(205)
وروى
ابن شهر آشوب انّه : « اعتلت فاطمة عليهاالسلام لما ولدت الحسين وجف لبنها ، فطلب
رسول اللّه صلىاللهعليهوآله مرضعا فلم يجد ، فكان يأتيه فيلقمه إبهامه
فيمصّها ويجعل اللّه له في ابهام رسول اللّه صلىاللهعليهوآله رزقا يغذوه ،
ويقال : بل كان رسول اللّه يدخل لسانه في فيه فيغرّه كما يغرّ الطير فرخه ، فيجعل
اللّه في ذلك رزقا ، ففعل ذلك اربعين يوما وليلة ، فنبت لحمه من لحم رسول اللّه
صلىاللهعليهوآله »(1) والروايات بهذا المضمون كثيرة .
وروي
في علل الشرايع انّه : مضى الحسين عليهالسلام على تلك الحال حتى نبت لحمه من لحم
رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، ولم يرضع الحسين من فاطمة عليهاالسلام ولا من
غيرها(2) .
وروى
الكليني في الكافي عن الصادق عليهالسلام انّه قال : لم يرضع الحسين من فاطمة
عليهاالسلام ولا من أنثى ، كان يُؤتى به النبي صلىاللهعليهوآله فيضع ابهامه في
فيه فيمص منها ما يكفيها اليومين وثلاثة ، فنبت لحم الحسين عليهالسلام من لحم
رسول اللّه ودمه صلىاللهعليهوآله ، ولم يولد لستة أشهر الاّ عيسى بن مريم
عليهالسلام والحسين بن عليّ عليهالسلام (3) .
وجاء
في بعض الروايات بدل عيسى يحيى .
قال
السيد بحر العلوم :
للّه مرتضع لم يرتضع أبدا
من ثدي أنثى ومن طه مراضعه
* * *
(1) المناقب 4:50 .
(2) علل الشرايع : 156 ،
243 .
(3) الكافي 1:386 باب مولد
الحسين عليهالسلام .
(206)
الفصل الثاني
في بيان فضائل ومناقب سيد الشهداء عليهالسلام
ومكارم اخلاقه
روي
في أربعين المؤذن وتاريخ الخطيب عن جابر عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله انّه
قال : انّ اللّه عزوجل جعل ذرية كل نبيّ من صلبه خاصة ، وجعل ذريّتي من صلبي ومن
صلب عليّ بن ابي طالب ، انّ كلّ بني بنت ينسبون الى أبيهم الاّ اولاد فاطمة فانّي
أنا أبوهم .
يقول
المؤلف : قد كثرت الأحاديث المشارة الى انّ الحسنين عليهماالسلام ابنا رسول اللّه
صلىاللهعليهوآله ، وقد أمر امير المؤمنين عليهالسلام في حرب صفين لمّا أسرع
الحسن عليهالسلام للقتال ان يُمنع من الذهاب الى المعركة ، مخافة أن ينقطع نسل
رسول اللّه صلىاللهعليهوآله بقتله وقتل الحسين عليهماالسلام .
قال
إبن ابي الحديد : فان قلت : أيجوز أن يقال للحسن والحسين وولدهما أبناء رسول
اللّه وولد رسول اللّه وذرّية رسول اللّه ونسل رسول اللّه ؟
قلت
: نعم ، لانّ اللّه تعالى سمّاهم (أبناءه) في قوله تعالى : « نَدْعُ أَبْنَآءَنَا
وَأَبْنَاءَكُمْ »
(1) وانّما عنى الحسن والحسين ، وسمّى اللّه
تعالى عيسى ذريّة ابراهيم في قوله : «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيَمانَ »(2)
ولم يختلف أهل اللغة في انّ ولد البنات من نسل الرجل .
فان
قلت : فما تصنع بقوله تعالى : « مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّنْ
رِّجَالِكُمْ »؟
(3) قلت : أسألك عن ابوّته لابراهيم بن مارية ،
فكما تجيب به عن ذلك فهو جوابي عن الحسن والحسين عليهماالسلام ، والجواب الشامل
للجميع انّه عنى زيد بن حارثة ، لانّ العرب كانت تقول : زيد بن محمد على عادتهم في
تبنّي العبيد ، فأبطل اللّه تعالى ذلك ونهى عن سنّة الجاهلية ، وقال :
انّ
محمدا صلىاللهعليهوآله ليس ابا لواحدٍ من الرجال البالغين المعروفين بينكم
ليعتزي اليه بالنبوة ، وذلك لا ينفي كونه أبا لأطفال لم تطلق عليهم لفظة الرجال
كابراهيم وحسن وحسين عليهماالسلام
(4) .
(1) آل عمران : 61 .
(2) الانعام : 84 .
(3) الاحزاب : 40 .
(4) شرح النهج لابن أبي
الحديد 11:26 .
(207)
وروي
في بعض كتب العامة انّ النبي صلىاللهعليهوآله أخذ بيد الحسن والحسين
عليهماالسلام ـ في جمع من الصحابة ـ فقال :
«
من أحبني وأحبّ هذين وأباهما وأمّهما كان معي في درجتي في الجنة يوم القيامة » .
ونظم البعض هذا الكلام فقال :
أخذ النبي يد الحسين وصنوه
يوما وقال وصحبه في مجمع من ودّني يا قوم أو هذين أو أبويهما
فاخلد مسكنه معي(1)
وروي ايضا : انّ النبي
صلىاللهعليهوآله حمل الحسن والحسين عليهماالسلام على ظهره ، الحسن على أضلاعه
اليمنى والحسين على أضلاعه اليسرى ، ثم مشى وقال : نعم المطيّ مطيّكما ، ونعم
الركبان أنتما وأبوكما خير منكما(2) .
وروى
إبن شهر آشوب انّه : أذنب رجل في حياة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله فتغيّب حتى
وجد الحسن والحسين عليهماالسلام في طريق خال ، فأخذهما فاحتملهما على عاتقيه وأتى
بها النبي صلىاللهعليهوآله فقال :
يا
رسول اللّه انّي مستجير باللّه وبهما ، فضحك رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
حتى رد يده الى فمه ثم قال للرجل : اذهب وانت طليق ، وقال للحسن والحسين
عليهماالسلام : قد شفعتكما فيه أي فتيان ، فأنزل اللّه تعالى :
«
وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَّلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ
وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّابا رَّحِيما »
(3) .
وروى
ابن شهر آشوب عن سلمان الفارسي ، قال : كان الحسين عليهالسلام على فخذ رسول
اللّه صلىاللهعليهوآله وهو يقبله ويقول : أنت السيد إبن السيد أبو السادة ،
أنت الامام إبن الامام أبو الائمة ، انت الحجة إبن الحجة أبو الحجج ، وتسعة من
صلبك وتاسعهم قائمهم(4) .
وروى
إبن شهر آشوب ايضا عن ام سلمة انها قالت : انّ الحسن والحسين عليهماالسلام دخلا
على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وبين يديه جبرئيل ، فجعلا يدوران حوله
يشبهانه بدحية الكلبي ، فجعل جبرئيل يومي بيده كالمتناول شيئا فاذا في يده تفاحة
وسفرجلة ورمانة ، فناولهما وتهلل وجهاهما وسعيا الى جدهما .
فأخذ
منهما فشمّهما ثم قال : صيرا الى أمكّما بما معكما وابدءا بأبيكما ، فصارا كما
أمرهما فلم ياكلوا حتى صار النبي صلىاللهعليهوآله اليهم فأكلوا جميعا ، فلم
يزل كلّما اكل منه عاد الى ما كان حتى قبض رسول اللّه عليهالسلام .
(1) البحار 43:280 ،
ضمن حديث عن جامع الترمذي وفضائل احمد وأمالي إبن شريح .
(2) المناقب لابن شهر آشوب
3:388 .
(3) سورة النساء : 64 ،
المناقب لابن شهر آشوب 3:400 ، وعنه في البحار 43:318 .
(4) المناقب 4:70 ، عنه
البحار 43:295 ، ضمن حديث 56 .
(208)
قال الحسين
عليهالسلام : فلم يلحقه التغيير والنقصان ايام فاطمة بنت رسول اللّه
صلىاللهعليهوآله حتى توفيت ، فلمّا توفيت فقدنا الرمان وبقي التفاح والسفرجل
ايام أبي ، فلمّا استشهد امير المؤمنين عليهالسلام فقد السفرجل وبقي التفاح على
هيئته عند الحسن حتى مات في سمه ، وبقيت التفاحة الى الوقت الذي حوصرت عن الماء ،
فكنت اشمها اذا عطشت فيسكن لهب عطشي ، فلمّا اشتدّ عليّ العطش عضضتها وأيقنت
بالفناء .
قال
عليّ بن الحسين عليهالسلام : سمعته يقول ذلك قبل قتله بساعة ، فلمّا قضى نحبه وجد
ريحها في مصرعه ، فالتمست فلم ير لها أثر ، فبقي ريحها بعد الحسين ، ولقد زرت قبره
فوجدت ريحها تفوح من قبره ، فمن أراد ذلك من شيعتنا الزائرين للقبر فليلتمس ذلك في
أوقات السحر ، فانّه يجده اذا كان مخلصا
(1) .
وروي
في امالي المفيد النيسابوري عن الرضا عليهالسلام انّه قال :
عرى
الحسن والحسين عليهماالسلام وادركهما العيد فقالا لأمهما : قد زينوا صبيان المدينة
الاّ نحن فما لك لا تزينينا ؟ فقالت : ثيابكما عند الخياط فاذا أتاني زينتكما .
فلمّا
كانت ليلة العيد أعادا القول على أمهما فبكت ورحمتهما ، فقالت لهما ما قالت في
الاولى ، فردا عليها ، فلمّا أخذ الظلام قرع الباب قارع فقالت فاطمة : من هذا ؟
قال : يا بنت رسول اللّه أنا الخياط جئت بالثياب ، ففتحت الباب فاذا رجل ومعه من
لباس العيد ، قالت فاطمة : واللّه لم أر رجلاً أهيب شيمة منه .
فناولها
منديلاً مشدودا ثم انصرف ، فدخلت فاطمة ففتحت المنديل فاذا فيه قميصان ودراعتان
وسروالان ورداءان وعمامتان وخفان أسودان معقبان بحمرة ، فأيقظتهما وألبستهما ودخل
رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وهما مزينان فحملهما وقبلهما ، ثم قال :
رأيت
الخياط ؟ قالت : نعم يا رسول اللّه والذي أنفذته من الثياب ، قال : يا بنية ما هو
خياط انّما هو رضوان خازن الجنة ، قالت فاطمة : فمن أخبرك يا رسول اللّه ؟ قال :
ما عرج حتى جاءني وأخبرني بذلك
(2) .
وقريبا
منه ما روي في المنتخب انّه : جاء الحسنين الى النبي صلىاللهعليهوآله يوم عيد
وطلبا منه لباس العيد ، فهبط جبرئيل عليهالسلام بحلتان بيضاوتان ، فلما رأيا
الحلتان أرادا أن يكونا متلونتين ، فدعى صلىاللهعليهوآله بطست وصب جبرئيل
الماء فيه ، فأراد الحسن عليهالسلام اللون الاخضر وأراد الحسين عليهالسلام اللون
الأحمر ، فبكى جبرئيل وأخبر النبي صلىاللهعليهوآله بشهادتهما وقال :
اعلم
يا رسول اللّه ان اختيار ابنيك على اختلاف اللون فلابد للحسن أن يسقوه السم ويخضر
لون جسده من عظم السم ، ولابد للحسين أن يقتلوه ويذبحوه ويخضب
(1) المناقب 3:391 ، وعنه
في البحار 43:289 .
(2) المناقب لابن شهر آشوب
3:391 نقلاً عن امالي المفيد النيسابوري .
(209)
بدنه من
دمه ، فبكى النبي وزاد حزنه بذلك(1) .
وروى
العياشي وغيره انّه : مرّ الحسين بن علي عليهالسلام بمساكين قد بسطوا كساءا لهم ،
فالقوا عليه كسرا فقالوا : هلمّ يابن رسول اللّه ، فثنّى وركه فاكل معهم ، ثم تلا
: « إنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ » ، ثم قال : قد أجبتكم فأجيبوني
، قالوا : نعم يا بن رسول اللّه ، فقاموا معه حتى أتوا منزله فقال للرباب : أخرجي
ما كنت تدّخرين(2) .
وروى
ايضا عن جوده وكرمه عليهالسلام انّه : قدم أعرابي المدينة فسأل عن اكرم الناس بها
فدُلّ على الحسين عليهالسلام فدخل المسجد فوجده مصليّا فوقف بازائه وأنشأ :
لم يخب الان من رجاك ومن
حرّك من دون بابك الحلقة انت جواد وأنت معتمد أبوك قد كان قاتل
الفسقة لو لا الذي كان من أوائلكم كانت علينا الجحيم منطبقة
فسلّم
الحسين عليهالسلام وقال : يا قنبر هل بقي من مال الحجاز شيء ؟ قال : نعم أربعة
الاف دينار ، فقال : هاتها قد جاء من هو أحقّ بها منّا ، ثم نزع برديه ولفّ
الدنانير فيها وأخرج يده من شقّ الباب حياءً من الأعرابي وأنشأ :
خذها فانّي إليك معتذر
واعلم بانّي عليك ذو شفقة لو كان في سيرنا الغداة عصا أمست
سمانا عليك مندفقة لكنّ ريب الزمان ذو غير والكفّ منّي قليلة النفقة
فأخذها
الاعرابي وبكا ، فقال له : لعلّك استقللت ما أعطيناك ؟ قال : لا ولكن كيف يأكل
التراب جودك ، وهو المرويّ عن الحسن بن عليّ عليهالسلام
(3) .
