(160)

 

للصلاة لعلة اصابته ، فاستخلف مكانه خارجة بن حبيبة قاضي مصر .

        فوقف خارجة للصلاة ، وظن عمرو بن بكر انّه عمرو بن العاص ، فسلّ سيفه وضرب خارجة به فصرعه وتخبّط بدمه ، وهرب عمرو بن بكر الاّ انّهم أسروه وجاؤوا به الى عمرو بن العاص فأمر بقتله .

        فأخذ عمرو بالبكاء والجزع والنحيب فقيل له : ما هذا البكاء عند الموت ؟ فانّ من يصنع مثل ما تصنع لا يخاف من الموت ، فقال : لا واللّه‏ انّي لا أهاب الموت لكن أبكي على عدم توفيقي لقتل عمرو بن العاص ، والحال انّ شركائي البرك وإبن ملجم وصلوا الى أمنيتهم بقتل عليّ ومعاوية .

        فأمر عمرو بقتله ، ثم ذهب في اليوم الثاني الى عيادة خارجة وكان به رمق من الحياة فقال : يا ابا عبد اللّه‏ قصدك الرجل ، فقال عمرو : لكن اللّه‏ أراد خارجة .

        أما عبد الرحمن إبن ملجم فانّه توجّه الى الكوفة ونزل في محلة بني كندة ، موضع اجتماع القاعدين من الخوارج ، وكتم أمره عن أصحابه ، فكان في انتظار الموعد ، ثم انّه زار رجلاً من أصحابه ذات يوم فصادف عنده قطّام بنت الاخضر التميمية ، وكانت من أجمل نساء زمانها ، وكان أمير المؤمنين عليه‏السلام قتل اباها وأخاها بالنهروان ، فكانت شديدة الحقد والنصب عليه .

        فلما رآها إبن ملجم ورأى جمالها شغف بها واشتدّ اعجابه بها ، فسأل في نكاحها وخطبها فقالت له : ما الذي تسمّي لي من الصداق ؟ فقال لها : احتكمي بذلك ، فقالت له : أنا محتكمة عليك بثلاثة الاف درهم ووصيفا وخادما وقتل عليّ بن أبي طالب .

        فقال لها : لك جميع ما سألت ، فامّا قتل علي بن أبي طالب فانّى لي بذلك ، فقالت : تلتمس غرّته ثم تقتله ، فان انت قتلته شفيت نفسي ، وهنأك العيش معي ، وان انت قتلت فما عند اللّه‏ خيرٌ لك من الدنيا ، فلمّا رأى إبن ملجم موافقة تلك الملعونة له في الرأي قال لها : أما واللّه‏ ما أقدمني هذا المصر الاّ ما سألتيني من قتل عليّ بن أبي طالب .

        فقالت قطام : فانا طالبة لك بعض من يساعدك على ذلك من قومي ، فبعثت الى ورادن بن مجالد وكان من قبيلتها ، وطلبت منه مساعدة إبن ملجم ، فعزم بعد ذلك إبن ملجم على فعله ، ولقي شبيب بن بحرة من بني أشجع وكان على مذهبه فقال له : يا شبيب هل لك في شرف الدنيا والآخرة ؟

        قال : وما ذاك ؟ قال : تساعدني على قتل عليّ بن أبي طالب . فقال له : يا بن ملجم هبلتك الهبول لقد جئت شيئا ادّا وكيف تقدر على ذلك ؟

        فقال له إبن ملجم : لا تخف نكمن له في المسجد ، فاذا خرج لصلاة الفجر فتكنا به وشفينا أنفسنا وأدركنا ثارنا ...

(161)

 

        فلم يزل به حتى أجابه ، فأقبل معه حتى دخل المسجد الاعظم على قطام وهي معتكفة في المسجد الأعظم قد ضربت عليها قبّة ، فأخبرها إبن ملجم باتفاق شبيب معه ، فقالت الملعونة لهما : اذا أردتما ذلك فأتياني في هذا الموضع ...

        فانصرفا من عندها ، فلبثا أيّاما ثم أتياها ليلة الاربعاء لتسع عشرة خلت من شهر رمضان ، فدخلا عليها مع وردان ...

        فدعت لهم بحرير فعصبت به صدورهم ، وتقلدوا أسيافهم المسمومة ، فقالت لهم : اغتنموا الفرصة ولا تدعوها تذهب .

        فمضوا من تلك الملعونة ، وجلسوا مقابل السدة التي كان أمير المؤمنين عليه‏السلام يخرج منها للصلاة . وقد كانوا قبل ذلك القوا الى الاشعث بن قيس ما في نفوسهم من العزيمة على قتل أمير المؤمنين عليه‏السلام وواطأهم على ذلك ، وحضر الأشعث بن القيس لعنه اللّه‏ في تلك الليلة لمعونتهم على ما اجتمعوا عليه .

        وكان حجر بن عدي رحمه‏الله ـ وهو من كبار الشيعة ورجالهم ـ في تلك الليلة بايتا في المسجد ، فسمع الاشعث يقول لابن ملجم : النجاء النجاء لحاجتك فقد فضحك الصبح .

        فأحس حجر بما أراد الاشعث فقال له : قتلته يا أعور . وخرج مبادرا يمضي الى أمير المؤمنين عليه‏السلام ليخبره الخبر ويحذره من القوم ، وخالفه أمير المؤمنين عليه‏السلام في الطريق فلمّا رجع حجر سمع الناس يقولون : « قُتل أمير المؤمنين »(1) .

        امّا احوال أمير المؤمنين عليه‏السلام في تلك الليلة : قالت أم كلثوم بنت أمير المؤمنين عليه‏السلام : لمّا كانت ليلة تسعة عشرة من شهر رمضان قدّمت اليه عند إفطاره طبقا فيه قرصان من خبز الشعير وقصعة فيها لبن وملح جريش .

        فلما فرغ من صلاته أقبل على فطوره ، فلما نظر إليه وتأمّله حرّك رأسه وبكى بكاءا شديدا عاليا ... وقال : يا بنية أتقدمين الى أبيك إدامين في فرد طبق واحد ؟ أتريدين أن يطول وقوفي غدا بين يدي اللّه‏ عزوجل يوم القيامة ؟ أنا أريد أن أتّبع أخي وإبن عمّي رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، يا بنية ما من رجل طاب مطعمه ومشربه وملبسه الاّ طال وقوفه بين يدي اللّه‏ عزوجل يوم القيامة . يا بنية انّ الدنيا في حلالها حساب وفي حرامها عقاب .

        فذكر لها نبذة من زهد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ثم قال لها : يا بنية واللّه‏ لا آكل شيئا حتى ترفعين أحد الإدامين ، فلما رفعته تقدّم الى الطعام فأكل قرصا واحدا بالملح الجريش ، ثم حمد اللّه‏ وأثنى عليه ثم قام الى صلاته فصلّى ، ولم يزل راكعا وساجدا ومبتهلاً ومتضرّعا الى اللّه‏ سبحانه . ويكثر الدخول والخروج وهو ينظر الى السماء وهو قلق

 

(1) البحار 42:228 .
(162)

 

يتململ ، ثم قرأ سورة « يس » حتى ختمها ، وكان يقول :

        « اللهم بارك لنا في لقائك » ويكثر من قول « انّا للّه‏ وانّا اليه راجعون » و« لا حول ولا قوة الاّ باللّه‏ العليّ العظيم » ، ويصلّي على النبي وآله ويستغفر اللّه‏ كثيرا(1) .

        وروى إبن شهر آشوب وغيره انّه : سهر عليه‏السلام في تلك الليلة ولم يخرج لصلاة الليل على عادته فقالت أمّ كلثوم : ما هذا السهر ؟ قال : انّي مقتول لو قد أصبحت .

        فقالت : مُر جعدة فليصلّ بالناس (جعدة : إبن هبيرة وامه أمّ هاني أخت أمير المؤمنين عليه‏السلام ) ، قال : نعم مُروا جعدة ليصلّ ، ثم مرّ وقال : لا مفرّ من الأجل .

        وروي انّه عليه‏السلام سهر في تلك الليلة فأكثر الخروج والنظر الى السماء وهو يقول : « واللّه‏ ما كذبت ولا كذبت وانّها الليلة التي وعدت بها » . ثم يعاود مضجعه ، فلمّا طلع الفجر أتاه إبن التياح ونادى : الصلاة ، فقام فاستقبله الأوز فصحن في وجهه فقال : « دعوهنّ فانهنّ صوايح تتبعها نوايح »(2) .

        وفي رواية انّه : قالت أم كلثوم : يا أباه هكذا تتطير ، فقال : يا بنيّة ما منّا أهل البيت من يتطيّر ولا يتطير به . ثم قال : يا بنية بحقي عليك الاّ ما أطلقتيه ، فقد حبست ما ليس له لسان ولا يقدر على الكلام ، اذا جاع أو عطش فأطعميه واسقيه ، والاّ حلّي سبيله يأكل من حشائش الارض .

        فلمّا وصل الى الباب فعالجه ليفتحه فتلعق الباب بمئزره ، فانحل مئزره حتى سقط ، فأخذه وشدّه وهو يقول :

 اشدد حيازيمك للموت فانّ الموت لاقيكا

 ولا تجزع من الموت اذا حلّ بناديكا

 ولا تغترّ بالدهر وان كان يؤاتيكا

 كما أضحكك الدهر كذاك الدهر يبكيكا

        ثم قال : اللهم بارك لنا في الموت ، اللهم بارك لي في لقائك ، قالت أم كلثوم : وكنت أمشي خلفه ، فلما سمعته يقول ذلك قلت : واغوثاه يا أبتاه .

        (فلمّا خرج لحقه الحسن عليه‏السلام ) فقال لأبيه : يا أبتاه أريد أن أمضي معك الى موضع صلاتك . فقال له : أقسمت بحقّي عليك الاّ ما رجعت ... فرجع الحسن عليه‏السلام فوجد أخته أمّ كلثوم ، فأخبرها بذلك ، وجلسا يتحادثان وهما محزونان .

        وسار أمير المؤمنين عليه‏السلام حتى دخل المسجد والقناديل قد خمد ضوؤها ، فصلّى في المسجد وِردَهُ وعقّب ساعة ، ثم علا المئذنة ووضع سبّابته في أذنيه وتنحنح ، ثم أذّن وكان عليه‏السلام اذا أذّن لم يبق في الكوفة بيت الاّ اخترقه صوته .

 

(1) البحار 42:276 ، ملخّصا .
(2) مناقب إبن شهر آشوب 3:310 .
(163)

 

        فلمّا أذّن نزل من المئذنة وجعل يسبّح اللّه‏ ويقدّسه ويكبّره ويكثر من الصلوات على النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ثم أنشد :

 خلّوا سبيل المؤمن المجاهد

 في اللّه‏ لا يعبد غير الواحد

ويوقظ الناس الى المساجد

        ثم جاء الى الصحن فأخذ يوقظ النائمين قائلاً : الصلاة ؛ الصلاة .

        وأما إبن ملجم فبات في تلك الليلة يفكّر في نفسه ... حتى وصل عليّ عليه‏السلام اليه ، فرآه نائما على وجهه مؤتزرا سيفه تحت ردائه كي لا يُرى فقال له :

        قم من نومك هذا فانّها نومة يمقتها اللّه‏ وهي نومة الشياطين ونومة أهل النار ، بل نم على يمينك فانّها نومة العلماء ، أو على يسارك فانها نومة الحكماء ، أو على ظهرك فانّها نومة الانبياء .

        ثم قال له عليه‏السلام : لقد هممت بشيء تكاد السموات يتفطّرن منه وتنشق الارض وتخّر الجبال هدّا ، ولو شئت لأنبئك بما تحت ثيابك . ثم تركه وعدل عنه الى المحراب .

        أما إبن ملجم فقد كان يسمع كرة بعد كرّة انّه يقتل أمير المؤمنين أشقى الناس ، وكان يقول لقطام أخاف أن أكون ذلك الرجل ولا أصل الى امنيتي ... فبات تلك الليلة بهذه الأفكار والوساوس ، يفكر بهذا الامر العظيم ، لكن غلبته شقوته وعزم على قتل أمير المؤمنين عليه‏السلام .

        فلمّا أيقظه عليه‏السلام نهض مسرعا وأقبل يمشي حتى وقف بازاء الاسطوانة التي كانت الى جانب المحراب ، واختفى كل من وردان وشبيب في زاوية المسجد ، فلمّا رفع أمير المؤمنين عليه‏السلام رأسه من السجود في الركعة الاولى ، تقدم شبيب بن بحرة قائلاً : للّه‏ الحكم يا عليّ لا لك ولا لأصحابك ، فسلّ سيفه وأراد ضرب الامام الاّ وان السيف اصطدم بطاق المسجد فاخطأه ، فتقدّم ابن ملجم مسرعا فهزّ سيفه وقال تلك المقولة ، ثم ضربه على رأسه الشريف فوقعت الضربة على موضع ضربة عمرو بن عبدود ، ثم ووصلت الضربة من مفرق رأسه الى موضع السجود .

        فقال عليه‏السلام : « بسم اللّه‏ وباللّه‏ وعلى ملّة رسول اللّه‏ فزت وربّ الكعبة » . ثم صاح وقال : قتلني إبن ملجم قتلني اللعين إبن اليهوديّة ، ايها الناس لا يفوتنّكم إبن ملجم ، فثار جميع من في المسجد في طلب الملعون .

        ثم أحاطوا بأمير المؤمنين عليه‏السلام وهو في محرابه يشدّ موضع الضربة ، ويأخذ التراب ويضعه عليها ثم تلا قوله تعالى : « مِنْهَا خَلَقْنَكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى »(1) .

 

 

(1) طه : 55 .
(164)

 

        ثم قال عليه‏السلام وهو ملطخ بدمائه : جاء امر اللّه‏ وصدق رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله هذا ما وعدنا اللّه‏ ورسوله .

        ثم انّه لمّا ضربه الملعون ارتجت الارض ، وماجت البحار والسماوات ، واصطفقت أبواب الجامع ، وضجّت الملائكة في السماء بالدعاء ، وهبّت ريح عاصف سوداء مظلمة ، ونادى جبرئيل عليه‏السلام بين السماء والارض بصوت يسمعه كل أحد :

        « تهدّمت واللّه‏ اركان الهدى ، وانطمست واللّه‏ اعلام التقى ، وانفصمت العروة الوثقى ، قتل إبن عمّ المصطفى ، قتل الوصي المجتبى ، قتل علي المرتضى ، قتله اشقى الاشقياء » .

        فلما سمعت أم كلثوم نعي جبرئيل لطمت وجهها وخدّها وشقّت جيبها وصاحت : وا أبتاه وا عليّاه وا محمدّاه .

        فخرج الحسنان عليهماالسلام الى المسجد ، فلما وصلا الجامع ودخلا وجدا أبا جعدة بن هبيرة ومعه جمع من الناس ، وهم يجتهدون أن يقيموا الامام في المحراب ليصلّي بالناس ، فلم يطق النهوض فتأخّر عن الصف ، وتقدم الحسن عليه‏السلام فصلّى بالناس وأمير المؤمنين عليه‏السلام يصلّي ايماءً من جلوس يميل تارة ويسكن اخرى .

        فلما فرغ الحسن عليه‏السلام من الصلاة جاء الى ابيه وأخذ برأسه وقال : وا انقطاع ظهراه يعزّ واللّه‏ عليّ أن أراك هكذا .

