(120)

 

الفصل الثاني

في بيان جملة من اسمائها

والقابها الشريفة ونبذة من فضائلها عليهاالسلام

        روى إبن بابويه بسند معتبر عن يونس بن ظبيان انّه قال أبو عبد اللّه‏ عليه‏السلام :

        لفاطمة عليهاالسلام تسعة اسماء عند اللّه‏ عزوجل : فاطمة ، والصديقة ، والمباركة ، والطاهرة ، والزكية ، والراضية ، والمرضية ، والمحدّثة والزهراء . ثم قال عليه‏السلام : أتدري أي شيء تفسير فاطمة ؟ قلت : أخبرني يا سيدى ، قال : فطمت من الشر ، قال : ثم قال : لو لا انّ أمير المؤمنين عليه‏السلام تزوجها لما كان لها كفو الى يوم القيامة على وجه الارض آدم فمن دونه(1) .

        قال العلامة المجلسي في ذيل ترجمة هذا الحديث : انّ الصديقة بمعنى المعصومة ، والمباركة بمعنى كونها عليهاالسلام ذات بركة في العلم والفضل والكمالات والمعجزات والاولاد ، والطاهرة بمعنى طهارتها من صفات النقص ، والزكية بمعنى نموّها في الكمالات والخيرات والراضية بمعنى رضاها بقضاء اللّه‏ تعالى والمرضية بمعنى مقبوليتها عند اللّه‏ تعالى ، والمحدثة بمعنى حديث الملائكة معها ، والزهراء بمعنى نورانيّتها ظاهرا وباطنا .

        واعلم انّ هذا الحديث الشريف يدلّ على أفضليّة أمير المؤمنين عليه‏السلام على جميع الانبياء والاوصياء الاّ خاتم الانبياء صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، بل استدلّ بعضهم على أفضليّة فاطمة عليهاالسلام به عليهم ، (انتهى)(2) .

        وقد روت الخاصة والعامة باحاديث معتبرة متواترة انّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قال : انّما سمّيت فاطمة فاطمة لانّ اللّه‏ عزوجل فطم من أحبّها من النار .

        وفي رواية انّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله سُئل : ما البتول ؟ فقال : البتول التي لن تر حمرة قط ، أي لم تحض ، فانّ الحيض مكروه في بنات الانبياء(3) .

        وروى الصدوق رضى‏الله‏عنه بسند معتبر : كان النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله اذا قدم من سفر بدأ بفاطمة فدخل عليها فأطال عندها المكث ، فخرج مرّة في سفر فصنعت فاطمة عليهاالسلام مسكتين من ورق وقلادة وقرطين وسترا لباب البيت لقدوم أبيها وزوجها ، فلمّا قدم رسول

 

(1) الخصال 2:414 ، عنه في البحار 43:10 .
(2) جلاء العيون : 90 .
(3) معاني الاخبار : 64 .
(121)

 

اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله دخل عليها فوقف أصحابه على الباب لا يدرون يقفون أو ينصرفون لطول مكثه عندها .

        فخرج عليهم رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وقد عرف الغضب في وجهه حتى جلس عند المنبر ، فظنّت فاطمة عليهاالسلام انّه انّما فعل ذلك رسول اللّه‏ لما رأى من المسكتين والقلادة والقرطين والستر ، فنزعت قلادتها وقرطيها ومسكتيها ونزعت الستر ، فبعثت به الى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وقالت للرسول : قل له تقرأ عليك ابنتك السلام وتقول : اجعل هذا في سبيل اللّه‏ ، فلما أتاه قال : فعلت فداها أبوها ، ثلاث مرّات ، ليست الدنيا من محمد ولا من آل محمد ، ولو كانت الدنيا تعدل عند اللّه‏ من الخير جناح بعوضة ما أسقى فيها كافرا شربة ماء ، ثم قام فدخل عليها(1) .

        وروى الشيخ المفيد والطوسي من طرق العامة انّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كان يقول : فاطمة بضعة منّي من سرّها فقد سرّنى ، ومن ساءها فقد ساءني ، فاطمة اعزّ الناس عليّ(2) .

        وروى الشيخ الطوسي أيضا عن عائشة انّها قالت : ما رأيت من الناس أحدا أشبه كلاما وحديثا برسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من فاطمة ، كانت اذا دخلت عليه رحب بها وقبّل يديها وأجلسها في مجلسه ، فاذا دخل عليها قامت اليه فرحّبت به وقبّلت يديه(3) .

        وروى القطب الراوندى مرسلاً : انّ ام ايمن لما توفيت فاطمة عليهاالسلام حلفت ان لا تكون بالمدينة اذ لا تطيق النظر الى مواضع كانت عليهاالسلام فيها .

        فخرجت الى مكة فلمّا كانت في بعض الطريق عطشت عطشا شديدا ، فرفعت يديها وقالت : يا ربّ انا خادمة فاطمة تقتلني عطشا ؟ فأنزل اللّه‏ عليها دلوا من السماء ، فشربت فلم تحتج الى الطعام والشراب سبع سنين ، وكان الناس يبعثونها في اليوم الشديد الحرّ فما يصيبها عطش(4) .

        روى إبن شهر آشوب والقطب الراوندي انّ عليّا عليه‏السلام استقرض شعيرا من يهودي ـ اسمه زيد ـ فاسترهنه شيئا فدفع اليه ملاءة فاطمة رهنا وكانت من الصوف ، فأدخلها اليهودي الى داره ووضعها في بيتٍ .

        فلما كانت الليلة دخلت زوجته البيت الذي فيه الملاءة لشغل فرأت نورا ساطعا أضاء به البيت ، فانصرفت الى زوجها وأخبرته بأنّها رأت في ذلك البيت ضوءا عظيما . فتعجّب زوجها اليهودي من ذلك ، وقد نسى انّ في بيتهم ملاءة فاطمة ، فنهض مسرعا

 

(1) البحار 43:20 ، عن امالي الصدوق : 194 .
(2) أمالي المفيد : 159 ، أمالي الطوسي : 24 .
(3) البحار 43:23 ، عن امالي الطوسي : 400 .
(4) الخرائج 2:530 ، عنه في البحار 43:28 .
(122)

 

ودخل البيت فاذا ضياء الملاءة ينتشر شعاعها كأنّه يشتعل من بدر منير يلمع من قريب .

        فتعجّب من ذلك ، فأنعم النظر في موضع الملاءة ، فعلم انّ ذلك النور من ملاءة فاطمة ، فخرج اليهودي يعدو الى أقربائه وزوجته تعدو الى أقربائها ، فاجتمع ثمانون نفرا من اليهود فرأوا ذلك وأسلموا كلّهم(1) .

        وروي في قرب الاسناد بسند معتبر عن الامام محمد الباقر عليه‏السلام انّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله جعل خدمة خارج البيت ـ من اتيان الماء والحطب وامثالها ـ لعليّ وخدمة داخل البيت ـ من طبخ وكنس وامثالها ـ لفاطمة عليهاالسلام (2) .

        وروى إبن بابويه بسند معتبر عن الامام الحسن عليه‏السلام انّه قال :

        رأيت امّي فاطمة عليهاالسلام قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح وسمعتها تدعوا للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتكثر الدعاء لهم ولا تدعوا لنفسها شيء . فقلت لها : يا امّاه لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك ؟ فقالت : يا بني الجار ثم الدار(3) .

        وروى الثعلبي عن الامام الصادق عليه‏السلام انّه قال : دخل رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله على فاطمة عليهاالسلام وعليها كساء من ثلّة الابل ، وهي تطحن بيدها وترضع ولدها ، فدمعت عينا الرسول لما ابصرها فقال : يا بنتاه تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الاخرة ، فقالت : يا رسول اللّه‏ ، الحمد للّه‏ على نعمائه والشكر على آلائه ، فأنزل اللّه‏ تعالى : « وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىآ »(4) .

        ونقل عن الحسن البصري انّه قال : ما كان في الدنيا أعبد من فاطمة عليهاالسلام ، كانت تقوم حتى تتورم قدماها(5) . وقال النبي لها : أي شيء خير للمرأة ؟ قالت : أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل فضمها اليه وقال : ذريّة بعضها من بعض(6) .

        وفي حلية ابي نعيم انّه : لقد طحنت فاطمة بنت رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله حتى مجلت يداها وطبّ الرحى في يدها .

وروى الكليني عن الامام الصادق عليه‏السلام انّه قال : ليس على وجه الارض بقلة أشرف ولا أنفع من الفرفخ وهو بقلة فاطمة عليهاالسلام ، ثم قال : لعن اللّه‏ بني اميّة هم سمّوها بقلة الحمقاء بغضا لنا وعداوة لفاطمة عليهاالسلام (7) .

 

 

(1) الخرائج 2:537 ، والمناقب 3:339 ، مع اختصار ، وفي البحار 43:30 .
(2) قرب الاسناد : 52 ، البحار 43:81 .
(3) علل الشرايع : 181 ، عنه في البحار 43:81 .
(4) الضحى : 5 .
(5) البحار 43:76 .
(6) البحار 43:84 .
(7) الكافي 6:367 ، عنه في البحار 43:90 .
(123)

 

        روى السيد فضل اللّه‏ الراوندي في النوادر عن عليّ عليه‏السلام انّه قال :

        استأذن أعمى على فاطمة عليهاالسلام فحجبته ، فقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : لِمَ حجبتيه وهو لا يراك ؟ فقالت عليهاالسلام : ان لم يكن يراني فانا أراه وهو يشم الريح ، فقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : أشهد انّك بضعة منّي(1) .

        وروى أيضا انّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله سأل أصحابه عن المرأة ما هي ؟ قالوا : عورة ، قال : فمتى تكون أدنى من ربها ؟ فلم يدروا . فلما سمعت فاطمة عليهاالسلام ذلك قالت : أدنى ما تكون من ربها أن تلتزم قعر بيتها ، فقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : انّ فاطمة بضعة منّي(2) .

        يقول المؤلف : انّ فضائل تلك المخدّرة ومناقبها اكثر من أن تحصى ، ونكتفي هنا بما ذكرناه من الاخبار مراعاةً للإختصار .

        والبركات التي وصلت الينا منها كثيرة ، منها التسبيح المعروف بتسبيح الزهراء عليهاالسلام وقد كثرت الاحاديث في فضله ، ويكفي ما ورد من انّ الدوام عليه يوجب السعادة ويبعد الانسان عن الشقاء وسوء العاقبة .

        وانّه بعد كل صلاة أفضل من الف ركعة في كل يوم ـ كما روي عن الامام الصادق عليه‏السلام ـ وكيفيته على الاشهر ان تقول (34) مرّة اللّه‏ اكبر و(33) مرّة الحمد للّه‏ و(33) مرّة سبحان اللّه‏ ، فيكون المجموع مائة .

        ومنها دعاء النور الذي تعلمه سلمان منها ، وقالت له : ان سرّك ان لا يمسك أذى الحمى ما عشت في دار الدنيا فواظب عليه ، وهو :

بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم

        « بسم اللّه‏ النور ، بسم اللّه‏ نور النور ، بسم اللّه‏ نور على نور ، بسم اللّه‏ الذي هو مدبر الامور ، بسم اللّه‏ الذي خلق النور من النور ، الحمد للّه‏ الذي خلق النور وانزل النور على الطور ، في كتاب مسطور ، في رقّ منشور ، بقدر مقدور ، على نبي محبور ، الحمد للّه‏ الذي هو بالعزّ مذكور وبالفخر مشهور ، وعلى السرّاء والضرّاء مشكور ، وصلى اللّه‏ على سيدنا محمد وآله الطاهرين »(3) .

        قال سلمان : فتعلمتهنّ وعلمتهنّ اكثر من الف نفس من أهل المدينة ومكة ممن بهم الحمّى ، فبرئوا من مرضهم باذن اللّه‏ تعالى(4) .

        ومنها صلاة الاستغاثة بها عليهاالسلام وقد روي انّه : اذا كانت لك حاجة الى اللّه‏ تعالى وضاق صدرك منها ، فصلّ ركعتين فاذا سلمّت كبّر ثلاثا وسبّح تسبيح فاطمة عليهاالسلام ، ثم

 

(1) النوادر : 13 ، عنه في البحار 43:91 .
(2) النوادر : 14 ، عنه في البحار 43:92 .
(3) الدعوات : 208 ، ح 564 .
(4) البحار 43:67 .
(124)

 

اسجد وقل مائة مرّة : (يا مولاتي يا فاطمة أغيثيني) ثم ضع خدك الايمن على الارض وقلها مائة مرّة ، ثم ضع الخد الايسر وقلها مائة مرّة ، ثم عُد الى السجود وقلها مائة مرّة وعشر مرّات ، واذكر حاجتك فانّ اللّه‏ تعالى يقضيها انشاء اللّه‏ .

        وروى المحدث الفيض الكاشاني في خلاصة الاذكار عن الزهراء عليهاالسلام انها قالت : دخل عليّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وقد افترشت فراشي للنوم فقال لي : يا فاطمة لا تنامي الاّ وقد عملت أربعة ، ختمت القرآن ، وجعلت الانبياء شفعاءك ، وأرضيت المؤمنين عن نفسك ، وحججت واعتمرت ، قال هذا وأخذ في الصلاة ، فصبرت حتى أتمّ صلاته ، قلت : يا رسول اللّه‏ أمرت بأربعة لا أقدر عليها في هذا الحال ، فتبسم صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وقال :

        اذا قرأت « قُلْ هُوَ اللّه‏ أَحَدٌ » ثلاث مرّات فكأنك ختمت القرآن ، واذا صلّيت عليّ وعلى الانبياء قبلي كنّا شفعاءك يوم القيامة ، واذا استغفرت للمؤمنين رضوا كلّهم عنك ، واذا قلت : (سبحان اللّه‏ والحمد للّه‏ ولا اله الا اللّه‏ واللّه‏ اكبر) فقد حججت واعتمرت .

        يقول المؤلف : قال شيخنا في المستدرك : انّ بعض معاصرينا من أهل السنة ذكر في كتاب (خلاصة الكلام في امراء البلد الحرام) هذا الدعاء نقلاً عن بعض العارفين :

        « اللهم رب الكعبة وبانيها ، وفاطمة وابيها ، وبعلها وبنيها نوّر بصري وبصيرتي وسرّي وسريرتي » ، وقد ثبت بالتجربة فائدة قراءة هذا الدعاء حين استعمال الكحل ، فانّ اللّه‏ تعالى ينوّر بصره .

الفصل الثالث

في بيان وفاتها صلوات اللّه‏ عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها

        اعلم انّ الاقوال في وفاتها عليهاالسلام اختلفت كثيرا ، والاظهر عندي انّ وفاتها في الثالث من شهر جُمادى الاخرة ، كما انّه مختار بعض العلماء ، ولي عليه شواهد لا يسع المقام ذكرها .

        فيكون بقاؤها بعد ابيها صلى‏الله‏عليه‏و‏آله (95) يوما ، وان ورد في رواية معتبرة انّ مكثها بعد ابيها كان (75) يوما ، وله وجه وتأويل لا يسع المقام لذكره ، والافضل العمل بكليهما ، واقامة العزاء فيهما كما هو المعمول والمتداول .

