2) البحار 22:516 .
(3) البحار 22:516 .
(4) قرب الاسناد : 382 ، عنه في البحار 86:24 .
(114)

 

(115)

 

الباب الثاني

في تاريخ ولادة سيدة النساء ، مخدومة ملائكة السماء ، شفيعة يوم الجزاء ، فاطمة الزهراء عليهاالسلام وفي بيان وفاتها

(116)

 

(117)

 

الفصل الاول

في بيان ولادتها عليهاالسلام

        ذكر الشيخ الطوسي في المصباح ، وأكثر العلماء على انّ ولادة تلك المخدرة تصادف العشرين من شهر جُمادى الاخرة(1) ، وقيل في يوم الجمعة لسنتين بعد المبعث ، وقيل في السنة الخامسة من البعثة .

        وقال العلامة المجلسي في حياة القلوب : روى صاحب العدد انّ فاطمة الزهراء عليهاالسلام وُلدت في السنة الخامسة من البعثة من خديجة (رضي اللّه‏ عنها)(2) .

        اما كيفية حملها : فقد روي انّه بينا النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله جالس بأبطح ، ومعه عمار بن ياسر ، والمنذر بن الضحضاح ، وأبوبكر ، وعمر ، وعليّ بن ابي طالب عليه‏السلام ، والعباس بن عبد المطلب ، وحمزة بن عبد المطلب ، اذ هبط عليه جبرئيل عليه‏السلام في صورته العظمى ، وقد نشر أجنحته حتى أخذت من المشرق الى المغرب ، فناداة يا محمد العليّ الأعلى يقرأ عليك السلام وهو يأمرك أن تعتزل عن خديجة أربعين صباحا .

        ... فأقام النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أربعين يوما يصوم النهار ويقوم الليل ، حتى اذا كان في آخر ايامه تلك بعث الى خديجة بعمار بن ياسر وقال : قل لها يا خديجة لا تظنّي انّ انقطاعي عنك هجرة ولا قلى ، ولكن ربي عزوجل أمرني بذلك لينفذ أمره ، ... فاذا جنّك الليل فاجيفي الباب وخذي مضجعك من فراشك فاني في منزل فاطمة بنت اسد .

        فجعلت خديجة تحزن في كل يوم مرارا لفقد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فلمّا كان في كمال الاربعين هبط جبرئيل عليه‏السلام فقال : يا محمد العليّ الأعلى يقرئك السلام وهو يأمرك أن تتأهّب لتحيته وتحفته ، ثم هبط ميكائيل عليه‏السلام ومعه طبق مغطّى بمنديل من سندس ، فوضعه بين يدي النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وأقبل جبرئيل على النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وقال : يا محمد يأمرك ربك أن تجعل الليلة افطارك على هذا الطعام .

        فقال عليّ بن ابي طالب عليه‏السلام : كان النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله اذ أراد أن يفطر أمرني أن أفتح الباب لمن يريد الى الافطار ، فلمّا كان في تلك الليلة أقعدني النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله على باب المنزل وقال : يا ابن ابي طالب انّه طعام محرم الاّ عليّ .

        قال علي عليه‏السلام : فجلست على الباب وخلا النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بالطعام ، وكشف الطبق فاذا

 

(1) راجع المصباح : 733 ، الاقبال : 621 ، البحار 43:8 .
(2) حياة القلوب 3:255 .
(118)

 

غذق من رطب وعنقود من عنب ، فأكل النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله منه شبعا وشرب من الماء ريّا ومدّ يده للغسل فأفاض الماء عليه جبرئيل وغسل يده ميكائيل وتمندله اسرافيل عليهم‏السلام .

        فارتفع فاضل الطعام مع الاناء الى السماء ، ثم قام النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ليصلّي فأقبل عليه جبرئيل فقال : الصلاة محرمة عليك(1) في وقتك حتى تأتي الى منزل خديجة فتواقعها ، فانّ اللّه‏ عزوجل آلى على نفسه أن يخلق من صلبك في هذه الليلة ذريّة طيّبة ، فوثب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى منزل خديجة .

        قالت خديجة (رضي اللّه‏ عنها) : وكنت قد الفت الوحدة ، فكان اذا جنني الليل غطيت رأسي وأسجفت ستري ، وغلقت بابي ، وصليت وردي ، واطفأت مصباحي ، وآويت الى فراشي ، فلما كان في تلك الليلة لم أكن بالنائمة ولا بالمنتبهة اذ جاء النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فقرع الباب ، فناديت : من هذا الذي يقرع حلقة لا يقرعها الا محمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ؟ قالت خديجة : فنادى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : افتحي يا خديجة فانّي محمد ، قالت خديجة : فقمت فرحة مستبشرة بالنبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وفتحت الباب ودخل النبي المنزل .