        ففتح عينه وقال : يا بني لا جزع على أبيك بعد اليوم ، هذا جدّك محمد المصطفى ، وجدتك خديجة الكبرى ، وأمّك فاطمة الزهراء ، والحور العين محدقون منتظرون قدوم ابيك ، فطب نفسا وقرّ عينا وكفّ عن البكاء ، فانّ الملائكة قد ارتفعت أصواتهم الى السماء .

        ثمّ شدّوا الجرح بردائه وجاؤوا به الى المسجد ، وشاع الخبر في جوانب الكوفة ، وانحشر الناس حتى المخدرات خرجن من خدورهنّ الى الجامع ينظرن الى عليّ بن أبي طالب عليه‏السلام .

        فدخل الناس الجامع فوجدوا الحسن ورأس ابيه في حجره ، وقد غسل الدم عنه ، وشدّ الضربة وهي بعدها تشخب دما ، ووجهه قد زاد بياضا بصفرة وهو يرمق السماء بطرفه ولسانه يسبّح اللّه‏ ويوحّده وهو يقول : « الهي أسألك مرافقة الانبياء والاوصياء ، وعُلا درجات جنّة المأوى » .

        فغشي عليه ساعةً ، فبكى الحسن بكاءا شديدا ، فسقط من دموعه قطرات على وجه أمير المؤمنين عليه‏السلام ، ففتح عينه ورآه باكيا فقال له :

        يا بني يا حسن ما هذا البكاء والجزع ، يا بني أتجزع على ابيك ، وغدا تقتل بعدي مسموما مظلوما ، ويقتل أخوك بالسيف هكذا ، وتلحقان بجدّكما وابيكما وأمّكما .

        فقال له الحسن عليه‏السلام : يا ابتاه ما عرفنا من قتلك ومن فعل بك هذا ؟ قال : قتلني

(165)

 

إبن اليهودية عبد الرحمن إبن ملجم المرادي ... وانه سيطلع عليكم من هذا الباب ، وأشار بيده الشريفة الى باب كندة .

        ولم يزل السمّ يسري في رأسه ، فاشتغل الناس بالنظر الى الباب ويرتقبون قدوم الملعون ، وقد غصّ المسجد بالعالم ما بين باك ومحزون ، فما كان الاّ ساعة واذا بالصيحة قد ارتفعت وزمرة من الناس وقد جاؤوا بعدوِّ اللّه‏ إبن ملجم مكتوفا فأقبلوا باللعين ، هذا يلعنه وهذا يضربه وهم ينهشون لحمه بأسنانهم ويقولون له :

        يا عدوّ اللّه‏ ما فعلت ؟ أهلكت امّة محمد وقتلت خير الناس ، وانّه لصامت وكان يزداد غضب الناس ساعة بعد ساعة يريدون الفتك به .

        وكان يقوده حذيفة النخعي وبيده سيف مشهور ، حتى جاء به الى الامام الحسن عليه‏السلام فلمّا نظر اليه الحسن عليه‏السلام قال له : يا ويلك يا لعين يا عدوّ اللّه‏ أنت قاتل أمير المؤمنين ، ومثكلنا امام المسلمين ، هذا جزاؤه منك حيث آواك وقرّبك وأدناك وآثرك على غيرك ؟ وهل كان بئس الامام لك حتى جازيته هذا الجزاء يا شقيّ ؟

        فلم يتكلم الشقيّ ... فعند ذلك ضجّت الناس بالبكاء والنحيب ... ثم التفت الحسن عليه‏السلام الى الذي جاء به فقال له : كيف ظفرت بعدوّ اللّه‏ وأين لقيته ؟

        فقصّ عليه كيفية قبضه على اللعين ، ثم قال الحسن عليه‏السلام : الحمد للّه‏ الذي نصر وليّه وخذل عدوّه ، فلما أفاق عليه‏السلام من نومه وفتح عينه قال : ارفقوا بي يا ملائكة ربّي .

        فقال له الحسن عليه‏السلام هذا عدوّ اللّه‏ وعدوّك إبن ملجم قد أمكننا اللّه‏ منه وقد حضر بين يديك . ففتح أمير المؤمنين عليه‏السلام عينيه ونظر اليه وقال له بضعف وانكسار صوت :

        يا هذا لقد جئت عظيما وارتكبت أمرا عظيما وخطبا جسيما ، أبئس الامام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء ؟ ألم أكن شفيقا عليك وآثرتك على غيرك وأحسنت إليك وزدت في اعطائك ؟ ألم يكن يقال لي فيك كذا وكذا ، فخلّيت لك السبيل ومنحتك عطائي ، وقد كنت أعلم انّك قاتلي لا محالة ؟ ولكن رجوت بذلك الاستظهار من اللّه‏ تعالى عليك يا لكع وعلّ ان ترجع عن غيّك ، فغلبت عليك الشقاوة فقتلتني يا شقيّ الاشقياء .

        فدمعت عينا إبن ملجم لعنه اللّه‏ تعالى وقال : يا أمير المؤمنين أفأنت تنقذ من في النار ؟ قال له : صدقت ، ثم التفت عليه‏السلام الى ولده الحسن عليه‏السلام وقال له : ارفق يا ولدي بأسيرك وارحمه ، وأحسن اليه وأشفق عليه ، ألا ترى الى عينيه قد طارتا في أمّ رأسه ، وقلبه يرجف خوفا ورعبا وفزعا .

        فقال له الحسن عليه‏السلام : يا أباه قد قتلك هذا اللعين الفاجر ، وأفجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق فيه ؟ فقال له : نعم يا بني! نحن أهل البيت لا نزداد على المذنب الينا الاّ كرما وعفوا ، والرحمة والشفقة من شيمتنا لا من شيمته ، بحقّي عليك أطعمه يا بنيّ مما تأكله ، واسقه مما تشرب ، فان أنا متّ فاقتص منه ولا تحرقه بالنار ، ولا تمثل بالرجل ،

(166)

 

فانّي سمعت رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يقول : « اياكم والمثلة ولو بالكلب العقور » .

        وان انا عشت فانا أولى بالعفو عنه ، وأنا أعلم بما أفعل به ، فان عفوت فنحن أهل البيت لا نزداد على المذنب الينا الاّ عفوا وكرما .

        ثم حملوه عليه‏السلام الى البيت وهو في غاية الضعف والناس حوله في البكاء والنحيب ، وقد اشرفوا على الهلاك من شدة البكاء ، وأُخِذَ إبن ملجم فأوثّق وحبس في البيت .

        ثم التفت الى الحسين عليه‏السلام وهو يبكي فقال له : يا ابتاه من لنا بعدك ؟ لا كيومك الاّ يوم رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من أجلك تعلمت البكاء ، يعزّ واللّه‏ عليّ أن أراك هكذا ، فناداه عليه‏السلام فقال :

        يا حسين يا ابا عبد اللّه‏ ادن منّي ، فدنا منه وقد قرحت أجفان عينيه من البكاء ، فمسح الدموع من عينيه ، ووضع يده على قلبه وقال له : « يا بني ربط اللّه‏ قلبك بالصبر ، وأجزل لك ولأخوتك عظيم الاجر ، فسكّن روعتك وهدأ من بكائك ، فانّ اللّه‏ قد آجرك على عظيم مصابك » ثم أُدخل عليه‏السلام الى حجرته وجلس في محرابه .

        ثم اقبلت زينب وأم كلثوم حتى جلستا على الفراش ، وأقبلتا تندبانه وتقولان :

        « يا ابتاه من للصغير حتى يكبر ؟ ومن للكبير بين الملاء ؟ يا ابتاه حزننا عليك طويل وعبرتنا لا ترقأ » .

        فضجّ الناس من وراء الحجرة بالبكاء والنحيب ، وفاضت دموع أمير المؤمنين عليه‏السلام عند ذلك ، وجعل يقلّب طرفه وينظر الى أهل بيته وأولاده ، ثم دعا الحسن والحسين عليهماالسلام وجعل يحضنهما ويقبلهما .

        روى الشيخ المفيد والطوسي عن أصبغ بن نباته قال : لما ضرب إبن ملجم لعنه اللّه‏ أمير المؤمنين عليه‏السلام غدونا عليه نفر من أصحابنا ، أنا والحارث وسويد بن غفلة وجماعة معنا ، فقعدنا على الباب فسمعنا البكاء فبكينا ، فخرج الينا الحسن بن عليّ عليه‏السلام فقال : « يقول لكم أمير المؤمنين انصرفوا الى منازلكم » .

        فانصرف القوم غيري فاشتد البكاء من منزله فبكيت وخرج الحسن عليه‏السلام وقال : « ألم أقل لكم انصرفوا ؟ » . فقلت : لا واللّه‏ يا إبن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لا تتابعني نفسي ، ولا تحملني رجلي أن أنصرف حتى أرى أمير المؤمنين عليه‏السلام .

        قال : فبكيت ، فدخل ولم يلبث أن خرج فقال لي : أُدخل ، فدخلت على أمير المؤمنين عليه‏السلام فاذا هو مستند معصوب الرأس بعمامة صفراء قد نزف واصفر وجهه ، ما ادري وجههه أصفر أو العمامة ، فاكببت عليه فقبلته وبكيت فقال لي : « لاتبك يا أصبغ فانّها واللّه‏ الجنّة » .

        فقلت له : جعلت فداك انّي أعلم واللّه‏ انّك تصير الى الجنّة وانّما أبكي لفقداني اياك ... (1)

(167)

 

        وأغمي على أمير المؤمنين عليه‏السلام ساعة ، وكذلك كان رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يُغمى عليه ساعة طويلة ويفيق أخرى ، لانّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كان مسموما ، فلمّا أفاق ناوله الحسن عليه‏السلام قعبا من لبن فشرب منه قليلاً ثم نحّاه عن فيه وقال : « احملوه الى أسيركم » .

        ثم وصّى الحسن عليه‏السلام كرّة أخرى بمطعمه ومشربه(1) .

        وروى الشيخ المفيد وغيره انّه : لما أتوا بابن ملجم الى السجن قالت له أم كلثوم : يا عدو اللّه‏ قتلت أمير المؤمنين عليه‏السلام ، قال : انما قتلت أباك . قالت : يا عدو اللّه‏ انّي لأرجوا أن لا يكون عليه بأس . قال لها : فأراك انما تبكين عليّ اذا ، لقد واللّه‏ ضربته ضربة لو قسمت بين أهل الارض لأهلكتم(2) .

        قال أبو الفرج : « لمّا ضرب عليّا جمع له اطباء الكوفة ، فلم يكن اعلم بجرحه من أثير بن عمرو ، فلمّا نظر الى جرح أمير المومنين عليه‏السلام دعا برئة شاة حارّة واستخرج عرقا منها فأدخله في الجرح ، ثم استخرجه فاذا عليه بياض الدماغ فقال له :

        يا أمير المؤمنين أعهد عهدك فانّ عدوّ اللّه‏ قد وصلت ضربته الى أمّ رأسك(3) .

* * *

 

(1) أمالي المفيد : 216 ، عنه في البحار 42:204 .
(2) البحار 42:276 ـ 289 ، ملخصاً .
(3) الارشاد : 18 .
(4) مقاتل الطالبيين : 23 ، عنه في البحار 42:234 .
(168)

 

الفصل الرابع

في بيان وصاياه وكيفيّة وفاته وغسله ودفنه عليه‏السلام

        روي عن محمد بن الحنفية انه قال : وبتنا ليلة عشرين من شهر رمضان مع أبي وقد نزل السمّ الى قدميه ، وكان يصلّي تلك الليلة من جلوس ، ولم يزل يوصينا بوصاياه الى حين طلوع الفجر ، فلما أصبح استأذن الناس عليه ، فأذن لهم بالدخول ، فدخلوا عليه وأقبلوا يسلّمون عليه وهو يردّ عليهم السلام ، ثم قال :

        « أيّها الناس اسألوني قبل أن تفقدوني ، وخفّفوا سؤالكم لمصيبة امامكم » ، قال : فبكى الناس عند ذلك بكاءا شديدا ، فقام اليه حجر بن عدي ، فأنشد أبياتا ، فلمّا بصر به وسمع شعره ، قال له : كيف لي بك إذ دعيت الى البراءة منّي فما عساك أن تقول ؟

        فقال : واللّه‏ يا أمير المؤمنين لو قطعت بالسيف اربا اربا وأضرم لي النار وألقيت فيها ، لآثرت ذلك على البراءة منك . فقال : وفّقت لكل خير يا حجر ، جزاك اللّه‏ خيرا عن أهل بيت نبيّك ، ثم قال : هل من شربة من لبن ؟ فأتوه بلبن في قعب ، فأخذه وشربه ، وقال : ألا وانّه آخر رزقي من الدنيا ، فاشتدّ البكاء والعويل(1) .

        قيل : انّ رجلاً أتى ابن ملجم وقال له : لا تفرح يا عدوّ اللّه‏ فانّ أمير المؤمنين عليه‏السلام سيبرأ منها ، فقال اللعين : إذاً على من تبكي أمّ كلثوم ، أعليّ ، واللّه‏ قد اشتريت هذا السيف بالف درهم ، وسممته بألف أخرى ، ثم أصلحته وضربته ضربة لو قسمت على أهل الارض لهلكوا كلهم .

        ولمّا كانت ليلة احدى وعشرين ، جمع عليه‏السلام أولاده وأهل بيته وودّعهم ، ثم قال لهم : اللّه‏ خليفتي عليكم وهو حسبي ونعم الوكيل ، واوصاهم الجميع منهم بالخيرات .

        ثم تزايد ولوج السمّ في جسده الشريف وقد احمرّتا قدميه ، وعرضوا عليه المأكول والمشروب فأبى أن يشرب ، وكانت شفتيه تختلجان بذكر اللّه‏ تعالى ، وجعل جبينه ـ يرشح عرقا ـ كالؤلؤ ، وهو يمسحه بيده فقال : انّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قال :

        انّ المؤمن اذا نزل به الموت ودنت وفاته ، عرق جبينه وصار كاللؤلؤ الرطب وسكن أنينه .

        ثم نادى أولاده كلّهم بأسمائهم صغيرا وكبيرا ، وجعل يودّعهم ويقول : اللّه‏ خليفتي عليكم واستودعكم اللّه‏ ، وهم يبكون وينحبون . فقال له الحسن عليه‏السلام : يا أبة تتكلّم كلام الآيس من نفسه .

 

(1) البحار 42:290 ، ملخّصا .
(169)

 

        فقال له : يا بنيّ! انّي رأيت جدّك رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في منامي قبل هذه الكائنة بليلة ، فشكوت اليه ما أنا فيه من التذلّل والاذى من هذه الامة ، فقال لي : ادع عليهم ، فقلت : اللهم أبدلهم بي شرا مني وأبدلني بهم خيرا منهم ، فقال لي : قد استجاب اللّه‏ دعاءك ، سينقلك الينا بعد ثلاث ، وقد مضت الثلاث .

        يا أبا محمد! أوصيك بالحسين خيرا ، فأنتما منّي وأنا منكما ، ثم التفت الى أولاده الذين من غير فاطمة عليهاالسلام وأوصاهم أن لا يخالفوا الحسن والحسين عليهماالسلام ثم قال :

        أحسن اللّه‏ لكم العزاء ، الا وانّي منصرف عنكم ، وراحل في ليلتي هذه ، ولاحق بحبيبي رسول للّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كما وعدني(1) .