يقول
المؤلف : قد رويت هذه الفضائل وكثير منها تارة عن الحسن وتارة عن الحسين
عليهماالسلام ، وذلك لشباهة اسميهما والتصحيف الناشيء من عدم ضبط الاسم دقيقا .
ونُقل
في بعض الكتب عن عصار بن المصطلق الشامي انّه قال : دخلت المدينة فرأيت الحسين بن
عليّ سمته ورواؤه واثار من الحسد ما كان يخفيه صدري لأبيه من البغض ، فقلت له :
أنت إبن ابي تراب .
يقول
المؤلف : (وكان اهل الشام يسمّون امير المؤمنين عليهالسلام أبا تراب لزعمهم انّه
منقصة له وقد خفي عليهم انّهم كلمّا سمّوه بهذا الاسم فقد ألبسوه حلة من الحلل أي
انّ هذه الكنية فضيلة له لا نقيصة) .
فقال
: نعم ، قال : فبالغت في شتمه وشتم أبيه ، فنظر اليّ نظرة عاطف رؤوف فقال : اعوذ
باللّه من الشيطان الرجيم ، بسم اللّه الرحمن الرحيم « خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ
(1) المنتخب للطريحي : 121
(الرواية مذكورة في المنتخب بتفصيل اكثر) .
(2) تفسير العياشي 2:257 ،
سورة النحل ـ عنه في البحار 44:189 .
(3) المناقب لابن شهر آشوب
4:65 ، وعنه في البحار 44:189 .
(210)
بَالْعُرْفِ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ
فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إذَا
مَسَّهُمْ طَئِفٌ مِنَ الشَّيْطَنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُمْ مُّبْصِرُونَ *
وَإِخْونُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ »(1)
، (وأشار بها الى المكارم التي علمّها اللّه نبيّه صلىاللهعليهوآله ) ، ثم
قال : خفض عليك استغفر اللّه لي ولك ، انّك لو استعنتنا لاعنّاك ، ولو استرفدتنا
لرفدناك ، ولو استرشدتنا لأرشدناك .
قال
عصام : فتوسّم منّي الندم على ما فرط منّي ، فقال : « لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ
الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّحِمِينَ »
(2) ، أمن أهل الشام أنت ؟ قلت : نعم ، فقال :
شنشنة أعرفها من أخزم ، حيان اللّه واياك ، انبسط الينا في حوائجك وما يعرض لك
تجدني عند أفضل ظنّك انشاء اللّه تعالى .
قال
عصام : فضاقت عليّ الأرض بما رحبت ووددت لو ساخت بي ، ثم سللت منه لواذا وما على
الأرض أحبّ اليّ منه ومن أبيه
(3) .
وروي
في مقتل الخوارزمي وجامع الاخبار ، أنّ اعرابيا جاء الى الحسين بن علي عليهالسلام
فقال : يا بن رسول اللّه قد ضمنت دية كاملة وعجزت عن أدائها فقلت في نفسي : أسأل
اكرم الناس ، وما رأيت اكرم من أهل بيت رسول اللّه صلىاللهعليهوآله .
فقال
الحسين عليهالسلام : يا أخا العرب أسألك عن ثلاث مسائل ، فان أجبت عن واحدة
أعطيتك ثلث المال ، وان أجبت عن اثنين أعطيتك ثلثي المال ، وان أجبت عن الكلّ
أعطيتك الكلّ .
فقال
الاعرابي : يا بن رسول اللّه أمثلك يسأل عن مثلي ، وأنت من أهل العلم والشرف ؟
فقال الحسين عليهالسلام : بلى سمعت جدي رسول اللّه عليهالسلام يقول : المعروف
بقدر المعرفة .
فقال
الاعرابي : سل عما بدا لك ، فان أجبت والاّ تعلمت منك ولا قوّة الاّ باللّه ،
فقال الحسين عليهالسلام : أيّ الاعمال أفضل ؟ فقال الاعرابي : الايمان باللّه ،
فقال الحسين عليهالسلام : فما النجاة من المهلكة ؟ فقال الاعرابي : الثقة باللّه
، فقال الحسين عليهالسلام : فما يزين الرجل ؟ فقال الاعرابي : علم مع حلم .
قال
: فان أخطاءه ذلك ؟ فقال : مالٌ معه مروءة ، فقال : فان أخطاءه ذلك ؟ فقال : فقرٌ
معه صبر ، فقال الحسين عليهالسلام : فان أخطاءه ذلك ؟ فقال الاعرابي : فصاعقة
تنزل من السماء وتحرقه فانّه أهل لذلك .
فضحك
الحسين عليهالسلام ورمى بصرّة اليه فيها الف دينار ، وأعطاه خاتمه وفيه فصٌ
(1) سورة الاعراف : 199 ـ
202 .
(2) سورة يوسف : 92 .
(3) راجع نفس المهموم :
614 .
(211)
قيمته
مائتا درهم فقال : يا أعرابي اعط الذهب الى غرمائك ، واصرف الخاتم في نفقتك ، فأخذ
الاعرابي وقال : « اللّه أعلم حيث يجعل رسالته »(1) .
وروى
ابن شهر آشوب انّه : وجد على ظهر الحسين بن عليّ عليهماالسلام يوم الطف أثر ،
فسألوا الامام زين العابدين عليهالسلام عن ذلك فقال : هذا مما كان ينقل الجراب
على ظهره الى منازل الأرامل واليتامى والمساكين(2) .
وفي
زهده وعبادته ما روي انّه عليهالسلام (حجّ خمسا وعشرين حجة ماشيا وانّ النجائب
لتقاد معه) وقيل له يوما : ما اعظم خوفك من ربّك ؟ قال : لا يأمن يوم القيامة الاّ
من خاف اللّه في الدنيا(3) .
وروى
إبن عبد ربه في كتاب العقد الفريد : انّه قيل لعليّ بن الحسين عليهالسلام : ما
أقلّ ولد ابيك ؟ قال : العجب كيف ولدت له ، كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة ،
فمتى كان يتفرغ للنساء ؟(4)
وروي
السيد الشريف الزاهد أبو عبد اللّه محمد بن عليّ بن الحسن إبن عبد الرحمن العلوي
الحسيني في كتابه التعازي عن أبي حازم الأعرج ، انّ الحسن عليهالسلام كان يعظم
أخاه الحسين عليهالسلام كأنّه أكبر منه .
وروى
عن إبن عباس انّه قال : سألت سبب ذلك ؟ فقال : انّي أهاب الحسين كما أهاب امير
المؤمنين عليهالسلام ، وقال إبن عباس : كنّا جلوسا مع الحسن عليهالسلام في مجلس
فلمّا أتى الحسين غيّر الحسن حالة جلوسه احتراما له .
وكان
الحسين بن عليّ عليهالسلام زاهدا في الدنيا في صغره وفي كبره ، يأكل مع امير
المؤمنين من طعامه المخصوص (وهو الخبر اليابس جدا أو اللبن الحامض) ويشاركه في
العسر والضيق والصبر ، وصلاته كصلاته ، وقد جعل اللّه تعالى الحسن والحسين
عليهماالسلام قدوة للناس وأسوة ، لكنّ فرّق في ارادتهما كي يقتدي الناس بأيّهما
شاءوا ، ولو كانا على طريقة واحدة لعسر على الناس اتباعهما .
وروي
عن مسروق انّه قال : دخلت يوم عرفة على الحسين بن عليّ عليهالسلام ، فرأيت أقداح
السويق امامه وامام اصحابه والى جنبهم القرائين ، وكانوا صائمين منتظرين الافطار ،
فسألت الامام مسائل فأجابني عليها ، ثم خرجت فدخلت على الحسن عليهالسلام فرأيت
كثرة وفود الناس عليه ، وهم يأتون ويأكلون انواع الطعام عنده ويأخذون معهم .
فتغيّرت
وأطرقت افكر ، فانتبه الامام الحسن عليهالسلام اليّ وسأل عن سبب تغيّري
(1) البحار 44:196 ، عن
جامع الاخبار : 133 ، الفصل 96 ، في حق السائل .
(2) المناقب 4:66 .
(3) البحار 44:193 ، تذكرة
الخواص : 234 .
(4) العقد الفريد 4:171 .
(212)
وعدم أكلي
الطعام ، فقلت : أعوذ باللّه من وقوع الاختلاف بينكما ، دخلت على الحسين
عليهالسلام فرأيته صائما منتظر الافطار ، وجئت إليك فرأيت هذا المنظر .
فلمّا
تمّ كلامي ضمّني الامام الحسن عليهالسلام الى صدره وقال : يا إبن الاشرس اما تعلم
انّ اللّه تعالى جعلنا مقتديا هذه الامة ، جعلني مُقتدى المفطرين وجعل أخي مُقتدى
الصائمين كي تكونوا في سعة .
وروي
انّ الحسين عليهالسلام كان أشبه الناس برسول اللّه صلىاللهعليهوآله سيرة
وصورة ، ويقعد في المكان المظلم فيهتدى اليه ببياض جبينه ونحره
(1) .
وروي
في مناقب إبن شهر آشوب وغيره : انّ فاطمة عليهاالسلام أتت بابنيها الحسن والحسين
الى رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وقالت : انحل ابني هذين يا رسول اللّه ،
فقال : اما الحسن فله هيبتي وسؤددي وامّا الحسين فله جرأتي وجودي . فقالت : رضيت
يا رسول للّه(2) .
وفي
رواية انّ النبي صلىاللهعليهوآله قال : ان الحسن فانحله الهيبة والحلم ، وامّا
الحسين فانحله الجود والرحمة(3) .
وروى
إبن طاووس عن حذيفة انّه قال : سمعت الحسين بن عليّ يقول : واللّه ليجتمعنّ على
قتلي طغاة بني اميّة ويقدمهم عمر بن سعد ، وذلك في حياة النبي صلىاللهعليهوآله
فقلت له : أنبأك بهذا رسول اللّه ؟ فقال : لا ، فأتيت النبي فأخبرته ، فقال :
علمي علمه وعلمه علمي(4) .
وروى
إبن شهر آشوب عن عليّ بن الحسين عليهالسلام انّه قال : خرجنا مع الحسين فما نزل منزلاً
ولا ارتحل عنه الاّ وذكر يحيى بن زكريّا ، وقال يوما : من هوان الدنيا على اللّه
انّ رأس يحيى أهدي الى بغي من بغايا بني اسرائيل(5) .
وروى
في احاديث كثيرة بطرق الخاصة والعامة انّه : طالما كانت تنام فاطمة الزهراء
عليهاالسلام فاذا بكى الحسين في المهد ، يأتي جبرئيل عليهالسلام ويحرّك مهده
ويتكلّم معه حتى يسكت من البكاء ، ولما كانت تُفيق من النوم ، ترى المهد يتحرّك
وتسمع الكلام لكن لا ترى أحدا ، فلمّا سألت رسول اللّه صلىاللهعليهوآله عن
ذلك قال لها : انّه جبرائيل(6) .
* * *
(1) مناقب آل أبي طالب
4:75 ، كذلك البحار 44:188 .
(2) المناقب 3:396 ، وعنه
في البحار 43:293 .
(3) الخصال 1:77 ، وعنه في
البحار 43:264 .
(4) مثله في البحار 44:186
، ح 14 .
(5) المناقب 4:85 .
(6) البحار 44:188 .
(213)
(214)
الفصل الثالث
في بيان فضيلة البكاء على سيد الشهداء عليهالسلام
ورثائه واقامة مأتمه
روى
الشيخ الجليل الكامل جعفر بن قولويه في كتابه الكامل عن إبن خارجة انّه قال : كنّا
عند أبي عبد اللّه عليهالسلام فذكرنا الحسين عليهالسلام وعلى قاتله لعنه اللّه
، فبكى أبو عبد اللّه عليهالسلام وبكينا ، قال : ثم رفع رأسه فقال : قال الحسين
بن عليّ عليهالسلام أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن الاّ بكى
(1) .
وروي
ايضا انّه : « ما ذكر الحسين عليهالسلام عند أبي عبد اللّه عليهالسلام في يوم
قط فرئي أبو عبد اللّه متبسما فى ذلك اليوم الى الليل ، وكان يقول : الحسين عبرة
كل مؤمن »(2) .
وروى
المفيد والطوسي عن أبان بن تغلب عن الصادق عليهالسلام قال : « نفس المهموم لظلمنا
تسبيح ، وهمّه لنا عبادة ، وكتمان سرّنا جهاد في سبيل اللّه ، ثم قال أبو عبد
اللّه : يجب أن يكتب هذا الحديث بالذهب »(3) .
وروي
عن ابي عمارة المنشد باسانيد كثيرة معتبرة انّه قال : دخلت على أبي عبد اللّه
عليهالسلام فقال لي : يا أبا عمارة أنشدني في الحسين بن عليّ عليهالسلام قال :
فأنشدته فبكى ، ثم أنشدته فبكى ـ وفي رواية انّه قال : أنشدني كما تنشدون ـ قال :
فو اللّه ما زلت أنشده ويبكي حتى سمعت البكاء من الدار .
فقال
لي : يا ابا عمارة من أنشد في الحسين بن عليّ عليهالسلام فابكى خمسين فله الجنة ،
ومن أنشد في الحسين شعرا فأبكى ثلاثين فله الجنة ، ومن أنشد في الحسين فأبكى عشرين
فله الجنة ، ومن أنشد في الحسين فأبكى عشرة فله الجنة ، ومن أنشد في الحسين فأبكى
واحدا فله الجنة ، ومن أنشد في الحسين فبكى فله الجنة ، ومن أنشد في الحسين فتباكى
فله الجنة
(4) .