        وكان اذا دخل المنزل دعا بالاناء فتطهر للصلاة ثم يقوم فيصلّي ركعتين يوجز فيهما ثم يأوي الى فراشه ، فلمّا كان في تلك الليلة لم يدع بالاناء ولم يتأهب للصلاة غير انّه أخذ بعضدي وأقعدني على فراشه ... فلا والذي سمك السماء وأنبع الماء ما تباعد عني النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله حتى حسست بثقل فاطمة في بطني(2) .

        اما كيفية ولادتها : روى الشيخ الصدوق رضى‏الله‏عنه بسند معتبر عن مفضل بن عمرو قال : قلت لابي عبد اللّه‏ عليه‏السلام : كيف كان ولادة فاطمة عليهاالسلام ؟ فقال : نعم ، انّ خديجة لمّا تزوج بها رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله هجرتها نسوة مكة ، فكنّ لا يدخلن عليها ولا يسلّمن عليها ولا يتركن امرأة تدخل عليها ، فاستوحشت خديجة لذلك وكان جزعها وغمها حذرا عليه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فلما حملت بفاطمة كانت فاطمة عليهاالسلام تحدثها من بطنها وتصبرها ، وكانت تكتم ذلك من رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        فدخل رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يوما فسمع خديجة تحدث فاطمة ، فقال لها : يا خديجة من تحدثين ؟ قالت : الجنين الذي في بطني يحدّثني ويؤنسني ، قال : يا خديجة هذا جبرئيل يخبرني انّها انثى ، وانها النسلة الطاهرة الميمونة ، وانّ اللّه‏ تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها ، وسيجعل من نسلها ائمة ويجعلهم خلفائه في أرضه بعد انقضاء وحيه .

        فلم تزل خديجة على ذلك الى ان حضرت ولادتها ، فوجهت الى نساء قريش

 

(1) لا يخفى انّ المراد هنا هي الصلاة النافلة لا الفريضة لانّ النبي والائمة عليهم‏السلام كانوا يقدمون صلاة الفريضة على الافطار دائما . (منه رحمه‏الله )
(2) العدد القوية : 220 ، الانوار البهية : 43 .
(119)

 

وبني هاشم أن تعالين لتلين منّي ما تلي النساء من النساء ، فأرسلنّ اليها أنت عصيتنا ولم تقبلي قولنا وتزوجت محمدا يتيم ابي طالب فقيرا لا مال له ، فلسنا نجيء ولا نلي من امرك شيئا .

        فاغتمت خديجة (رضي اللّه‏ عنها) لذلك ، فبينا هي كذلك اذ دخل عليها أربع نسوة سمر طوال كانّهنّ من نساء بني هاشم ، ففزعت منهنّ لما رأتهن ، فقالت احداهنّ : لا تحزني يا خديجة فأرسلنا ربك إليك ونحن اخواتك ، انا سارة ، وهذه آسية بنت مزاحم وهي رفيقتك في الجنة ، وهذه مريم بنت عمران ، وهذه كلثوم أخت موسى بن عمران ، بعثنا اللّه‏ إليك لنلي منك ما تلي النساء من النساء ، فجلست واحدة عن يمينها واخرى عن يسارها والثالثة بين يديها والرابعة من خلفها ، فوضعت فاطمة طاهرة مطهرة ، فلمّا سقطت الى الارض أشرق منها النور حتى دخل بيوتات مكة ، ولم يبق في شرق الارض ولا غربها موضع الاّ أشرق فيه ذلك النور ، ودخل عشر من الحور العين كل واحدة منهنّ معها طست من الجنة وابريق من الجنة وفي الابريق ماء من الكوثر .

        فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها ، فغسلتها بماء الكوثر وأخرجت خرقتين بيضاوين أشد بياضا من اللبن وأطيب ريحا من المسك والعنبر فلفتها بواحدة وقنعتها بالثانية ، ثم استنطقتها فنطقت فاطمة عليهاالسلام بالشهادتين وقالت : اشهد ان لا اله الا اللّه‏ ، وانّ ابي رسول اللّه‏ سيد الانبياء ، وأن بعلي سيد الاوصياء ، وولدي سادة الاسباط .

        ثم سلّمت عليهنّ وسمّت كل واحدة منهنّ باسمها وأقبلن يضحكن اليها ، وتباشرت الحور العين وبشر أهل السماء بعضهم بعضا بولادة فاطمة عليهاالسلام وحدث في السماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك ، وقالت النسوة : خذيها يا خديجة طاهرة مطهرة زكية ميمونة بورك فيها وفي نسلها ، فتناولتها فرحة مستبشرة وألقمتها ثديها فدر عليها ، فكانت فاطمة عليهاالسلام تنمي في اليوم كما ينمي الصبي في الشهر ، وفي الشهر كما ينمي الصبي في السنة(1) .

 

(1) امالي الصدوق : 475 ، عنه في البحار 43:2 .