        وقد روى الشيخ المفيد والشيخ الطوسي عن الحسن عليه‏السلام انّه قال : لما حضرت أبي الوفاد أقبل يوصي فقال :

        هذا ما أوصى به عليّ إبن أبي طالب أخو محمد رسول اللّه‏ وإبن عمّه وصاحبه ، واوّل وصيّتي انّي أشهد أن لا إله الا اللّه‏ ، وأنّ محمدا رسوله وخيرته ، اختاره بعلمه وارتضاه لخيرته ، وان اللّه‏ باعث من في القبور ، وسائل الناس عن اعمالهم وعالم بما في الصدور . ثمّ انّي أوصيك يا حسن وكفى بك وصيا ، بما أوصاني به رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فاذا كان ذلك يا بني (أي اذا ظهرت الفتن عليك وخانتك الناس ولم تنصرك) ألزم بيتك ، وابك على خطيئتك ، ولا تكن الدنيا اكبر همّك .

        وأوصيك يا بنيّ بالصلوة عند وقتها ، والزكوة في أهلها عند محلها ، والصمت عند الشبهة ، والاقتصاد في العمل ، والعدل في الرضا والغضب ، وحسن الجوار ، واكرام الضيف ، ورحمة المجهود واصحاب البلاء ، وصلة الرحم ، وحب المساكين ومجالستهم ، والتواضع فانّه من أفضل العبادة ، وقصر الامل ، واذكر الموت ، وازهد في الدنيا فانّك رهن موت وغرض بلاء وطريح سقم .

        وأوصيك بخشية اللّه‏ في سرائرك وعلانيتك ، وأنهاك عن التسرع بالقول والفعل ، واذا عرض شيء من أمر الآخرة فابدأ به ، واذا عرض شيء من أمر الدنيا فتأنّه حتى تصيب رشدك فيه . وايّاك ومواطن التهمة والمجلس المظنون به السوء ، فانّ قرين السوء يغير جليسه ...

        وكن للّه‏ يا بني عاملاً وعن الخنى زجورا ، وبالمعروف آمرا وعن المنكر ناهيا ، وواخ الاخوان في اللّه‏ ، وأحب الصالح لصلاحه ، ودار الفاسق عن دينك وابغضه بقلبك وزايله باعمالك لئلا تكون مثله .

        وايّاك والجلوس في الطرقات ، ودع الممارات ومجارات من لا عقل له ولا علم ، واقتصد يا بني في معيشتك ، واقتصد في عبادتك ، وعليك فيها بالامر الدائم الذي

 

(1) البحار 42:290 .
(170)

 

تطيقه ، والزم الصمت تسلم ، وقدّم لنفسك تغنم ، وتعلّم الخير تعلم ، وكن للّه‏ ذاكرا على كل حال ، وارحم من أهلك الصغير ووقّر منهم الكبير .

        لا تأكلنّ طعاما حتى تتصدق منه قبل أكله ، وعليك بالصوم فانّه زكاة البدن وجنّة لأهله ، وجاهد نفسك ، واحذر جليسك ، واجتنب عدوّك ، وعليك بمجالس الذكر ، واكثر من الدعاء فانّي يا بني لم آلك نصحا ، وهذا فراق بيني وبينك .

        وأوصيك بأخيك محمد خيرا ، فانّه شقيقك وإبن ابيك ، وقد تعلم حبّي له ، وامّا أخوك الحسين فهو إبن امّك ولا أريد الوصاة بذلك ، واللّه‏ خليفتي عليكم وايّاه أسأل أن يصلحكم وأن يكفّ الطغاة البغاة عنكم ، والصبر ، الصبر حتى ينزل اللّه‏ الامر ، ولا قوّة الا باللّه‏ العليّ العظيم(1) .

        وطبقا للرواية السابقة ، لما وصى الحسن عليه‏السلام قال له :

        فاذا أنا متّ يا أبا محمد ، فغسّلني وكفنّي وحنّطني ببقية حنوط جدّك رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فانّه من كافور الجنة جاء به جبرئيل عليه‏السلام ، ثم ضعني على سريري ولا يتقدّم احد منكم مقدم السرير ، واحملوا مؤخره واتبعوا مقدّمه ، فأيّ موضع وضع المقدم فضعوا المؤخّر ، فحيث قام سريري فهو موضع قبري .

        ثم تقدّم يا أبا محمد وصلّ عليّ وكبّر عليّ سبعا ، واعلم انّه لا يحلّ ذلك على احد غيري الاّ على رجل يخرج في آخر الزمان اسمه القائم المهدي من ولد اخيك الحسين يقيم اعوجاج الحق .

        فاذا انت صلّيت عليّ يا حسن فنحّ السرير عن موضعه ، ثم اكشف التراب عنه ، فترى قبرا محفورا ولحدا مثقوبا وساجة منقوبة ادّخرها لي أبي نوح ، وضعني في الساجة ، ثم ضع عليّ سبع لبن كبار ثم ارقب هنيئة ، ثم انظر فانّك لن تراني في لحدي ، لاحق بجدّك رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        واعلم يا بني! ما من نبي يموت وان كان مدفونا بالمشرق ويموت وصيّه بالمغرب الاّ ويجمع اللّه‏ عزوجل بين روحيهما وجسديهما ، ثم يفترقان فيرجع كلّ واحد منهما الى موضع قبره والى موضعه الذي حطّ فيه .

        ثم اشرج اللحد باللبن وأُهلّ التراب عليّ ثم غيّب قبري ، ثمّ بعد ذلك يا بني اذا أصبح الصباح أخرجوا تابوتا الى ظهر الكوفة على ناقة وامر بمن يسيّرها بما عليها كأنها تريد المدينة ، بحيث يخفى على العامة موضع قبري الذي تضعني فيه(2) .

        وقد روي عن الصادق عليه‏السلام انّه قال :

        امر ابنه الحسن أن يحفر له اربعة قبور في اربعة مواضع ، في المسجد ، وفي

 

(1) امالي المفيد : 137 وأمالي الطوسي : 7 ، عنهما البحار 42:202 .
(2) البحار 42:291 .
(171)

 

الرحبة ، وفي الغري ، وفي دار جعدة بن هبيرة ، وانّماأراد بهذا أن لا يعلم أحد من اعدائه موضع قبره عليه‏السلام (1) .

        يقول المؤلف : كان سبب هذا الاهتمام باخفاء القبر كي لا يطلع على مكانه الخوارج وبني أميّة اللعناء ، الذين كانوا في غاية العداوة له عليه‏السلام فيعملوا على نبش القبر واخراج جسده الطاهر .

        فكان مخفيّا الى زمن الامام الصادق عليه‏السلام فكشفه لأصحابه وشيعته بزيارته المتعددة له ، وانجلى القبر وتعين مضجعه المنوّر في زمن الرشيد ، بتفصيل لا يسع المقام ذكره .

        ثم قال عليه‏السلام : وكأنّي بكم وقد خرجت عليكم الفتن من ههنا وههنا ، فعليكم بالصبر فهو محمود العاقبة ، ثم قال : يا أبا محمد ويا ابا عبد اللّه‏ كأنّي بكما وقد خرجت عليكما من بعدي الفتن من ههنا ، فاصبروا حتى يحكم اللّه‏ وهو خير الحاكمين ، ثم قال : يا ابا عبد اللّه‏ انت شهيد هذه الامة ، فعليك بتقوى اللّه‏ والصبر على بلائه .

        ثم أغمي عليه ساعة وأفاق وقال : هذا رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وعمّي حمزة وأخي جعفر وأصحاب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وكلهم يقولون : عجّل قدومك علينا فانّا إليك مشتاقون .

        ثم أدار النظر في أهل بيته كلّهم وقال : أستودعكم اللّه‏ جميعا سدّدكم اللّه‏ جميعا حفظكم اللّه‏ جميعا ، خليفتي عليكم اللّه‏ وكفى باللّه‏ خليفة ،ثم قال : وعليكم السلام يا رسل ربّي ، ثم قال : « ولمثل هذا فليعمل العاملون انّ اللّه‏ مع الذين اتقوا والذين هم محسنون » .

        وعرق جبينه وهو يذكر اللّه‏ كثيرا ، ثم استقبل القبلة وغمض عينيه ومدّ رجليه ويديه وقال : « أشهد أن لا إله الاّ اللّه‏ ، وحده لا شريك له ، وأشهد انّ محمدا عبده ورسوله » .

        ثم قضى نحبه وذهب الى رضوان اللّه‏ ، فصلوات اللّه‏ عليه ، ولعنة اللّه‏ على قاتله ، وكانت وفاته في ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان ، وكانت ليلة الجمعة ، سنة أربعين من الهجرة .

        ثم علا صوت النحيب والبكاء من البيت ، فعلم أهل الكوفة انّ أمير المؤمنين عليه‏السلام قد قبض ، فصاحوا صيحة عظيمة ، وارتجّت الكوفة بأهلها وكثر البكاء والنحيب ، فكان ذلك كيوم مات فيه رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فلمّا أظلم الليل تغيّر أفق السماء وارتجّت الارض ، وجميع من عليها بكوه ، وسمع تسبيح الملائكة وتقديسهم من الهواء ، وارتفعت اصوات الجنّ بالنحيب والرثاء ثم اشتغلوا بتغسيله عليه‏السلام (2) .

 

 

(1) فرحة الغري : 32 .
(2) البحار 42:292 ، ملخّصا .
(172)

 

        قال محمد بن الحنفيّة : ثم أخذنا في جهازه ليلاً ، وكان الحسن عليه‏السلام يغسله والحسين عليه‏السلام يصبّ الماء عليه ، وكان عليه‏السلام لا يحتاج الى من يقلّبه ، بل كان يتقلّب كما يريد الغاسل يمينا وشمالاً ، وكانت رائحته عليه‏السلام أطيب من رائحة المسك والعنبر .

        ثم نادى الحسن عليه‏السلام وقال : يا أختاه هلمّي بحنوط جدّي رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فبادرت زينب مسرعة حتى أتت بسهمه عليه‏السلام الفاضل من سهم رسول اللّه‏ وابنته فاطمة (صلوات اللّه‏ عليهم) والذي جاء به جبرئيل اليهم من الجنّة .

        فلمّا فتحه فاحت الدار وجميع الكوفة وشوارعها لشدّة رائحة ذلك الطيب ، ثم لفّوه بخمسة أثواب ، ووضعوه على السرير ، وتقدم الحسن والحسين عليهماالسلام الى السرير من مؤخره (بحكم وصية أبيهم عليه‏السلام ) واذا مقدمه قد ارتفع ، وكان حامله جبرئيل وميكائيل ، وساروا به الى ظهر الكوفة الى النجف .

        وأراد بعض الناس مشايعتهم فأمرهم الحسن عليه‏السلام بالرجوع ، وكان الحسين عليه‏السلام يقول : لا حول ولا قوّة الاّ باللّه‏ العلي العظيم ، يا أباه وا انقطاع ظهراه ، من أجلك تعلّمت البكاء .

        قال محمد بن الحنفية : واللّه‏ لقد نظرت الى السرير وانّه ليمرّ بالحيطان والنخل فتنحني له خشوعا .

        ووفقا لرواية أمالي الشيخ الطوسي(1) انّهم مرّوا بجنازة أمير المؤمنين عليه‏السلام بقائم الغريّ ـ وهو بناء عتيق يشبه العمود ويقال له العلم أيضا ـ فانحنى القائم لتعظيم جثمان أمير المؤمنين عليه‏السلام واحترامه ، كما انحنى سرير أبرهة لعبد المطلب حينما دخل عليه . والان بني مسجدٌ مكان ذلك القائم يسمّى بمسجد الحنّانة في شرق النجف .

        فلمّا انتهت الجنازة الى القبر فاذا مقدمها قد وضع ، فوضع الحسن عليه‏السلام مؤخرها ، ثم قام وصلّى عليه والجماعة خلفة ، فكبّر سبعا كما أمره أبوه عليه‏السلام ، ثم زحزح السرير وكشف التراب ، فاذا بقبر محفور ولحد مشقوق وساجة منقودة مكتوب عليها :

بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم

        هذا ما حفره نوح النبي لعليّ وصي محمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قبل الطوفان بسبعمائة عامة .         وفي رواية أخرى كان مكتوب عليها : « هذا ما ادّخره له جدّه نوح النبي للعبد لصالح الطاهر المطهر » .

        فلمّا أرادوا نزوله سمعوا هاتفا يقول : « أنزلوه الى التربة الطاهرة فقد اشتاق الحبيب الى الحبيب » . وأيضا نادى مناد : « أحسن اللّه‏ لكم العزاء في سيدكم وحجة اللّه‏ على خلقه » .

        وعن الباقر عليه‏السلام قال : دفن عليه‏السلام بناحية الغريين ، ودفن قبل طلوع الفجر ، ودخل

 

(1) مضمون النص .
(173)

 

قبره الحسن والحسين ومحمد بنو عليّ بن أبي طالب عليه‏السلام وعبد اللّه‏ بن جعفر(1) .

        ثم أخذ اللبنة من عند الرأس بعد ما أشرجا عليه اللبن ، فاذا ليس في القبر شيء فاذا هاتف يهتف : أمير المؤمنين عليه‏السلام كان عبدا صالحا ، فألحقه اللّه‏ بنبيّه وكذلك يفعل بالاوصياء بعد الانبياء ، حتى لو أنّ نبيّا مات بالمشرق ومات وصيّه بالمغرب لألحق الوصي بالنبي .

        وروى صاحب كتاب مشارق الأنوار عن الحسن عليه‏السلام انه قال : قال أمير المؤمنين لنا : اذا وضعتماني في الضريح فصليا ركعتين قبل أن تهيلا عليّ التراب ، وانظرا ما يكون ، فلما وضعاه في الضريح المقدّس فعلا ما أُمرا به ، ونظرا فاذا بالضريح مغطّي بثوب من سندس ، فكشف الحسن عليه‏السلام مما يلي وجه أمير المؤمنين ، فوجد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وآدم وابرهيم يتحدّثون مع أمير المؤمنين عليه‏السلام ، وكشف الحسين عليه‏السلام ممّا يلي رجليه فوجد الزهراء وحوّاء ومريم وآسية (عليهن السلام) ينحن على أمير المؤمنين ويندبنه(2) .

        لمّا ألحد أمير المؤمنين عليه‏السلام وقف صعصعة بن صوحان العبدي رضى‏الله‏عنه على القبر ، ووضع إحدى يديه على فؤاده والأخرى قد أخذ بها التراب ويضرب به رأسه ، ثم قال :

        بأبي أنت وأمّي يا أمير المؤمنين! ... هنيئا لك يا ابا الحسن ، فقد طاب مولدك ، وقوي صبرك ، وعظم جهادك ، وظفرت برأيك ، وربحت تجارتك ، وقدمت على خالقك ، (فكان يكرر من قبيل هذه الكلمات) حتى بكى بكاءا شديدا وأبكى كل من كان معه ، وعدلوا الى الحسن والحسين ومحمد وجعفر والعباس ويحيى وعون وعبد اللّه‏ عليهم‏السلام فعزّوهم في ابيهم صلوات اللّه‏ عليه .

        ثم رجع أولاد أمير المؤمنين عليه‏السلام وشيعتهم الى الكوفة ، فلما طلع الصبح وبزغت الشمس أخرجوا تابوتا من دار أمير المؤمنين عليه‏السلام وأتوا به الى المصلّى بظاهر الكوفة ثم تقدم الحسن عليه‏السلام وصلّى عليه ، وحمله على ناقة وسيّرها الى المدينة(3) .