        وعلى أي حال ، لم تبق عليهاالسلام بعد ابيها صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الاّ أياما قليلة ، وكانت دائمة الحزن والبكاء ، وقد لقيت في تلك الايام من المصائب والاذى والآلام ما اللّه‏ عالم به .

        والمتأمل في خطاب أمير المؤمنين عليه‏السلام مع النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بعد دفنها يعرف عظم ما

(125)

 

جرى عليها ، ومن هذا الخطاب قوله عليه‏السلام :

        « وستنبئك ابنتك بتظافر امتك على هضمها ، فأحفها السؤال واستخبرها الحال ، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد الى بثّه سبيلاً ، وستقول ويحكُمُ اللّه‏ وهو خير الحاكمين »(1) .

        روى إبن بابويه بسند معتبر عن مولانا الصادق عليه‏السلام انّه قال : البكاؤون خمسة : آدم ، ويعقوب ، ويوسف ، وفاطمة بنت محمد ، وعليّ بن الحسين عليهم‏السلام ، فأمّا آدم فبكى على الجنّة حتى صار في خديه أمثال الأودية ، واما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره وحتى قيل له : «تَاللّه‏ِ تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَلِكِينَ »(2) .

        واما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن فقالوا له : اما أن تبكي الليل وتسكت بالنهار واما ان تبكي النهار وتسكت بالليل فصالحهم على واحد منهما .

        اما فاطمة فبكت على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله حتى تأذى بها أهل المدينة فقالوا لها : قد آذيتنا بكثرة بكائك ، فكانت تخرج الى المقابر ـ مقابر الشهداء ـ فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف .

        واما عليّ بن الحسين فبكى على الحسين عليه‏السلام عشرين سنة أو أربعين سنة ، ما وُضِعَ بين يديه طعامٌ الاّ بكى حتى قال له مولى له : جعلت فداك يا بن رسول اللّه‏ انّي أخاف عليك ان تكون من الهالكين ، قال : « إنَّمَآ أَشْكُواْ بَثِّى وَحُزْنِىآ إِلَى اللّه‏ِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّه‏ِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ »(3) . انّي ما اذكر مصرع بني فاطمة الا خنقتني لذلك عبرة(4) .

        روى الشيخ الطوسي بسند معتبر عن إبن عباس انّه قال : لما حضرت رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الوفاة بكى حتى بلّت دموعه لحيته فقيل له : يا رسول اللّه‏ ما يبكيك ؟ فقال : ابكي لذرّيتي وما تصنع بهم شرار أمتي من بعدي ، كأني بفاطمة بنتي وقد ظلمت من بعدي وهي تنادي يا ابتاه فلا يعينها أحد من أمتي .

        فسمعت ذلك فاطمة عليهاالسلام فبكت ، فقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : لا تبكين يا بنية ، فقالت : لست ابكي لما يصنع بي من بعدك ولكني ابكي لفراقك يا رسول اللّه‏ ، فقال لها : ابشري يا بنت محمد بسرعة اللحاق بي ، فانّك اوّل من يلحق بي من أهل بيتي(5) .

        وروى فيكتاب روضة الواعظين وغيره انّه : مرضت عليهاالسلام مرضا شديدا ومكثت

 

(1) الكافي 1:381 .
(2) يوسف : 85 .
(3) يوسف : 86 .
(4) الخصال 1:272 ، وعنه في البحار 43:155 .
(5) البحار 43:156 ، عن امالي الطوسي .
(126)

 

اربعين ليلة في مرضها ، فلما نعيت اليها نفسها ، دعت ام ايمن واسماء بنت عميس ، ووجهت خلف عليّ عليه‏السلام واحضرته فقالت : يا بن عمّ ، انّه قد نعيت اليّ نفسي وانّني لأرى ما بي لا أشك الاّ انني لاحقة بابي ساعة بعد ساعة ، وانا أوصيك باشياء في قلبي ، قال لها علي عليه‏السلام : أوصيني بما أحببت يا بنت رسول اللّه‏ ، فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت ثم قالت :

        يا بن عم ، ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني ، فقال عليه‏السلام : معاذ اللّه‏ ، انت اعلم باللّه‏ وأبرّ وأتقى واكرم وأشد خوفا من اللّه‏ أن أوبخك غدا بمخالفتي ، فقد عزّ عليّ بمفارقتك وبفقدك ، الاّ انّه امر لابد منه ، واللّه‏ جدد عليّ مصيبة رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وقد عظمت وفاتك وفقدك ، فانّا للّه‏ وانا اليه راجعون من مصيبة ما أفجعها وألمّها وأمضّها وأحزنها ، هذه واللّه‏ مصيبة لا عزاء عنها ورزية لا خلف لها .

        ثم بكيا جميعا ساعة ، وأخذ عليّ رأسها وضمها الى صدره ثم قال : أوصيني بما شئت فانّك تجديني وفيّا أمضي كلّما أمرتيني به وأختار أمرك على أمري . ثم قالت : جزاك اللّه‏ عنيّ خير الجزاء ، يا بن عم أوصيك اوّلاً أن تتزوج بعدي بابنة امامة فانّها لولدي مثلي ، فانّ الرجال لابد لهم من النساء .

        ثم قالت : أوصيك يا بن عم أن تتخذ لي نعشا ، فقد رأيت الملائكة صوّروا صورته ، فقال لها : صفيه اليّ ، فوصفته فاتخذه لها ، فاول نعش عمل في وجه الارض ذلك . ثم قالت : أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني وأخذوا حقّي ، فانّهم أعدائي واعداء رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وأن لا يصلّي عليّ أحد منهم ولا من أتباعهم ، وادفني في الليل اذا هدأت العيون ونامت الابصار(1) .

        وروي في كشف الغمّة وغيره انّه : لما احتضرتها عليهاالسلام الوفاة أمرت اسماء بنت عميس أن تأتيها بالماء فتوضأت وقيل اغتسلت ، ودعت الطيب فتطيبت به ، ودعت ثيابا جدد فلبستها وقالت لاسماء : انّ جبرئيل عليه‏السلام أتى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لما حضرته الوفاة بكافور من الجنّة فقسمه أثلاثا ، ثلث لنفسه وثلث لعليّ وثلث لي وكان اربعين درهما .

        فقالت : يا اسماء إئتني ببقية حنوط والدي ، فضعيه عند رأسي فوضعته ، ثم تسبّحت بثوبها وقالت : انتظريني هنيئة ثم أدعيني فان أجبتك والا فاعلمي انّي قد قدمت علي أبي .

        فانتظرتها هنيئة ثم نادتها فلم تجبها ، فنادت يا بنت محمد المصطفى ، يا بنت اكرم من حملته النساء ، يا بنت خير من وطأ الحصا ، يا بنت من كان من ربه قاب قوسين أو أدنى . قال : فلم تجبها ، فكشفت الثوب عن وجهها فاذا بها قد فارقت الدنيا ، فوقعت عليها تقبلها وهي تقول : فاطمة اذا قدمت على ابيك رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فأقرئيه عن اسماء

 

(1) روضة الواعظين 1:151 ، عنه في البحار 43:191 .
(127)

 

بنت عميس السلام .

        فبينا هي كذلك دخل الحسن والحسين فقالا : يا اسماء ما ينيم أمّنا في هذه الساعة ؟ قالت : يا بني رسول اللّه‏ ليست امكما نائمة ، قد فارقت الدنيا ، فوقع عليها الحسن يقبلها مرة ويقول : يا اماه كلميني قبل أن تفارق روحي بدني ، وأقبل الحسين يقبل رجلها ويقول : يا اماه انا ابنك الحسين كلميني قبل ان ينصدع قلبي فأموت .

        قالت لهما اسماء : يا بني رسول اللّه‏ انطلقا الى ابيكما عليّ فأخبراه بموت أمكما ، فخرجا حتى اذا كانا قرب المسجد رفعا أصواتهما بالبكاء ، فابتدرهم جميع الصحابة فقالوا : ما يبكيكما يا بني رسول اللّه‏ لا ابكى اللّه‏ أعينكما ، لعلكما نظرتما الى موقف جدّكما صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فبكيتما شوقا اليه ؟

        فقالا : لا أو ليس قد ماتت امّنا فاطمة عليهاالسلام ، قال : فوقع عليّ على وجهه يقول : بمن العزاء يا بنت محمد ؟ كنت بك أتعزى ففيم العزاء من بعدك ؟ ثم قال :

 لكل اجتماع من خليلين فرقة

 وكل الذي دون الفراق قليل

 وانّ افتقادي فاطما بعد أحمد

 دليل على أن لا يدوم خليل(1)

        وفي روضة الواعظين : ثم توفيت عليهاالسلام ... فصاحت نسوة المدينة صيحة واحدة ، واجتمعت نساء بني هاشم في دارها فصرخن صرخة واحدة كادت المدينة أن تزعزع من صراخهنّ وهنّ يقلن : يا سيدتاه يا بنت رسول اللّه‏ .

        وأقبل الناس مثل عرف الفرس الى عليّ عليه‏السلام وهو جالس ، والحسن والحسين عليهماالسلام بين يديه يبكيان فبكى الناس لبكائهما ، وخرجت ام كلثوم وعليها برقعة وتجرّ ذيلها متجلّلة برداء عليها تسحبها وهي تقول : يا ابتاه يا رسول اللّه‏ الان حقا فقدناك فقدا لا لقاء بعده أبدا ، واجتمع الناس فجلسوا وهم يرجون أن تخرج الجنازة فيصلون عليها ، وخرج أبوذر فقال : انصرفوا فانّ ابنة رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قد أخّر اخراجها في هذه العشيّة ، فقام الناس وانصرفوا .

        فلما أن هدأت العيون ومضى من الليل ، أخرجها عليّ والحسن والحسين عليهماالسلام وعمار والمقداد وعقيل والزبير وأبوذر وسلمان وبريدة ، ونفر من بني هاشم وخواصه ، صلّوا عليها ودفنوها في جوف الليل وسوّى على حواليها قبورا مزورة مقدار سبعة حتى لا يعرف قبرها وقيل أربعين قبرا كما في رواية .

        وقيل : قبرها سوي مع الارض مستويا فمسحها مسحا سواءً مع الارض حتى لا يعرف أحد موضعه(2) . وذلك لإخفاء قبرها وأن لا يصلّي عليه أحد أو يهمّ بنبشه ، ولذا وقع الخلاف في موضع قبرها عليهاالسلام ، قيل انّه بالبقيع جنب قبور الائمة عليهم‏السلام ، وقيل انّ

 

 (1) كشف الغمّة 2:122 .
(2) روضة الواعظين 1:151 .
(128)

 

قبرها بين قبر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وبين منبره لقوله : بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة ، وقيل انّها دفنت في بيتها ، وهذا أصح الاقوال كما تدل عليه الروايات الصحيحة .

        روى إبن شهر آشوب وغيره انّه : لما صار بها الى القبر المبارك خرجت يد (تشبه يد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ) فتناولها فانصرف(1) .

        وقد روى الشيخ الطوسي والكليني باسانيد معتبرة عن الامام زين العابدين والامام الحسين عليهماالسلام انّه :

        لما مرضت فاطمة عليهاالسلام بنت رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وصّت الى عليّ بن ابي طالب عليه‏السلام أن يكتم أمرها ويخفي خبرها ولا يؤذن أحدا بمرضها ، ففعل ذلك وكان يمرّضها بنفسه وتعينه على ذلك اسماء بنت عميس (رحمها اللّه‏) على استسرار بذلك كما وصّت به .

        فلما حضرتها الوفاة وصّت أمير المؤمنين عليه‏السلام ان يتولى امرها ويدفنها ليلاً ويعفي قبرها ، فتولّى ذلك أمير المؤمنين عليه‏السلام ودفنها وعفى موضع قبرها ، فلما نفض يده من تراب القبر ، هاج به الحزن ، فأرسل دموعه على خدّيه وحوّل وجهه الى قبر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فقال :

        السلام عليك يا رسول اللّه‏ ، السلام عليك من ابنتك وحبيبتك وقرّة عينك وزائرتك ، والبائتة في الثرى ببقيعك ، المختار اللّه‏ لها سرعة اللحاق بك ، قلّ يا رسول اللّه‏ عن صفيتك صبري ، وضعف عن سيدة النساء تجلّدي ، الاّ انّ في التأسي لي بسنّتك والحزن الذي حلّ بي لفراقك موضع التعزّي ، ولقد وسّدتك في ملحود قبرك بعد ان فاضت نفسك على صدري ، وغمّضتك بيدي ، وتولّيت أمرك بنفسي .

        نعم وفي كتاب اللّه‏ أنعم القبول ، انا للّه‏ وانا اليه راجعون قد استرجعت الوديعة وأخذت الرهينة واختلست الزهراء فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول اللّه‏ .

        اما حزني فسرمد واما ليلي فمسهّد لا يبرح الحزن من قلبي أو يختار اللّه‏ لي دارك التي فيها انت مقيم ، كمد مقيّح ، وهمّ مهيّج ، سرعان ما فرق اللّه‏ بيننا والى اللّه‏ أشكو . وستنبئك ابنتك بتظاهر امتك عليّ وعلى هضمها حقّها فاستخبرها الحال ، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد الى بثّة سبيلاً ، وستقول ويحكُمُ اللّه‏ وهو خير الحاكمين .

        سلام عليك يا رسول اللّه‏ ، سلام مودع ولا قال ، فان انصرف فلا عن ملالة وان أقم فلا عن سوء ظنّي بما وعد اللّه‏ الصابرين ، الصبر أيمن وأجمل ولو لا غلبة المستولين علينا ، لجعلت المقام عند قبرك لزاما ، والتلبّث عنده معكوفا ، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزيّة ، فبعين اللّه‏ تدفن بنتك سرّا ، ويهتضم حقها قهرا ، ويمنع ارثها جهرا ، ولم يطل العهد ولم يخلق منك الذكر ، فالى اللّه‏ يا رسول اللّه‏ المشتكى وفيك أجمل العزاء ، فصلوات اللّه‏ عليها وعليك ورحمة اللّه‏ وبركاته(2) .

 

(1) المناقب 3:365 .
(129)

 

        ونقل العلامة المجلسي عن مصباح الانوار مرويّا عن الصادق عليه‏السلام عن آبائه الكرام انّه : لما وضع أمير المؤمنين عليه‏السلام فاطمة عليهاالسلام في قبرها ، قال :

        بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم ، بسم اللّه‏ وباللّه‏ وعلى ملّة رسول اللّه‏ محمد بن عبد اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، سلمتك ايتها الصدّيقة الى من هو أولى بك منّي ، ورضيت لك بما رضى اللّه‏ تعالى ، ثم تلى :

        « مِنْهَا خَلَقْنَكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى »(1) .