وروى
الشيخ الكشي عن زيد الشحام انّه قال : كنّا عند أبي عبد اللّه عليهالسلام ونحن
جماعة من الكوفيين ، فدخل جعفر بن عفان على أبي عبد اللّه عليهالسلام فقربه
وأدناه ثم قال : يا جعفر ، قال : لبيك جعلني اللّه فداك ، قال : بلغني انّك تقول
الشعر في الحسين عليهالسلام
(1) البحار 44:279 ، عن
كامل الزيارات : 108 ، الباب 36 ، ح 6 .
(2) البحار 44:280 ، عن
كامل الزيارات : 108 ، باب 36 ، ح 2 .
(3) امالي المفيد : 208
وامالي الطوسي2:72 ، عنهما البحار : 44:278 .
(4) أمالي الصدوق : 121 ،
المجلس 29 ، حديث 6 ـ وعنه في البحار 44:282 ، ح 15 .
(215)
وتجيد .
فقال
له : نعم جعلني اللّه فداك ، فقال : قال ، فأنشدته ومن حوله حتى صارت الدموع على
وجهه ولحيته .
ثم
قال : يا جعفر واللّه لقد شهدك ملائكة اللّه والمقربون ههنا يسمعون قولك في
الحسين عليهالسلام ، ولقد بكوا كما بكينا أو أكثر ، ولقد أوجب اللّه لك يا جعفر
في ساعته الجنة بأسرها وغفر اللّه لك .
فقال
: يا جعفر ألا أزيدك ؟ قال : نعم يا سيدي ، قال : ما من احد قال في الحسين
عليهالسلام شعرا فبكى وأبكى به الاّ أوجب اللّه له الجنة وغفر له
(1) .
وذكر
حامي حوزة الاسلام السيد الاجل حامد حسين طاب ثراه في العبقات عن معاهد التنصيص
انّه :
حدّث
محمد بن سهل صاحب الكميت ، قال : دخلت مع الكميت على أبي عبد اللّه جعفر بن محمد
في أيام التشريق فقال له : جعلت فداك ألا أنشدك ، فقال : انها ايام عظام ، قال :
انها فيكم ، قال : هات وبعث أبو عبد اللّه الى بعض اهله فقرّب فأنشده فكثر البكاء
حتى أتى على هذا البيت :
يُصيب به الرامون عن قوس
غيرهم فيا آخرا أسدى له الغيّ أوّلُ
فرفع
أبو عبد اللّه يديه فقال : اللهم اغفر للكميت ما قدّم وما أخر وما أسرّ وما أعلن
وأعطه حتى يرضى
(2) .
وروى
الشيخ الصدوق رحمهالله في الامالي عن ابراهيم بن أبي محمود انّه قال :
قال
الرضا عليهالسلام : انّ المحرّم شهر كان أهل الجاهلية يحرّمون فيه القتال فاستحلت
فيه دماؤنا ، وهتكت فيه حرمتنا ، وسُبي فيه ذرارينا ونساؤنا ، وأضرمت النيران في
مضاربنا ، وانتهب ما فيها من ثقلنا ، ولم ترع لرسول اللّه حرمة في أمرنا .
انّ
يوم الحسين أقرح جفوننا ، وأسبل دموعنا ، وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء ، أورثتنا
الكرب والبلاء الى يوم الانقضاء ، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون ، فانّ البكاء
عليه يحطّ الذنوب العظام .
ثم
قال عليهالسلام : كان أبي اذا دخل شهر المحرم لا يُرى ضاحكا ، وكانت الكآبة تغلب
عليه حتى يمضي منه عشرة ايام ، فاذا كان اليوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته
وحزنه وبكائه ويقول : هو اليوم الذي قتل فيه الحسين
(3) .
وروى
الشيخ الصدوق ايضا عنه عليهالسلام انّه قال : من ترك السعي في حوائجه يوم
(1) اختيار معرفة الرجال
2:574 .
(2) معاهد التنصيص 3:96
عنه في عبقات الانوار .
(3) أمالي الصدوق ، المجلس
27 ، الرقم 2 ـ عنه في البحار 44:283 ، ح 17 .
(216)
عاشوراء
قضى اللّه له حوائج الدنيا والاخرة ، ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه
وبكائه جعل اللّه عزوجل يوم القيامة يوم فرحه وسروره ، وقرّت بنا في الجنان عينه
، ومن سمّى يوم عاشوراء يوم بركة وادّخر فيه لمنزله شيئا لم يبارك له فيما ادّخر
وحشر يوم القيامة مع يزيد وعبيد اللّه بن زياد وعمر بن سعد (لعنهم اللّه) الى
أسفل درك من النار(1) .
وروي
ايضا بسند معتبر عن الريان بن شبيب خال المعتصم العباسي انّه قال :
دخلت
على الرضا عليهالسلام في اوّل يوم من المحرم ، فقال لي : يا إبن شبيب أصائم انت ؟
فقلت : لا ، فقال : انّ هذا اليوم هو اليوم الذي دعا فيه زكريا ربّه عزوجل فقال :
«
رَبِّ هَبْ لِى مِنْ لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ »
(2) .
فاستجاب
اللّه له وأمر الملائكة فنادت زكريا وهو قائم يصلى في المحراب أنّ اللّه يبشرك
بيحيى ، فمن صام هذا اليوم ثم دعا اللّه عزوجل استجاب اللّه له كما استجاب
لزكريا عليهالسلام .
ثم
قال : يا ابن شبيب انّ المحرم هو الشهر الذي كان أهل الجاهلية فيما مضى يحرّمون
فيه الظلم والقتال لحرمته ، فما عرفت هذه الأمة حرمة شهرها ولا حرمة نبيّها ، لقد
قتلوا في هذا الشهر ذريته وسبوا نساءه وانتهبوا ثقله ، فلا غفر اللّه لهم ذلك
ابدا .
يا
ابن شبيب ان كنت باكيا لشيء فابك للحسين بن عليّ بن ابي طالب عليهالسلام فانه ذبح
كما يذبح الكبش ، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ما لهم في الارض شبيهون ،
ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله ، ولقد نزل الى الارض من الملائكة اربعة
آلاف لنصره ، فوجدوه قد قتل فهم عند قبره شعث غبر الى ان يقوم القائم ، فيكونون من
انصاره وشعارهم يا لثارات الحسين .
يا
بن شبيب لقد حدّثني أبي عن ابيه عن جدّه انّه لمّا قتل جدي الحسين أمطرت السماء
دما وترابا أحمر ، يا بن شبيب ان بكيت على الحسين حتى تصير دموعك على خدّيك غفر
اللّه لك كلّ ذنب أذنبته صغيرا كان أو كبيرا قليلاً كان أو كثيرا .
يا
ابن شبيب ان سرّك أن تلقى اللّه عزوجل ولا ذنب عليك فزر الحسين عليهالسلام ، يا
بن شبيب إن سرّك أن تسكن الغرف المبنيّة في الجنة مع النبي صلىاللهعليهوآله
فالعن قتلة الحسين .
يا
ابن شبيب ان سرّك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسين فقل متى ما
ذكرته : « يَا لَيْتَني كُنْتُ مَعَهُمْ فَأفُوز فَوزا عَظِيما » .
يا
ابن شبيب ان سرّك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان ، فاحزن لحزننا وافرح
لفرحنا وعليك بولايتنا ، فلو أنّ رجلاً تولّى حجرا لحشره اللّه معه يوم
(1) امالي الصدوق ، المجلس
27 ، الرقم 4 ـ عنه في البحار 44:284 ، ح 18 .
(2) آل عمران : 38 .
(217)
القيامة(1)
.
وروى
إبن قولويه بسند معتبر عن أبي هارون المكفوف قال : دخلت على أبي عبد اللّه
عليهالسلام فقال لي : أنشدني ، فأنشدته ، فقال : لا ، كما تنشدون وكما ترثيه عند
قبره فأنشدته :
أمرر على جدث الحسين فقل لأعظمه الزكية
قال
: فلمّا بكى أمسكت أنا ، فقال : مرّ ، فممرت ، قال : ثم قال : زدني ، قال :
فأنشدته :
يا مريم قومي واندبي مولاك
وعلى الحسين فأسعدي ببكاك
قال
: فبكى وتهايج النساء ، قال : فلمّا أن سكتن قال لي : يا ابا هارون من أنشد في
الحسين فأبكى عشرة فله الجنة ، ثم جعل ينتقص واحدا واحدا حتى بلغ الواحد ، فقال :
من أنشد في الحسين فأبكى واحدا فله الجنة ، ثم قال : من ذكره فبكى فله الجنة
(2) .
وروي
ايضا بسند معتبر عن عبد اللّه بن بكير انّه قال : حججت مع ابي عبد اللّه
عليهالسلام في حديث طويل ، فقلت : يا بن رسول اللّه لو نبش قبر الحسين بن عليّ
عليهالسلام هل كان صاب في قبره شيء ؟
فقال
: يا بن بكير ما أعظم مسائلك انّ الحسين بن عليّ عليهالسلام مع ابيه وأمّه وأخيه
في منزل رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ومعه يرزقون ويحبرون ، وانّه لَعَنْ يمين
العرش متعلّق به ، يقول : يا ربّ أنجز لي ما وعدتني ، وانّه لينظر الى زوّاره فهو
أعرف بهم وبأسمائهم وأسماء آبائهم وما في رحالهم من أحدهم بولده ، وانّه لينظر الى
من يبكيه فيستغفر له ويسأل أباه الاستغفار له ويقول : ايّها الباكي لو علمت ما
اعدّ اللّه لك لفرحت اكثر مما حزنت وانّه ليستغفر له من كل ذنب وخطيئة
(3) .
وروي
ايضا بسند معتبر عن مسمع كردين انّه قال : قال لي أبو عبد اللّه عليهالسلام : يا
مسمع انت من أهل العراق أما تأتي قبر الحسين ؟ قلت : لا ، انا رجل مشهور من أهل
البصرة وعندنا من يتّبع هوى هذا الخليفة ، وأعداؤنا كثيرة من أهل القبائل من
النصاب وغيرهم ، ولست آمنهم أن يرفعوا عليّ حالي عند ولد سليمان فيمثّلون عليّ .
قال
لي : أفما تذكر ما صنع به ؟ قلت : بلى ، قال : فتجزع ؟ قلت : اي واللّه وأستعبر
لذلك حتى يرى أهلي أثر ذلك عليّ ، فأمتنع من الطعام حتى يستبين ذلك في وجهي .
(1) أمالي الصدوق ، المجلس
27 ، الرقم 5 ، عيون اخبار الرضا عليهالسلام 1:229 ، وعنهما في البحار 44:285 ،
ح23 .
(2) البحار 44:287 ، عن
كامل الزيارات : 105 ، الباب 33 ، ح 5 .
(3) البحار 44:292 ، عن
كامل الزيارات : 103 ، الباب 32 ، ح 7 .
(218)
قال
: رحم اللّه دمعتك اما انّك من الذين يعدّون في أهل الجزع لنا والذين يفرحون
لفرحنا ، ويحزنون لحزننا ، ويخافون لخوفنا ، ويأمنون اذا أمنّا ، أما انّك سترى
عند موتك وحضور آبائي لك ووصيتهم ملك الموت بك ، وما يلقونك به من البشارة ما تقرّ
به عينك قبل الموت فملك الموت أرقّ عليك وأشدّ رحمة لك من الامّ الشفيقة على ولدها
. قال : ثم استعبر واستعبرت معه
(1) .
وروي
ايضا بسند معتبر عن زرارة انّه قال : قال أبو عبد اللّه : يا زرارة انّ السماء
بكت على الحسين أربعين صباحا بالدم ، وانّ الارض بكت أربعين صباحا بالسواد ، وانّ
الشمس بكت أربعين صباحا بالكسوف والحمرة ، وانّ الجبال تقطّعت وانتثرت ، وانّ
البحار تفجّرت ، وانّ الملائكة بكت أربعين صباحا على الحسين ، وما اختضب منّا
امرأة ولا ادّهنت ولا اكتحلت ولا رجّلت حتى أتانا رأس عبيد اللّه بن زياد لعنه
اللّه وما زلنا في عبرة بعده .
وكان
جدّي اذا ذكره بكى حتّى تملأ عيناه لحيته وحتى يبكي لبكائه رحمة له من رآه ، وانّ
الملائكة الذين عند قبره ليبكون ، فيبكي لبكائهم كل من في الهواء والسماء من
الملائكة
(2) .
وروى
إبن قولويه ايضا بسند معتبر عن داوود الرقي انّه قال : كنت عند أبي عبد اللّه
عليهالسلام اذ استسقى الماء ، فلما شربه رأيته قد استعبر واغرورقت عيناه بدموعه
ثم قال لي :
يا
داوود لعن اللّه قاتل الحسين ، فما من عبد شرب الماء فذكر الحسين ولعن فاتله الا
كتب اللّه له مائة الف حسنة ، وحط عنه مائة الف سيئة ، ورفع له مائة الف درجة ،
وكأنّما أعتق مائة الف نسمة ، وحشره اللّه يوم القيامة ثلج الفؤاد
(3) .
روى
الشيخ الطوسي رحمهالله بسند معتبر عن معاوية بن وهب انّه قال : كنت جالسا عند
جعفر بن محمد عليهالسلام اذ جاء شيخ قد انحنى من الكبر ، فقال : السلام عليك
ورحمة اللّه ، فقال له أبو عبد اللّه : وعليك السلام ورحمة اللّه يا شيخ أدن
منّي ، فدنا منه ، وقبّل يده وبكى .