        وقيل : قد أنشد عبد اللّه‏ بن عباس هذه الأشعار في رثاء أمير المؤمنين عليه‏السلام :

 وهزّ عليّ بالعراقين لحيته

 مصيبتها جلّت على كل مسلم

 وقال سيأتيها من اللّه‏ نازل

 ويخضبها أشقى البريّة بالدم

 فعاجله بالسيف شلّت يمينه

 لشومٌ قطام عند ذاك إبن ملجم

 فيا ضربةً من خاسر ضلّ سعيه

 تبوّء منها مقعدا في جهنّم

 

 

(1) فرحة الغري : 51 .
(2) البحار 42:301 .
(3) تمام هذه الرواية في البحار 42:295 ، وقد ذكرناها بتغيير واختلاف حسب ما أورده المؤلّف (قدّس اللّه‏ روحه) .
(174)

 

 ففاز أمير المؤمنين بحظّه

 وان طرقت احدى الليالي بمعظم

 ألا انّما الدنيا بلاءٌ وفتنةٌ

 حلاوتها شيبت بصبرٍ وعلقمٍ

        وقيل : انّه لما وصل خبر استشهاد أمير المؤمنين عليه‏السلام الى معاوية ، قال : انّ الاسد الذي كان يفترش ذراعيه في الحرب قد قضى نحبه ، ثم تمثل بهذا الشعر وقال :

 قل للأرانب ترعى أينما سرحت

 وللظباء بلاخوف ولا وجل

        وروى الشيخ الكليني وإبن بابويه (رحمهما اللّه‏) وغيرهما بأسانيد معتبرة انّه :

        لمّا كان اليوم الذي قبض فيه أمير المؤمنين عليه‏السلام ارتجّ الموضع بالبكاء ، ودهش الناس كيوم قبض النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وجاء رجل باكيا وهو مسرع مسترجع وهو يقول :

        (انّا للّه‏ وانّا اليه راجعون) اليوم انقطعت خلافة النبوة ، حتى وقف على باب البيت الذي فيه أمير المؤمنين عليه‏السلام ، فقال : رحمك اللّه‏ يا أبا الحسن ، كنت اول القوم إسلاما ... (وذكر كثير من فضائله عليه‏السلام ) . وسكت القوم حتى انقضى كلامه وبكى وبكى اصحاب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ثم طلبوه فلم يصادفوه(1) .

        يقول المؤلف : كان ذلك الرجل الهرم الخضر عليه‏السلام ، وقد ذكرتُ كلماته التي تكون بمنزلة الزيارات لأمير المؤمنين عليه‏السلام في كتابي الموسوم بالهديّة في باب زياراته عليه‏السلام ولم يسع هذا المختصر ذكره .

 

(1) الكافي 1:378 ، كمال الدين 2:387 ، وعنهما في البحار 42:303 ـ 305 .
(175)

 

الفصل الخامس

في بيان قتل إبن ملجم اللعين على يد الامام الحسن عليه‏السلام

        لما دفن الحسن عليه‏السلام أباه بالنجف ورجع الى الكوفة ، رقى المنبر في جمع من شيعة أبيه عليه‏السلام فأراد الكلام فخنقته العبرة ، فقعد ساعة ثم قام وخطب خطبة في غاية الفصاحة والبلاغة . وملخّصها انّه قال بعد الثناء على اللّه‏ وحمده وتسبيحه :

        الحمد للّه‏ الذي أحسن الخلافة علينا أهل البيت ، وعنده نحتسب عزانا في خير الاباء رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وعند اللّه‏ نحتسب عزانا في أمير المؤمنين عليه‏السلام ، ولقد أصيب به الشرق والغرب ، واللّه‏ ما خلّف درهما ولا دينارا الاّ أربعمائة درهم ، أراد أن يبتاع لأهله خادما .

        (وسيأتيفي أحوال الحسن عليه‏السلام ذكر خطبته أطول مما ذكرنا ، وفيها انّ أمير المؤمنين عليه‏السلام خلّف سبعمائة درهم ليبتاع لأهله خادما ـ الخ) .

         ... ولقد حدّثني حبيبي جدّي رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله انّ الامر يملكه اثنا عشر اماما من أهل بيته وصفوته ، ما منّا الاّ مقتول أو مسموم(1) .

        ثم نزل عن منبره ودعا بابن ملجم وسأله عن سبب قتله لأمير المؤمنين عليه‏السلام فأجاب اللعين : انّي عاهدت اللّه‏ وجعلت في ذمّتي قتل أبيك ، فوفّيت بعهدي ، فان شئت الان أن أذهب الى الشام وأقتل معاوية وأريحك منه ثم ارجع إليك كي تفعل بي ما تشاء . فقال الحسن عليه‏السلام : هيهات ، واللّه‏ لا تشرب الماء البارد قط حتى تلحق روحك بجهنّم .

        وفي فرحة الغري انّه : لمّا جيء بابن ملجم الى الحسن عليه‏السلام قال : انّي أريد أن أسارّك بكلمة فأبى الحسن عليه‏السلام وقال : انّه يريد أن يعض أذني ، فقال إبن ملجم : واللّه‏ لو أمكنني منها لأخذتها من صماخه(2) .

        فأخذه عليه‏السلام وضربه ضربة كما وصّاه أبيه ، فذهب اللعين الى جهنّم وبئس المصير وفي رواية أمر بقطع رأسه . فاستدعت أم الهيثم بنت الاسود جثته الخبيثة فأحرقتها .

        يقول المؤلف : يظهر من هذه الرواية انّه كان قتل إبن ملجم اللعين ، وذهابه الى بئس المصير في اليوم الحادي والعشرين من شهر رمضان ، اليوم الذي استشهد فيه

 

(1) البحار 43:363 .
(2) فرحة الغري : 19 ، وعنه في البحار 42:307 .
(176)

 

أمير المؤمنين ، وتؤيد هذا المطلب رواية أخرى وجدت في بعض الكتب القديمة انّه لمّا دفن أمير المؤمنين عليه‏السلام جاءت أم كلثوم الى أخيها الحسن عليه‏السلام وأقسمت عليه أن لا يترك الملعون في الحياة ساعة واحدة(1) .

        فيظهر من هذه الكلمات انّ ما اشتهر بين الناس من انّ إبن ملجم قُتِلَ في اليوم السابع والعشرين ، ليس له مستند ولا مدرك صحيح .

        وروى إبن شهر آشوب وغيره انّه : قذفت عظام إبن ملجم اللعين في حفرة ، وكان أهل الكوفة يسمعون دائما صوت الأنين من تلك الحفرة(2) .

        وحكاية خبر الراهب عن عذاب إبن ملجم في الدنيا بتقييء الطير ايّاه أربع مرّات ثم بلعه بعد تقطيعه ، وفعله به هكذا دائما على صخرة في وسط البحر مشهورة ، وفي الكتب المعتبرة مسطورة .

        وقال المؤرخ الأمين المسعودي : لمّا أرادوا قتل إبن ملجم لعنه اللّه‏ ، قال عبد اللّه‏ بن جعفر : دعوني حتى أشفي نفسي منه ، فقطع يديه ورجليه ، وأحمى له مسمارا حتى اذا صار جمرة كحله به ، فقال : « سبحان اللّه‏ الذي خلق الانسان ، انّك لتكحل عمّك بملمول الرصاص » .

        ثم انّ الناس أخذوه وأدرجوه في بواري ، ثم طلوها بالنفط واشعلوا فيها النار فاحترق(3) .

* * *

 

(1) البحار 42:297 .
(2) راجع المناقب 2:387 .
(3) مروج الذهب 2:414 ، وقال عمران إبن حطان الرقاشي في مدح إبن ملجم عليهما لعائن للّه‏ :
 يا ضربة من تقي ما أراد بها
 الاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا
 انّي لأذكره يوما فاحسبه
 أوفى البرية عند اللّه‏ ميزانا
        فأجابه القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد اللّه‏ الشافعي :
 انّي لا براء مما أنت قائله
 عن إبن ملجم الملعون بهتانا
 يا ضربة من شقي ما أراد بها
 الاّ ليهدم للاسلام أركانا
 انّى لأذكره يوما فألعنه
 دنيا والعن عمرانا وحطّانا
 عليه ثم عليه الدهر متصلاً
 لعائن اللّه‏ إسرارا وإعلانا
 فانتما من كلاب النار جاء به
 نص الشريعة برهانا وتبيانا
(منه رحمه‏الله )
(177)

 

الباب الرابع

في بيان ولادة السبط الأكبر ثاني أئمة الهدى وقرّة عين محمد المصطفى صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الإمام الحسن المجتبى عليه‏السلام وبيان شهادته

(178)

 

(179)

 

الفصل الاول

في بيان ولادته عليه‏السلام

        المشهور انّ ولادة الامام الحسن عليه‏السلام كانت في ليلة الثلاثاء ليلة النصف من شهر رمضان المبارك ، في السنة الثالثة للهجرة ، وقيل في السنة الثانية .

        اسمه الشريف الحسن وفي التوراة (شبّر) لانّ شبّر في اللغة العبرية بمعنى الحسن ، وكان اسم أكبر ولد هارون النبي ايضا شبّر وكنيته الشريفة أبو محمد ، والقابه الكريمة السيد ، والسبط ، والامين ، والحجة ، والبرّ ، والنقيّ ، والزكي ، والمجتبى والزاهد .

        روى إبن بابويه بأسانيد معتبرة عن الامام زين العابدين عليه‏السلام انّه قال : لمّا ولدت فاطمة الحسن عليه‏السلام قالت لعليّ عليه‏السلام : سمّه ، فقال : ما كنت لأسبق باسمه رسول اللّه‏ ، فجاء رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فأخرج إليه في خرقة صفراء ، فقال :

        « ألم أنهكم أن تلفوه في خرقة صفراء » ، ثم رمى بها وأخذ خرقة بيضاء فلفّه فيها ، ثم قال لعليّ عليه‏السلام : هل سمّيته ؟ فقال : ما كنت لأسبقك باسمه ، فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : وما كنت لأسبق باسمه ربّي عزّوجل ، فأوحى اللّه‏ تبارك وتعالى الى جبرئيل انّه قد ولد لمحمد إبن فاهبط فاقرأه السلام وهنئه وقل له : انّ عليّا منك بمنزلة هارون من موسى ، فسمّه باسم إبن هارون ، فهبط جبرئيل عليه‏السلام فهنّاه من اللّه‏ عزوجل ، ثم قال : انّ اللّه‏ تبارك وتعالى يأمرك أن تسميه باسم هارون ، قال : وما كان اسمه ؟ قال : شبّر ، قال : لساني عربيّ ، قال : سمّه الحسن ، فسمّاه الحسن .

        فلمّا ولد الحسين عليه‏السلام أوحى اللّه‏ عزوجل الى جبرئيل عليه‏السلام : انّه قد ولد لمحمّد إبن ، فاهبط إليه فهنّئه وقل له انّ عليّا منك بمنزلة هارون من موسى فسمّه باسم إبن هارون ، قال : فهبط جبرئيل عليه‏السلام فهنّأه من اللّه‏ تبارك وتعالى ، ثم قال : انّ عليّا منك بمنزلة هارون من موسى فسمّه باسم إبن هارون ، قال : وما اسمه ؟ قال : شبير ، قال : لساني عربيّ ، قال : سمّه الحسين ، فسمّاه الحسين(1) .

        وروى الشيخ الجليل عليّ بن عيسى الاربلي رحمه‏الله في كشف الغمّة : كان الحسن بن عليّ عليه‏السلام أبيض مشربا حمرة ، أدعج العينين ، سهل الخدّين ، دقيق المسربة ، كثّ اللحية ، ذا وفرة ، وكأنّ عنقه ابريق فضة ، عظيم الكراديس(2) ، بعيد ما بين المنكبين ،

 

(1) أمالي الصدوق : 116 ، المجلس رقم 28 ، ح 3 ، عنه في البحار 43:238 .
(2) الكراديس : رؤوس العظام .
(180)

 

ربعة ليس بالطويل ولا القصير ، مليحا ، من أحسن الناس وجها ، وكان يخضب بالسواد ، وكان جعد الشعر ، حسن البدن(1) .

        وروي ايضا عن الامام علي عليه‏السلام قال : أشبه الحسن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ما بين الصدر الى الرأس ، والحسين أشبه النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ما كان أسفل من ذلك(2) .

        وروى ثقة الاسلام الكليني رحمه‏الله بسند معتبر عن الحسين بن خالد ، قال :

        سألت أبا الحسن الرضا عليه‏السلام عن التهنئة بالولد متى ؟ فقال : انّه قال : لمّا ولد الحسن بن عليّ هبط جبرئيل بالتهنئة على النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في اليوم السابع ، وأمره أن يسمّيه ويكنّيه ويحلق رأسه ويعق عنه ويثقب أذنه ، وكذلك كان حين ولد الحسين عليه‏السلام أتاه في اليوم السابع بمثل ذلك ، قال : وكان لهما ذُؤابتان في القرن الأيسر ، وكان الثقب في الأُذن الُيمنى في شحمة الأذن وفي اليسرى في أعلى الاذن ، فالقرط في اليمنى ، والشنف في اليسرى ، وقد روى انّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ترك لهما ذؤابتين في وسط الرأس وهو أصح من القرن(3) .

الفصل الثاني

في بيان مختصر من فضائل ومكارم أخلاق الامام الحسن عليه‏السلام

        روى صاحب كتاب كشف الغمّة عن كتاب حلية الاولياء انه قال : رأيت رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله واضعا الحسن على عاتقه وقال : من أحبّني فليحبّه ، وروي عن أبي هريرة قال : « ما رأيت الحسن قط الاّ فاضت عيناي دموعا ، وذلك انّه أتى يوما يشتدّ حتى قعد في حجر النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ورسول اللّه‏ يفتح فمه ثم يدخل فمه في فمه ويقول : اللهم انّي أحبه وأحبّ من يحبّه ، يقولها ثلاث مرّات »(4) .

        وقال إبن شهر آشوب : جاء في اكثر التفاسير انّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كان يعوّذهما بالمعوذتين ولهذا سمّيت المعوذتين(5) .

        وروى عن أبي هريرة انّه قال : رأيت النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يمصّ لعاب الحسن والحسين كما يمص الرجل التمرة(6) .

 

(1) كشف الغمة 2:171 ، عنه في البحار 44:137 .
(2) كشف الغمّة 2:169 ، عنه في البحار 43:301 ، مع اختلاف ما .
(3) الكافي 6:33 ، عنه في البحار 43:257 ، ح 40 .
(4) كشف الغمة 2:188 ، عنه في البحار 43:266 ، ح 23 .
(5) المناقب 3:384 ، عنه في البحار 43:282 ، ضمن حديث رقم 49 .
(181)

 

        وفي رواية انّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كان يصلّي فجاء الحسن والحسين عليهماالسلام فارتدفاه ، فلمّا رفع رأسه أخذهما أخذا رفيقا ، فلمّا عاد عادا ، فلمّا انصرف أجلس هذا على فخذه الايمن وهذا على فخذه الأيسر ، ثم قال : من أحبّنى فليحب هذين(1) .