        فلما دفنها امر برشّ الماء على القبر ثم جلس عنده بقلب كئيب حزين ، وعين دامعة فجاء اليه عمّه العباس فأخذ بيده ونحّاه عن القبر .

        قال الشيخ الشهيد في مزار الدروس : ويستحب زيارة فاطمة عليهاالسلام ابنة رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وزوجة أمير المؤمنين وام الحسن والحسين عليهماالسلام .

        قالت عليهاالسلام : « واخبرني ابي انّه من سلّم عليه وعليّ ثلاثة ايّام أوجب اللّه‏ له الجنة ، فقيل لها : في حياتكما ؟ قالت نعم وبعد موتنا » ، وليزر بيتها والروضة والبقيع .

        ولدت عليهاالسلام بعد المبعث بخمس سنين وقبضت بعد ابيها صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بنحو مائة يوم(2) .

        قال العلامة المجلسي : روى السيد إبن طاووس رحمه‏الله انّه من زار فاطمة عليهاالسلام فليقل :

        السلام عليك يا سيدة نساء العالمين ، السلام عليك يا والدة الحجج على الناس أجمعين ، السلام عليك ايتها المظلومة الممنوعة حقها (ثم ليقل) اللهم صلى على امتك وابنة امتك وزوجة وصي نبيك ، صلاة تزلفها فوق زلفى عبادك المكرمين من أهل السماوات وأهل الارضين .

        فقد روي انّ من زارها بهذه الزيارة واستغفر اللّه‏ غفر اللّه‏ له وأدخله الجنّة(3) .

        يقول المؤلف : ذكرت في كتاب مفاتيح الجنان وهدية الزائرين ، ثواب من زارها ، وذكرت أيضا الاختلاف في موضع قبرها ، وكيفية زيارتها عليهاالسلام ونكتفي في هذا المختصر بهذا المقدار .

        واعلم انّ لها أربعة أولاد : الامام الحسن ، والحسين عليهماالسلام ، وزينب الكبرى ، وزينب الصغرى ، وكنيتها ام كلثوم (سلام اللّه‏ عليهم أجمعين) ، وكانت حاملة بطفل قد سمّاه النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله محسنا وقد سقط بعد وفاته .

        قال الشيخ الصدوق في معنى قوله صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لعليّ عليه‏السلام : انّ لك كنزا في الجنّة وانت ذو

 

(1) البحار 43:210 ، عن امالي الطوسي ، الكافي 1:381 .
(2) طه : 55 .
(3) الدروس 2:6 .
(4) البحار 100:198 .
(130)

 

قرنيها ، قال : قد سمعت بعض المشايخ يذكر انّ هذا الكنز هو ولده المحسن عليه‏السلام وهو السقط الذي ألقته فاطمة عليهاالسلام لما ضغطت بين البابين(1) .

        يقول المؤلف :

        قد ألّفت كتابا مستقلاً في مصائب فاطمة الزهراء عليهاالسلام وسمّيته ـ بيت الاحزان في مصائب سيدة النسوان ـ فليرجع الطالب الى هناك فانّ المقام لا يسع اكثر من هذا .

« واللّه‏ تعالى الموفق وهو المستعان »

* * *

 

(1) معاني الاخبار : 206 .
(131)

 

الباب الثالث

في بيان ولادة سيد الاوصياء وامام الاتقياء مولانا أمير المؤمنين عليٌ المرتضى صلوات اللّه‏ عليه وبيان شهادته ونبذة من فضائله عليه‏السلام

(132)

 

(133)

 

الفصل الاول

في ولادته عليه‏السلام

        انّ المشهور في ولادته عليه‏السلام انها كانت في يوم الجمعة ثالث عشر من شهر رجب بعد ثلاثين سنة من عام الفيل في جوف الكعبة المعظّمة ، وأبوه أبوطالب بن عبدالمطلب شقيق عبد اللّه‏ أبي النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وامه فاطمة بنت اسد بن هاشم بن عبد مناف ، وكان عليه‏السلام واخوته اوّل من ولدوا من هاشميين(1) .

        وقد كثرت الروايات في كيفية ولادته عليه‏السلام ، والذي رُوي باسانيد كثيرة ما يلي :

        قال يزيد بن قعنب : كنت جالسا مع العباس بن عبد المطلب مابين فريق بني هاشم الى فريق عبد العزّى بازاء بيت اللّه‏ الحرام ، اذ أتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم أمير المؤمنين عليه‏السلام ، وكانت حاملة بأمير المؤمنين عليه‏السلام تسعة أشهر وكان يوم التمام .

        قال : فوقفت بازاء البيت الحرام وقد أخذها الطلق ، فرمت بطرفها نحو السماء وقالت : أي ربّ انّي مؤمنة بك وبما جاء به من عندك الرسول ، وبكلّ نبيّ من انبيائك ، وبكلّ كتاب أنزلته ، وانّي مصدّقة بكلام جدّي ابراهيم الخليل ، وإنّه بنى بيتك العتيق ، فأسألك بحقّ هذا البيت ومن بناه ، وبهذا المولود الذي في أحشائي الذي يكلّمني ويؤنسني بحديثه ، وأنا موقنة إنّه احدى آياتك ودلائلك لما يسّرت عليّ ولادتي .

        قال يزيد بن قعنب : فرأينا البيت قد انفتح من ظهره ودخلت فاطمة فيه وغابت عن أبصارنا ، ثم عادت الفتحة والتزقت باذن اللّه‏ ، فرمنا أن نفتح الباب لتصل اليها بعض نساءنا فلم ينفتح الباب ، فعلمنا انّ ذلك أمر من أمر اللّه‏ عزوجل ، وأهل مكة يتحدّثون بذلك في أفواه السكك ، وتتحدّث المخدّرات في خدورهن .

        ثم خرجت بعد الرابع وبيدها أمير المؤمنين عليه‏السلام ثم قالت : انّي فضّلت على من تقدمني من النساء ، لانّ آسية بنت مزاحم عبدت اللّه‏ عزوجل سرّا في موضع لا يحب أن يعبد اللّه‏ فيه الاّ اضطرارا ، وانّ مريم بنت عمران هزّت النخلة اليابسة بيدها حتى أكلت منها رطبا جنيا ، وانّي دخلت بيت اللّه‏ الحرام فأكلت من ثمار الجنّة وأوراقها ، فلمّا أردت أن أخرج هتف بي هاتف :

        يا فاطمة سمّيه عليّا فهو عليّ واللّه‏ العليّ الأعلى يقول : انّي شققت اسمه من اسمي ، وأدبته بأدبي ، ووقفته على غامض علمي ، وهو الذي يكسر الاصنام في بيتي ،

 

(1) انظر اعلام الورى : 306 ، البحار 35:6 .
(134)

 

وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي ، ويقدسني ، ويمجّدني ، ويهلّلني ، وهو الامام بعد حبيبي ونبيي وخيرتي من خلقي محمد رسولي ووصيّه ، فطوبى لمن أحبّه ونصره ، والويل لمن عصاه وخذله وجحد حقّه(1) .

        وفي بعض الروايات انّه لمّا ولد عليّ عليه‏السلام أخذ أبوطالب بيد فاطمة وعليّ على صدره وخرج الى الأبطح ونادى :

 يا رب يا ذا الغسق الدجيّ

 والقمر المبتلج المضيّ

 بيّن لنا من حكمك المقضيّ

 ماذا ترى في اسم ذا الصبيّ

        قال : فجاء شيء يدبّ على الارض كالسحاب حتى حصل في صدر أبي طالب ، فضمّه مع عليّ عليه‏السلام الى صدره ، فلمّا أصبح اذا هو بلوح أخضر فيه مكتوب :

 خصصتما بالولد الزكيّ

 والطاهر المنتجب الرضيّ

 فاسمه من شامخ عليّ

 عليّ اشتق من العليّ

        قال : فعلّقوا اللوح في الكعبة ، وما زال هناك حتى أخذه هشام بن عبد الملك(2) .

        وقد كثرت الاخبار في باب ولادته عليه‏السلام وكيفيتها ولا يسع المقام ذكرها ، وهذه الفضيلة من خصائصه عليه‏السلام لانّ أشرف بقاع الحرم مكة ، وأشرف مواضع الحرم المسجد ، وأشرف مواضعه الكعبة ، ولم يولد أحد فيها الا هو عليه‏السلام ، ولم يولد مولود أيضا في سيد الايام (يوم الجمعة) وشهر الحرام (رجب) وبيت الحرام الا أمير المؤمنين عليه‏السلام أبو الائمة الكرام عليه وآله آلاف السلام ، وفي الحقيقة :

 هذه من علاه أحدى المعالي

 وعلى هذه فقس ما سواها

        ولنعم ما قال الحميري :

 ولدته في حرم الإله وأمنه

 والبيت حيث فنائه والمسجدُ

 بيضاء طاهرة الثياب كريمة

 طابت وطاب وليدها والمولدُ

 في ليلة غابت نحوس نجومها

 وبدت مع القمر المنير الاسعدُ

 مالف في خرق القوابل مثله

 الا إبن آمنة النبي محمد

* * *

 

(1) انظر : الامالي للصدوق : 144 ، ح9 ، البحار 35 :18 ـ 19 .
(2) المناقب 2:174 ، عنه البحار 35:18 .
(135)

 

الفصل الثاني

في بيان فضائل أمير المؤمنين عليه‏السلام

        لا يخفى على أهل العلم والتحقيق انّ فضائل أمير المؤمنين عليه‏السلام لا تحصى في أيّ كتاب ، ولا يقدر عدّها أي لسان ، بل لا تدرك درجاته ملائكة السموات أيضا ، وفي الحقيقة انّ احصاء فضائله كافراغ ماء البحر في التعذّر ، وقد ورد في الاحاديث الكثيرة انّ أهل البيت عليهم‏السلام هم كلمات اللّه‏ ، ولا يمكن احصاء فضائلهم كما لا تحصى كلمات اللّه‏ ، ولنعم ما قيل :

 كتاب فضل تو را آب بحر كافى نيست

 كه تر كنم سر انگشت وصفحه بشمارم

        أي انّ ماء البحر لا يكفي لكي أبلّل به أناملي فأعدّ صفحات كتاب فضلك .

        ولذا لم أجرؤ على أخذ القلم كي اكتب من فضائله شيئا ، ولكن لما وجدته معدن الجود والكرم والفتوة ، رجوت منه ان يغفر لي تجرّئي ويقبل مني هذه الخومة القليلة .

« وما توفيقي الا باللّه‏ عليه توكلت وإليه انيب »

        اعلم انّ الفضائل امّا نفسية وامّا بدنية ، وكان أمير المؤمنين عليه‏السلام أكمل وأفضل من جميع البشر في كلا القسمين بوجوه عديدة سوى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، ونكتفي هنا بذكر اربعة عشر وجها تيمّنا وتبركا بهذا العدد الشريف .

الوجه الاول : « في جهاده عليه‏السلام »

        كان جهاده عليه‏السلام وعظيم بلائه في الحروب والغزوات اكثر من جميع المسلمين ، ولم يصل أحد الى درجته ومرتبته ، فقد قتل في غزوة بدر الكبرى ـ وهي اول غزوة امتحن اللّه‏ تعالى بها المؤمنين ـ الوليد وشيبة والعاص وحنظلة وطعمة ونوفل وغيرهم من صناديد العرب وشجعان المشركين وفرسانهم ، حتى قَتَلَ نصف المشركين في تلك المعركة بيده عليه‏السلام ، والنصف الاخر بيد المسلمين والملائكة التي نزلت لنصرتهم .

        وثبت في غزوة احد ولم يفرّ ، وبقي محاميا عن الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يردّ عنه الاعداء حتى أُثخن بالجراح ، وقتل أبطال المشركين وصناديدهم ، فنادى جبرئيل عليه‏السلام بين الارض والسماء : « لا سيف الا ذو الفقار ولا فتى الا عليّ »(1) .

        وقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في حقّه يوم الاحزاب الذي قتل عليه‏السلام فيه عمرو بن عبدود

 

(1) البحار 20:73 .
(136)

 

فوقع الفتح والظفر للمسلمين : ضربة عليّ يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين(1) .

        وفي غزوة خيبر قتل مرحبا اليهودي ، وأخذ باب الحصن فقلعها بيده الشريفة وقذفها مسافة اربعين ذراعا ، فلم يقدر على رفعها اربعون نفرا .

        وفي غزوة حنين خرج رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في عشرة الاف مقاتل ، فتعجب أبوبكر من كثرتهم فحسدهم ، فانهزموا كلّهم ولم يبق مع الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الا نفر كان على رأسهم عليّ بن أبي طالب عليه‏السلام ، فقتل أبو جرول فانهزم المشركون ، ورجع المسلمون المنهزمون .

        وقس على هذا باقي الغزوات والحروب التي ضبطها أرباب السير والتاريخ ، فالمتتبع لها يعلم كثرة جهاده عليه‏السلام في اللّه‏ وشجاعته وعظيم بلائه في تلك الغزوات .

الوجه الثاني : « في علمه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله »

        كان عليه‏السلام اعلم الناس وأفقههم ، وتظهر أعلميته من وجوه :

        الاول : انّه كان في غاية الذكاء والفطانة والفراسة ، وكان دائم الملازمة لرسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، يقتبس علمه من مشكاة النبوة ، وهذا برهان جليّ على اعلميته بعد النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، مضافا الى انّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله علّمه حين وفاته ألف باب من العلم ينفتح من كل باب ألف باب ، كما يستفاد ذلك من الاخبار المعتبرة المستفيضة بل المتواترة .

        وقد روى الخاصة والعامة انّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قال :

        « انا مدينة العلم وعليّ بابها »(2) .

        الثاني : انّ الاصحاب كثير ما اتفق عندهم الخلط في الاحكام وعدم الفهم لها ، وحصل لهم الاشتباه في الفتوى مرارا ، فكانوا يرجعون إليه عليه‏السلام فيعلمهم ويهديهم الى الصواب .

        ولم يذكر أبدا انّه عليه‏السلام رجع اليهم في مسألة جهلها أو حكم لم يعرفه ، بل القضية على العكس تماما ـ كما قلنا ـ فهذا دليل واضح على اعلميته عليه‏السلام ، وقصص خطأ الصحابة في الفتوى ثم الرجوع الى عليّ عليه‏السلام باب علم مدينة النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لا تخفى على أحد سيما المتتبع الخبير .

        الثالث : انّ المستفاد من الحديث الشريف « أقضاكم عليّ » هو أعلميّته لانّ القضاء يستلزم العلم ولا ينفك عنه .

        الرابع : انتهاء جميع علماء الفنون إليه عليه‏السلام ، كما قال إبن أبي الحديد :

        « قد عرفت انّ أشرف العلوم هو العلم الالهي ، ... ومن كلامه عليه‏السلام اقتبس وعنه

 

(1) البحار 39:2 ، الغدير 7:206 .
(2) المستدرك للحاكم 2:126 ، تاريخ بغداد 4:248 ، كنز العمال 6:152 .
(137)

 

نقل ، وإليه انتهى ومنه ابتدأ ، فانّ المعتزلة تلامذته وأصحابه ، لانّ كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد اللّه‏ بن محمد بن الحنفية ، وأبو هاشم تلميذ ابيه وأبوه تلميذه عليه‏السلام .