فقال
له أبو عبد اللّه عليهالسلام : وما يبكيك يا شيخ ؟ قال له : يا بن رسول اللّه
أنا مقيم على رجاء منكم منذ نحو من مائة سنة أقول : هذه السنة ، وهذا الشهر ، وهذا
اليوم ، ولا أراه فيكم فتلوموني أن أبكي .
قال
: فبكى ابو عبد اللّه عليهالسلام ثم قال : يا شيخ ان أخّرت منيّتك كنت معنا ،
وان
(1) البحار 44:289 ، عن
كامل الزيارات : 101 ح6 .
(2) كامل الزيارات : 80 ،
ح 6 ، الباب 62 ، عنه في البحار 45:206 .
(3) كامل الزيارات : 106 ،
ح 1 ، الباب 34 .
(219)
عجّلت كنت
يوم القيامة مع ثقل رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، فقال الشيخ : ما أبالي ما
فاتني بعد هذا يا إبن رسول اللّه .
فقال
له أبو عبد اللّه عليهالسلام : يا شيخ انّ رسول اللّه قال : انّي تارك فيكم
الثقلين ما ان تمسكتم بهما لن تضلّوا ، كتاب اللّه المنزل وعترتي أهل بيتي ، تجيء
وأنت معنا يوم القيامة .
ثم
قال : يا شيخ ما أحسبك من أهل الكوفة ، قال : لا ، قال : فمن أين ؟ قال من سوادها
جعلت فداك ، قال : أين أنت من قبر جدّي المظلوم الحسين ؟ قال : انّي لقريب منه ،
قال : كيف ايتانك له ؟ قال : انّي لآتيه واكثر ، قال : يا شيخ ذاك دم يطلب اللّه تعالى
به ، ما أصيب ولد فاطمة ولا يصابون بمثل الحسين ، ولقد قتل عليهالسلام في سبعة
عشر من أهل بيته ، نصحوا للّه وصبروا في جنب اللّه ، فجزاهم اللّه أحسن جزاء
الصابرين .
انّه
اذا كان يوم القيامة أقبل رسول اللّه ومعه الحسين ويده على رأسه يقطر دما فيقول :
« يا ربّ سل امّتى فيم قتلوا ابني ؟ » . وقال عليهالسلام : كل الجزع والبكاء
مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين عليهالسلام
(1) .
* * *
(1) البحار 45:313 ، ح 14
، عن امالي الطوسي .
(220)
الفصل الرابع
في بيان بعض الأخبار في شهادته عليهالسلام
روى
الشيخ جعفر بن قولويه عن سليمان انّه قال : وهل بقي في السماوات ملك لم ينزل الى
رسول اللّه يعزّيه في ولده الحسين ؟ ويخبره بثواب اللّه ايّاه ، ويحمل اليه
تربته مصروعا عليها مذبوحا مقتولاً طريحا مخذولاً .
فقال
رسول اللّه : « اللهم اخذل من خذله واقتل من قتله واذبح من ذبحه ولا تمتّعه بما
طلب » . قال الراوي : فو اللّه لقد عوجل الملعون يزيد ولم يتمتّع بعد قتله ، ولقد
أخذ مغافصةً بات سكرانا وأصبح ميّتا متغيّرا كأنّه مطليٌّ بقار ، أخذ على أسف ،
وما بقي أحد ممّن تابعه على قتله أو كان في محاربته الاّ أصابه جنون أو جذام أو
برص ، وصار ذلك وراثة في نسلهم لعنهم اللّه
(1) .
وروي
ايضا عن الامام الباقر عليهالسلام انّه قال : كان رسول اللّه
صلىاللهعليهوآله اذا دخل الحسين عليهالسلام اجتذبه اليه ثم يقول لأمير
المؤمنين عليهالسلام : أمسكه ، ثم يقع عليه فيقبله ويبكي ، فيقول ، يا أبة لم
تبكي ؟ فيقول : يا بنيّ أقبّل موضع السيوف منك وابكي ، قال : يا أبة وأقتل ؟ قال :
اي واللّه وأبوك وأخوك وأنت .
قال
: يا أبة فمصارعنا شتّى ؟ قال : نعم ، يا بنيّ ، قال : فمن يزورنا من امّتك ؟ قال
: لا يزورني ويزور اباك وأخاك وأنت الاّ الصدّيقون من أمّتي
(2) .
وروي
عن الصادق عليهالسلام ايضا انّه قال : كان الحسين بن عليّ ذات يوم في حجر النبي
صلىاللهعليهوآله يلاعبه ويضاحكه ، فقالت عائشة : يا رسول اللّه ما أشدّ
اعجابك بهذا الصبي ؟ فقال لها : ويلك وكيف لا أحبه ولا أعجب به وهو ثمرة فؤادي ،
وقرّة عيني ؟ أما انّ امّتي ستقتله ، فمن زاره بعد وفاته كتب اللّه له حجّة من
حججي .
قالت
: يا رسول اللّه حجّة من حججك ؟ قال : نعم ، وحجّتين من حججي ، قالت : يا رسول
اللّه حجّتين من حججك ؟ قال : نعم ، وأربعة ، قال : فلم تزل تزاده ويزيد ويضعف
حتى بلغ تسعين حجة من حجج رسول اللّه صلىاللهعليهوآله بأعمارها
(3) .
وروى
الشيخ المفيد والطبرسي وإبن قولويه وإبن بابويه رضوان اللّه عليهم بأسانيد معتبرة
عن أصبغ بن نباتة وغيره انّه قال :
(1) كامل الزيارات : 61 ،
الباب 17 ، ح 8 ، عنه في البحار 44:236 ، ح 27 .
(2) كامل الزيارات : 70 ،
الباب 22 ، عنه في البحار 44:261 ، ح 14 .
(3) كامل الزيارات : 68 ،
ح 1 ، الباب 22 ، عنه في البحار 44:260 .
(221)
بينا
أمير المؤمنين عليهالسلام يخطب الناس وهو يقول : سلوني قبل أن تفقدوني فو اللّه
لا تسألوني عن شيء مضى ولا عن شيء يكون الاّ نبّأتكم به ، فقام اليه سعد بن أبي
وقاص
(1) ، فقال :
يا
أمير المؤمنين أخبرني كم في رأسي ولحيتي من شعرة ؟ فقال له : أما واللّه لقد
سألتني عن مسألة حدّثني خليلي رسول اللّه صلىاللهعليهوآله انّك ستسألني عنها
، وما في رأسك ولحيتك من شعرة الاّ وفي أصلها شيطان جالس ، وانّ في بيتك لسخلاً
يقتل الحسين ابني ، وعمر بن سعد يومئذ يدرج بين يديه(2) .
ولم
يذكر اسم سعد في رواية الارشاد والاحتجاج بل ورد انّه قام اليه رجل وسأله هذا
السؤال ، فأجابه بذلك الجواب ، وقال عليهالسلام في آخر جوابه له : ولو لا انّ
الذي سألت عنه يعسر برهانه لأخبرتك به ولكن آية ذلك ما نبأت به من لعنتك وسخلتك
الملعون(3) .
وروى
الحميري في قرب الاسناد عن الصادق عليهالسلام انّه قال : مرّ عليّ بكربلاء في
اثنين من أصحابه ، قال : فلمّا مرّ بها ترقرقت عيناه للبكاء ، ثم قال : هذا مناخ
ركابهم ، وهذا ملقى رحالهم ، وههنا تهراق دمائهم ، طوبى لك من تربة عليك تهراق
دماء الأحبة(4) .
روى
الشيخ المفيد انّه قال عمر بن سعد للحسين عليهالسلام : يا أبا عبداللّه انّ
قبلنا ناسا سفهاء يزعمون انّي أقتلك ، فقال له الحسين : انّهم ليسوا سفهاء ولكنّهم
حلماء أما انّه يقرّ عيني أن لا تأكل برّ العراق بعدي الاّ قليلاً(5) .
وروى
الشيخ الصدوق عن الصادق عليهالسلام انّه قال : انّ الحسين بن عليّ عليهالسلام
دخل يوما الى الحسن عليهالسلام فلمّا نظر اليه بكى فقال له :
ما
يبكيك يا أبا عبد اللّه ؟ قال : أبكي لما يصنع بك ، فقال له الحسن عليهالسلام :
ان الذي
(1) الظاهر انّ هذه
المكالمة حدثت في الكوفة في زمن خلافة امير المؤمنين عليهالسلام الظاهرية وعلى
هذا يكون قد مضى على عمر بن سعد من كربلاء خمسا وعشرين سنة بعد ست سنوات من مولده
النحس فما ذكر من الكتب المعتبرة من أنّ عمر بن سعد كان في زمن رسول اللّه
صلىاللهعليهوآله لا دليل له ولا أصل ، ولعلّ ما قيل من أهل العامة انّه ولد في
يوم قتل عمر تصحيف في النقل والمراد يوم قتل عثمان وهذا هو الذي يناسب لفظ يحبو
ويدرج في الرواية . وعلى فرض صحة ذلك المطلب يكون عمره يوم كربلاء سبعا وثلاثين
سنة ، وما جرى في السنة العامة من انّ عمربن سعد كان يوم عاشوراء شيخا كبيرا ، لا
مأخذ له واللّه العالم . (منه رحمهالله )
(2) أمالي الصدوق ، المجلس
28 ، الرقم 1 ـ وعنه في البحار 44:256 ، ح 5 .
(3) الارشاد : 174 ، باب
اخباره عليهالسلام بالغيب ـ وعنه في البحار 44:258 .
(4) قرب الاسناد : 26 ، ح
87 ـ عنه في البحار 44:258 ، ح 8 .
(5) الارشاد : 251 ، باب
ذكرفضائل الحسين عليهالسلام ومناقبه ، وعنه في البحار 44:263 ، ح 10 .
(222)
يؤتى اليّ
سمّ يدسّ اليّ فاقتل به ، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد اللّه ، يزدلف إليك
ثلاثون الف رجل يدّعون انّهم من أمّة جدّنا محمد صلىاللهعليهوآله وينتحلون دين
الاسلام ، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك ، وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب
ثقلك ، فعندها تحلّ ببني اميّة اللعنة ، وتمطر السماء رمادا ودما ، ويبكي عليك كلّ
شيء حتى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار(1) .
يقول
المؤلف : والحق لو لاحظ المتأمّل البصير لم ير مصيبة اعظم من هذه المصيبة من اول
الدنيا إلى آخرها ، حيث لم نر بعد سبب كتب السير والتاريخ انّ امة تقتل ابن نبيها
مع أصحابه وعياله ، وتنتهب ثقله ومتاعه وتحرق خيامه ، وتقطع رأسه ورؤوس أصحابه
ويطاف بها مع عياله وأطفاله في المدن ، وتجعل الدين الذي تنتسب إليه وراء ظهرها مع
انّ قوّتها واستنادها هو هذا الدين نفسه لا غيره .
ما
سمعنا بهذا في آبائنا الاولين ، فانّا للّه وانّا اليه راجعون من مصيبة ما أعظمها
وأوجعها وأنكاها لقلوب المحبين وللّه درّ مهيار حيث قال :
يعظّمون له أعواد منبره
وتحت أرجُلهم أولادَه وُضعوا بأيّ حكم بنوهُ يتبعونكُمُ
وفخرُكُم انّكم صَحبٌ له تَبعُ(2)
* * *
(1) امالي الصدوق :101 ،
المجلس 24، الرقم3، وعنه في البحار 45:218 ، ح44 ، ومثله في مثير الاحزان:23.
(2) البحار 45:143 .
(223)
المقصد الثاني
في الأمور المتعلقة به عليهالسلام من خروجه من
المدينة الى قدومه كربلاء
(224)
(225)
الفصل الاول
في توجهه عليهالسلام الى مكة المعظمة
لمّا
اختلفت الأقوال في كيفية وقوع هذه الواقعة العظيمة في كتب الفريقين ، اكتفي هنا
بذكر ما قاله أعاظم العلماء في الكتب المعتبرة ، وسوف نذكر بقدر الامكان ما رواه
الشيخ المفيد ، والسيد ابن طاووس ، وإبن نما ، والطبري ، وقد اخترت رواياتهم من
بين سائر الروايات ، وسأشير في صدرالمطلب الى الاختلاف الموجود واذكر ناقله ،
فأقول :
اعلم
انّه لمّا استشهد الحسن عليهالسلام وارتحل الى رياض القدس ، تحركت الشيعة بالعراق
وكتبوا الى الحسين عليهالسلام في خلع معاوية والبيعة له ، فامتنع عليهالسلام
عليهم لعدم المصلحة وامرهم بالصبر حتى موت معاوية .
فلما
مات معاوية عليه اللعنة في النصف من رجب سنة ستين من الهجرة ، جلس يزيد عليه
اللعنة مجلس ابيه وبدأ بتقوية سلطانه ، فكتب الى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ـ
وكان واليا على المدينة من قبل معاوية ـ فقال :
اما
بعد فخذ حسينا وعبد اللّه بن عمر وإبن الزبير وعبد الرحمن بن ابي بكر
(1) ، بالبيعة أخذا ليس فيه رخصة حتى يبايعوا ،
ومن امتنع عليك فاضرب عنقه وابعث برأسه اليّ .
فلمّا
وصل الرسول الى الوليد دعا مروان وشاوره في هذا الامر ، فقال مروان :
أرى
أن تدعوهم الساعة وتأمرهم بالبيعة ، فان فعلوا قبلت منهم وكففت عنهم ، وان أبوا
ضربت اعناقهم قبل ان يعلموا بموت معاوية .