        وروي ايضا عن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله انّه قال : انّ الحسن والحسين شنفا العرش ، وانّ الجنّة قالت : يا رب أسكنتني الضعفاء والمساكين ، فقال لها اللّه‏ تعالى : ألا ترضين انّي زيّنت أركانك بالحسن والحسين ... فماست (الجنّة) كما تميس العروس فرحا(2) .

        وروي عن أبي هريرة انّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله سمع بكاء الحسن والحسين وهو على المنبر فقام فزعا (فأسكتهما) ثم قال : أيّها الناس ما الولد الاّ فتنة لقد قمت اليهما وما معي عقلي(3) .

        وقد كثرت الروايات في كتب الخاصة والعامة في باب محبّة النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله للحسنين عليهماالسلام كوضعهما على كتفه ، والأمر بحبهما ، وقوله : انّ الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة ، وانّهما ريحانتاه ، وسيأتي في باب أحوال الامام الحسين عليه‏السلام أحاديث اخر تناسب المقام .

        وجاء في حلية أبي نعيم انّه : كان النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يصلّي بنا وهو ساجد ، فيجيء الحسن وهو صبيٌ صغير حتى يصير على ظهره أو رقبته فيرفعه رفعا رفيقا ، فلمّا صلّى صلاته قالوا : يا رسول اللّه‏ انّك لتصنع بهذا الصبي شيئا لم تصنعه بأحد .

        فقال : انّ هذا ريحانتي ، وانّ هذا سيد وعسى اللّه‏ ان يصلح به بين فئتين من المسلمين(4) .

        وروى الصدوق عن الصادق عليه‏السلام انّه قال : حدثني أبي عن أبيه عليهماالسلام انّ الحسن بن علي بن أبي طالب عليهماالسلام كان أعبد الناس في زمانه وأزهدهم وأفضلهم ، وكان اذا حجّ حج ماشيا وربما مشى حافيا ، وكان اذا ذكر الموت بكى ، واذا ذكر القبر بكى ، واذا ذكر البعث والنشور بكى ، واذا ذكر الممرّ على الصراط بكى ، واذا ذكر العرض على اللّه‏ (تعالى ذكره) شهق شهقة يغشى عليه منها .

        وكان اذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربّه عزوجل ، وكان اذا ذكر الجنّة والنار اضطرب اضطراب السليم ، ويسأل اللّه‏ الجنّة ويعوذ به من النار ، وكان عليه‏السلام لا يقرأ من كتاب اللّه‏ : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » الاّ قال : « لبيك اللهم لبيك » ولم ير في شيء من

 

(1) المناقب 3:385 ، عنه في البحار 43:284 ، ح 50 .
(2) البحار 43:275 ، ح 43 و 44 .
(3) البحار 43:275 ، ح 43 و44 ، الارشاد للمفيد 2:127 .
(4) المناقب 3:385 ، عنه في البحار 43:284 ، ح 50 .
(5) حلية الاولياء 2:35 .
(182)

 

أحواله الاّ ذاكرا للّه‏ سبحانه ، وكان أصدق الناس لهجة وأفصحهم منطقا ...(1)

        وروي في كتاب المناقب لابن شهر آشوب وروضة الواعظين : انّ الحسن بن عليّ عليه‏السلام كان اذا توضّأ ارتعدت مفاصله ، واصفرّ لونه ، فقيل له في ذلك ، فقال : حقٌ على كلّ من وقف بين يدي ربّ العرش أن يصفر لونه وترتعد مفاصله(2) .

        وكان عليه‏السلام اذا بلغ باب المسجد رفع رأسه وقال : « الهي ضيفك ببابك ، يا محسن قد أتاك المسيء ، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم »(3) .

        وروي ايضا عن الصادق عليه‏السلام : انّ الحسن بن عليّ عليهماالسلام حجّ خمسا وعشرين حجّة ماشيا ، وقاسم اللّه‏ تعالى (ماله) مرتين وفي خبر قاسم ربّه ثلاث مرّات(4) .

        ومن حلمه ما روي عن الكامل للمبرد وغيره أنّ شاميّا رآه راكبا فجعل يلعنه والحسن لا يردّ ، فلما فرغ أقبل الحسن عليه‏السلام فسلّم عليه وضحك فقال : ايها الشيخ أظنّك غريبا ولعلّك شبّهت ، فلو استعتبتنا أعتبناك ، ولو سألتنا أعطيناك ، ولو استرشدتنا أرشدناك ، ولو استحملتنا أحملناك ، وان كنت جائعا أشبعناك ، وان كنت عريانا كسوناك ، وان كنت محتاجا أغنيناك ، وان كنت طريدا آويناك ، وان كان لك حاجة قضيناها لك ، فلو حرّكت رحلك الينا وكنت ضيفنا الى وقت ارتحالك كان أعود عليك ، لانّ لنا موضعا رحبا وجاها عريضا ومالاً كثيرا .

        فلمّا سمع الرجل كلامه بكى ، ثم قال : أشهد انّك خليفة اللّه‏ في أرضه ، اللّه‏ أعلم حيث يجعل رسالته ، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق اللّه‏ اليّ ، والان أنت أحبّ خلق اللّه‏ اليّ ، وحوّل رحله إليه وكان ضيفه الى ان ارتحل وصار معتقدا لمحبّتهم(5) .

        وروى الشيخ رضي الدين عليّ بن يوسف بن المطهر الحلّي انّه : وقف رجل على الحسن بن عليّ عليهماالسلام : فقال : يا إبن أمير المؤمنين بالذي أنعم عليك بهذه النعمة التي ما تليها منه بشفيع منك إليه ، بل انعاما منه عليك الاّ ما أنصفتني من خصمي فانّه غشوم ظلوم ، لا يوقّر الشيخ الكبير ، ولا يرحم الطفل الصغير .

        وكان عليه‏السلام متكئا فاستوى جالسا وقال له : من خصمك حتى أنتصف لك منه ؟ فقال له : الفقر ، فأطرق رأسه ساعة ثم رفع رأسه الى خادمه وقال له : احضر ما عندك من موجود ، فأحضر خمسة آلاف درهم ، فقال : ادفعها إليه ، ثم قال له : بحقّ هذه الأقسام التي أقسمت بها عليّ متى أتاك خصمك جائرا الاّ ما أتيتني منه متظلّما(6) .

 

(1) أمالي الصدوق : 150 ، رقم 33 ، ح 8 ، عنه في البحار 43:331 ، ح 1 .
(2) المناقب 4:14 .
(3) المناقب لابن شهر آشوب 4:17 .
(4) المصدر نفسه 4:18 .
(5) الكامل في اللغة والادب 1:325 ، باختصار ـ عنه في البحار 43:344 .
(183)

 

        وحكي أنّ رجلاً جاء الى الامام الحسن عليه‏السلام فشكى حاله وعسره وأنشد :

 لم يبق لي شيء يباع بدرهم

 يكفيك منظر حالتي عن مخبري

 الاّ بقايا ماء وجه صنته

 الا يباع وقد وجدتك مشتري

        فدعا الامام عليه‏السلام خازنه وقال له : كم عندك من المال ؟ قال : اثنا عشر الف درهم ، فأمره بدفعها الى الفقير وانّه يستحي منه فقال الخازن : اذا لم يبق شيء عندنا للنفقة ، فأمره مرّة ثانية باعطائها إليه وحسن الظنّ باللّه‏ ، فدفع المال إليه واعتذر الامام عليه‏السلام منه وقال : انّا لم نوف حقّك لكن بذلنا لك ما كان عندنا ثم أنشد :

 عاجلتنا فأتاك وابل برّنا

 طلاّ ولو امهلتنا لم تمطر

 فخذ القليل وكن كأنّك لم تبع

 ما صنته وكأننا لم نشتر(1)

        وروى العلامة المجلسي عن بعض كتب المناقب المعتبرة ، باسناده عن نجيع قال : رأيت الحسن إبن عليّ عليهماالسلام يأكل وبين يديه كلب كلما اكل لقمة طرح للكلب مثلها ، فقلت له : يا بن رسول اللّه‏ ألا أرجم هذا الكلب عن طعامك ؟ قال : دعه انّي لأستحيي من اللّه‏ عزوجل أن يكون ذو روح ينظر في وجهي وأنا آكل ثم لا أطعمه .

        وروي أنّ غلاما له عليه‏السلام جنى جناية توجب العقاب ، فأمر به أن يضرب ، فقال : يا مولاي « والكاظمين الغيظ » قال : كظمتُ غيظي ، قال : « والعافين عن الناس » قال : عفوت عنك ، قال : يا مولاي « واللّه‏ يحبّ المحسنين » قال : أنت حرّ لوجه اللّه‏ ، ولك ضعف ما كنت أعطيك(2) .

        روى إبن شهر آشوب عن محمد بن اسحاق قال : ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ما بلغ الحسن ، كان يبسط له على باب داره فاذا خرج وجلس انقطع الطريق ، فما مرّ أحد من خلق اللّه‏ اجلالاً له ، فاذا علم قام ودخل بيته فمرّ الناس ، ولقد رأيته في طريق مكة ماشيا فما من خلق اللّه‏ أحد رآه الاّ نزل ومشى(3) .

        وروى إبن شهر آشوب ايضا أشعار عن الحسن عليه‏السلام منها :

 قل للمقيم بغير دار اقامة

 حان الرحيل فودع الأحبابا

 انّ الذين لقيتهم وصحبتهم

 صاروا جميعا في القبور ترابا(4)

        قال العلامة المجلسي في جلاء العيون : روى الشيخ الطوسي بسند معتبر عن الصادق عليه‏السلام انّه قال : كتب الى الحسن بن عليّ عليه‏السلام قوم من اصحابه يعزّونه عن ابنة له ،

 

(1) العدد القوية : 359 ، ح 23 ، اليوم الثامن والعشرون ، عنه في البحار 43:350 .
 (2) البحار 43:352 .
(3) البحار 43:352 .
(4) المناقب 4:7 ، عنه في البحار 43:338 .
(5) المناقب 4:15 ، عنه في البحار 43:340 .
(184)

 

فكتب اليهم :

        « أما بعد فقد بلغني كتابكم تعزّوني بفلانة ، فعند اللّه‏ أحتسبها تسليما لقضائه ، وصبرا على بلائه ، فان أوجعتنا المصائب وفجّعتنا النوائب بالأحبّة المألوفة التي كانت بنا حفيّة ، والاخوان المحبّين الذين كان يسرّ بهم الناظرون وتقرّ بهم العيون ، اضحوا قد اخترمتهم الأيّام ونزل بهم الحمام ، فخلّفوا الخلوف وأودت بهم الحتوف ، فهم صرعى في عساكر الموتى ، متجاورون في غير محلة التجاور ، ولا صِلاة بينهم ولا تزاور ، ولا يتلاقون عن قرب جوارهم ، أجسامهم نائية من أهلها خالية من أربابها .

        قد أخشعها اخوانها ، فلم أر مثل دارها دارا ، ولا مثل قرارها قرارا ، في بيوت موحشة ، وحلول مضجعة ، قد صارت في تلك الديار الموحشة ، وخرجت عن الدار المؤنسة ، ففارقتها من غير قلى ، فاستودعتها للبلى ، وكانت أمة مملوكة سلكت سبيلاً مسلوكة ، صار اليها الأوّلون وسيصير اليها الآخرون ، والسلام »(1) .

* * *

 

(1) أمالي الطوسي : 205 ، عنه في البحار 43:336 ، وجلاء العيون : 236 .
(185)

 

الفصل الثالث

في بيان بعض أحوال الامام الحسن المجتبى عليه‏السلام بعد استشهاد أبيه

أمير المؤمنين عليه‏السلام وفيه أيضا سبب صلحه مع معاوية

        اعلم انّه بعد ثبوت عصمة الائمة عليهم‏السلام وجلالتهم ، لابد من تسليم المؤمنين وانقيادهم لما يصدر عنهم ، وعدم الاعتراض والتشكيك عليها ، لانّ ما يفعلونه انّما هو من قبل اللّه‏ تعالى ، فالاعتراض عليهم اعتراض على اللّه‏ تعالى ، وفي رواية مضمونها : انّ اللّه‏ تعالى أنزل على رسوله صلى‏الله‏عليه‏و‏آله صحيفة من السماء عليها اثنا عشر ختما فكان كلّ امام يفتح الختم الذي يتعلق به ، ويعمل بما كتب فيها ، اذن كيف نفسح المجال لعقولنا الناقصة بالاعتراض عليهم وهم حجج اللّه‏ على الارض وخلفاؤه ، قولهم قول اللّه‏ وعملهم عمل اللّه‏ .

        روى الشيخ الصدوق والمفيد وغيرهما انّ أمير المؤمنين عليه‏السلام لما توفى قام الحسن عليه‏السلام فصعد المنبر ، وأنشأ خطبة بليغة تشتمل على ذكر معارف اللّه‏ وحقائقه فقال : نحن حزب اللّه‏ الغالبون ، وعترة رسوله الأقربون ، وأهل بيته الطيبون الطاهرون ، وأحد الثقلين الذين خلّفهما رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في أمته فقال : انّي تارك فيكم كتاب اللّه‏ وعترتي . والتالي كتاب اللّه‏ فيه تفصيل كلّ شيء لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فالمعوّل علينا في تفسيره لا نتظنّى تأويله بل نتيقّن حقائقه ، فأطيعونا فانّ طاعتنا مفروضة اذ كانت بطاعة اللّه‏ عزوجل ورسوله مقرونة .

        قال اللّه‏ عزوجل : « يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْآ أَطِيعُواْ اللّه‏َ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْءَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَزَعْتُمْ فِى شَىْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه‏ِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّه‏ِ وَالْيَوْمِ الاْءَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً »(1) .

        ثم قال عليه‏السلام : لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون بعمل ، ولا يدركه الآخرون بعمل ، لقد كان يجاهد مع رسول اللّه‏ فيقيه بنفسه ، وكان رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يوجّهه برايته ، فيكنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله ، ولا يرجع حتى يفتح اللّه‏ على يديه .

        ولقد توفى عليه‏السلام في الليلة التي عرج فيها بعيسى بن مريم ، والتي قبض فيها يوشع بن نون وصي موسى ، وما خلّف صفراء ولا بيضاء الاّ سبعمائة درهم فضلت عن عطائه أراد أن يبتاع بها خادما لأهله .

 

(1) النساء : 59 .
(186)

 

        ثم خنقته العبرة فبكى وابكى الناس معه ، ثم قال : أنا إبن البشير ، أنا ابن النذير ، أنا إبن الداعي الى اللّه‏ باذنه ، أنا إبن السراج المنير ، أنا من أهل بيت أذهب اللّه‏ عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، أنا من أهل بيت فرض اللّه‏ مودّتهم في كتابه فقال تعالى :

        « قُل لاَّآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرَا الاّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنا إِنَّ اللّه‏َ غَفُورٌ شَكُورٌ »(1) . فالحسنة مودتنا أهل البيت .

        ثم جلس ، فقام عبد اللّه‏ بن عباس بين يديه فقال : معاشر الناس هذا إبن بنت نبيّكم ووصيّ امامكم فبايعوه ، فاستجاب له الناس ، فقالوا : ما أحبّه الينا وما أوجب حقه علينا ، وبادروا الى البيعة له بالخلافة ، فشرط عليهم الحسن عليه‏السلام ان يكونوا صلحا لمن صالح وحربا لمن حارب ، فقبلوا ذلك منه .