        وأما الأشعرية فانّهم ينتمون الى أبي الحسن على بن اسماعيل بن أبي بشر الاشعري ، وهو تلميذ أبي عليّ الجبائي ، وأبو عليّ أحد مشايخ المعتزلة ، فالاشعرية ينتهون بأخَرَةٍ الى استاذ المعتزلة ومعلمهم وهو علي بن أبي طالب عليه‏السلام ، وأما الامامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر .

        ومن العلوم علم تفسير القرآن ، وعنه أخذ ومنه فرع ، واذا رجعت الى كتب التفسير علمت صحة ذلك ، لانّ اكثره عنه وعن عبد اللّه‏ بن عباس وقد علم الناس حال إبن عباس ، في ملازمته له وانقطاعه إليه وانّه تلميذه وخرّيجه .

        ومن العلوم علم النحو والعربية ، وقد علم الناس كافة انّه هو الذي ابتدعه وأنشأه ، وأملى على أبي الاسود الدؤلي جوامعه وأصوله ، ومن العلوم علم الفقه وهو عليه‏السلام اصله وأساسه ، وكل فقيه في الاسلام فهو عيال عليه ومستفيد من فقهه .

        ومن العلوم علم الطريقة ، وقد عرفت ان أرباب هذا الفن في جميع بلاد السلام إليه ينتهون وعنده يقفون ، ... ويكفيك دلالة على ذلك الخرقة التي هي شعارهم الى اليوم ، وكونهم يسندونها باسناد متصل إليه عليه‏السلام (1) .

        الخامس : تصريحه عليه‏السلام بهذا الأمر في مواطن كثيرة فقد قال عليه‏السلام :

        « انا بطرق السماء اعلم منّي بطرق الارض » ، وقوله عليه‏السلام : « سلوني قبل ان تفقدوني » .

        فكان يُسأل دائما عن المطالب المشكلة والعلوم الغامضة والأمور العويصة ، ويجيب عليها جوابا كافيا وافيا شافيا .

        ومن الغرائب انّ من تفوه بهذه الجملة بعده عليه‏السلام انفضح أمره وذلّ عند الناس ، كما وقع هذا الأمر لابن الجوزي(2) ، ومقاتل بن سليمان(3) ، والواعظ البغدادي في عهد

 

(1) شرح النهج 1:17 ، مع تغيير في الترتيب رعاية لما ذكره المصنّف رحمه‏الله .
(2) أما حكاية إبن الجوزي في هذا المقام أشهر من أن تذكر فنتركها (منه رحمه‏الله ) ، ونحن نذكرها بيانا لمنزلة أمير المؤمنين عليه‏السلام التي لا يحيطها الاّ اللّه‏ ورسوله وانّه من أراد أن يتمثل بهذه المنزلة كذبا وينتحل بها عنوة يفتضح لا محالة ، وامّا قضية إبن الجوزي فقد روي انّه قال يوما على منبره (سلوني قبل أن تفقدوني) فسألته امرأة عمار عن مسير عليّ عليه‏السلام الى المدائن لتجهيز سلمان وعدم اعتنائه الى عثمان وهو منبوذ في المزابل ثلاثة أيام فقد لزم الخطأ لأحدهما ، فقال لها : ان كنت خرجت من بيتك بغير اذن زوجك فعليك لعنة اللّه‏ والاّ فعليه ، فقالت : خرجت عائشة الى حرب عليّ باذن النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أو لا ؟ فانقطع ولم يملك جوابا .
(3) أما حكاية مقاتل بن سليمان وهو من اجلّة علماء أهل السنة ، فهي كما في تاريخ إبن خلكان عن ابراهيم الحربي انّ مقاتلاً قال يوما : « سلوني عمّا دون العرش » ، فسأله شخص انّ آدم عليه‏السلام لمّا حج البيت ، من حلق رأسه ؟ فقال مقاتل : ليس هذا السؤال لك ولكن اللّه‏ أراد أن يفضحني بسبب العجب الذي دخل قلبي . (وسيأتي جواب هذا السؤال في ذكر فضائل الامام الجواد عليه‏السلام ) . (منه رحمه‏الله )
(138)

 

الناصر لدين اللّه‏ العباسي(1) ، وانفضاحهم وذلهم مسطور في كتب السير والتاريخ .

 

 

(1) أما حكاية الواعظ : فقد كان ببغداد في صدر ايام الناصر لدين اللّه‏ العباسي واعظ مشهور بالحذق ومعرفة الحديث والرجال وكان يجتمع إليه تحت منبره خلق عظيم من عوام بغداد ومن فضلائها أيضا وكان مشتهرا بذم أهل الكلام وخصوصا المعتزلة وأهل النظر على قاعدة الحشوية ، ومبغضي ارباب العلوم العقلية وكان أيضا منحرفا عن الشيعة .

        فاتفق قوم من رؤساء الشيعة على أن يضعوا عليه من يبكّته ويسأله تحت منبره ويخجله ويفضحه بين الناس في المجلس ، فأشير عليهم بشخص كان ببغداد يعرف باحمد بن عبد العزيز الكزّي ، كان له لسن ، ويشتغل بشيء يسير من كلام المعتزلة ويتشيّع ، وعنده قِحة ، وقد شدا أطرافا من الادب .

        فجلس ذلك الواعظ في يومه الذي جرت عادته بالجلوس فيه ، واجتمع الناس عنده على طبقاتهم حتى امتلأت الدنيا بهم وتكلّم على عادته فأطال ، فلمّا مرّ في ذكر صفات الباري سبحانه في اثناء الوعظ ، قام إليه الكزّي فسأله أسئلة عقلية على منهاج كلام المتكلمين من المعتزلة فلم يكن للواعظ عنها جواب نظري وانّما دفعه بالخطابة والجدل وسجع الالفاظ ، وقال الواعظ في آخر الكلام :

        أعين المعتزلة حول ، وصوتي في مسامعهم طبول ، و كلامي في أفئدتهم نصول ، يا من بالإعتزال يصول ، ويحك كم تحوم وتجول ، حول من لا تدركة العقول! كم أقول! كم أقول! خلّوا هذا الفضول ؟

        فارتجّ المجلس وصرخ الناس وعلت الاصوات وطاب الواعظ وطرب وخرج من هذا الفصل الى غيره ، فشطح شطح الصوفية وقال : سلوني قبل أن تفقدوني ، وكررها ، فقام إليه الكزّي فقال : يا سيدي ما سمعنا انّه قال هذه الكلمة الاّ عليّ بن أبي طالب عليه‏السلام وتمام الخبر معلوم ، وأراد الكزّي بتمام الخبر قوله عليه‏السلام : لا يقولها بعدي الاّ مدّع كذاب .

        فقال الواعظ وهو في نشوة طربه وأراد اظهار فضله ومعرفته برجال الحديث والرواة : من عليّ بن أبي طالب ؟ أهو عليّ بن أبي طالب بن المبارك النيسابوري ؟ ام عليّ بن أبي طالب إبن اسحاق المروزي ؟ أم عليّ بن أبي طالب بن عثمان القيرواني ؟ أم عليّ بن أبي طالب إبن سليمان الرازي ؟ وعدّ سبعة أو ثمانية من اصحاب الحديث كلّهم عليّ بن أبي طالب .

        فقام الكزي وقام من يمين المجلس آخر ومن يسار المجلس ثالث انتدبوا له وبذلوا أنفسهم للحميّة ووطّنوها على القتل ، فقال الكزّي : أشّا يا سيدي أشّا!! صاحب هذا القول هو عليّ بن أبي طالب زوج فاطمة سيدة نساء العالمين عليهاالسلام وان كنت ما عرفته بعد بعينه فهو الشخص الذي لما آخى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بين الاتباع والأذناب آخى بينه وبين نفسه وأسجل على انّه نظيره ومماثله فهل نقل في جهازكم أنتم من هذا شيء ؟ أو نبت تحت خبّكم من هذا شيء ؟

        فأراد الواعظ ان يكلّمه فصاح عليه القائم من الجانب الايمن وقال : يا سيدي ، محمد بن عبد اللّه‏ كثير في الاسماء ولكن ليس فيهم من قال له رب العزة :

        « ما ضلّ صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى » .

        وكذلك عليّ بن أبي طالب كثير في الاسماء ولكن ليس فيهم من قال له صاحب الشريعة : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى الاّ انّه لا نبيّ بعدي » .

        فالتفت إليه الواعظ ليكلّمه فصاح عليه القائم من الجانب الايسر وقال : يا سيدي ، حقك تجهله أنت معذور في كونك لا تعرفه :

 واذا خفيتُ على الغبيّ فعاذر

 الاّ تراني مقلة عمياءُ

        فاضطرب المجلس وماج كما يموج البحر وافتتن الناس وتواثبت العامة بعضها الى بعض وتكشفت الرؤوس ومزقت الثياب ونزل الواعظ واحتمل حتى أدخل دارا اغلق عليه بابها وحضر اعوان السلطان فسكّنوا الفتنة وصرفوا الناس الى منازلهم واشغالهم وأنفذ الناصر لدين اللّه‏ في آخر نهار ذلك اليوم ، فأخذ أحمد بن عبد العزيز الكزي والرجلين اللذين قاما معه فحبسهم اياما لتطفأ نائرة الفتنة ثم أطلقهم . (منه رحمه‏الله )

        نقلاً عن شرح النهج لابن أبي الحديد 13:107 .

(139)

 

        وهذا أيضاً يؤيّد ما قلناه ، حتى انّه عليه‏السلام أخبر عن ذلك وقال : لا يقولها بعدي الاّ مدع كذّاب ، وكان عليه‏السلام يضع يده في بعض الاحيان على بطنه الشريفة ويقول : انّ ههنا لعلما جمّا . ويقول تارة : واللّه‏ لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم ...

        وبالجملة لم ينقل عن أحد من العلوم والمعارف والحكم والقضايا الكثيرة الاّ عن أمير المؤمنين عليه‏السلام ، ونرى علماءنا وحكماءنا كإبن سينا والمحقق نصير الدين الطوسي وإبن ميثم ، وأيضا من الفقهاء كالعلامة والمحقق والشهيد وغيرهم (رضوان اللّه‏ عليهم) ، يستمد بعضهم من بعض في تفسير كلماته عليه‏السلام ، واستفادوا كثيرا منها واقتبسوا العلوم من تلك الكلمات والقضايا .

الوجه الثالث :

        ومن وجوه فضله وأفضليته عليه‏السلام ، ما يستفاد من آية التطهير وآية المباهلة ، كما شرح في محله ، ولا يسع المقام ذكره ، نعم كر الفخر الرازي كلاماً ذيل آية المباهلة لا بأس بذكره هنا ، قال :

        أما الشيعة فقد احتجوا على انّ عليّا أفضل (من الأنبياء سوى خاتمهم) وأفضل الصحابة ، وتمسكوا بقوله : « قل تعالوا ... » وثبت بالاخبار الصحيحة انّ المراد من قوله : « انفسنا ... » عليّ (لانّ الدعوة تقتضي المغايرة ولا يمكن لشخص دعوة نفسه ولم يعبّر القرآن بأنفسنا الاّ لعلي) ومن المعلوم انّه يمتنع ان تكون نفس عليّ هي نفس محمد بعينه ، فلابد وان يكون المراد هو المساواة بين النفسين ، وهذا يقتضي انّ كل ما حصل لمحمد من الفضائل والمناقب فقد حصل مثله لعليّ ، ولما كانت فضيلة النبوّة خارجة من هذه المساواة اجماعا لاختصاص النبي محمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بها ، فوجب ان تحصل المساواة بينهما فيما وراء هذه الصفة ، ثم لا شك انّ محمدا صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كان أفضل الخلق (والأنبياء والصحابة) في سائر الفضائل ، فلمّا كان عليّ مساويا في تلك الفضائل وجب أن يكون أفضل الخلق ، لانّ المساوي للأفضل يجب أن يكون أفضل . (إنتهى موضع

(140)

 

الحاجة من كلامه)(1)

        ولنعم ما قال إبن حماد رحمه‏الله :

 وسماه رب العرش فيالذكر نفسه

 فحسبك هذا القول ان كنت ذا خبر

 وقال لهم هذا وصيي ووارثي

 ومن شدّ رب العالمين به أزري

 علي كزرّي من قميص أشارة

 بان ليس يستغني القميص عن الزر

        قد أشار إبن حماد في كل بيت من هذه الأبيات الى فضيلة من فضائل عليّ عليه‏السلام ، يشير في البيت الاول الى آية المباهلة ، وفي الثاني الى حديث الغدير وتعيين النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله اياه بالوصاية والولاية ، وفي الثالث الى الحديث النبوي المروي في المناقب لابن شهر آشوب « أنت زري من قميصي » أي كما انّ القميص يحتاج الى الازرار فكذلك النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يحتاج الى وجود أمير المؤمنين عليه‏السلام ولا يمكنه الاستغناء عنه .

الوجه الرابع : « في كثرة جوده وسخائه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله »

        وهذا المطلب أشهر من أن يذكر ، كان عليه‏السلام يصوم نهاره ويقوم ليله ويبيت جائعا ويتصدق بقوته على المساكين ، فنزلت سورة هل أتى في حقه ، ونزلت أيضا هذه الآية الكريمة في شأنه :

        « الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُم بَالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ »(2) .

        كان عليه‏السلام يعمل ويستأجر نفسه ثم يتصدق بأجرته للمساكين والفقراء ، ويشدّ هو الحجر على بطنه من شدة الجوع ، ويكفينا ما شهد به معاوية ـ ألدّ أعدائه ، والفضل ما شهدت به الاعداء ـ قال : لو كان لعليّ بيتان بيت من تبر وبيت من تبن لتصدق بتبره قبل تبنه .

        وكان عليه‏السلام يملك شيئا من مال الدنيا حين وفاته الا دراهم قلائل ، أراد بها شراء جارية تعاون أهله وتساعدها على أمور البيت ، وكان يخاطب الدنانير والدراهم ويقول : « يا بيضاء يا صفراء غرّي غيري » ، وحكاية كنسه لبيت المال بعد انفاقه كله ثم صلاته فيه مشهورة ومذكورة في كتب الخاصة والعامة .

        روى الشيخ المفيد عن سعيد بن كلثوم قال : كنت عند الصادق جعفر بن محمد عليه‏السلام فذكر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‏السلام فأطراه ومدحه بما هو أهله ، ثم قال :

        واللّه‏ ما أكل عليّ بن أبي طالب من الدنيا حراما قط حتى مضى لسبيله ، وما

 

(1) مع اختلاف يسير في تفسير الرازي ، ذيل الاية : 61 من سورة آل عمران .
(2) البقرة : 274 .
(141)

 

عرض له أمران قط هما للّه‏ رضا الاّ أخذ بأشدهما عليه في دينه ، وما نزلت برسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله نازلة قط الاّ دعاه ثقة به ، وما أطاق قدر عمل رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من هذه الأمة غيره .