فأرسل
الوليد اليهم في تلك الليلة ودعاهم ، وكانوا انذاك مجتمعين في المسجد النبوي ،
فقال الحسين عليهالسلام : سوف أذهب اليه بعد ذهابي الى البيت ، فرجع عمرو بن
عثمان رسول الوليد . فقال عبد اللّه بن الزبير : ما تراه بعث الينا في هذه الساعة
التي لم يكن يجلس فيها ؟ فقال الحسين عليهالسلام أظنّ أنّ طاغيتهم قد هلك فبعث
الينا ليأخذنا بالبيعة ليزيد .
فلما
علموا بمكنون خاطر الوليد قال عبد اللّه بن عمر وعبد الرحمن بن أبي
(1) حكاية هؤلاء الثلاثة
بعد مجيء رسول الوليد اليهم مذكورة في مناقب إبن شهر آشوب وغيره لكن لا يخفى موت
عبد الرحمن بن ابي بكر ـ كما في كتب التاريخ ـ في زمن معاوية . (منه رحمهالله )
(226)
بكر : نذهب
الى بيوتنا ولا نفعل شيئا ، وقال إبن الزبير : انّي لا أبايع يزيد قط ، فقال
الحسين عليهالسلام : لا حيلة لنا الاّ الذهاب .
فذهب
عليهالسلام الى داره وجمع ثلاثين من أهل بيته ومواليه ، وأمرهم بحمل السلاح وجاء
بهم الى دار الامارة وقال لهم : ان سمعتم صوتي قد علا فادخلوا الدار .
فلما
دخل الحسين عليهالسلام على الوليد وجد عنده مروان بن الحكم ، فجلس عليهالسلام
فنعى الوليد معاوية فاسترجع الحسين عليهالسلام ، ثم قرأ عليه كتاب يزيد وما أمره
فيه من أخذ البيعة منه ، فقال له الحسين عليهالسلام :
انّي
لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرّا حتى أبايعه جهرا فيعرف ذلك الناس ، فقال له الوليد
: أجل ، فقال الحسين عليهالسلام : فتصبح وترى رأيك في ذلك ، فقال الوليد : انصرف
اذا شئت على اسم اللّه حتى تأتينا مع جماعة الناس .
فقال
له مروان : واللّه لئن فارقك الحسين عليهالسلام ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها
أبدا حتى تكثر القتلى بينكم وبينه ، احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو
تضرب عنقه .
فوثب
عند ذلك الحسين عليهالسلام وقال : يا بن الزرقاء ويل لك ءأنت تأمر بضرب عنقي
وقتلي أم هو ؟ كذبت واللّه ولؤمت ، ثم أقبل على الوليد فقال : ايّها الامير انّا
أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، وبنا فتح اللّه وبنا يختم ،
ويزيد رجل فاسق شارب الخمر ، قاتل النفس المحرّمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع
بمثله ، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة ، ثم خرج
عليهالسلام مع اصحابه ومواليه .
وكانت
هذه الواقعة ليلة السبت قبل انتهاء شهر رجب بثلاثة ايام ، فلمّا خرج عليهالسلام
قال مروان لوليد : عصيتني لا واللّه لا يمكنك من نفسه أبدا ، فقال : ويحك انّك
أشرت اليّ بذهاب ديني ودنياي ، واللّه ما أحبّ انّ ملك الدنيا بأسرها لي وانني
قتلت حسينا ، سبحان اللّه أقتل حسينا ان قال لا أبايع ، واللّه ما أظنّ أحدا
يلقي اللّه بدم الحسين عليهالسلام الاّ وهو خفيف الميزان ، لا ينظر اللّه اليه
ولا يزكيه وله عذاب اليم .
فقال
له مروان : فاذا كان هذا رأيك فقد أصبت فيما صنعت ، يقول هذا وهو غير حامد له على
رأيه .
وبالغ
الوليد تلك الليلة في أخذ البيعة من إبن الزبير ، وكان يمتنع أشد الامتناع حتى هرب
الى مكة تلك الليلة ، فلما بلغ ذلك الوليد أرسل خلفه رجلاً من بني أميّة في ثمانين
رجل ، فلم يجدوه لذهابه من الطريق غير المعهود .
وخرج
الحسين صباحا من منزله يستمع الاخبار ، فلقيه مروان فقال له : يا أبا عبداللّه
انّي لك ناصح فاطعني ترشد ، فقال الحسين عليهالسلام : وما ذاك قل حتى اسمع ، فقال
مروان : انّي آمرك ببيعة يزيد بن معاوية فانّه خير لك في دينك ودنياك .
(227)
فقال
الحسين عليهالسلام : انّا للّه وانّا اليه راجعون ، وعلى الاسلام السلام اذ قد
بليت الامة براع مثل يزيد ، ولقد سمعت جدّي رسول اللّه عليهالسلام يقول :
الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان ، وطال الحديث بينه وبين مروان حتى انصرف مروان
وهو غضبان .
فلمّا
كان آخر النهار بعث الوليد الرجال الى الحسين عليهالسلام ليحضر فيبايع ، فقال لهم
الحسين عليهالسلام : أصبحوا ثم ترون ونرى ، فكفوا تلك الليلة عنه ولم يلحوا عليه
، فخرج عليهالسلام في ليلته وهي ليلة الاحد ليومين بقيا من رجب متوجها نحو مكة ،
ومعه بنوه واخوته وبنو أخيه وجلّ أهل بيته الاّ محمد بن الحنفية .
ثم
ذهب الى قبر جدّه صلىاللهعليهوآله وامّه وأخيه فودّعهم ، فلمّا عزم على الخروج
جاء اليه أخوه محمد بن الحنفية وقال له :
يا
أخي أنت أحبّ الناس اليّ وأعزّهم عليّ ، ولست أدخر النصيحة لأحد من الخلق الاّ لك
وانت أحق بها ، تنح ببيعتك عن زيد بن معاوية وعن الامصار ما استطعت ، ثم ابعث رسلك
الى الناس فادعهم الى نفسك فان بايعك الناس وبايعوا لك حمدت اللّه على ذلك ، وان
اجتمع الناس على غيرك لم ينقص اللّه بذلك دينك ولا عقبك ولا تذهب به مروتك ولا
فضلك ، انّي أخاف أن تدخل مصرا من الامصار فيختلف الناس بينهم فمنهم طائفة معك
وأخرى عليك فيقتتلون فتكون لأول الاسنة غرضا ، فاذا خير هذه الامة كلها نفسا وأبا
وأما أضيعها دما وأذلّها أهلاً .
فقال
له الحسين عليهالسلام : فأين أذهب يا أخي ؟ قال : أنزل مكة ، فان اطمأنت بك الدار
فيها فهو الذي تحب وان نبت بك لحقت باليمن ، فان اطمأنت بك الدار فيها فسبيل ذلك
وان نبت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال ، وخرجت من بلد الى بلد حتى تنظر ما يصير أمر
الناس اليه ، فانّك أصوب ما تكون رأيا حين تستقبل الامر استقباله
(1) .
ووفقا
لرواية أخرى انّه : قطع محمد بن الحنفية الكلام وبكى فبكى الحسين عليهالسلام معه
ساعة ثم قال : يا أخي جزاك اللّه خيرا فقد نصحت وأشرت بالصواب وأنا عازم على
الخروج الى مكّة ، وقد تهيّأت لذلك أنا واخوتي وبنو أخي وشيعتي وأمرهم أمري ورأيهم
رأيي ، وأنت يا أخي فلا عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لي عينا عليهم لا تخفي عنّي
شيئا من أمورهم .
ثم
دعا الحسين عليهالسلام بدوات وبياض وكتب وصيته الى اخيه محمد ، ثم طواها وختمها
بخاتمه ودفعها اليه ، ثم ودّعه وخرج في جوف الليل
(2) .
ووفقا
لرواية الشيخ المفيد انّه : سار الحسين عليهالسلام الى مكة وهو يقرأ : « فَخَرَجَ
(1) البحار 44:324 ، مع
اختلاف .
(2) البحار 44:329 .
(228)
مِنْهَا
خَائِفا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّلِمِينَ »(1)
.
ولزم
الطريق الأعظم ، فقال له أهل بيته : لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل إبن الزبير
كيلا يلحقك الطلب ، قال : لا واللّه لا أفارقه حتى يقضي اللّه ما هو قاض(2)
.
وروي
عن سكينة بنت الحسين عليهالسلام انّها قالت : خرجنا من المدينة ما كان أحد أشد
خوفا منّا أهل البيت(3) .
وروي
عن الامام الباقر عليهالسلام انّه قال : لمّا همّ الحسين عليهالسلام بالشخوص الى
المدينة أقبلت نساء بني عبد المطلب ، فاجتمعن للنياحة حتى مشى فيهنّ الحسين
عليهالسلام فقال : أنشدكنّ اللّه ان تبدين هذا الامر معصية للّه ولرسوله .
قالت
له نساء من بني عبد المطلب : فلمن نستبقي النياحة والبكاء فهو عندنا كيوم مات رسول
اللّه صلىاللهعليهوآله وعليّ وفاطمة ورقية وزينب وامّ كلثوم (بنات رسول
اللّه صلىاللهعليهوآله ) فننشدك اللّه ، جعلنا اللّه فداك من الموت ، فيا
حبيب الابرار من أهل القبور ، وأقبلت بعض عمّاته تبكي وتقول : أشهد يا حسين لقد
سمعت الجنّ ناحت بنوحك وهم يقولون :
وانّ قتيل الطف من آل هاشم
أذلّ رقابا من قريش فذلّت(4)
ووفقا لرواية الراوندي وغيره
انّه : لما عزم الحسين عليهالسلام على الخروج من المدينة أتته ام سلمة زوجة النبي
صلىاللهعليهوآله فقالت له : يا بني لا تحزنّي بخروجك الى العراق ، فانّي سمعت
جدّك يقول : يقتل ولدي الحسين بأرض العراق في أرض يقال لها كربلاء ، فقال لها :
يا
أمّاه وانا واللّه أعلم ذلك ، وانّي مقتول لا محالة ، وليس لي من هذا بد ، وانّي
واللّه لأعرف اليوم الذي اقتل فيه ، وأعرف من يقتلني ، وأعرف البقعة التي أدفن
فيها ، وانّي أعرف من يقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي ، وان أردت يا أمّاه أريك
حفرتي ومضجعي .
ثم
أشار الى جهة كربلاء فانخفضت الارض حتى اراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره وموقفه
ومشهده ، فعند ذلك بكت أم سلمة بكاءً شديدا وسلمت أمره الى اللّه ، فقال لها :
يا
أمّاه قد شاء اللّه عزوجل أن يراني مقتولاً مذبوحا ظلما وعدوانا ، وقد شاء أن يرى
حرمي ورهطي ونسائي مشردين ، وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين
(1) سورة القصص : 21 .
(2) الارشاد : 202 .
(3) المنتخب الطريحي : 411
.
(4) البحار 45:88 ،
عن كامل الزيارات : 96 ، ح 9 ، الباب 29 .
(229)
مقيدين ،
وهم يستغيثون فلا يجدون ناصرا ولا معينا .
فقالت
ام سلمة رضي اللّه عنها : وعندي تربة دفعها اليّ جدي في قارورة فقال : واللّه
انّي مقتول كذلك ، وان لم أخرج الى العراق يقتلوني ايضا ، ثم أخذ تربة فجعلها في
قارورة وأعطاها ايّاها وقال : اجعليها مع قارورة جدّي ، فاذا فاضتا دما فاعلمي
انّي قد قتلت
(1) .
روى
العلامة المجلسي في جلاء العيون بسند معتبر عن الصادق عليهالسلام انّه قال :
(ورواه الشيخ المفيد ايضا وغيره) لما سار أبو عبد اللّه عليهالسلام من المدينة
لقيته أفواج من الملائكة في ايديهم الحراب على نجب من نجب الجنة ، فسلّموا عليه
وقالوا : يا حجة اللّه على خلقه بعد جدّه وأبيه وأخيه ، انّ اللّه سبحانه أمدّ
جدّك بنا في مواطن كثيرة وانّ اللّه تعالى أمدك بنا .
فقال
لهم : الموعد حفرتي وبقعتي التي استشهد فيها وهي كربلاء ، فاذا وردتها فأتوني ،
فقالوا : يا حجة اللّه مرنا نسمع ونطع ، فهل تخشى من عدو يلقاك فنكون معك ؟ فقال
: لا سبيل لهم عليّ ولا يلقوني بكريهة أو أصل الى بقعتي .
وأتته
أفواج مسلمي الجن فقالوا : يا سيدنا نحن شيعتك وانصارك فمرنا بأمرك ما تشاء ، فلو
أمرتنا بقتل كلّ عدوّ لك وأنت بمكانك لكفيناك ذلك . فجزاهم الحسين عليهالسلام
خيرا وقال لهم : أوما قرأتم كتاب اللّه المنزل على جدي رسول اللّه
صلىاللهعليهوآله : « أَيْنََما تَكُونُوا يُدْرِكْكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ
كُنْتُمْ فِى بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ »
(2) .
وقال
سبحانه : « ... قُلْ لَّوْ كُنْتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ »(3) .
واذا
أقمت بمكاني فبماذا يبتلي هذا الخلق المتعوس ؟ وبماذا يختبرون ؟ ومن ذا يكون ساكن
حفرتي بكربلاء ، وقد اختارها اللّه تعالى يوم دحا الارض وجعلها معقلاً لشيعتنا ،
ويكون لهم أمانا في الدنيا والاخرة ، ولكن تحضرون يوم السبت وهو يوم عاشوراء الذي
في آخره أقتل ، ولا يبقى بعدي مطلوب من أهلي ونسبي وأخوتي وأهل بيتي ويسار برأسي
الى يزيد لعنه اللّه .