        وكانت البيعة في يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة وكان عمره الشريف (37) سنة ، ثم نزل من المنبر فرتّب عماله وأمر الامراء ، وأنفذ عبد اللّه‏ بن عباس الى البصرة ونظر في الامور(2) .

        وطبقا لرواية الشيخ المفيد وغيره من المحدثين العظام انّه : لما بلغ معاوية بن أبي سفيان وفاة أمير المؤمنين عليه‏السلام وبيعة الناس ابنه الحسن دسّ رجلاً من حمير الى الكوفة ورجلاً من بني القين الى البصرة ليكتبا إليه بالاخبار ويفسدا على الحسن الامور .

        فعرف ذلك الحسن عليه‏السلام فأمر باستخراج الحميري من عند لحام بالكوفة ، فاخرج وأمر بضرب عنقه ، وكتب الى البصرة باستخراج القيني من بني سليم ، فاخرج وضربت عنقه ، وكتب الحسن عليه‏السلام الى معاوية : « أما بعد فانّك دسست الرجال للاحتيال والاغتيال ، وأرصدت العيون كأنّك تحب اللقاء ، وما اوشك ذلك فتوقعه انشاء اللّه‏ تعالى »(3) .

        فلمّا وصل الكتاب الى معاوية كتب في جوابه بما لا حاجة الى ذكره ، وكان بين الحسن عليه‏السلام وبينه بعد ذلك مكاتبات ومراسلات واحتجاجات ، حتى أرسل معاوية جيشا جرّارا نحو العراق ، وارسل جواسيسا الى الكوفة من المنافقين والخوارج الذين كانت طاعتهم لأمير المؤمنين عليه‏السلام خوفا على أنفسهم ورهبة من سيفه كعمر بن حريث ، والأشعث بن قيس ، وشبث بن ربعي وامثالهم من المنافقين الخونة .

        فكتب معاوية الى كل واحد من هؤلاء : انّك لو قتلت الحسن اعطيك (200) الف درهم ، وأزوّجك احدى بناتي ، وأجعلك أميرا على جيش من جيوش الشام ،

 

(1) الشورى : 23 .
(2) الارشاد : 188 مع اختلاف ما ، عنه البحار 43:362 ، ضمن حديث 4 .
(3) الارشاد : 188 .
(187)

 

فأغرى كثيرا من المنافقين بهذه الحيل ، وجعل قلوبهم تهوى إليه ولا تريد الحسن عليه‏السلام وتنفر منه ، حتى ان الامام عليه‏السلام أصيب بسهم من أحد هؤلاء الخوارج لكنه سلم منه .

        وكانوا يكتبون الرسائل الى معاوية خفيةً ، ويظهرون ودّهم له وموافقتهم معه ، فلمّا بلغ الحسن عليه‏السلام خروج معاوية الى العراق ، صعد المنبر فحمد اللّه‏ واثنى عليه ودعا الناس الى حربه ، وصدّه عن البلاد .

        لكنهم سكتوا جميعا ولم يتكلم منهم أحد ، فقام عديّ بن حاتم من بينهم فقال :

        « سبحان اللّه‏ ما أقبح هذا المقام ، ألا تجيبون امامكم وإبن بنت نبيكم! أين خطباء مصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الّدعة فاذا جدّ الجدّ فروّاغون كالثعالب ، أما تخافون مقت اللّه‏ ولا عنتها وعارها »(1) .

        فقام جمع آخر وقالوا كمقالته فقال عليه‏السلام : ان كنتم صادقين فالموعد ما بيني وبينكم معسكر النخيلة ، فوافوني هناك واللّه‏ ما وفيتم لمن كان خيرا منّي فكيف تفون لي ؟ وكيف أطمئنّ اليكم وأثق بكم ؟

        فركب عليه‏السلام بعد نزوله عن المنبر وركب معه من أراد الخروج ، وتخلّف عنه خلق كثير ، لم يفوا بما قالوه وبما وعدوه ، وغرّوه كما غرّوا أمير المؤمنين عليه‏السلام من قبله ، فقام عليه‏السلام خطيبا وقال :

        « قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي ، مع أي امام تقاتلون بعدي ؟ مع الكافر الظالم الذي لم يؤمن باللّه‏ ولا برسوله قطّ ، ولا أظهر الاسلام هو ولا بنو امية الا فرقا من السيف »(2) .

        ثم نزل المنبر ووجّه الى معاوية قائدا في أربعة الاف ، وكان من كندة اسمه الحكم ، وامره أن يعسكر بالانبار ولا يحدث شيئا حتى يأتيه أمره ، فلمّا توجّه الى الانبار ونزل بها وعلم معاوية بذلك ، بعث إليه رسلاً وكتب إليه معهم : « انّك ان اقبلت اليّ وليتك بعض كور الشام أو الجزيرة غير منفس عليك » وأرسل إليه بخمسمائة الف درهم ، فقبض الكندي ـ الملعون عدوّ اللّه‏ ـ المال وباع الآخرة بالدنيا وقلب على الحسن عليه‏السلام ، وصار الى معاوية في مائتي من خاصّته وأهل بيته .

        وبلغ الحسن عليه‏السلام ذلك فقام خطيبا ، فقال : « هذا الكندي توجّه الى معاوية وغدر بي وبكم ، وقد أخبرتكم مرّة بعد أخرى انّه لا وفاء لكم انتم عبيد الدنيا ، وانا موجّه رجل آخر مكانه وانا أعلم انه سيفعل بي وبكم ما فعل صاحبه لا يراقب اللّه‏ فيّ ولا فيكم »(3) .

 

 

(1) البحار 44:50 .
(2) الخرائج 2:574 ، عنه في البحار 44:43 .
(3) الخرائج 2:575 ، عنه البحار 44:44 .
(188)

 

        فبعث إليه رجلاً من مراد في اربعة الاف ، وتقدّم إليه بمشهد من الناس وتوكّد عليه ، وأخبره انّه سيغدر كما غدر الكندي ، فحلف له بالايمان التي لا تقوم لها الجبال انّه لا يفعل ، فلمّا ذهب قال الحسن عليه‏السلام : انّه سيغدر ، فكان كما قاله عليه‏السلام .

        فلمّا توجّه الى الانبار أرسل معاوية إليه رسلاً ، وكتب إليه بمثل ما كتب الى صاحبه ، وبعث إليه بخمسمائة الف درهم ، ومنّاه أي ولاية أحبّ من كور الشام أو الجزيرة ، فقلب على الحسن عليه‏السلام وأخذ طريقه الى معاوية ، ولم يحفظ ما أخذ عليه من العهود .

        وبلغ الحسن عليه‏السلام ما فعل المرادي فقام خطيبا وقال : « قد أخبرتكم مرّة بعد مرّة انكّم لا تفون للّه‏ بعهود ، وهذا صاحبكم المرادي غدر بي وبكم وصار الى معاوية »(1) .

        وبالجملة لما عزم الامام عليه‏السلام على الحرب خرج من الكوفة الى معسكر النخيلة ، وخلّف مكانه المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، وامره أن يحث الناس على الخروج والالتحاق به في المعسكر .

        فخرج الناس أفواجا إليه ، وسار الامام عليه‏السلام من النخيلة الى دير عبد الرحمن ، فمكث هناك ثلاثة ايام كي يتمّ الجيش ، فصاروا أربعين الف بين فارس وراجل ، فبعث عبيد اللّه‏ بن عباس وقيس بن سعد في اثني عشر الف رجل من دير عبد الرحمن الى حرب معاوية ، فقال عليه‏السلام : عبيد اللّه‏ أميركم فان اصيب ، فقيس بن سعد على الناس ، فان اصيب فسعيد بن قيس على الناس ، وأمر عبيد اللّه‏ ان يشاور قيسا وسعيدا .

        وخرج عليه‏السلام من هناك وتوجّه الى الساباط في المدائن ، فاراد امتحان واختبار اصحابه ، وانجلاء كفرهم ونفاقهم وعدم وفائهم ، فجمع الناس وحمد اللّه‏ واثنى عليه ثم قال :

        « أما بعد فو اللّه‏ انّي لأرجوا ان اكون قد أصبحت بحمد اللّه‏ ومنّه وأنا أنصح خلق اللّه‏ لخلقه ، وما اصبحت محتملاً على مسلم ضغينة ولا مريدا له بسوء ولا غائلة ، ألا وانّ ما تكرهون في الجماعة خير لكم ممّا تحبون في الفرقة . الا وانّي ناظر لكم خيرا من نظركم لأنفسكم ، فلا تخالفوا امري ولا تردّوا عليّ رأيي ، غفر اللّه‏ لي ولكم ، وأرشدني واياكم لما فيه المحبة والرضا »(2) .

        فنزل من المنبر ، وأخذ المنافقون ينظر بعضهم الى بعض وقالوا : ما ترونه يريد بما قال ، نظنّه واللّه‏ يريد أن يصالح معاوية ويسلّم الامر إليه ، فقام هؤلاء المنافقون وقد كان بعضهم على مذهب الخوارج باطنا وخفية فقالوا : « كفر واللّه‏ الرجل » .

        ثم شدّوا على فسطاطه وانتهبوه حتى أخذوا مصلاّه من تحته ، ثم شدّ عليه عبد

 

(1) الخرائج 2:575 .
(2) الارشاد : 189 ، عنه في البحار 44:46 .
(189)

 

الرحمن بن عبد اللّه‏ فنزع مطرفه عن عاتقه ، فبقى جالسا متقلدا السيف بغير رداء ، ثم دعا فرسه فركبه وأحدقت به طوائف من خاصته وشيعته ومنعوا من أراده بسوء ، فخرج عليه‏السلام الى المدائن ، فلمّا مرّ في مظلم ساباط بدر إليه رجل من بني اسد يقال له الجراح بن سنان ، فأخذ بلجام بغلته وبيده مغول وقال : « اللّه‏ اكبر أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل » .

        ثم طعنه في فخذه ، وقيل بحربة مسمومة على فخذه ، فشقّه حتى بلغ العظم ، ثم اعتنقه الحسن عليه‏السلام (من الوجع) وخرّا معا الى الارض ، فوثب إليه شيعة الامام فقتلوه وحملوا الامام عليه‏السلام على سرير الى المدائن ، وأنزلوه على سعد بن مسعود الثقفي ـ وكان عامل أمير المؤمنين عليّ عليه‏السلام بها فأقرّه الحسن عليه‏السلام على ذلك ـ وكان عمّ المختار .

        فجاء المختار إليه وقال : تعال نسلّم الحسن الى معاوية لعلّه يهب لنا ولاية العراق ، فقال سعد : ويل لك قبح اللّه‏ وجهك ورأيك ، انّي كنت والى أبيه والان واليه ، أفأنسى حق النعمة التي لهما عليّ ؟ وأسلم إبن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الى معاوية ؟

        فلما سمع الشيعة بذلك همّوا بقتل المختار لكن تركوه بشفاعة عمّه ، ثم جاء سعد بطبيب وبدأ باصلاح جرح الامام .

        وامّا غدر أصحابه فقد وصل الى مرتبة بحيث كتب جماعة من رؤساء القبائل وقوّاد الجيش الى معاوية بالسمع والطاعة له في السرّ ، واستحثّوه على المسير نحوهم ، وضمنوا له تسليم الحسن عليه‏السلام عند دنوّه منهم أو الفتك ، به فبلغ الحسن عليه‏السلام ذلك وورد عليه كتاب قيس بن سعد ، وكان قد أنفذه مع عبيد اللّه‏ بن عباس عند مسيره من الكوفة ليلتقي بمعاوية ويردّه عن العراق ، فوصل كتابه وفيه :

        انّهم نازلوا معاوية بقرية يقال لها الحبوبيّة بازاء مسكن ، وانّ معاوية أرسل الى عبيد اللّه‏ بن عباس يرغبه في المسير إليه ، وضمن له الف الف درهم يعجّل له منها النصف ويعطيه النصف الآخر عند دخوله الى الكوفة ، فانسل عبيد اللّه‏ في الليل الى معسكر معاوية في خاصته ، وأصبح الناس وقد فقدوا أميرهم .

        ثم صلّى بهم قيس بن سعد وخطب فقال : ان خان هذا الخائن امامه وغدر به ، فاثبتوا انتم ولا تغدروا واحذروا غضب اللّه‏ ورسوله وقاتلوا اعداء اللّه‏ ، فقبلوا ظاهرا ولكن كان ينسلّ في كلّ ليلة جمع منهم الى معاوية ويفرّون من جيش الامام الحسن عليه‏السلام .

        فادرك الامام الحسن عليه‏السلام فساد نيات القوم من خلال خذلانهم له وبما اظهروه من السب والتكفير له ، واستحلال دمه ونهب امواله ، ولم يبق معه من يأمن غوايله الاّ خاصته من شيعة ابيه وشيعته ، وهم جماعة لا تقوم لإجناد الشام ، فكتب إليه معاوية في الهدنة والصلح ، وأنفذ إليه بكتب أصحابه الذين ضمنوا له فيها الفتك به وتسليمه إليه .

        ثم كتب إليه معاوية : « يا إبن عمّ لا تقطع الرحم الذي بينك وبيني فانّ الناس قد

(190)

 

غدروا بك وبأبيك من قبلك »(1) .

        فلمّا رأى الامام رسائل أصحابه ، ورأى رغبة معاوية في الصلح واشتراطه له على نفسه اذا اجابه الى الصلح شروطا كثيرة وعقد له عقودا بها مصالح شاملة ، فلم يثق الحسن عليه‏السلام به وعلم باحتياله بذلك واغتياله له غير انّه لم يجد بدا من إجابته الى ما التمس من ترك الحرب وانفاذ الهدنة لما كان عليه اصحابه من النفاق ، ولو أراد الحرب لقتل هو وخاصته الذين كانوا معه ولم يبق منهم احد .

        قال العلامة المجلسي رحمه‏الله في جلاء العيون : لمّا وصلت رسالة معاوية الى الحسن عليه‏السلام ، ورأى الامام رسائل المنافقين من اصحابه إليه واطّلع على غدر عبيد اللّه‏ ، وضعف جيشه ونفاقهم ، قام وخطب فيهم لإتمام الحجة فقال : انّي لأعلم انكم غادرون ما بيني وبينكم ، انّ معسكري في الموضع الفلاني فوافوني هناك .

        فعسكر عليه‏السلام في الموضع عشرة ايام فلم يحضره الا اربعة الاف ، فصعد الامام المنبر وقال : يا عجباً من قوم لا حياء لهم ولا دين ، ويلكم انّ معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي ، وانّي أقدر أن أعبد اللّه‏ عزوجل وحدي ، ولكني كأنّي أنظر الى أبنائكم واقفين على أبواب ابنائهم ، يستسقونهم ويستطعمونهم بما جعله اللّه‏ لهم فلا يسقون ولا يطعمون ، واللّه‏ لو وجدت صابرين عارفين بحقّي غير منكرين ما سلّمت له هذا الامر لانّه محرم على بني اميّة ، فافٍّ وترحا يا عبيد الدنيا .