        وكان ليعمل عمل رجل كان وجهه بين الجنة والنار يرجو ثواب هذه ويخاف عقاب هذه ولقد أعتق من ماله ألف مملوك في طلب وجه اللّه‏ والنجاة من النار مما كدّ بيديه ورشح منه جبينه وان كان ليقوت أهله بالزيت والخل والعجوة وما كان لباسه الاّ الكرابيس اذا فضل شيء عن يده من كمه دعا بالمقراض فقصه ، وما أشبه من ولده ولا أهل بيته أحد أقرب شبها به في لباسه وفقهه من علي بن الحسين عليهماالسلام (1) .

الوجه الخامس : « في زهده صلى‏الله‏عليه‏و‏آله »

        لا يخفى انّه عليه‏السلام أزهد الناس بعد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بل هو قبلة الزهاد وسيدهم ، ما شبع من طعام قط ، وكان مأكولُه وملبوسُه أخشن من كل أحد ، وكان يأكل خبز الشعير اليابس ، ويمهر الجراب مخافة ان يأتي أحد أولاده فيضع الدهن أو الزيت على الخبز ، وقلّ ما أضاف اداما الى الخبز ولو أراد اداما كان ادامه الملح أو الخل .

        وسيأتي في باب استشهاده عليه‏السلام انّه كان ليلة التاسع عشر في بيت أم كلثوم للإفطار فجاءت بطبق الطعام وفيه قرصان من خبز الشعير وقصعة فيها لبن وملح جريش ، فلمّا نظر إليه بكى بكاءا عاليا شديدا وقال :

        يا بنية أتقدمين لأبيك ادامين في فرد طبق واحد ؟ انا أريد أن اتبع أخي وإبن عمي رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ما قدم إليه ادامان في طبق واحد الى ان قبضه اللّه‏ تعالى . يا بنية واللّه‏ لا آكل شيئا حتى ترفعي أحد الادامين ، فرفعت اللبن ، فتناول عليه‏السلام قليلاً من الطعام ، ثم حمد اللّه‏ وأثنى عليه ثم قام يصلي .

        وقال عليه‏السلام في الكتاب الذي كتبه الى عثمان بن حنيف :

        الا وانّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعامه بقرصيه ، وقال : ... ولو شئت لاهتديت الطريق الى مصفّى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القزّ ، ولكن هيهات ان يغلبني هواي ، ويقودني جشعي الى تخيّر الاطعمة ، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع ، أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى واكباد حرّى .

        أأقنع من نفسي بان يقال : هذا أمير المؤمنين ، ولا أشاركهم في مكاره الدهر ، أو اكون أسوة لهم في جشوبة العيش ، فما خلقت ليشغلني اكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها ...(2)

 

 

(1) الارشاد : 255 ، عنه في البحار 41:110 ، ومثله في الكافي 8:163 .
(2) نهج البلاغة ، الكتاب رقم 45 ، الى عثمان بن حنيف الانصاري .
(142)

 

        فالمتتبع لخطبه وكلماته عليه‏السلام سيعلم علم اليقين كثرة زهده وعدم اعتنائه لزخارف الدنيا .

        روى الشيخ المفيد انّه : لما توجّه أمير المؤمنين عليه‏السلام الى البصرة نزل الربذة فلقيه بها آخر الحاج ، فاجتمعوا ليسمعوا من كلامه وهو في خبائه ، قال إبن عباس : فأتيته فوجدته يخصف نعلاً فقلت له : نحن الى ان تصلح أمرنا أحوج منّا الى ما تصنع ، فلم يكلمني حتى فرغ من نعله ثم ضمّها الى صاحبتها وقال لي : قوّمهما ، فقلت : ليس لهما قيمة ، قال : على ذاك ، قلت : كسر درهم ، قال : واللّه‏ لهما أحب الي من أمركم هذا الاّ أن أقيم حقا أو أدفع باطلاً(1) .

        ومن كلماته لابن عباس التي الجدير بها أن تكتب بالذهب هي قوله : أمّا بعد فانّ المرء قد يسرّه درك ما لم يكن ليفوته ، ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه ، فليكن سرورك بما نلت من آخرتك ، وليكن أسفك على ما فاتك منها ، وما نلت من دنياك فلا تكثر به فرحا ، وما فاتك منها فلا تأس عليه جزعا ، وليكن همّك فيما بعد الموت(2) .

        وبالجملة ، مطالعة هذه المواعظ تكفينا للزهد في الدنيا وهي خير معين عليه .

الوجه السادس : « في عبادته صلى‏الله‏عليه‏و‏آله »

        كان عليه‏السلام أعبد الناس بل هو سيد العابدين ومصباح المتهجدين ، كثير الصلاة دائم الصوم ، وقد تعلّم الأولياء منه عليه‏السلام اقامة الليل والتهجد وصلاة الليل والنوافل وقد أوقدوا شمعة اليقين في الدين من مشعله الوضّاء .

        قد كثرت ثفنات جبينه النوراني من كثرة السجود ، وقد بلغ في محافظته على النوافل مبلغا لم يكن يتركها ابدا ، حتى انّه في حرب صفين في ليلة الهرير فرش نطعا وأخذ يصلّي والسهام تتساقط عن يمينه وشماله ، لكنه لم يتزلزل ولم يحصل في نفسه شيء منها وبقي يداوم على الصلاة آنذاك حتى أتمّها .

        ولما أصابه سهم في رجله وأرادوا إخراجه صبروا حتى انشغل عليه‏السلام بالصلاة ، ثم أخرجوه حتى لايحس بالألم ، لانّه كان اذا صلّى ووقف بين يدي خالقه لم يلتفت الى غيره أبدا ، وقد ثبت إنّه عليه‏السلام كان يصلّي في كلّ ليلة ألف ركعة ، ولقد كان يغشى عليه بعض الليالي خوفا من اللّه‏ وخشية .

        وكان عليّ بن الحسين عليه‏السلام (مع كثرة عبادته وصلاته حتى لقّب بذي الثفنات وزين العابدين) يقول : من يقدر على عبادة عليّ بن أبي طالب عليه‏السلام (3) .

 

(1) الارشاد : 132 .
(2) نهج البلاغة ، الكتاب رقم 22 .
(143)

 

الوجه السابع : « حلمه وعفوه »

        كان عليه‏السلام أحلم الناس وأكثرهم عفوا لمن أساء إليه ، وصحة هذا الأمر تتضح من تعامله بالاحسان مع اعدائه ، كمروان بن الحكم ، وعبد اللّه‏ بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، الذين علم مكان اختفائهم بعد ما انهزموا من معركة الجمل وفشلوا ، لكنه خلّى سبيلهم ولم يتعرض لهم .

        ولما ظفر بصاحبة الهودج تعامل معها بغاية الشفقة والاحسان ، ورفع السيف عن أهل البصرة بعد ما حاربوه وحاربوا اولاده وشتموه ، فعفى عنهم ومنع من نهب أموالهم وسبي ذراريهم .

        ولا يخفى ما صنع عليه‏السلام مع جيش معاوية في معركة صفين بعد ما أمر معاوية بمنع الماء عن أصحابه ، فانّه بعد ان استولى على الماء نهى أصحابه عن منعهم من الماء ، وقال لهم : انّ السيف يغنينا عن هذا العمل ، فأمر بفتح طريق الى الماء لجيش معاوية .

        نقل جمع غفير من أهل السنة في كتبهم هذه الحكاية وهي :

        انّ أحد نقباء أهل السنة رأى أمير المؤمنين عليه‏السلام في المنام ، فقال له : يا أمير المؤمنين لقد أعطيتم الأمان للناس يوم الفتح ، وقلتم من دخل دار ابي سفيان فهو آمن فقد أحسنتم إليه هذا الإحسان العظيم ، لكن تعامل إبنه معكم بأسوء المعاملة ، حيث قتل إبنك الحسين في كربلاء وفعل ما فعل .

        فقال له أمير المؤمنين عليه‏السلام : ألا سمعت أشعار إبن الصيفي ؟ قلت : لا ، قال : خذ جوابك منه .

        قال : فلمّا انتبهت من نومي ذهبت الى دار ابن الصيفي المعروف بالحيص وبيص فذكرت له رؤياي ، فلمّا سمعها شهق وبكى بكاءا شديدا ثم قال : أما واللّه‏ قد نظمت هذه الاشعار التي أشار إليها أمير المؤمنين عليه‏السلام هذه الليلة ، ولم يسمعها أحد منّي ولم أكتبها لأحد ، ثم أنشدها وهي :

 ملكنا فكان العفو منّا سجيّة

 ولما ملكتم سال بالدم أبطح

 وحلّلتم قتل الأسارى وطالما

 غدونا على الأسرى فنعفو ونصفح

 وحسبكم هذا التفاوت بيننا

 وكل اناء بالذي فيه يرشح

الوجه الثامن : « حسن خلقه وانبساطه »

        وهذا المطلب أوضح من الشمس حتى انّ أعداءه عابوا عليه كثرة دعابته ، وكان عمرو بن العاص يقول : انّ عليّا كان كثير الدعابة والمزاح ، وقد أخذ عمرو هذا الكلام

 

(1) البحار 41:152 .
(144)

 

من عمر ، فقد جعلها عمر عيبا على أمير المؤمنين عليه‏السلام كي لا يسلّم إليه الخلافة .

        قال صعصعة بن صوحان وغيره في وصفه عليه‏السلام : كان فينا كأحدنا لينُ جانبٍ ، وشدّةُ تواضعٍ ، وسهولةُ قيادٍ ، وكنّا نهابه مهابة الاسير المربوط للسيّاف الواقف على رأسه .

        وقال معاوية لقيس بن سعد : رحم اللّه‏ أبا حسن فلقد كان هشّا بشّا ذا فكاهة ، قال قيس : نعم كان رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يمزح ويبتسم الى أصحابه وأراك تسرّ حسوا في ارتغاءٍ وتعيبه بذلك ، أما واللّه‏ لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة ، أهيب من ذي لبدتين قد مسّه الطوى ، تلك هيبة التقوى وليس كما يهابك طغام أهل الشام(1) .

الوجه التاسع : « في سبقه إلى الاسلام »

        كان صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أسبق الناس ايمانا باللّه‏ ورسوله ، كما اعترف أهل السنة بهذه الفضيلة أيضا ، ولم يقدروا على إنكارها وإخفائها ، وقد قالها عليّ عليه‏السلام من فوق المنبر ولم ينكرها أحد ، وقد روي عن سلمان انّه قال : قال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : « أولكم ورودا عليّ الحوض وأوّلكم إسلاما عليّ بن أبي طالب » .

        وقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لفاطمة عليهاالسلام : « زوجتك اقدمهم سلما واكثرهم علما »(2) .

        وقال أنس : بُعث النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يوم الاثنين ، وصلّى عليّ خلفه يوم الثلاثاء ، وأنشد خزيمة بن ثابت الأنصاري في هذا الباب :

 ما كنت أحسب هذا الأمر منصرفا

 عن هاشم ثم منها عن أبي حسن

 أليس أول من صلّى بقبلتهم

 وأعرف الناس باالآثار والسنن

 وآخر الناس عهدا بالنبي ومن

 جبريل عون له في الغسل والكفن

        روى الشيخ المفيد رحمه‏الله عن يحيى بن عفيف عن أبيه قال :

        كنت جالسا مع العباس بن عبد المطلب بمكة ، فجاء شاب فنظر الى السماء حين تحلقت الشمس ثم استقبل الكعبة فقام يصلي ، ثم جاء غلام عن يمينه ، ثم جاءت امرأة فقامت خلفهما ، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة ثم رفع الشاب فرفعا ثم سجد الشاب فسجدا .

        فقلت : يا عباس أمر عظيم ، فقال العباس : أمر عظيم أتدري من هذا الشاب ؟ هذا محمد بن عبد اللّه‏ بن عبد المطلب إبن اخي ، أتدري من هذا الغلام ؟ هذا عليّ بن أبي طالب إبن اخي ، أتدري من هذه المرأة ؟ هذه خديجة بنت خويلد .

        انّ إبن أخي هذا حدّثني انّ ربه رب السموات والارض أمره بهذا الدين الذي هو

 

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 1:25 ، عنه في البحار 41:147 .
(2) كشف الغمّة 1:372 ، عنه البحار 43:133 .
(145)

 

عليه ، ولا واللّه‏ ما على ظهر الارض على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة(1) .

الوجه العاشر : « فصاحته وبلاغته »

        كان عليه‏السلام امام الفصحاء وسيد البلغاء ، وقد ظهر هذا الأمر حتى ان معاوية قال في حقه : فو اللّه‏ ما سنّ الفصاحة لقريش غيره .

        وقد وصف كلامه الفصحاء والبلغاء بانّه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق ، وكتابه نهج البلاغة أقوى حجة على هذا المطلب ، ولا يدرك أحد مغزى بلاغته ودقائق حكمته الا اللّه‏ ورسوله .

        ولن يخطر في مخيلة أحد ولن يتمنى الاتيان بمثل خطبه وكلماته عليه‏السلام ، وأما ما قاله بعض أهل السنة بانّ الخطبة الشقشقية ليست له وهي للسيد الرضي جامع نهج البلاغة ، فقد كان ملحوظا في نظرهم مطلبا دقيقا في هذه الخطبة ، والاّ فلا يخفى على أهل الادب والخبرة سخافة قولهم ووهنه .

        وقد قال علماء الأخبار إنهم وجدوا هذه الخطبة الشريفة في كتب علماء السلف قبل ولادة السيد الرضي رحمه‏الله ، وقد ذكرها الشيخ المفيد ـ الذي ولد قبل السيد الرضي بـ (21) سنة ـ في كتابه الارشاد وقال فيه : وروى جماعة من أهل النقل من طرق مختلفة عن إبن عباس قال : كنت عند أمير المؤمنين عليه‏السلام بالرحبة (فذكر هذه الخطبة)(2) .

        وقد اتفق فصحاء العرب وبلغاؤهم وعلماء الأدب ومنهم إبن أبي الحديد على عدم كونها من للرضي وقالوا : أنّى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الاسلوب !؟(3) .

الوجه الحادي عشر : « في معجزاته الباهرة »

        إعلم انّ المعجزة هي اظهار أمر من شخص خارج عن قدرة البشر ، ويكون خارقا للعادة ، بحيث يعجز الناس عن الإتيان بمثله ، لكن لا يجب على ذي المعجزة ان تكون معاجزه ظاهرة دائما ، وكذا لا يجب انّه كلّما رُئي صاحب المعجزة رُئيت المعجزة منه ، بل يُظهر معجزته اذا تحدّاه أحد أو طُلب منه اظهارها .

        أما أمير المؤمنين عليه‏السلام فقد لازمته الكثير من معاجزه ولم تكن منفكة عنه ، وكان يراها الصديق والعدو ، ولم يتمكن أحد من إنكارها ، وهي أكثر من أن تحصى ، منها شجاعته وقوته عليه‏السلام وقد اتفق على انّه كرّار غير فرّار وغالب غير مغلوب ، وهذا الأمر

 

(1) الارشاد : 20 .
(2) الارشاد : 152 .
(3) شرح النهج 1:205 .
(146)

 

منجلٍ لمن نظر الى حروبه وغزواته من قبيل بدر ، وأحد ، وحروب البصرة وصفين وغيرها .