فقالت
الجن : نحن واللّه يا حبيب اللّه وإبن حبيبه لو لا أن أمرك طاعة وانّه لا يجوز
لنا مخالفتك قتلنا جميع اعدائك قبل أن يصلوا إليك .
فقال
عليهالسلام لهم : نحن واللّه أقدر عليهم منكم ولكن ليهلك من هلك عن بينة ويحيى
من حيّ عن بينة
(4) .
(1) الخرائج 1:253 مع
اختلاف ، وفي البحار 44:331 .
(2) النساء : 78 .
(3) آل عمران : 154 .
(230)
* * *
(1) جلاء العيون : 354 ،
والبحار 44:330 ، عن الارشاد .
(231)
الفصل الثاني
في بيان قدومه عليهالسلام الى مكة المعظمة
ومجيء كتب ورسائل أهل الكوفة اليه
قد
تقدّم انّ الحسين عليهالسلام خرج من المدينة ليلة الأحد ليومين بقيا من شهر رجب ،
ووصل مكة ليلة الجمعة لثلاثة ايام خلت من شعبان ، فلمّا دخلها تمثل بهذه الاية
المباركة : « وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّى أَنْ
يَهْدِيَنِى سَوآءَ السَّبِيلِ »
(1) .
ولمّا
علم الوليد بن عتبة بخروج الحسين عليهالسلام بعث الى عبد اللّه بن عمر وطلب منه
البيعة ، فقال عبد اللّه : سأبايع بعد أن يبايع غيري وسأتبعهم ، وكان الوليد لا
يهتم كثيرا ببيعة عبد اللّه لعدم خوفه منه ، فتركه لذلك ، فذهب إبن عمر الى مكة
ولحق بسائر المعارضين .
ولمّا
بلغ أهل مكة والكثير من الناس الذين جاؤوا للعمرة قدوم الامام الحسين عليهالسلام
، فرحوا كثيرا وجاؤوا اليه وكانوا يحضرون مجلسه صباحا ومساءا ، وقد القى عبد
اللّه بن الزبير رحله في مكة ولازم الكعبة ، واكثر من الصلاة والعبادة لخداع
الناس ، وكان يذهب كل يوم الى الحسين عليهالسلام مع انّه يحسّ بالثقل في نفسه من
الامام عليهالسلام ، ولا يحب بقاءه في مكة لزعمه انّ الامام ينافسه ، وكان يعلم
عدم بيعة أحد من أهل مكة له مادام الحسين هناك
(2) .
وبلغ
أهل الكوفة هلاك معاوية ، فأرجفوا بيزيد وعرفوا خبر الحسين عليهالسلام وامتناعه
عن بيعته وخروجه الى مكة ، فاجتمعت الشيعة بالكوفة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي
، فذكروا هلاك معاوية ، فحمدوا اللّه واثنوا عليه وقال سليمان :
انّ
معاوية قد هلك وانّ حسينا قد تقبض على القوم ببيعته وخرج الى مكة ، وانتم شيعته
وشيعة ابيه ، فان كنتم تعلمون انكم ناصروه ومجاهدوا عدّوه ، فاكتبوا اليه وأعلموه
، وان خفتم الوهن والفشل فلا تغروا الرجل في نفسه . فقالوا بأجمعهم : لا بل نقاتل
عدوّه ونقتل أنفسنا دونه .
قال
: فاكتبوا اليه ، فكتبوا كتابا باسم سليمان بن صرد بن نجبة (بالنون والجيم والباء
المفتوحات ، قاله إبن الأثير) ورفاعة بن شداد البجلي (بجيلة كحنيفة والنسبة بجليّ
كحنفيّ) وحبيب بن مظاهر رحمهالله وسائر الشيعة ، الى الحسين عليهالسلام فقالوا
فيها بعد
(1) سورة القصص : 22 .
(2) البحار 44:332 ، وفي
الارشاد : 202 ايضا .
(232)
الحمد
والثناء على اللّه وبيان هلاك معاوية :
«
يا بن رسول اللّه انّه ليس علينا امام ، فأقبل لعلّ اللّه يجمعنا بك على الحق ،
والنعمان بن بشير في قصر الامارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه الى عيد ،
ولو قد بلغنا انّك قد أقبلت الينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام انشاء اللّه تعالى »
.
ثم
سرحوا بالكتاب مع عبد اللّه بن مسمع الهمداني وعبد اللّه بن وال التميمي
وأمروهما بالنجاء ، ثم لبث أهل الكوفة بعد تسريحهم بالكتاب يومين وانفذوا قيس بن
مسهر الصيداوي ، وعبد الرحمن بن عبد اللّه بن شداد ، وعمارة بن عبد للّه السلولي
الى الحسين عليهالسلام ، ومعهم نحو من مائة وخمسين صحيفة من الرجل والاثنين
والثلاثة والاربعة من عظماء الكوفة وكبارها .
ثم
لبثوا يومين آخرين وسرحوا هاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبد اللّه الحنفي وكتبوا
اليه :
«
بسم اللّه الرحمن الرحيم ، للحسين بن علي عليهماالسلام من شيعته من المؤمنين
والمسلمين ، أما بعد فحي هلا فان الناس ينتظرونك لا رأي لهم في غيرك ، فالعجل
العجل ، ثم العجل العجل ، والسلام عليك »
(1) .
وكتب
شبث بن ربعي ، وحجار بن أبجر ، ويزيد بن الحارث بن رويم الشيباني ، وعروة بن قيس ،
وعمرو بن الحجاج الزبيدي ، ومحمد إبن عمرو التيمي :
«
اما بعد فقد أخضر الجناب ، وأينعت الثمار ، فاذا شئت فأقبل على جند لك مجندة ،
والسلام »
(2) .
وتلاحقت
عليه الرسل وكثرت الكتب حتى اجتمع في يوم واحد عنده نحو من ستمائة كتاب من هؤلاء
الغدّارين ، فكان عليهالسلام يتأنّى في ارسال الجواب اليهم حتى اجتمع عنده اثنا
عشر الف كتاب .
* * *
(1) الارشاد : 202 ، ملخصا
، البحار 44:332 ، مع اختلاف قليل .
(2) الارشاد : 202 ، ملخصا
، البحار 44:332 ، مع اختلاف قليل .
(233)
الفصل الثالث
في ارساله عليهالسلام السيد الجليل ، مسلم بن عقيل
الى الكوفة
وارساله كتابا الى أشراف أهل البصرة
فلما
كثرت كتب ورسائل أهل الغدر والمكر من الكوفة ، واجتمعت عنده نحو من اثني عشر الف
رسالة وكتاب ، كتب الحسين عليهالسلام اليهم :
« بسم اللّه الرحمن الرحيم »
من
الحسين بن عليّ الى الملأ من المسلمين والمؤمنين ، امّا بعد فان هانيا وسعيدا قدما
عليّ بكتبكم ، وكانا آخر من قدم عليّ من رسلكم ، وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم
ومقالة جلكم : انّه ليس علينا امام فأقبل لعلّ اللّه أن يجمعنا بك على الهدى
والحق .
وانّي
باعث اليكم أخي وإبن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل ، (وأمرته أن يكتب اليّ
بحالكم ورأيكم) فان كتب اليّ انّه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى والفضل منكم على
مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم ، أقدم عليكم وشيكا انشاء اللّه ، فلعمري ما
الامام الاّ الحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الدائن بدين الحق ، الحابس نفسه على
ذات اللّه ، والسلام »
(1) .
فدعا
إبن عمه مسلم بن عقيل (الذي يمتاز بالعقل والعلم والتدبير والصلاح والسداد
والشجاعة) ، وسرّحه (لأخذ البيعة من أهل الكوفة) مع قيس بن مسهر الصيداوي ، وعمارة
بن عبد اللّه السلولي ، وعبد الرحمن بن عبد اللّه الأرحبي ، وأمره بتقوى اللّه
وكتمان أمره واللطف ، فان رأى الناس مجتمعين مستوثقين عجل اليه بذلك(2)
، فودع مسلم الحسين عليهالسلام وخرج من مكة .
قال
السيد ابن طاووس وإبن نما وغيرهما انّه : كتب الحسين عليهالسلام الى جماعة من
اشراف البصرة كتابا مع مولى له اسمه سليمان يكنّى أبا رزين يدعوهم فيه الى نصرته
ولزوم طاعته ، منهم أحنف بن قيس ، ومنذر بن جارود ، ويزيد بن مسعود النهشلي ، وقيس
بن الهيثم ، وقال فيه :
بسم اللّه الرحمن الرحيم
«
اما بعد ، فان اللّه اصطفى محمدا صلىاللهعليهوآله على خلقه ، واكرمه بنبوته ،
واختاره
(1) الارشاد : 204 ، عنه
البحار 44:334 .
(2) البحار 44:330 ،
الارشاد : 204 .
(234)
لرسالته ،
ثم قبضه اللّه اليه ، وقد نصح لعباده ، وبلغ ما أرسل به صلىاللهعليهوآله ،
وكنّا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحق الناس بمقامه في الناس ، فاستأثر علينا
قومنا بذلك فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية ، ونحن نعلم انّا أحق بذلك ،
المستحق علينا ممن تولاه ، وقد بعثت رسولي اليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم الى كتاب
اللّه وسنة نبيه صلىاللهعليهوآله ، فان السنة قد اميتت ، وانّ البدعة قد
احييت ، وان تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد ، والسلام عليكم ورحمة
اللّه وبركاته »(1) .
فأخذ
سليمان الكتاب وذهب الى البصرة مسرعا وأعطاه الى صناديد البصرة ، ففرحوا به كثيرا
، فجمع يزيد بن مسعود النهشلي بني تميم وبني حنظلة وبني سعد فلما حضروا قال : يا
بني تميم كيف ترون فيكم موضعي وحسبي منكم ؟ فقالوا : بخ بخ أنت واللّه فقرة الظهر
ورأس الفخر ، حللت في الشرف وسطا وتقدمت فيه فرطا .
قال
: فانّي قد جمعتكم لأمر اريد أن أشاوركم فيه وأستعين بكم عليه ، فقالوا : انّا
واللّه نمنحك النصيحة ونجهد لك الرأي ، فقل حتى نسمع .
فقال
: انّ معاوية مات ، فأهون به واللّه هالكا ومفقودا ، ألا وانّه قد انكسر باب
الجور والاثم ، وتضعضعت اركان الظلم ، وقد كان أحدث بيعة عقد بها أمرا ، ظن انه قد
أحكمه وهيهات والذي أراد اجتهد واللّه ففشل وشاور فخذل ، وقد قام ابنه زيد شارب
الخمور ورأس الفجور يدّعي الخلافة على المسلمين ، ويتأمّر عليهم بغير رضى منهم مع
قصر حلم ، وقلّة علم ، لا يعرف من الحق موطئ قدمه ، فأقسم باللّه قسما مبرورا
لجهاده على الدين أفضل من جهاد المشركين .
وهذا
الحسين بن عليّ عليهالسلام إبن بنت رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ذو الشرف
الاصيل ، والرأي الأثيل ، له فضل لا يوصف ، وعلم لا ينزف ، وهو أولى بهذا الامر
لسابقته ، وسنّه ، وقدمه ، وقرابته ، يعطف على الصغير ، ويحنو على الكبير ، فأكرم
به راعي رعيّة ، وامام قوم ، وجبت للّه به الجنة ، وبلغت به الموعظة ، فلا تعشوا
عن نور الحق ، ولا تستكعّوا في وهدة الباطل ، فقد كان صخر بن قيس انخذل بكم يوم
الجمل ، فاغسلوها بخروجكم الى ابن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ونصرته ،
واللّه لا يقصر أحد عن نصرته الاّ أورثه اللّه الذلّ في ولده والقلّة في عشيرته
، ها أنا قد لبست للحرب لامتها ، وادرعت لها بدرعها من لم يقتل يمت ، ومن يهرب لم
يفت ، فأحسنوا رحمكم اللّه ردّ الجواب .
فتكلمت
بنو حنظلة فقالوا : يا أبا خالد نحن نبل كنانتك وفرسان عشيرتك ان رميت بنا أصبت ،
وان غزوت بنا فتحت ، لا تخوض واللّه غمرة الاّ خضناها ، ولا تلقي واللّه شدّة
الاّ لقيناها ، ننصرك واللّه باسيافنا ونقيك بابداننا ، اذا شئت فافعل .
(1) اللهوف : 38 ، ومثير
الأحزان : 27 ، لكن لم نجد نصّ الكتاب فيهما ، وقد نقله المؤلف رحمهالله في كتابه
نفس المهموم عن الطبري راجع نفس المهموم : 90 .
(235)
وتكلّمت
بنو سعيد بن يزيد ، فقالوا : يا أبا خالد انّ ابغض الاشياء الينا خلافك والخروج من
رأيك ، وقد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتل فحمدنا أمرنا وبقى عزّنا فينا ،
فأمهلنا نراجع المشورة ونأتيك برأينا .
وتكلّمت
بنو عامر بن تميم فقالوا : يا أبا خالد نحن بنو ابيك وخلفاؤك لا نرضى ان غضبت ،
ولا نوطن ان ظعنت ، والامر إليك فادعنا نجبك ، وامرنا نطعك ، والامر لك اذا شئت .