        ثم كتب الامام عليه‏السلام الى معاوية وأظهر رضاه بالصلح لكن بشروط ، فارسل إبن عمّه عبد اللّه‏ بن الحارث إليه كي يكتب كتاب الصلح فكتبا :

        « بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم ، هذا ما صالح عليه الحسن بن عليّ بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان ، صالحه على أن يسلّم إليه ولاية المسلمين على ان يعمل فيهم بكتاب اللّه‏ وسنة رسوله ، وليس لمعاوية ان يعهد الى احد من بعده عهدا ، على انّ الناس آمنون حيث كانوا من ارض اللّه‏ تعالى في شامهم ويمنهم وعراقهم وحجازهم .

        وعلى انّ أصحاب عليّ وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا ، وعلى معاوية بذلك عهد اللّه‏ وميثاقه ، وعلى ان لا يبغي للحسن بن عليّ ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من بيت رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله غائلة سوء سرّا وجهرا ، ولا يخيف أحدا منهم في أفق من الآفاق (وان يتركوا سبّ أمير المؤمنين عليه‏السلام في الصلاة كما كانوا يفعلون)(2) .

        فشهد عليه عبد اللّه‏ بن الحارث ، وعمرو بن سلمة ، وعبد اللّه‏ بن عامر ، وعبد الرحمن بن سمرة ، وغيرهم .

 

(1) الخرائج 2:575 .
(2) البحار 44:60 .
(191)

 

        فلمّا استتمت الهدنة على ذلك سار معاوية حتى نزل بالنخيلة ، وكان ذلك اليوم يوم الجمعة فصلّى بالناس ضحى النهار فخطبهم وقال في خطبته : انّي واللّه‏ ماقاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتزكوا ... ، ولكنّي قاتلتكم لأتأمرّ عليكم ، وقد أعطاني اللّه‏ ذلك وانتم له كارهون ، ألا وانّي منّيت الحسن وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها له(1) .

        ثم سار حتى قدم الكوفة ، فأقام بها أياما فلمّا استتمت البيعة له من اهلها التمس من الحسن عليه‏السلام أن يتكلم بجمع من الناس ويعلمهم انّ الخلافة حقّه ، فقام عليه‏السلام وصعد المنبر فحمد اللّه‏ واثنى عليه وصلى على نبيّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وأهل بيته ثم قال :

        « ايّها الناس انّ اكيس الكيس التقى ، وأحمق الحمق الفجور ، وانكم لو طلبتم بين جابلق وجابرس رجلاً جدّه رسول اللّه‏ ما وجدتموه غيري وغير أخي الحسين ، وقد علمتم انّ اللّه‏ هداكم بجدّي محمّد ، فأنقذكم من الضلالة ، ورفعكم به من الجهالة ، وأعزّكم بعد الذلة ، وكثركم بعد القلّة .

        وانّ معاوية نازعني حقا هو لي دونه ، فنظرت لصلاح الامة وقطع الفتنة ، وقد كنتم بايعتموني على ان تسالموا من سالمت وتحاربوا من حاربت ، فرأيت أن أسالم معاوية وأضع الحرب بيني وبينه ، وقد بايعته ورأيت أنّ حقن الدماء خير من سفكها ، ولم أرد بذلك الاّ صلحكم وبقاءكم ، وان أدري لعلّه فتنة لكم ومتاع الى حين »(2) .

        ثم صعد معاوية المنبر فخطب الناس وذكر أمير المؤمنين عليه‏السلام ونال منه ونال من الحسن عليه‏السلام ما نال ، فقام الحسين عليه‏السلام ليردّ عليه فأخذ بيده الحسن فأجلسه ، ثم قام فقال :

        « ايها الذّاكر عليّا أنا الحسن وأبي عليّ ، وأنت معاوية وأبوك صخر ، وأمي فاطمة وامّك هند ، وجدّي رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وجدّك حرب ، وجدّتي خديجة وجدّتك قتيلة ، فلعن اللّه‏ أخملنا ذكرا ، والأمنا حسبا ، وشرّنا قدما ، وأقدمنا كفرا ونفاقا »(3) .

        فقال أهل المسجد : آمين ، آمين .

        يقول المؤلف : وأنا أقول آمين ثم آمين ، ويرحم اللّه‏ عبدا قال آمين .

        وروي انّه لما وقعت المصالحة بين الامام الحسن عليه‏السلام وبين معاوية ، أراد معاوية اجبار الحسين عليه‏السلام على البيعة فقال له الحسن : « دعه فانّه لن يبايع حتى يُقتل ، ولن يُقتل حتى يُقتل معه كل أهل بيته ، ولن يُقتل أهل بيته حتى يقتلوا أهل الشام » .

        ثم دعا قيس بن سعد للبيعة ـ وكان رجلاً قويّا طويلاً يركب الفرس المشرف

 

(1) البحار 44:49 ، الارشاد 2:14 .
(2) البحار 44:65 .
(3) البحار 44:49 .
(192)

 

ورجلاه تخطان الارض ـ فقال قيس بن سعد لمّا جاء : حلفت أن لا ألقاه الاّ بيني وبينه الرمح والسيف ، فأمر معاوية برمح وسيف فوضعا على الارض بينهما ليبرّ بيمينه ، وكان قيس قد اعتزل في أربعة الاف ، وابى أن يبايع فلمّا سمع بالصلح جاء الى مجلس معاوية ، فانتبه الى الحسين عليه‏السلام وقال : أءبايع ؟ فأشار عليه‏السلام بيده الى الحسن فقال : انّ هذا امامي وهو ذو اختيار .

        فبايع قيس مكرها لكن من دون أن يضع يده في يده بل امتنع من رفعها إليه ، فنزل معاوية من الكرسي فمسح يده على يد قيس ، وفي رواية انّه بايع بعد ما أمره الحسن بذلك .

        روى الشيخ الطبرسي في الاحتجاج انّه : لمّا صالح الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهماالسلام معاوية بن أبي سفيان دخل عليه الناس ، فلامه بعضهم على بيعته فقال عليه‏السلام :

        « ويحكم ما تدرون ما عملت ، واللّه‏ للذي عملت لشيعتي خير مما طلعت عليه الشمس أو غربت ، ألا تعلمون انّي امامكم ومفترض الطاعة عليكم ، وأحد سيدي شباب أهل الجنة بنص من رسول اللّه‏ عليّ ؟ » .

        قالوا : بلى ، قال : أما علمتم أنّ الخضر لما خرق السفينة ، وأقام الجدار ، وقتل الغلام كان ذلك سخطا لموسى بن عمران عليه‏السلام اذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك ، وكان ذلك عند اللّه‏ تعالى ذكره حكمة وصوابا ؟ أما علمتم انّه ما منّا أحد الاّ ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه الاّ القائم (عجل اللّه‏ فرجه) الذي يصلي خلفه روح اللّه‏ عيسى بن مريم عليه‏السلام ، فانّ اللّه‏ عزوجل يخفي ولادته ويغيب شخصه لئلاّ يكون لأحد في عنقه بيعة اذا خرج ، ذاك التاسع من ولد أخي الحسين إبن سيدة الاماء ، يطيل اللّه‏ عمره في غيبته ، ثم يظهره بقدرته في صورة شاب دون أربعين سنة ، ذلك ليعلم انّ اللّه‏ على كلّ شيء قدير(1) .

* * *

 

(1) الاحتجاج 2:9 ، عنه في البحار 44:19 ، ح 3 .
(193)

 

الفصل الرابع

في بيان شهادة الامام الحسن المجتبى عليه‏السلام

        اعلم انّه وقع الخلاف في يوم استشهاد هذا الامام المظلوم ، قال البعض انّه في الشهر السابع من شهر صفر سنة خمسين للهجرة ، قال جمع آخر انّه في الثامن والعشرين من ذلك الشهر ، ووقع الخلاف ايضا في مدّة عمره الشريف ، والمشهور انه عليه‏السلام عمّر سبع و أربعين سنة ، كما روى صاحب كشف الغمّة عن إبن الخشاب عن الامام الباقر والصادق عليهماالسلام انّه قال :

        « مضى أبو محمد الحسن بن عليّ عليه‏السلام وهو إبن سبع واربعين سنة ، وكان بينه وبين اخيه الحسين مدّة الحمل ، وكان حمل أبي عبد اللّه‏ ستّة أشهر ، فأقام أبو محمد مع جدّه رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله سبع سنين ، وأقام مع ابيه بعد وفاة جدّه ثلاثين سنة ، وأقام بعد وفاة أمير المؤمنين عليه‏السلام عشر سنين »(1) .

        وروى القطب الراوندي عن الامام الصادق عليه‏السلام انّه قال : قال الحسن لأهل بيته : انّي أموت بالسم كما مات رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فقالوا : ومن يفعل ذلك ؟ قال : امرأتي جعدة بنت الاشعث بن قيس ، فانّ معاوية يدسّ اليها ويأمرها بذلك .

        قالوا : أخرجها من منزلك وباعدها من نفسك ، قال : كيف أخرجها ولم تفعل بعد شيئا ، ولو أخرجتها ما قتلني غيرها وكان لها عذر عند الناس ، فما ذهبت الايام حتى بعث اليها معاوية مالاً جسيما ، وجعل يمنّيها بأن يعطيها مائة الف درهم ايضا ويزوجها من يزيد ، وحمل اليها شربة سمّ لتسقيها الحسن .

        فانصرف عليه‏السلام الى منزله وهو صائم ، فأخرجت له وقت الافطار ـ وكان يوما حارّا ـ شربة لبن وقد ألقت فيها ذلك السمّ ، فشربها وقال : يا عدوّة اللّه‏ قتلتيني قتلك اللّه‏ ، واللّه‏ لا تصيبين منّي خلفا ، ولقد غرّك وسخر منك واللّه‏ يخزيك ويخزيه .

        (فاسترجع الامام عليه‏السلام وحمد اللّه‏ على نقله له من هذه الدنيا الى تلك الدنيا الباقية ولقائه جدّه وأبيه وعمّيه حمزة وجعفر) فمكث عليه‏السلام يومين ثم مضى ، فغدر معاوية بها ولم يف لها بما عاهد عليه(2) .

        وقال الشيخ المفيد رضوان اللّه‏ عليه : لما استقر الصلح بين الحسن عليه‏السلام وبين معاوية خرج الحسن عليه‏السلام الى المدينة ، فأقام بها كاظما غيظه ، لازما بيته ، منتظرا لأمر

 

(1) كشف الغمة 2:206 ، عنه في البحار 44:162 .
(2) الخرائج 1:241 ، عنه في البحار 44:153 .
(194)

 

ربه عزوجل ، الى ان تمّ لمعاوية عشر سنين من امارته ، وعزم على البيعة لابنه يزيد (وكان هذا الامر خلاف المعاهدة والمصالحة التي وقعت بين الحسن وبينه ، فكان يلاحظ ويخاف من الامام ويهابه ، فعزم على قتل الامام) .

        فدسّ الى جعدة بنت الاشعث بن قيس ، وكانت زوجة الحسن عليه‏السلام ، وحملها على سمّه (بالسم الذي ابتاعه من ملك الروم) وضمن لها ان يزوجها بابنه يزيد ، فأرسل اليها مائة الف درهم ، فسقته جعدة السمّ ، فبقي اربعين يوما مريضا ومضى لسبيله في شهر صفر سنة خمسين من الهجرة ، وله يومئذ ثمانية واربعون سنة وكانت خلافته عشر سنين .

        وتولى أخوه ووصيّه الحسين عليه‏السلام غسله وتكفينه ودفنه عند جدّته فاطمة بنت اسد بن هاشم بن عبد مناف (رضي اللّه‏ عنها) بالبقيع(1) .

        وروي في الاحتجاج للطبرسي انّه أتى الحسن بن عليّ عليهماالسلام رجل فقال : يا بن رسول اللّه‏ أذللت رقابنا وجعلتنا معشر الشيعة عبيدا ـ لبني أميّة ـ ما بقي معك رجل ، قال : ومم ذلك ؟ فقال : بتسليمك الامر لهذا الطاغية .

        قال : واللّه‏ ما سلّمت الأمر إليه الاّ انّي لم أجد أنصارا ، ولو وجدت أنصارا لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم اللّه‏ بيني وبينه ، ولكنّي عرفت أهل الكوفة وبلوتهم ، ولا يصلح لي منهم من كان فاسدا ، انّهم لا وفاء لهم ولا ذمّة في قول ولا فعل ، انّهم لمختلفون ويقولون لنا : انّ قلوبهم معنا وانّ سيوفهم لمشهورة علينا .

        فكان عليه‏السلام يتكلم إذ تنخع الدّم ، فدعا بطست فحمل من بين يديه مليء ما خرج من جوفه من الدم ، فقال الرجل : ما هذا يا بن رسول اللّه‏ انّي لأراك وجعا ؟

        قال : أجل ، دسّ اليّ هذا الطاغية من سقاني سما ، فقد وقع على كبدي وهو يخرج قطعا كما ترى ، قال : أفلا تتداوى ؟ قال عليه‏السلام : قد سقاني مرّتين وهذه الثالثة لا أجد لها دواء(2) .

        وروى صاحب كفاية الأثر بسند معتبر عن جنادة بن أبي أمية انّه قال :

        دخلت على الحسن بن عليّ عليه‏السلام في مرضه الذي توفي فيه ، وبين يديه طست يقذف عليه الدم ويخرج كبده قطعة قطعة من السمّ الذي أسقاه معاوية (لعنه اللّه‏) .

        فقلت : يا مولاي ما لك لا تعالج نفسك ؟ فقال : يا عبد اللّه‏ بماذا أعالج الموت ؟ قلت : إنّا للّه‏ وإنّا إليه راجعون ، ثم التفت اليّ ، فقال :

        واللّه‏ لقد عهد الينا رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله انّ هذا الأمر يملكه اثنا عشر اماما من ولد علي وفاطمة ما منّا الاّ مسموم أو مقتول ، ثم رفعت الطشت واتكى صلوات اللّه‏ عليه .

 

(1) الارشاد : 191 .
(2) الاحتجاج 2:12 ، البحار 44:147 .
(195)

 

        قال : فقلت له : عظني يا بن رسول اللّه‏ ، قال : نعم ، استعد لسفرك ، وحصّل زادك قبل حلول أجلك ، واعلم انّك تطلب الدنيا والموت يطلبك ، ولا تحمل همّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه ، واعلم انّك لا تكسب من المال شيئا فوق قوتك الاّ كنت فيه خازنا لغيرك .

        واعلم انّ في حلالها حساب ، وفي حرامها عقاب ، وفي الشبهات عتاب ، فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة ، خذ منها ما يكفيك ، فان كان ذلك حلالاً كنت قد زهدت فيها ، وان كان حراما لم يكن فيه وزر ، فأخذت كما أخذت الميتة ، وان كان العتاب فانّ العتاب يسير .

        واعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا ، واذا اردت عزّا بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان ، فأخرج من ذلّ معصية اللّه‏ الى عزّ طاعة اللّه‏ عزوجل ...

        فذكر عليه‏السلام من قبيل هذه المواعظ البليغة ، حتى انقطع نفسه واصفرّ لونه ، فدخل الحسين عليه‏السلام والأسود بن أبي الأسود ، فانكبّ عليه حتى قبّل رأسه وبين عينيه ، ثم قعد عنده فتسارا جميعا .

        فقال أبو الاسود : انا للّه‏ ، انّ الحسن قد نعيت إليه نفسه ، وقد أوصى الى الحسين عليه‏السلام (واعطاه ودائع الخلافة) وتوفّى يوم الخميس في آخر صفر سنة خمسين من الهجرة وله سبعة واربعون سنة (ودفن بالبقيع)(1) .