        وقد قتل عليه‏السلام من الأعداء ليلة الهرير أكثر من خمسمائة نفر وقيل تسعمائة نفر ، وكان يكبّر في كل ضربة يضربها ، ومن المعلوم انّ سيفه عليه‏السلام ينزل على الدروع والخوذ الحديدية فيقدّها قدّا ويقتل صاحبها .

        فهل يقدر أحد على هذا ؟ مضافا الى انّ أمير المؤمنين عليه‏السلام لم يكن في صدد اظهار معجزة أو خرق عادة في هذه الغزوات والحروب ، بل هذه الشجاعة والقوة كانت ملازمة لوجوده الشريف غير منفكة عنه .

        وقد ذكر إبن شهر آشوب قضايا كثيرة في قوته عليه‏السلام ، كنتره للقماط في طفولته ، وقتله الحية بيده وهو في المهد ، وأخذه عنقها وادخال أصابعه فيه حتى ماتت ، فسمّته امّه حيدرة ، وكان منه عليه‏السلام في ضرب يده في الأسطوانة حتى دخل ابهامه في الحجر وهو باق في الكوفة ، وكذلك مشهد الكف في تكريت والموصل ، وأثر سيفه في صخرة جبل ثور عند غار النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وأثر رمحه في جبل من جبال البادية وفي صخرة عند قلعة خيبر(1) .

        وحكاية قوته عليه‏السلام وأخذه قطب الرحى وجعله في عنق خالد بن الوليد ، وأخذه أيضا خالدا باصبعه السبابة والوسطى وعصره له بهما حتى كاد ان يموت ، فصاح صيحة منكرة وأحدث في ثيابه ، معلومة لكل أحد(2) .

        ومنها رفعه الصخرة العظيمة التي كانت على عين ماء في طريق صفين ، ورميها عن العين أربعين ذراعا ، وقد عجز عن رفعها الرجال(3) ، وحكاية قلعه لباب خيبر وقتله مرحبا أشهر من أن تذكر ، وقد أشرنا اليها في باب تاريخ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        قال إبن شهر آشوب : ومن عجائبه طول ما لقي من الحروب لم ينهزم قط ، ولم ينله فيها شين ولا جراح سوء ، ولم يبارز أحدا الاّ ظفر به ، ولا نجا من ضربته أحد فصلح منها ، ولم يفلت منه قرن ، ولم يخرج في حروبه الاّ وهو ماش يهرول طوال الدهر بغير جند الى العدو .

        وما قدمت راية قوتل تحتها عليّ عليه‏السلام الاّ انقلبوا (اعداؤها) صاغرين ، ويروى وثبته أربعون ذراعا الى عمرو ورجوعه الى خلف عشرون ذراعا ، وذلك خارج عن العادة ، وروى ضربته على رجليه وقطعهما بضربة واحدة مع ما كان عليه من الثياب والسلاح ، وروي انّه ضرب مرحب الكافر يوم خيبر على رأسه فقطع العمامة والخوذة

 

(1) المناقب 2:289 .
(2) المناقب 2:290 .
(3) وسيأتي تفصيلها في ذكر أحوال الامام الرضا عليه‏السلام . (منه رحمه‏الله )
(147)

 

والرأس والحلق وما عليه من الجوشن من قدام وخلف الى أن قدّه بنصفين ...(1)

        وأما فصاحته وبلاغته فقد اتفق فصحاء العرب وعلماء الأدب انّ كلامه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق كما ذكر سابقا .

        وأما علمه وحكمته فلا يدركهما احد سوى اللّه‏ ورسوله ، وليس بالامكان شرحهما مفصلاً ، وقد ذكرنا نبذا منها ، فعروجه عليه‏السلام الى معارج العلم والحكمة من دون معلّم ومدرس ـ بحيث لا يتمنّى أحد نيل تلك الدرجة ـ من المعاجز الظاهرة الجليّة .

        أما جوده وسخاؤه عليه‏السلام فانّه انفق كل ما حصل عليه ، وبات ثلاث ليال مع زوجته فاطمة وإبنيه الحسن والحسين عليهماالسلام دون ان يفطروا على شيء ، وتصدقوا بطعامهم للمسكين واليتيم والأسير .

        وانفق عليه‏السلام في ركوعه خاتما ثمينا ، وقد انزل اللّه‏ تعالى في شأنه وشأن أهل بيته سورة هل أتى وآية « انما » ، وذكرنا فيما سبق عتقه ألف مملوك بكدّ يمينه ورشح جبينه .

        أما عبادته وزهده عليه‏السلام فباتفاق العلماء انّه سيد العابدين ، وقد قنع طوال عمره بخبز الشعير ، ولم يتجاوز ادامه الخل والملح الجريش ، وكانت له تلك القوة مع هذا القوت القليل وقد أشرنا اليها ، فهذه معجزة اخرى له لأنها خارجة عن حد البشر ، وقس على هذا عفوه وحلمه ورحمته وشدّته ونقمته وشرفه وتواضعه التي يقال فيها « جمع بين الأضداد وتأليف بين الأشتات » .

        وهذه أيضا من خوارق عاداته وفضائله عليه‏السلام كما قالها السيد الرضي رحمه‏الله في افتتاحه لنهج البلاغة فقال هناك :

        ومن عجائبه عليه‏السلام التي انفرد بها وأمن المشاركة فيها ، انّ كلامه الوارد في الزهد والمواعظ والتذكير والزواجر اذا تأمله المتأمل ، وفكّر فيه المتفكر ، وخلع من قلبه انّه كلام مثله ممن عظم قدره ونفذ أمره وأحاط بالرقاب ملكه ، لم يعترضه الشك في انّه كلام من لا حظّ له في غير الزهادة ولا شغل له بغير العبادة ، قد قبع في كسر بيت أو انقطع الى سَفْح جبل لا يسمع الا حسّه ولا يرى الا نفسه .

        ولا يكاد يوقن بأنّه كلام من ينغمس في الحرب مصلتا سيفه ، فيقطّ الرقاب ويُجدّلُ الابطال ويعود به ينطف دما ويقطر مُهَجا وهو مع تلك الحال زاهد الزهاد وبدل الابدال . وهذه من فضائله العجيبة وخصائصه اللطيفة التي جمع بها بين الأضداد وألّف بين الأشتات(2) .

        ولنعم ما قال الصفي الحلّي في مدح أمير المؤمنين عليه‏السلام :

 

(1) المناقب 2:297 .
(2) نهج البلاغة ، مقدمة السيد الرضي .
(148)

 

 جُمِعَتْ في صِفاتِكَ الأَضْدادُ

 فلِهذا عَزّتْ لك الأَندادُ

 زاهدٌ حاكمٌ حَليمٌ شُجاعٌ

 فاتكٌ ناسكٌ فَقيرٌ جَوادٌ

 شِيَمٌ ما جُمِعْنَ في بَشَرٍ قَطْ

 ولا حازَ مثلَهُنّ العبادُ

 خُلُقٌ يخجل النَسيم مِن

 اللطفِ وبأس يذوب منه الجماد

        وبالجملة حوى عليه‏السلام جميع الصفات وكان فيها أعلى من كل أحد ، سوى إبن عمه محمد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فوجوده الشريف في الكون محيط بالممكنات ومن أظهر المعجزات ، ولن يتمكن أحد من إنكاره (بأبي أنت وأمي يا آية اللّه‏ العظمى والنبأ العظيم) .

        أما المعجزات التي كانت تصدر عنه في بعض الأحيان فهي اكثر من ان تُحد أو تُعد ، وأشير هنا الى مجمل منها لنكوّن فهرسا لأهل الخبرة والاطلاع ، منها المعاجز التي تتعلق بانقياد الحيوانات والجنّ اليه ، كما ينجلي هذا الأمر من حديث الاسد مع جويرية إبن مسهر ، وتكلمه عليه‏السلام مع الثعبان من فوق المنبر بالكوفة ، وتكلّم الطيور والذئب والجريّ معه عليه‏السلام ، وتسليم سمك الفرات عليه بأمرة المؤمنين ، ورفع الغراب خفّه وسقوط حية منه ، وقصة الرجل الآذربيجاني وبعيره الهائج ، وحكاية الرجل اليهودي وفقده لماله واتيان الجن بماله بأمر أمير المؤمنين ، وكيفية أخذه البيعة مع الجنّ في وادي عقيق وغيره .

        وأما معاجزه التي تتعلق بالجمادات والنباتات كردّ الشمس له في زمن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وبعد وفاته في أرض بابل ، وقد ألّف بعض العلماء كتبا في جواز ردّ الشمس وذكروا ردّ الشمس له في مواضع عديدة .

        ومنها تكلّم الشمس معه في مواضع عديدة ، ومنها أمره عليه‏السلام بسكون الارض حينما حدثت زلزلة في المدينة في زمن أبي بكر وكانت دائمة الحركة ، فسكنت بأمر أمير المؤمنين عليه‏السلام . ومنها تكلّم الحصى في كفّه ومنها حضوره على جنازة سلمان في المدائن بطيّ الارض وتجهيزه .

        ومنها إيصال أبي هريرة الى بيته وأهله بطيّ الاض حينما شكى الى عليّ عليه‏السلام كثرة شوقه الى اهله وحب لقائه لهم ، ومنها حديث البساط وسيره به فيالهواء مع بعض الصحابة وذهابهم الى الكهف والى اصحاب الكهف وتسليمهم عليهم وعدم ردّهم للسلام الاّ لعليّ عليه‏السلام وتكلّمهم معه .

        ومنها انقلاب الحجر ذهبا للمديون ببركة دعائه ، وأمره للجدار الذي كان عليه‏السلام متكئا عليه بعدم السقوط ، ومنها سرده لحلقات درعه بيده كما قال خالد بن الوليد : رأيت عليا يسرد حلقات درعه بيده ويصلحها ، فقال عليّ عليه‏السلام له : يا خالد بِنا لانَ الحديد لداود .

        ومنها شهادة نخيل المدينة بفضله وفضل إبن عمه وأخيه رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فقال

(149)

 

النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : يا عليّ سمّ نخل المدينة صيحانيّا فقد صاحت بفضلي وفضلك ، ومنها اعادته شجرة العرموط اليابسة الى الحياة وانقلاب قوسه ثعبانا بأمره ، ومن قبيل هذه المعاجز الشيء الكثير الذي لا يمكن احصاءه .

        وأما معاجزه التي تتعلق بالمرضى والموتى ، كالتئام يد هاشم بن عدي الهمداني التي قطعت في معركة صفين ، والتئام يد الرجل الأسود التي قطعت بأمره عليه‏السلام لسرقته وكان من محبّي أمير المؤمنين عليه‏السلام .

        ومنها تكلم الجمجمة البالية معه في أراضي بابل ، فبني هناك مسجد ، ومكانه قرب مسجد ردّ الشمس في نواحي الحلّة ، وقد أشرت الى مسجد ردّ الشمس ومسجد الجمجمة في كتاب تحية الزائر .

        ومنها إحياؤه سام بن نوح ، وإحياؤه أصحاب الكهف (كما مرّ) ، وقد روي عن الباقر عليه‏السلام انّه قال : مرض رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله مرضةً فدخل عليّ عليه‏السلام المسجد فاذا جماعة من الأنصار ، فقال لهم : أيسركم أن تدخلوا على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ؟ قالوا : نعم ، فاستأذن لهم فدخلوا ، فجاء عليّ وجلس عند رأس رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فأخرج يده من اللّحاف وبيّن صدر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فاذا الحمّى تنفضه نفضا شديدا ، فقال : أم ملدم أخرجي عن رسول اللّه‏ وانتهرها .

        فجلس رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وليس به بأس ، فقال : يا بن أبي طالب لقد أعطيت من خصال الخير حتى أنّ الحمّى لتفزع منك(1) .

        وروى إبن شهر آشوب عن عبد الواحد بن زيد انّه قال :

        كنت في الطواف إذ رأيت جارية تقول لأختها : لا وحقّ المنتجب بالوصية ، الحاكم بالسويّة ، العادل في القضيّة ، العالي البنية ، زوج فاطمة المرضيّة ما كان كذا .

        فقلت : أتعرفين عليّا ؟ قالت : وكيف لا أعرف من قُتل أبي بين يديه في يوم صفين ، وإنّه دخل على أمّي ذات يوم فقال لها : كيف أنت يا أمّ الأيتام ؟ فقالت : بخير ، ثم أخرجتني أنا وأختي هذه إليه وكان قد ركبني من الجدري ما ذهب له بصري ، فلمّا رآني تأوّه ثم قال :

 ما إن تأوّهت من شيء رزيت به

 كما تأوّهت للأطفال في الصغر

 قد مات والدهم من كان يكفلهم

 في النايبات وفي الأسفار والحضر

        ثم أمرّ يده على وجهه فانفتحت عيني لوقتي ، وانّي لأنظر الى الجمل الشارد في الليلة الظلماء(2) .

        ومن معاجزه عليه‏السلام نزول العذاب على خصومه وأعدائه وهلاكهم ، كهلاك رجل

 

(1) المناقب 2:334 ، وعنه في البحار 41:210 .
(2) المناقب 2:334 ، ومثله في البحار 41:221 .
(150)

 

تحت حوافر الإبل بعد ما سبّ عليّا عليه‏السلام ، وعمى أبي عبد اللّه‏ المحدث الذي أنكر فضله ، وانقلاب الخطيب الدمشقي الى كلب ، وانقلاب آخر الى خنزير ، واسوداد وجه رجل آخر ، وخروج ثور من الشط في واسط وقتله للخطيب البذيّ اللسان ، وعصره عنق فاسق في النوم وانسداد بول آخر ، وهلاك جمع كثير في النوم من الذين كانوا يسبّونه ، كأحمد بن حمدون الموصلي ، وذبح جار محمد بن عباد البصراوي ، وغيرهم من الذين ذاقوا العذاب في الدنيا لبغضهم وسبّهم لعليّ عليه‏السلام ، وعمى رجل آخر كذّب عليّا ، ونزول العذاب على الحارث بن النعمان الفهري الذي أبى ولاية أمير المؤمنين عليه‏السلام وأظهر إنزعاجه منها ، وقد ذَكَرتُ هذه القضية عن الثعلبي وسائر أئمة أهل السنّة في كتابي (فيض القدير) وأبطلت اعتراضات إبن تيمية الحراني على هذا الحديث الشريف وجعلت خرافاته هباءً منثورا .

        ومن معاجزه أيضا ما ظهر بعد استشهاده وما ظهر من قبره الشريف ، ومن معاجزه اخباره بالمغيبات ، وسنذكر جملة منها انشاء اللّه‏ ، وبالجملة انّ معاجزه عليه‏السلام قد بلغت من الوضوح مبلغا بحيث لا يمكن لأحد إنكارها .