فلمّا
علم أبو خالد مكنون ضميرهم كتب الى الحسين عليهالسلام :
بسم اللّه الرحمن الرحيم
اما
بعد فقد وصل اليّ كتابك ، وفهمت ما ندبتني اليه ودعوتني له من الاخذ بحظّي من
طاعتك ، والفوز بنصيبي من نصرتك ، وانّ اللّه لا يخل الارض قط من عامل عليها بخير
أو دليل على سبيل نجاة ، وانتم حجة اللّه على خلقه ووديعته في أرضه ، تفرّعتم من
زيتونة أحمديّة هو أصلها وانتم فرعها ، فأقدم سعدت بأسعد طائر فقد ذلّلت لك أعناق
بني تميم ، وتركتهم أشدّ تتابعا في طاعتك من الابل الظماء لورود الماء يوم خمسها
وكظّها ، وقد ذلّلت لك بني سعد وغسلت درن صدورها بماء سحابة مزن حين استهمل برقها
فلمع » .
فلمّا
قرأ الحسين عليهالسلام الكتاب قال : ما لك آمنك اللّه يوم الخوف وأعزّك وأرواك
يوم العطش الاكبر
(1) .
وكتب
ايضا الأحنف بن قيس : امابعد : « فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلاَ
يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ »(2) وقد أشار فيها إلى غدر
أهل الكوفة بالكناية .
(1) اللهوف : 40 ـ 44 .
(2) سورة الروم : 60 ،
البحار 44:340 .
(236)
الفصل الرابع
في بيان ذهاب مسلم بن عقيل الى الكوفة وكيفية
استشهاده
مضى
في الفصل السابق انّ الامام الحسين عليهالسلام كتب كتابا الى أهل الكوفة جوابا
لهم ، وأرسله بيد مسلم بن عقيل وأمره بالذهاب الى الكوفة .
فتهيّأ
مسلم للشخوص الى الكوفة ، فودع الحسين عليهالسلام وخرج من مكّة (وفي بعض الروايات
انّه خرج من مكة ليلة النصف من شهر رمضان ، وقدم الى الكوفة في الخامس من شوال)
فذهب الى المدينة فصلى في المسجد وزار النبي صلىاللهعليهوآله ثم ذهب الى أهله
فودّعهم ، ثم استأجر دليلين من قيس فأقبلا به يتنكبان الطريق فضلاّ وأصابهما عطش
شديد فعجزا عن المسير فأومآ له الى سنن الطريق بعد أن لاح لهما ذلك ، فسلك مسلم
ذلك السنن ومات الدليلين عطشا ، فوصل مسلم بن عقيل الى قرية تسمى بمضيق بعسر ومشقة
، فكتب من هناك كتابا الى الحسين عليهالسلام يريد منه أن يعفيه من مهمّته ويستبدل
غيره فأرسل كتابه بيد قيس بن مسهر ، ولم يعفه الامام وأمره بالذهاب الى الكوفة .
فلما
وصل الكتاب الى مسلم عجّل بالذهاب الى الكوفة ، فلما قدمها ذهب الى دار المختار بن
ابي عبيدة الثقفي المعروف بدار سالم بن المسيب ، وعلى رواية الطبري نزل عند مسلم
بن عوسجة ، ففرح أهل الكوفة وجاؤوا اليه أفواجا ، فكان يقرأ على كل جماعة منهم
كتاب الامام عليهالسلام فيستمعون ويبكون ثم يبايعون .
وفي
تاريخ الطبري انّه : قام عابس بن أبي شبيب الشاكري فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال
: امّا بعد فانّي لا أخبرك عن الناس ولا أعلم ما في أنفسهم وما أغرّك منهم ،
واللّه أحدثك عمّا أنا موطّن نفسي عليه ، واللّه لأجيبنّكم اذا دعوتم ،
ولأقاتلنّ معكم عدوّكم ، ولأضربنّ بسيفي دونكم حتى ألقى اللّه ، لا أريد بذلك
الاّ ما عند اللّه .
فقام
حبيب بن مظاهر فقال : رحمك اللّه قد قضيت ما في نفسك بواجز من قولك ، ثم قال :
وانا واللّه الذي لا اله الاّ هو على مثل ما هذا عليه .
ثم
قال الحنفي مثل ذلك (يمكن أن يكون المراد منه سعيد بن عبد اللّه الحنفي)
(1) .
وقال
شيخ المفيد رحمهالله وغيره : وبايعه الناس حتى بايعه منهم ثمانية عشر الفا ، فكتب
مسلم الى الحسين عليهالسلام يخبره ببيعة ثمانية عشر الفا ويأمره بالقدوم ، وجعلت
(1) تاريخ الطبري 4:264 ،
وقائع سنة ستين للهجرة .
(237)
الشيعة
تختلف الى مسلم بن عقيل رحمهالله حتى علم بمكانه ، فبلغ النعمان بن بشير ذلك وكان
واليا على الكوفة من قبل معاوية فأقرّه يزيد عليها(1) .
فصعد
المنبر وهدّد الناس وخوّفهم ، وأمرهم بترك الاختلاف والذهاب الى مسلم ، فلم يستمع
الناس كلامه وظلّوا يختلفون الى مسلم ، فلما رأى عبد اللّه بن مسلم بن ربيعة ـ من
شيعة بني أميّة ـ ضعف النعمان وعدم سيطرته على الاوضاع كتب الى يزيد كتابا وأخبره
عن قدوم مسلم الى الكوفة وبيعة أهلها له ، وسعى في عزل النعمان وارسال غيره .
وكتب
إبن سعد ايضا كتبا الى يزيد فأخبره بوقائع الكوفة وما يجري فيها ، فلما بلغ ذلك
يزيد اللعين ، شاور سرجون ـ وهو مولى ابيه معاوية ومن خواصّه ومستشاره فصار بعده
في خدمة يزيد ـ فاستقر رأيهما على جعل عبيد اللّه بن زياد واليا عليها مضافا الى
البصرة ، فكتب يزيد الى عبيد اللّه الذي كان واليا على البصرة آنذاك :
«
اما بعد فانّه كتب اليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني انّ إبن عقيل فيها يجمع
الجموع ليشق عصا المسلمين ، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة فتطلب إبن
عقيل طلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه ، والسلام » .
فأمر
عبيد اللّه بالجهاز من وقته والمسير والتهيؤ الى الكوفة من الغد ، ثم خرج من
البصرة فاستخلف أخاه عثمان ، وأقبل الى الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي ، وشريك
بن الاعور الحارثي وحشمه وأهل بيته حتى دخل الكوفة وعليه عمامة سوداء وهو متلثم ،
والناس قد بلغهم اقبال الحسين عليهالسلام اليهم فهم ينتظرون قدومه ، فظنوا حين
رأوا عبيد اللّه انّه الحسين عليهالسلام .
فأخذ
لا يمرّ على جماعة من الناس الاّ سلّموا عليه ، وقالوا مرحبا بك يا بن رسول اللّه
قدمت خير مقدم ، فرأى من تباشرهم بالحسين عليهالسلام ما ساءه ، فقال مسلم بن عمرو
لما اكثروا : تأخروا هذا الامير عبيد اللّه بن زياد ، وسار حتى وافى القصر بالليل
ومعه جماعة قد التفوا به (فبات تلك الليلة هناك) فلما أصبح نادى في الناس الصلاة
جامعة
(2) ، فاجتمع الناس فخرج اليهم فصعد المنبر
وهدّدهم وخوّفهم من معصية الخليفة ، وواعدهم الاحسان والجوائز بطاعة يزيد .
ثم
نزل من المنبر ودعا رؤساء القبائل والمحلات ، وأمرهم أن يكتبوا اليه اسم من يظنّون
انّه في مقام الخلاف والنفاق مع يزيد ، ولو توانو في هذا الامر ولم يفعلوه ، فدمهم
ومالهم مباح
(3) .
(1) الارشاد : 205 ، عنه
البحار 44:335 .
(2) الارشاد : 206 ، عنه
البحار 44:337 .
(3) الارشاد : 206 ، نحوه
.
(238)
ولما
سمع مسلم خرج من دار المختار حتى انتهى الى دار هاني بن عروة فدخلها واختفى هناك ،
وعلى رواية الطبري وأبي الفرج انه لما دخل مسلم دار هاني بن عروة المرادي أرسل
اليه أن أخرج ، فخرج اليه هاني فكره هاني مكانه حين رآه ، فقال له مسلم : أتيتك
لتجيرني وتضيّفني ، فقال : رحمك اللّه لقد كلفتني شططا ، ولو لا دخولك داري وثقتك
لأحببت ولسألتك أن تخرج عنّي غير انّه يأخذني من ذلك ذمامٌ ، وليس مردود على مثلك
عن جهل أدخل ، فآواه(1) .
ونرجع
الى الرواية السابقة : لما دخل مسلم دار هاني أخذت الشيعة تختلف اليه في دار هاني
على تستّر واستخفاء من عبيد اللّه وتواصوا بالكتمان ، فكان الامر هكذا حتى بايعه
خمسة وعشرون الف رجل ـ على رواية إبن شهر آشوب(2) ـ وكان إبن زياد لا
يعلم بمكان مسلم وموضعه وقد جعل العيون كي يطّلع عليه ، فعلم بعد اعمال الحيل انّه
في دار هاني ، وكان معقل ـ مولى إبن زياد ـ يختلف على مسلم كل يوم ويطلع على خفايا
وأسرار الشيعة ثم يبلغها الى إبن زياد .
وخاف
هاني بن عروة من عبيد اللّه على نفسه ، فانقطع عن حضور مجلسه وتمارض ، فقال إبن
زياد لجلسائه : ما لي لا أرى هانيا ؟ فقالوا : هو شاك ، فقال : لو علمت بمرضه
لعدته ، ودعا محمد بن الأشعث ، وأسماء بن خارجة ، وعمرو بن الحجاج الزبيدي وكانت
رويحة بنت عمرو تحت هاني بن عروة .
فقال
لهم : ما يمنع هاني بن عروة من اتياننا ؟ فقالوا : ما ندري وقد قيل انّه يشتكي ،
قال : قد بلغني انّه قد برىء وهو يجلس على باب داره ، فالقوه ومروه الاّ يدع ما
عليه من حقّنا ، فانّي لا أحبّ أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب .
فأتوه
وأرضوه بالذهاب الى إبن زياد ، فخرجوا معه اليه ، فقال في الطريق لحسان بن اسماء
بن خارجة : يا إبن الأخ انّي واللّه لهذا الرجل لخائف فما ترى ، فقال : يا عم
واللّه ما أتخوّف عليك شيئا ولم تجعل على نفسك سبيلاً .
فكان
يسلّيه حتى قدموا على إبن زياد اللعين فلما رأى عبيد اللّه هاني قال : اتتك بحائن
رجلاه ، فبدأ بتوبيخه وعتابه وقال له : أيه يا هاني ما هذه الامور التي تربص في
دارك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين ، جئت بمسلم بن عقيل فادخلته دارك ، وجمعت له
السلاح والرجال في الدور حولك ، وظننت انّ ذلك يخفى عليّ .
فانكر
هاني ذلك ، فدعا عبيد اللّه معقلاً ذلك العين فجاء حتى وقف بين يديه ، فلمّا رآه
هاني علم انّه كان عينا عليهم وانّه قد أتاه باخباره ، فلم يقدر على الانكار فقال
:
واللّه
ما دعوته الى منزلي ولا علمت بشيء من أمره حتى جاءني يسألني النزول
(1) تارخ الطبري 4:269 ،
ومثله في مقاتل الطالبيين : 64 .
(2) المناقب 4:91 .
(239)
فاستحييت
من ردّه ، ودخلني من ذلك ذمام فضيّفته وآويته ، وإن شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك
حتى آتيك وانطلق اليه فأمره أن يخرج من داري الى حيث شاء من الارض ، فأخرج من
ذمامه وجواره .
فقال
له إبن زياد اللعين : واللّه لا تفارقني أبدا حتى تأتيني به ، قال هاني : لا
واللّه لا أجيبك به أبدا أجيئك بضيفي تقتله ، فكثر الكلام بينهما ، وبالغ إبن
زياد في ما يريده وتضايق هاني عن اجابته .
فقام
مسلم بن عمرو الباهلي فقال : أصلح اللّه الامير خلنّي وايّاه حتى أكلّمه ، فقام
فخلا به ناحية من إبن زياد وهما منه بحيث يراهما فاذا رفعا أصواتهما سمع ما يقولان
، فقال له مسلم : يا هاني أنشدك اللّه أن تقتل نفسك وأن تدخل البلاء في عشيرتك ،
فو اللّه انّي لأنفس بك عن القتل ، انّ هذا الرجل إبن عم القوم وليسوا قاتليه ولا
ضارّيه فادفعه اليهم .
فقال
هانيّ : واللّه انّ عليّ في ذلك الخزي والعار أن أدفع جاري وضيفي وأنا حيّ صحيح
أسمع وأرى ، شديد الساعد ، كثير الأعوان ، واللّه لو لم اكن الاّ واحدا ليس لي
ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه .
فسمع
إبن زياد ذلك فقال : أدنوه منّي ، فأدنوه منه ، فقال : واللّه لتأتيني به أو
لأضربنّ عنقك ، فقال هاني : اذا واللّه لتكثر البارقة حول دارك ، ولتكثر السيوف
عليك من بني مذحج .
فقال
إبن زياد : والهفاه عليك أبا بارقة تخوفني ؟ وهو يظنّ انّ عشيرته سيمنعونه ، ثم
قال : أدنوه منّي ، فأدني منه ، فاعترض وجهه بالقضيب ، فلم يزل يضرب به أنفه
وجبينه وخدّه حتى كسر انفه وسال الدم على وجهه ولحيته ، ونثر لحم جبينه وخدّه على
لحيته حتى كسر القضيب ، وضرب هاني يده الى قائم سيف شرطي وجاذبه الرجل ومنعه .