        ووفقا لرواية الشيخ الطوسي وغيره انّه : دخل الحسين بن عليّ على اخيه الحسن بن عليّ عليهماالسلام في مرضه الذي توفّي فيه ، فقال له : كيف تجدك يا أخي ؟

        قال : أجدني في اوّل يوم من ايام الآخرة وآخر يوم من ايّام الدنيا ، واعلم انّي لا أسبق أجلي ، وانّي وارد علي أبي وجدّي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله على كره منّي لفراقك وفراق اخوتك وفراق الأحبّة ، واستغفر اللّه‏ من مقالتي هذه وأتوب إليه بل على محبة منّي للقاء رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وامي فاطمة عليهماالسلام وحمزة وجعفر ، وفي اللّه‏ عزوجل خلف من كلّ هالك ، وعزاء من كلّ مصيبة ودرك من كلّ ما فات .

        رأيت يا أخي كبدي في الطشت ، ولقد عرفت من دها بي ومن أين أُتيت ، فما أنت صانع به يا أخي : فقال الحسين عليه‏السلام : أقتله واللّه‏ ، فقال : فلا أخبرك به أبدا حتى نلقى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ولكن اكتب يا أخي : « هذا ما أوصى به الحسن بن علي الى أخيه الحسين بن عليّ :

        أوصى انه يشهد أن لا إله الاّ اللّه‏ وحده لا شريك له ، وانّه يعبده حقّ عبادته ، لا شريك له في الملك ، ولا ولي له من الذلّ ، وانّه خلق كل شيء فقدّره تقديرا ، وانّه اولى من عُبد وأحق من حُمد ، من أطاعه رشد ، ومن عصاه غوى ، ومن تاب إليه اهتدى.

 

(1) كفاية الأثر : 226 ، عنه في البحار 44:138 ، ح 6 .
(196)

 

        فانّي أوصيك يا حسين بمن خلّفت من أهلي وولدي وأهل بيتك ان تصفح عن مسيئهم وتقبل من محسنهم ، وتكون لهم خلفا والدا ، وأن تدفنني مع رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فاني أحقّ به وببيته ممن ادخل بيته بغير أذنه ، ولا كتاب جاءهم من بعده .

        قال اللّه‏ تعالى فيما انزله على نبيّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في كتابه : « يَآأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلَّآ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ... »(1) .

        فو اللّه‏ ما أذن لهم في الدخول عليه في حياته بغير اذنه ، ولا جاءهم الاذن في ذلك من بعد وفاته ، ونحن مأذون لنا في التصرف فيما ورثناه من بعده .

        فان أبت عليك الامرأة فأنشدك اللّه‏ بالقرابة التي قرّب اللّه‏ عزوجل منك ، والرحم الماسّة من رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أن تهريق فيّ محجمة من دم ، حتى نلقى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فنختصم إليه ونخبره بما كان من الناس الينا بعده .

        (ووفقا لرواية الكافي وغيره قال عليه‏السلام : احملوا جنازتي وادفنوني هناك جنب أمّي فاطمة عليهاالسلام ، ثم قبض عليه‏السلام بعد اتمام وصاياه وذهب الى رضوان اللّه‏ ونعيمه) .

        قال إبن عباس : فدعاني الحسين بن عليّ عليه‏السلام وعبد اللّه‏ بن جعفر وعليّ بن عبد اللّه‏ بن العباس فقال : اغسلوا إبن عمكم فغسّلناه وحنّطناه وألبسناه اكفانه ، ثم خرجنا به حتى صلّينا عليه في المسجد ، وانّ الحسين أمر أن يفتح البيت ، فحال دون ذلك مروان بن الحكم وآل أبي سفيان ومن حضر هناك من ولد عثمان بن عفان وقالوا :

        « يدفن أمير المؤمنين (عثمان) الشهيد القتيل ظلما بالبقيع بشرّ مكان ، ويُدفن الحسن مع رسول اللّه‏ ؟ لا يكون ذلك ابدا حتى تكسر السيوف بيننا ، وتنقصف الرماح وينفد النبل » .

        فقال الحسين عليه‏السلام : « أما واللّه‏ الذي حرّم مكة ، للحسن بن علي وإبن فاطمة أحقّ برسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وبيته ممّن أدخل بيته بغير اذنه ، وهو واللّه‏ أحق به من حمّال الخطايا مسيّر أبي ذر رحمه‏الله ، الفاعل بعمّار ما فعل وبعبد اللّه‏ ما صنع ، الحامي الحمى ، المؤوي لطريد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، لكنّكم صرتم بعده الامراء وتابعكم على ذلك الاعداء وابناء الاعداء »(2) .

        ووفقاً لما جاء في روايات اُخر انّ مروان بن الحكم ركب بغلة واتى عائشة ، فقال لها : يا أمّ المؤمنين انّ الحسين يريد ان يدفن أخاه مع رسول اللّه‏ ، فالحقي به وامنعيه من أن يدفن معه ، قالت : وكيف ألحقه ؟ قال : اركبي بغلتي هذه ، فنزل عن بغلته وركبتها ، وكانت تؤزُّ الناس وبني اميّة على الحسين عليه‏السلام وتحرّضهم على منعه ممّا همّ به(3) .

 

(1) سورة : 53 .
(2) البحار 44:151 ، عن أمالي الطوسي .
(197)

 

        قال إبن عباس : وكنت أوّل من انصرف ، فسمعت الّلغط وخفت ان يعجّل الحسين على من قد أقبل ورأيت شخصا علمت الشرّ فيه ، فأقبلت مبادرا فاذا أنا بعائشة في أربعين راكبا على بغل مرحّل تقدمهم وتأمرهم بالقتال ، فلمّا رأتني قالت : اليّ اليّ يا بن عباس ، لقد اجترأتم عليّ في الدنيا تؤذونني مرّة بعد أخرى ، تريدون ان تدخلوا بيتي من لا أهوى ولا أحبّ(1) .

        فقلت : وا سوأتاه ، يوم على بغل ويوم على جمل ، تريدين أن تُطفئي نور اللّه‏ وتقاتلي أولياء اللّه‏ ، وتحولي بين رسول اللّه‏ وبين حبيبه أن يدفن معه(2) ، فجاءت الى قبر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فرمت بنفسها عن البغلة وقالت : واللّه‏ لا يدفن الحسن ههنا أبدا أو تجزّ هذه ، وأومت بيدها الى شعرها .

        وفي رواية مضمونها انّه : رموا جثمان الامام عليه‏السلام بالسهام حتى أخرج من جنازته سبعون سهما ، فأراد بنو هاشم المجادلة فقال الحسين عليه‏السلام : اللّه‏ اللّه‏ لا تضيّعوا وصيّة أخي ، فانّه أقسم عليّ ان أنا منعت من دفنه مع جدّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أن أخاصم فيه أحدا ، ولو لا وصيته لرأيتم كيف أدفنه في جنب النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ورغمت معطسكم ، فعدلوا به الى البقيع فدفنوه جنب جدّته فاطمة بنت أسد (رضي اللّه‏ عنها) .

        قال أبو الفرج : لمّا مات الحسن بن عليّ عليه‏السلام وأخرجوا جنازته حمل مروان سريره ، فقال له الحسين عليه‏السلام : أتحمل سريره ؟ أما واللّه‏ لقد كنت تجرعه الغيظ ، فقال مروان : انّي كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال(3) .

        وروى إبن شهر آشوب(4) : أنشد الحسين عليه‏السلام لمّا وضع الحسن عليه‏السلام في لحده :

 أأدهن رأسي أم أطيب محاسني

 ورأسك معفور وأنت سليب

 بكائي طويل والدموع غزيرة

 وأنت بعيد والمزار قريب

        وفي فضل البكاء عليه وزيارته ما رواه إبن عباس عن النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله انه قال :

        « ... فلا يزال الامر به حتى يقتل بالسمّ ظلما وعدوانا ، فعند ذلك تبكي الملائكة

 

(1) البحار 44:141 .
(2) البحار 44:152 عن أمالي الطوسي .
(3) ولنعم ما قال الصقري البصري :
 ويوم الحسن الهادي على بغلك أسرعت
 وبايعت ومانعت وخاصمت وقاتلت
 وفي بيت رسول اللّه‏ بالظلم تحكّمت
 هل الزوجة أولى بالمواريث من البنت
 لك التسع من الثمن وبالكلّ تصرفت
 تجمّلت تبغّلت وان عشت تفيّلت
(4) مقاتل الطالبيين : 49 ، البحرا 44:145 .
(5) المناقب 4:45 ، البحار 44:160 .
(198)

 

والسبع الشداد لموته ، ويبكيه كلّ شيء حتى الطير في جوّ السماء والحيتان في جوف الماء ، فمن بكاه لم تعم عينه يوم تُعمى العيون ، ومن حزن عليه لم يحزن قلبه يوم تحزن القلوب ، ومن زاره في بقيعه ثبتت قدمه على الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام »(1) .

 

(1) أمالي الصدوق ، المجلس الرابع والعشرون ، رقم 2 ، عنه في البحار 44:148 ، ضمن حديث 16 .
(199)

 

الباب الخامس

في بيان ولادة سيد الشهداء الامام أبي عبداللّه‏

الحسين عليه‏السلام وذكر شهادته

(200)

 

(201)

 

المقصد الأول

في ولادته وجملة من فضائله ومناقبه

(202)

 

(203)

 

الفصل الاول

في بيان ولادته عليه‏السلام

        المشهور انّ ولادة الحسين عليه‏السلام كانت في المدينة في الثالث من شهر شعبان ، وروى الشيخ الطوسي رحمه‏الله :

        انّه خرج الى القاسم بن العلاء الهمداني وكيل أبي محمد (الحسن العسكري) عليه‏السلام : انّ مولانا الحسين بن عليّ عليه‏السلام ولد يوم الخميس لثلاث خلون من شعبان ، فصمه وادع فيه بهذا الدعاء : « اللهم انّي أسألك بحق المولود في هذا اليوم ... الخ »

(1) .

        وقال إبن شهر آشوب : ولد الحسين عليه‏السلام عام الخندق في المدينة يوم الخميس أو يوم الثلاثاء لخمس خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة بعد أخيه بعشرة أشهر وعشرين يوما ، وروي انّه لم يكن بينه وبين أخيه الاّ الحمل ، والحمل ستة أشهر(2) .

        وذكر السيد ابن طاووس والشيخ ابن نما والشيخ المفيد في الارشاد(3) انّ ولادة الحسين عليه‏السلام تصادف الخامس من شعبان ، وذكر الشيخ المفيد في المقنعة ، والشيخ في التهذيب ، والشهيد في الدروس ، انّها كانت في آخر شهر ربيع الاول . وهذا يوافق ما رواه صاحب الكافي عن الصادق عليه‏السلام انّه : كان بين الحسن والحسين عليهماالسلام طهر ، وكان بينهما في الميلاد ستة أشهر وعشرا(4) . وبالجملة لهناك اختلاف كثير في يوم ولادته عليه‏السلام .

أما كيفية ولادته :

        روى الشيخ الطوسي رحمه‏الله وغيره بأسانيد معتبرة عن الامام الرضا عليه‏السلام انّه قال : ... قالت أسماء : فلمّا ولدت فاطمة الحسين عليهماالسلام نفستها به فجاءني النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فقال : هلمّ ابني يا أسماء ، فدفعته اليه في خرقة بيضاء ، ففعل به كما فعل بالحسن ، قالت : وبكى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ثم قال : انّه سيكون لك حديث ، اللهم العن قاتله ، لا تعلمي

 

(1) مصباح المتهجد : 758 .
(2) المناقب لابن شهر آشوب 4:76 .
(3) اللهوف لابن طاووس : 13 ، مثير الاحزان لابن نما : 16 ، الارشاد للمفيد : 198 .
(4) الكافي 1:385 ، باب مولد الحسين عليه‏السلام .
(204)

 

فاطمة بذلك .

        فقالت اسماء : فلمّا كان في يوم سابعه جائني النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فقال : هلمّي ابني فأتيته به ، فعقّ عنه كبشا أملح وأعطى القابلة الورك ورجلاً ، وحلق رأسه وتصدّق بوزن شعره ورقا (فضة) ، وخلّق رأسه بالخلوق ، ثم وضعه في حجره ، ثم قال :

        يا أبا عبد اللّه‏ عزيز عليّ (مقتلك) ، ثم بكى ، فقلت : بأبي أنت وأمي فعلت في هذا اليوم وفي اليوم الاول فما هو ؟ قال : أبكي على ابني تقتله فئة باغية كافرة من بني امية لعنهم اللّه‏ لا أنالهم اللّه‏ شفاعتي يوم القيامة ، يقتله رجل يثلم الدين ، ويكفر باللّه‏ العظيم .

        ثم قال : اللهم انّي أسألك فيهما (الحسن والحسين عليهماالسلام ) ما سألك ابراهيم في ذريته ، اللهم أحبهما وأحبّ من يحبّهما ، والعن من يبغضهما مل‏ء السماء والارض

(1) .

        وروى الشيخ الصدوق وابن قولويه وغيرهما عن الصادق عليه‏السلام انّه قال :

        انّ الحسين بن عليّ عليهماالسلام لمّا ولد أمر اللّه‏ عزوجل جبرائيل أن يهبط في الف من الملائكة فيهنيء رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من اللّه‏ ومن جبرئيل .

        قال : فهبط جبرائيل فمرّ على جزيرة في البحر فيها ملك يقال له فطرس ، كان من الحملة (حملة العرش) بعثه اللّه‏ عزوجل في شيء ، فابطأ عليه فكسر جناحه وألقاه في تلك الجزيرة ، فعبد اللّه‏ تبارك وتعالى فيها سبعمائة عام ، حتى ولد الحسين بن عليّ عليهماالسلام .

        وفي رواية اخرى : انّ اللّه‏ تعالى خيّره بين عذاب الدنيا وعذاب الاخرة فاختار عذاب الدنيا ، فعلّقه اللّه‏ تعالى باسفار عينه في تلك الجزيرة ... فلما رأى جبرئيل قال له :

        يا جبرائيل أين تريد ؟ قال : انّ اللّه‏ عزوجل أنعم على محمد بنعمة فبعثت أهنيه من اللّه‏ ومنّي .

        فقال : يا جبرائيل احملني معك لعل محمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يدعو لي . قال : فحمله ، فلمّا دخل جبرائيل على النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله هنّاه من اللّه‏ ومنه وأخبره بحال فطرس .

        فقال النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : قل له تمسّح بهذا المولود وعد الى مكانك ، فمسح فطرس (جناحه) بالحسين بن عليّ عليهماالسلام وارتفع ، فقال : يا رسول اللّه‏ أما انّ امتك ستقتله وله عليّ مكافأة الاّ يزوره زائر الاّ أبلغته عنه ، ولا يسلم عليه مسلّم الاّ أبلغته سلامه ، ولا يصلّي عليه مصلّ الاّ أبلغته صلاته ، ثم ارتفع

(2) .

        وفي رواية : وعرج الى موضعه وهو يقول : من مثلي وأنا عتاقة الحسين بن عليّ وفاطمة ، وجدّه أحمد الحاشر(3) .

 

 
(1) البحار 44:250 ، عن الامالي للطوسي .
(2) الامالي للصدوق : 118 ، البحار 43:243 .
(3) البحار 43:245 عن المناقب ، 4:75 .