        نعم يا ابا الحسن يا أمير المؤمنين بأبي أنت وأمي ، أنت الذي سعى الأعداء في اطفاء نورك ومحو فضائلك ، وترك المحبون ذكرها خوفا وتقيّد ، ومع ذلك نرى كثرة فضائلك ومناقبك المنتشرة بين الناس قد ملأت الشرق والغرب ، وقد صار الصديق والعدو بذكر مناقبك رَطِبَ اللسان حلو البيان :

 شهد الأنام بفضله حتى العدى

 والفضل ما شهدت به الأعداء

        وقال إبن شهر آشوب انّ أعرابية رُئيت في مسجد الكوفة تقول : يا مشهورا في السماوات ويا مشهورا في الأرضين ، ويا مشهورا في الآخرة ، جهدت الجبابرة والملوك على إطفاء نورك وإخماد ذكرك ، فأبى اللّه‏ لذكرك الاّ علوا ولنورك الاّ ضياءً ونماءً ولو كره المشركون قيل : لمن تصفين ؟ قالت : ذاك أمير المؤمنين عليه‏السلام ثم غابت .

        وروي عن الشعبي بروايات مستفيضة قال : لقد كنت أسمع خطباء بني أميّة يسبّون عليّا على منابرهم فكأنّما يشال بضبعه الى السماء ، وكنت أسمعهم يمدحون أسلافهم فانّما يكشفون عن جيفة(1) .

        وهذه أيضا معجزة بيّنة وخرق للعادة ، والاّ فمن المفروض مع هذا الوضع أن تندرس فضائله عليه‏السلام وتُمحى من صفحة الوجود ويطفى نوره ، ولابد أن تنتشر المثالب الموضوعة والمختلقة عليه بدل المناقب ، لكن نرى انّ فضائله ومناقبه عليه‏السلام قد ملأت أقطار السماوات والأرض من شرقها الى غربها وقد مدحه الصدّيق والزنديق ، قال تعالى :

 

(1) المناقب 2:351 .
(151)

 

        « يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللّه‏ِ بِأَفْوَهِهِمْ وَيَأْبَى اللّه‏ُ إِلاَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَفِرُونَ »(1) .

        ومن هذه المعاجز كثرة نسله وذراريه وأولاده عليه‏السلام ، ولقد كان همّ خلفاء الجور وجبابرة الدهر وهمتهم في قتل ولده ، ومحو آثارهم ، فكم من علويّ استشهد على ايديهم ، وكم لاقوا من العذاب والصعوبات ، فقد قتل بعضهم بالسيف ومات بعضهم جوعا وعطشا ، ووضع جمع كثير منهم داخل الأسطوانات وفي الجدران وفي أساس البناء وهم أحياء ، فاستشهدوا وهم على تلك الحالة .

        وقد حُبس كثير منهم وقُيّد في السجون ، والنزر القليل الذي خلص منهم ونجا هجر بلده ووطنه ومأواه ، وذهب الى المواضع النائية البعيدة والصحاري القفرة ، وابتعد الناس عنهم أيضا امّا خوفا وأمّا تقرّبا لجبابرة الزمان .

        ومع كل هذه الضغوط نرى اليوم بحمد اللّه‏ كثرتهم في البلاد وتواجدهم في المجالس ، بحيث لا يمكن عدّهم وإحصاؤهم ، وقد كثرت ذراريهم وأولادهم بحيث صاروا أكثر من ذراري سائر الأنبياء والأولياء ، بل صاروا أكثر من ذراري جميع الناس وهذه معجزة أخرى له عليه‏السلام .

الوجه الثاني عشر : « في إخباره بالمغيبات »

        وهي اكثر من أن تحصى وأذكر موارد منها ، فقد أخبر عليه‏السلام مرارا أنّ إبن ملجم قاتلي بسيفه وستخضب لحيتي من دم رأسي ، ومنها إخباره باستشهاد الإمام الحسن عليه‏السلام بالسم واستشهاد الحسين عليه‏السلام ، وحينما كان بكربلاء أشار الى مقتل أصحاب الحسين عليه‏السلام وأهل بيته ومقام نسائه ومناخ رحاله .

        وأخبر البراء بن عازب بادراكه زمن الحسين عليه‏السلام وخذلانه وعدم تلبية دعوته ، وأخبر بحكومة الحجاج بن يوسف الثقفي ، وأخبر عن يوسف بن عمرو وعن اراقتهم الدماء وفتكهم بالمسلمين .

        وأخبر عن خوارج النهروان وعدم عبورهم النهر الذي كان أمامهم ، وأخبر عن قتلهم وقتل ذي الثدية رئيس الخوارج ، وأخبر عن عاقبة بعض أصحابه وكيفية قتلهم بيد الاعداء ، وأخبر عن قطع يد ورجل جويرية بن مسهر ورشيد الهجري وصلبهما .

        وأخبر عن كيفية استشهاد ميثم التمار وصلبه على جذع النخلة وتعيينها له ، وكانت قرب دار عمرو بن الحريث ، وأخبر عن قتل قنبر وكميل وحجر بن عدي وغيرهم ، وأخبر عن عدم موت خالد بن عرفطة وانّه سيقود جيش الضلال ، وأخبر عن قتاله الناكثين والقاسطين والمارقين .

 

(1) التوبة : 32 .
(152)

 

        وأخبر عن مكنون خاطر طلحة والزبير لما أرادا نكث البيعة والذهاب الى مكّة ليهيئا جيشا لقتاله عليه‏السلام ، فقد قالا بانّهما ذاهبان الى العمرة ، فقال عليه‏السلام : ما تريدان العمرة بل تريدان الغدرة ، وأخبر أيضا أصحابه بانكم سوف تلقون طلحة والزبير وهما في جيش كثير .

        وأخبر وهو في الحجاز عن وفاة سلمان بالمدائن لمّا توفى هناك ، وأخبر عن خلافة بني امية وبني العباس ، وأشار الى أوصاف وخصائص بعض خلفاء العباسيين كرأفة السفاح ، وقساوة المنصور ، وعظمة سلطنة الرشيد ، وذكاء المأمون ، وكثرة نصب وعداوة المتوكل وقتله على يد إبنه ، وكثرة تعب ومشقة‏المعتمد لأنشغاله بالحروب والمعارك مع صاحب الزنج ، واحسان المعتضد للعلويين ، وقتل المقتدر واستيلاء أولاده الثلاثة على الخلافة وهم الراضي والمتقي والمطيع .

        وغير هذه الأمور كما لا يخفى على أهل الخبرة ، وقد أشار عليه‏السلام في هذه الخطبة الى بعض الأمور الغيبية حيث قال :

        « ويل هذه الأمة من رجالهم ، الشجرة الملعونة التي ذكرها ربّكم تعالى ، أوّلهم خضراء وآخرهم هزماء ، ثم يلي بعدهم أمر أمة محمّد رجال أوّلهم أرأفهم ، وثانيهم أفتكهم ، وخامسهم كبشهم ، وسابعهم أعلمهم ، وعاشرهم أكفرهم يقتله أخصّهم به ، وخامس عشرهم كثير العناء قليل الغناء ، سادس عشرهم أقضاهم للذمم وأوصلهم للرحم .

        كأنّي أرى ثامن عشرهم تفحص رجلاه في دمه بعد أن يأخذ جنده بكظمه من ولده ثلاث رجال سيرتهم سيرة الضلال ، ... (وأشار بقتل المستعصم ببغداد بقوله :) لكأنّي أراه على جسر الزوراء قتيلاً (ذلك بما قدّمت يداك وانّ اللّه‏ ليس بظلام للعبيد) »(1) .

        ومنها إخباره عن وقوع الفتن بالكوفة ، وقتل كلّ جبار أخذ بالظلم والجور فيها أو ابتلائه ببلاء شاغل ، فقال : « كأنّي بك يا كوفة تمدين مد الأديم العكاظي (الى ان قال :) وانّي لأعلم واللّه‏ انّه لايريد بك جبار بسوء الاّ رماه اللّه‏ بقاتل أو ابتلاه بشاغل » .

        فكان كما أخبر عليه‏السلام ، وقد شرح في محله ابتلاء زيد بن امية ، ويوسف بن عمرو ، والحجاج الثقفي وغيرهم من الذين حكموا الكوفة وكان دأبهم الظلم والتعدي ، فهلكوا وماتوا عن آخرهم بأخس الحالات وأتعسها .

        ومنها اخباره الناس بانّ معاوية سيجبرهم على سبّه ، ومنها اخباره إبن عباس بمجيء جيش من الكوفة لبيعته (وهو متوجه لحرب الجمل) وانّ عددهم ألف نفر لا يزيدون ولا ينقصون ، وأخبر عن دواهي أهل البصرة وصاحب الزنج في كلام له مع

 

(1) المناقب 2:276 ، عنه في البحار 41:322 .
(153)

 

الأحنف بن قيس ، واخبر عن جيش هولاكو وفتنته .

        وأخبر عن قتل أهل البصرة بيد الزنج في الخطبة التي خطبها بالبصرة بعد معركة الجمل ، وأخبر عن الحوادث التي تحدث في العالم ، وأخبر أيضا عن غرق البصرة بقوله : « وأيم اللّه‏ لتغرقنّ بلدتكم حتى كأنّي انظر الى مسجدها كجؤجؤ طير في لجة بحر » .

        وأخبر عن بناء مدينة بغداد ، وعن عاقبة عبد اللّه‏ بن الزبير بقوله : « خبٌّ ضبٌّ ، يَرومُ أمرا ولا يدركه ، ينصب الدين لاصطياد الدنيا وهو بعد مصلوب قريش » .

        وأخبر بخروج سادات بني هاشم كالناصر والداعي وغيرهم وقال : « انّ لآل محمد بالطالقان لكنزا سيظهره اللّه‏ اذ شاء ، دعاة حتى تقوم باذن اللّه‏ فتدعوا الى دين اللّه‏ ».

        وأخبر عن قتل النفس الزكية محمد بن عبد اللّه‏ المحض في أحجار زيت المدينة بقوله : « انّه ليقتل عند أحجار الزيت ... » .

        وأخبر أيضا عن قتل أخي محمد بن ابراهيم بأرض باخمرى ، وهو موضع ما بين واسط والكوفة ، حيث قال : « بباخمرى يقتل بعد أن يظهر ويُقهر بعد أن يَقهر » ، وقال : « يأتيه سهم غربٌ يكون فيه منيّة ، فيا بؤس الرامي ، شلّت يده ووهن عضده » .

        وأخبر أيضا عن قتلى فخ ، وسلطنة العلويين بالمغرب ، وعن سلاطين الاسماعيلية كقوله : « ثم يظهر صاحب قيروان (الى قوله) من سلالة ذي البداء المسجى بالرداء » .

        وأخبر عن سلاطين آل بويه بقوله : « ويخرج من ديلمان بنو الصياد » وقوله : « ثم يستوي أمرهم حتى يملكوا الزوراء ويخلعوا الخفاء » .

        وأخبر عن خلفاء بني العباس ، وكنّى علي بن عبد للّه‏ بن العباس جدّهم بأبي الاملاك ، وأخبر عن أمور غيبيّة في معركة صفين حينما كانت الرسائل تتداول بينهما ، فقال في خاتمة احداهنّ :

        « يا معاوية! انّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قد أخبرني انّ بني أميّة سيخضبون لحيتي من دم رأسي ، وانّي مستشهد وستلي الأمة من بعدي ، وانّك ستقتل إبني الحسن غدرا بالسمّ ، وانّ إبنك يزيد لعنه اللّه‏ سيقتل إبني الحسين ، يلي ذلك منه إبن زانية .

        وانّ الأمة سيليها من بعدك سبعة من ولد أبي العاص وولد مروان بن الحكم ، وخمسة من ولده تكملة إثني عشر إماما قد رآهم رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يتواثبون على منبره تواثب القردة ، يردّون أمته عن دين اللّه‏ على أدبارهم القهقرى ، وانّهم أشدّ الناس عذابا يوم القيامة ، وانّ اللّه‏ سيخرج الخلافة منهم برايات سود تقبل من المشرق ، يذلّهم اللّه‏ بهم ويقتلهم تحت كلّ حجر » .

        ثم أخبر عليه‏السلام عن مغيبات كثيرة من أمر الدجال وذكر نبذة من ظهور قائم آل محمد (عجل اللّه‏ فرجه) وكتب في خاتمة الرسالة :

(154)

 

        « أما واللّه‏ يا معاوية لقد كتبت إليك هذا الكتاب ، وإنّي لأعلم انّك لا تنتفع به ، وانّك ستفرح اذا أخبرتك انّك ستلي الأمر وإبنك بعدك لانّ الآخرة ليست من بالك ، ... ومما دعاني الى الكتاب بما كتبت به إنّي أمرت كاتبي أن ينسخ ذلك لشيعتي ورؤوس أصحابي لعلّ اللّه‏ ان ينفعهم بذلك ، أو يقرأه واحد من قبلك فيخرجه اللّه‏ به وبنا من الضلالة الى الهدى ، ومن ظلمك وظلم أصحابك وفتنتهم ، وأحببت أن أحتج عليك »(1).

الوجه الثالث عشر : « في استجابة دعواته عليه‏السلام »

        قد ثبت بطرق كثيرة ومعتبرة استجابة دعائه في بسر بن أرطاة باختلاط عقله ، ودعائه على الرجل الذي كان يتجسّس لمعاوية فعمي ، ودعائه على طلحة والزبير بان يقتلا بأذلّ حالة وقد استجيب دعاؤه عليه‏السلام في حقهم ، فقد قتل الزبير بيد عمرو بن الجرموز وهو نائم فلمّا قتله واراه تحت الارض ، وأما طلحة فقد ضربه مروان بن الحكم بسهم فأصاب وريده الأكهل ، فظلّ ينزف دما وسط الصحراء الحارقة حتى مات ، وكان طلحة يقول : لم يضع دم رجل قرشي كما ضاع دمي .

        وقد ثبت من طرق العامة والخاصة انّ أمير المؤمنين عليه‏السلام أخذ الشهادة من الصحابة على حديث الغدير بانّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قال في غدير خم : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » . فشهدوا كلّهم على هذا الاّ قليلاً منهم ، فدعا عليّ عليه‏السلام عليهم فاستجاب اللّه‏ دعاءه ، فأصيب بعضهم بالعمى والبعض الآخر بالبرص ، وذاقوا عذاب اللّه‏ في الدنيا قبل الآخرة .

        وهم أنس بن مالك ، وزيد بن ارقم ، وعبد الرحمن بن مدلج ، ويزيد بن وديعة ، وقد ذُكرَت قصتهم في كتاب أسد الغابة ، وتاريخ إبن كثير ، وكتاب « انسان العيون » للحلبي ، ومناقب إبن المغازلي وشواهد النبوة للجامي ،وانساب الاشراف للبلاذري ، والحلية لأبي نعيم وغيرها من الكتب ، وقد ذكرتها أيضا في كتابي « فيض القدير » وأظهرت فيه بطلان قول إبن روزبهان الذي قال : انّ هذه الرواية من موضوعات ومختلقات الروافض ولا يعتمد عليها ، فليرجع الطالب الى هناك .

الوجه الرابع عشر : « في اختصاصاته عليه‏السلام »

        في اختصاصه عليه‏السلام بفضيلة نصرة الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كما قال تعالى : « فَإِنَّ اللّه‏َ هُوَ مَوْلَيهُ وَجِبْرِيلُ وَصَلِحُ الْمُؤْمِنِينَ »(2) .

 

 

(1) كتاب سليم بن قيس : 197 ، عنه في البحار 33:157 .
(2) التحريم : 4 .
(155)

 

        والمولى هنا بمعنى الناصر ، والمراد من (صالح المؤمنين) هو عليّ بن أبي طالب عليه‏السلام باجماع المفسرين .

        واختصاصه أيضا بالاخوة مع رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، واختصاصه في الصعود على كتف النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لكسر الأصنام ، واختصاصه بفضيلة خبر الطائر ، وحديث المنزلة ، والراية ، ويوم الغدير وغيرها من الاختصاصات الكثيرة التي لا تعدّ ولا تحصى .

        وبالجملة فقد كان عليه‏السلام متميزا عن سائر الناس بكمالاته الخارجية والنفسانية والجسمانية ، وقد بلغت كمالاته النفسانية كالعلم والحلم والزهد والشجاعة والسخاوة وحسن الخلق والعفة وغيرها مبلغا بحيث لا يقدر الاعداء على اخفائها بل اعترفوا بها على رغم آنافهم .

        وقد بلغت مروّته وايثاره عليه‏السلام مبلغا حتى بات على فراش رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وواجه سيوف المشركين بدلاً عن النبي ، ولقد أظهر الفتوة والمروّة في غزوة احد حتى جاء النداء من الملأ الأعلى : « لا سيف الاّ ذو الفقار ولا فتى الاّ عليّ » .

        وأما في كمالاته الجسمانية ، فقد علم كل احد مرتبته في القوة والبطولة حتى ضرب به المثل ، فقد قلع باب خيبر وأراد جمع تحريكها فلم يقدروا ، ورفع صخرة عظيمة عن بئر بعد أن عجز الجيش عن رفعها .

        وقد أنست شجاعته شجاعة الماضين ، وأطفأ ذكرها بطولات المقبلين ، ومقاماته في الحروب مشهورة ، وحروبه الى يوم القيامة معروفة ومذكورة ، وهو شجاع لم يفرّ قط ، ولم يخف من أيّ جيش جرّار ، ولم ينجُ من يده أحد الاّ اذا أسلم ، ولم يحتج في ضرباته الى ضربة أخرى متممة لها .

        ولو قتل شجاعا افتخر قومه بانّه قتل على يد أمير المؤمنين عليه‏السلام ، ولهذا قالت اخت عمرو بن عبدود العامري في رثائها له :

 لو كان قاتل عمرو غير قاتله

 لكنت أبكي عليه آخر الابد

 لكنّ قاتله من لا يعاب به

 من كان يُدعى قديما بيضة البلد

        وكان يفتخر من وقف أمامه ولو لحظة واحدة ، فينشد الاشعار لقوة قلبه وشجاعة نفسه في هذه المواجهة اليسيرة ، وقد رسم بعض سلاطين بلاد الكفر صورته عليه‏السلام في معابدهم ، ورسم سلاطين آل بويه وجمع آخر من الملوك صورته على مقابض سيوفهم للظفر والنصرة على العدوّ ببركته .

        نعم ، هكذا كانت قوّته وبطولته وشجاعته مع قلّة أكله ، والمداومة على أكل خبز الشعير اليابس ، بحيث كان ملبوسه ومأكوله أخشن من مأكول وملبوس كل أحد ، مضافا الى انّه كان دائم العبادة والصوم والقيام والتهجد .

        أما كمالاته الخارجيّة ، فمنها نسبه الشريف فقد كان أبوه سيد البطحاء ، وشيخ

(156)

 

قريش ، ورئيس مكة المعظمة ، وكان كفيلاً وحافظا لرسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله منذ صغره الى كبره ، وقد حفظه من بأس المشركين وكيد الكافرين ، ولم يضطر النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله للهجرة والغربة ما دام أبو طالب على قيد الحياة . فلمّا توفى أبو طالب أصبح النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بلا ناصر ولا معين ، وهاجر من مكّة الى المدينة وجلا عن وطنه .

        وكانت أمّه عليه‏السلام فاطمة بنت أسد بن هاشم التي كفّنها رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بردائه ، وإبن عمّه عليه‏السلام سيد الأولين والآخرين محمد بن عبد اللّه‏ خاتم النبيين صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وأخوه جعفر الطيار ذو الجناحين في الجنة ، وعمّه حمزة سيد الشهداء (سلام اللّه‏ عليهم اجمعين) .

        وبالجملة فقد كان آباؤه آباء رسول اللّه‏ ، وامهاته امهات خير خلق اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فقد اقترن لحمه ودمه بلحمه ودمه ، واتصل نوره بنوره ، وروحه بروحه قبل خلق آدم ، ثم في صلبه الى صلب عبد المطّلب ، ثم انفصل من صلبه وذهب نصفه في صلب عبد اللّه‏ والنصف الاخر في صلب أبي طالب ، فولد سيدا العالم ،اولهم المنذر وثانيهم الهادي .

        ومن كمالاته الخارجية مصاهرته مع رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بزواجه من فاطمة عليهاالسلام افضل بنات رسول اللّه‏ وسيدة نساء العالمين ، وكان رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يحبّها كثيرا ، ويتواضع لها عند ما يراها ويقوم اليها ويقبّلها ويشمّها .

        ومن المعلوم انّ كثرة حبّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لها لا لأجل كونها إبنته ، بل لأجل شرفها ومحبوبيتها لدى اللّه‏ تعالى : (بالفارسية)

 اين محبت از محبتها جداست

 حب محبوب خدا حب خداست

        أي انّ هذا الحب يختلف عن سائر الوان الحب ، فانّ حب محبوب اللّه‏ حب اللّه‏ حقيقة .

        وقد تكرر قوله صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : « فاطمة بضعة منّي من آذاها فقد آذاني » وانّ رضاها رضاه وغضبها غضبه .

        ومن كمالاته الخارجية بركة اولاده بحيث لم يحصل لأحد ما حصل له من شرف الاولاد وطيبهم ، فقد كان الحسن والحسين عليهماالسلام إبناه امامين وسيدي شباب أهل الجنّة ، ولا يخفى شدّة حبّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لهما وتعلّقه بهما ، وأيضا باقي أولاده كالعباس ومحمد وزينب وام كلثوم وغيرهم فانّ جلالتهم ومرتبتهم أوضح من أن تبيّن .

        وكان للامامين الحسن والحسين عليهماالسلام اولاد في غاية الشرف والطيب والعزّة ، أما اولاد الحسن عليه‏السلام فهم : القاسم ، وعبد اللّه‏ ، والحسن المثنى ، والحسن المثلث ، وعبد اللّه‏ المحض ، والنفس الزكية ، وابراهيم قتيل باخمرى ، وعليّ العابد ، والحسين بن عليّ بن الحسن المقتول في فخ ، وإدريس بن عبد اللّه‏ ، وعبد العظيم ، وأيضا سادات البطحاني ، والشجري ، وكلستانة ، وآل طاووس ، واسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن عليّ عليه‏السلام الملقب بطباطبا ، وغيرهم رضوان اللّه‏ عليهم أجمعين .

        وأما اولاد الامام الحسين عليه‏السلام فهم الائمة الكرام ، زين العابدين ، والامام محمد

(157)

 

الباقر ، وجعفر الصادق ، وموسى الكاظم ، وعليّ الرضا ، ومحمد الجواد ، وعليّ الهادي ، والحسن العسكري ، والحجة إبن الحسن ، مولانا صاحب العصر والزمان (صلوات اللّه‏ وسلامه عليهم اجمعين) .

        « الحمد للّه‏ الذي جعلنا من المتمسكين بولاية أمير المؤمنين عليه‏السلام » .

        للّه‏ درّ إبن شهر آشوب :

 مواهب اللّه‏ عندي جاوزت أملي

 وليس يبلغها قولي ولا عملي

 لكنّ أشرفها عندي وأفضلها

 ولايتي لأمير المؤمنين عليّ

        يا ربّ فاحشرني في الآخرة مع النبي والعترة الطاهرة .

(158)

 

الفصل الثالث

في بيان شهادة أمير المؤمنين عليه‏السلام على يد اللعين

إبن ملجم المرادي

        المشهور بين علماء الشيعة انّ سيد الاوصياء أمير المؤمنين عليه‏السلام ضُرب بيد أشقى الناس إبن ملجم المرادي في الليلة التاسعة عشرة من شهر رمضان سنة أربعين للهجرة عند الفجر ، وفاضت روحه المقدسة الى رياض القدس والجنان بعد ذهاب ثلث الليل من ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان ، وكان عمره الشريف انذاك ستا وستين سنة .

        ولما بُعث النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كان عمره عليه‏السلام عشر سنين فآمن به ، وكان معه بعد البعثة ثلاث عشرة سنة في مكة ، ولما هاجر النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى المدينة كان معه أيضا عشر سنين .

        ثم ابتلى بعدها بمصيبة ارتحال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وبقى بعده ثلاثين سنة ، سنتين واربعة اشهر في خلافة أبي بكر ، واحدى عشرة سنة في خلافة عمرو ، واثنتي عشرة سنة في خلافة عثمان .

        وكانت مدّة خلافته الظاهريّة خمس سنين تقريبا ، وكان مشغولاً فيها بقتال المنافقين والمردة ، وأصبح عليه‏السلام مظلوما بعد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وكان يظهر مظلوميته أحيانا ، وقد ضاق صدره من عناد الناس ونفاقهم وتمردهم حتى رجا اللّه‏ أن يعجل في موته .

        وقد أخبر مرارا عن استشهاده بيد إبن ملجم ، وكان يقول وقد مسح لحيته : « ما يحبس أشقاها أن يخضبها عن أعلاها بدم ؟ » وصعد المنبر في شهر رمضان الذي استشهد فيه وأخبر أصحابه بانّهم سيحجّون هذا العام ولا يكون هو فيهم .

        وكان عليه‏السلام يبيت في ذلك الشهر ليلة عند الامام الحسن ، وليلة عند الامام الحسين عليهماالسلام ، وليلة عند زينب وكانت في بيت زوجها عبد اللّه‏ بن جعفر ، وكان يفطر عندهم ولم تتجاوز لقماته الثلاث ، فسئل عن سبب ذلك ؟ فأجاب عليه‏السلام انّه قد دنا أجله ويريد لقاء ربه وهو خميص .

        وقيل : انّ عليا عليه‏السلام كان جالسا ذات يوم على المنبر ، فانتبه الى إبنه الحسن فسأله عن شهر رمضان كم يوم مضى منه ، فأجابه ثلاثة عشر يوما ، ثم انتبه الى إبنه الحسين فسأله عن شهر رمضان كم يوم بقي منه ، فأجاب سبعة عشر يوما ، فوضع يده على لحيته الشريفة وقد اشتعلت شيبا ، ثم قال : « واللّه‏ ليخضبها بدمها اذا انبعث اشقاها » .

        ثم أنشد عليه‏السلام :

(159)

 

 أريد حياته ويريد قتلي

 عذيرك من خليلك من مراد

        أما كيفية مقتله عليه‏السلام فهو ما نقله جمع من المؤرخين ، انّ نفرا من الخوارج اجتمعوا بمكة بعد وقعة النهروان منهم عبد الرحمن بن ملجم ، فتذاكروا الامراء فعابوهم وعابوا أعمالهم ، وذكروا أهل نهروان وترحموا عليهم ، وكان هذا دأبهم كل يوم ، وقالوا : انّ عليا ومعاوية قد أفسدا هذه الامة ، فلو قتلناهما أرحنا العباد والبلاد منهما . فقال رجل من بني أشجع : واللّه‏ عمرو بن العاص لا يقلّ عنهما ، بل هو اصل الفساد وأساس الفتنة ، فاجتمع رأيهم على قتل هؤلاء الثلاثة .

        قال اللعين إبن ملجم : أنا أكفيكم عليا ، وقال الحجاج بن عبد اللّه‏ المعروف بالبرك : انا أكفيكم معاوية ، وقال دادويه المعروف بعمرو بن بكر التميمي : أنا أكفيكم عمرو بن العاص .

        فتعاهدوا على ذلك وتواثقوا على الوفاء به ، وان يقتلوهم في ليلة واحدة بل في ساعة واحدة ، فكان موعدهم شهر رمضان في الليلة التاسعة عشرة منه حين صلاة الفجر ، فتفرقوا بعد ذلك ، وأخذ البرك طريق الشام ، وسافر عمرو الى مصر ، وذهب إبن ملجم اللعين الى الكوفة ، وقد طلوا سيوفهم بالسم الناقع ، وكتموا أمرهم وانتظروا وصول يوم الميعاد .

        فلمّا كانت الليلة التاسعة عشرة دخل البرك بن عبد اللّه‏ المسجد متقلدا سيفه المسموم ، ووقف خلف معاوية فلمّا ركع معاوية وقيل حينما سجد ضربه بالسيف على فخذه ، فصاح معاوية ووقع في المحراب .

        فاضطرب الناس وقبضوا على البركّ وأخذوا معاوية الى بيته ، وجاؤوا بطبيب حاذق لمداواته ، فلمّا رأى الطبيب الجرح قال : انها ضربة بسيف مسموم وقد أثّر في عرق النكاح ، فلو أردت البرء وعدم انقطاع النسل فعلاجه الكي ، والا فالدواء ولكن ينقطع نسلك .

        فقال معاوية : انّي لن أتحمل ولا أطيق حرّ الحديدة المحمّاة ، ويكفيني من النسل إبناي يزيد وعبد اللّه‏ ، فداووه بالعقاقير حتى برأ ولكن انقطع نسله ، وأمر بعدها ببناء مقصورة في المسجد ووضع الحرّاس عليها ليحرسوه .

        ثم أمر باحضار البرك وحكم عليه بضرب عنقه ، فقال البرك : الامان والبشارة يا معاوية ، قال ، ما هي تلك البشارة ؟ قال : انّ خليلي ذهب لقتل عليّ ، فاحبسني الان حتى يأتيك الخبر ، فاذا قتل عليا فاصنع بي ما تشاء ، والا أطلقني كي أذهب فأقتل عليا ، وأقسم باللّه‏ أن آتيك حتى تفعل بي ما تشاء ، فحبسه معاوية على قول فلمّا وصل اليه خبر قتل أمير المؤمنين عليه‏السلام سرّح البرك فرحا بهذا الخبر .

        أما عمرو بن بكر فانّه لما دخل مصر صبر الى ليلة التاسع عشر ، فدخل مسجد الجامع مع سيفه المسموم ، وانتظر مجيء عمرو بن العاص لكن عمرو لم يحضر