فقال
عبيد اللّه : ... قد حلّ لنا دمك جرّوه ، فجرّوه فألقوه في بيت من بيوت الدار
واغلقوا عليه بابه ، فقام اليه اسماء بن خارجة ـ وعلى رواية المفيد حسان بن اسماء
ـ فقال : أرسل غدر ساير اليوم ، أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتى اذا جئناك به هشمت
أنفه ووجهه ، وسيّلت دماءه على لحيته وزعمت انّك تقتله .
فلما
سمع إبن زياد ذلك غضب ، فأمر به ، فلهز وتعتع واجلس ناحية ، فقال محمد بن الاشعث :
قد رضينا بما رأى الأمير ، لنا كان أم علينا انّما الامير مؤدب ، وبلغ عمرو بن
الحجاج انّ هانيا قد قتل ، فأقبل في مذحج حتى أحاط بالقصر ومعه جمع عظيم ثم نادى :
انا عمرو بن الحجاج وهذه فرسان مذحج ووجوهها لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعة .
فخاف
إبن زياد وأمر شريح القاضي ان يدخل على هاني وينظر اليه ثم يخبر
(240)
القوم
بانّه حي لم يقتل ، فدخل شريح فنظر اليه والدماء تسيل عليه وهو يقول : يا للّه يا
للمسلمين ، أهلكت عشيرتي ؟ اين أهل الدين اين أهل المصر ؟ انّه ان دخل عليّ عشرة
نفر أنقذوني(1) .
فلمّا
سمع كلامه شريح خرج اليهم وأخبرهم بانّ هاني حيّ ، وانّ الذي بلغهم من قتله باطل ،
فحمدوا اللّه وأثنوا عليه ثم تفرقوا وانصرفوا .
ولمّا
بلغ مسلم ذلك أمر ان ينادى في اصحابه بالخروج للقتال ، فاجتمع هؤلاء الغدرة على
باب هاني ، فخرج اليهم مسلم وعقد لكل قبيلة راية ، وما لبث قليلاً حتى امتلأ
المسجد من الناس والسوق ، فضاق بعبيد اللّه امره وليس معه في القصر الاّ خمسون
نفرا وباقي اصحابه خارج القصر ليس لهم اليه سبيل .
فاجتمع
اصحاب مسلم حول القصر وأخذوا يرمون من في القصر بالحجارة ويشتمون ويفترون على عبيد
اللّه وعلى ابيه ، فدعا إبن زياد كثير بن شهاب وأمره ان يخرج فيمن اطاعه من مذحج
فيسير في الكوفة ويخذل الناس عن إبن عقيل ويخوفهم الحرب ويحذرهم عقوبة السلطان .
وأمر
محمد بن الاشعث أن يخرج فيمن اطاعه من كندة وحضرموت ، فيرفع راية أمان لمن جاءه من
الناس وينادي انّه من دخل تحت هذه الراية فعرضه وماله ودمه في امان ، وقال مثل ذلك
للقعقاع الذهلي ، وشبث بن ربعي ، وحجّار بن ابجر ، وشمر بن ذي الجوشن ، فأرسلهم
للغدر بالناس واغوائهم .
فأقام
محمد بن الاشعث عَلَما فاجتمع حوله جمع من الناس مع انصراف جمع آخر بسبب الوساوس
الشيطانية التي بثّها أعوان عبيد اللّه حتى اجتمع عندهم خلق كثير ، فذهبوا الى
القصر ودخلوه من الخلف ، فلمّا أحسّ إبن زياد بكثرة اعوانه عقد راية لشبث بن ربعي
وأرسله مع جمع من المنافقين الى خارج القصر ، وأمر رؤساء القبائل أن يصعدوا على
السطوح ويخذّلوا الناس عن مسلم ويقولوا : أيها الناس الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا
الشرّ ولا تعرضوا انفسكم للقتل فانّ هذه جنود الشام قد أقبلت ، وقد أعطى الامير
عهدا أن يزيد في عطائكم ، وأقسم باللّه لان لم تنصرفوا من عشيتكم ليحرمنّ ذريتكم
العطاء ، ويفرق مقاتليكم في مغازي الشام ، وأن يأخذ البريء منكم بالسقيم ، والشاهد
بالغائب حتى لا يبقى له بقية من أهل المعصية الاّ أذاقها وبال ما جنت أيديها .
وتكلم
كثير بن شهاب والاشراف بنحو من ذلك ، فلمّا سمع الناس ذلك أخذوا يتفرقون قبل أن
تغرب الشمس
(2) .
(1) الارشاد : 208 ـ 210 ،
ملخّصا .
(2) الارشاد : 210 ، مع
بعض الاختلاف .
(241)
تفرق أهل
الكوفة عن مسلم بن عقيل رحمهالله :
روى
أبو مخنف عن يوسف بن أبي اسحاق عن عباس الجدي انّه قال : خرجنا مع إبن عقيل اربعة
الاف ، فلمّا بلغنا القصر الاّ ونحن ثلثمائة
(1) .
فأخذ
الناس يتفرقون وكانت المرأة تأتي ابنها وأخاها فتقول : انصرف الناس يكفونك ، ويجيء
الرجل الى ابنه واخيه فيقول : غدا يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشر ؟ انصرف
، فيذهب به فينصرف .
فما
زالوا يتفرقون حتى أمسى ابن عقيل وصلى المغرب وما معه الاّ ثلاثون نفسا في المسجد
، فلما رأى أنّه قد أمسى وما معه الاّ اولئك النفر خرج من المسجد متوجها نحو أبواب
كندة ، فما بلغ الابواب الاّ ومعه منهم عشرة ثم خرج من الباب ، فالتفت فاذا هو لا
يرى احدا يدله على الطريق ، ولا يدلّه على منزله ولا يواسيه بنفسه ان عرض له عدو .
فمضى
على وجهه متلددا في أزقّة الكوفة لا يدري أين يذهب حتى خرج الى دور بني جبلة من
كندة ، فمشى حتى انتهى الى باب امرأة يقال لها طوعة ، ام ولد كانت للأشعث ابن قيس
فاعتقها فتزوجها أسيد الحضرمي ، فولدت له بلالاً وكان بلال قد خرج مع الناس وامّه
قائمة تنتظره ، فسلم عليها إبن عقيل فردّت عليه السلام فقال لها : « يا أمة اللّه
اسقيني ماء » .
فسقته
وجلس وادخلت الاناء ثم خرجت ، فقالت : يا عبد اللّه ألم تشرب ؟ قال : بلى ، قالت
: فاذهب الى أهلك ، فسكت ثم عادت عليه مثل ذلك ، فسكت ثم قالت له في الثالثة :
سبحان اللّه يا عبد اللّه قم عافاك اللّه الى أهلك ، فانّه لا يصلح لك الجلوس
على بابي ولا احله لك .
فقام
وقال : يا أمة اللّه ما لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة ، فهل لك في أجر ومعروف
ولعلّي مكافيك بعد اليوم ، قالت : يا عبد اللّه وما ذاك ؟ قال : أنا مسلم بن عقيل
كذبني هؤلاء القوم وغرّوني وأخرجوني .
قالت
: انت مسلم ؟ قال : نعم ، قالت : ادخل ، فدخل بيتا في دارها غير البيت الذي تكون
فيه ، وفرشت له وعرضت عليه العشاء ، فلم يتعش ولم يكن باسرع من أن جاء ابنها ،
فرآها تكثر الدخول في البيت والخروج منه ، فقال لها : واللّه انّه لتريبني كثرة
دخولك هذا البيت منذ الليلة وخروجك منه ، انّ لك شأنا .
قالت
: أقبل على شأنك ولا تسألني عن شيء ، فألحّ عليها ، فقالت : يا بني لا تخبرنّ أحدا
من الناس بشيء مما أخبرك به ، قال : نعم ، فأخذت عليه الايمان فحلف
(1) مقتل ابي مخنف : 43 .
(242)
لها ،
فأخبرته فاضطجع وسكت .
ولما
تفرق الناس عن مسلم بن عقيل طال على إبن زياد وجعل لا يسمع لأصحاب إبن عقيل صوتا
كما كان يسمع قبل ذلك ، (وكان يريد الذهاب الى المسجد للصلاة لكن يغلبه الخوف)
فقال لأصحابه : أشرفوا فانظروا هل ترون منهم أحدا ؟ فأشرفوا فلم يروا أحدا ، قال :
فانظروهم لعلّهم تحت الظلال قد كمنوا لكم ، فنزعوا تخاتج المسجد يخفضون بشعل النار
في أيديهم وينظرون ، فكانت تضيء لهم وأحيانا لا تضيء كما يريدون ، فدلوا القناديل
وأطنان القصب تشد بالحبال فيها النيران ثم تدلى حتى ينتهي الى الارض ، ففعلوا ذلك
في اقصى الظلال وأدناها وأوسطها حتى فعل ذلك بالظلة التي فيها المنبر ، فلما لم
يروا شيئا اعلموا إبن زياد بتفرق القوم ، ففتح باب السدة التي في المسجد ، ثم خرج
فصعد المنبر وخرج اصحابه معه فأمرهم فجلسوا قبيل العتمة ، وأمر عمرو بن نافع فنادى
ألا برئت الذمة من رجل من الشرط والعرفاء والمناكب أو المقاتلة صلى العتمة الاّ في
المسجد .
فلم
يكن الاّ ساعة حتى امتلأ المسجد من الناس ، ثم أمر مناديه فاقام الصلاة وأقام
الحرس خلفه ، وأمرهم بحراسته من أن يدخل عليه أحد يغتاله ، وصلّى بالناس ثم صعد
المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال :
أمّا
بعد فانّ إبن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق ، فبرئت
ذمة اللّه من رجل وجدناه في داره ومن جاء به فله ديته ، اتقوا اللّه عباد اللّه
والزموا طاعتكم وبيعتكم ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً ، يا حصين بن نمير ثكلتك
امّك ان ضاع باب سكة من سكك الكوفة أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به ، وقد سلّطتك
على دور أهل الكوفة فابعث مراصد على أهل السكك ، واصبح غدا فاستبريء الدور وحبس
خلالها حتى تأتيني بهذا الرجل ، وكان الحصين بن نمير على شرطه وهو من بني تميم .
ثم
دخل إبن زياد القصر ، فلما اصبح جلس مجلسه وأذن للناس فدخلوا عليه ، وأقبل محمد بن
الاشعث ، فرحب به وأجلسه الى جنبه ، وأصبح إبن تلك العجوز فغدا الى عبد الرحمن بن
محمد بن الاشعث فأخبره بمكان مسلم بن عقيل عند امّه ، فاقبل عبد الرحمن حتى أتى
أباه وهو عند إبن زياد فسارّه فعرف إبن زياد سراره فقال له إبن زياد بالقضيب في
جنبه : قم فأتني به الساعة ، فقام محمد بن الاشعث وبعث معه قومه وبعث معه عبيد
اللّه إبن عباس السلمي في سبعين رجلاً من قيس حتى أتوا الدار التي فيها مسلم بن
عقيل ، فلمّا سمع وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال علم انّه قد أتى ، فخرج اليهم
بسيفه واقتحموا عليه الدار فشدّ عليهم فضربهم بسيفه حتى اخرجهم من الدار ، ثم
عادوا اليه فشدّ عليهم كذلك
(1) .
(1) الارشاد : 211 ـ 213 .
(243)
وفي
كامل البهائي انّه : كان مسلم بن عقيل في الدعاء اذ سمع وقع حوافر الخيول وصهيلها
، فعجّل في دعائه وأتمّه ، فلبس لامته وقال لطوعة : يا امة اللّه قد أدّيت ما
عليك من الخير ، ولك نصيب من شفاعة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، وقد رأيت
عمّي امير المؤمنين عليهالسلام في المنام فقال لي : ستلحق بي غدا(1) .
وروى
المسعودي وأبو الفرج : انّ مسلم لما خرج من الدار ورأى انهم قد أشرفوا عليه من فوق
السطوح وأخذوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النيران في أطنان القصب ثم يقذفونها عليه
من فوق السطوح ، فلما رأى ذلك قال :
أكلّما
أرى من الاجلاب لقتل إبن عقيل ؟ يا نفس أخرجي الى الموت الذي ليس منه محيص ، فخرج
رضوان اللّه عليه مصلتا سيفه الى السكة فقاتلهم وهو يقول :
أقسمت لا أقتل الاّ حرّا
وان رأيت الموت شيئا نكرا كل امرء يوما ملاقٍ شرا أو يَخلُطَ
البارد سخنا مرا ردّ شعاع النفس فاستقرّا أخاف أن أكذب أو أغرّا(2)
مقاتلة
مسلم مع الكوفيين :
قال
العلامة المجلسي رحمهالله في جلاء العيون :
لما
سمع مسلم وقع حوافر الخيل علم انّهم جاؤوا لطلبه فقال : انا للّه وانا اليه
راجعون ، فأخذ سيفه وخرج من البيت فلما رأهم قاتلهم قتالاً شديدا حتى قتل جمعا
منهم ، فجعلوا يفرّون منه أينما يتوجه .
فقتل
منهم خمسة واربعين رجلاً ، وقد بلغ من الشجاعة والقوّة مبلغا عظيما ، حتى انّه كان
يرفع الرجل منهم بيده ويقذفه على السطح ، وجاء بكر بن حمران وضربه على فمه فقطع
شفته العليا وأسرع السيف الى السفلى وفصلت له ثنيتاه ، فلم يقطع القتال بل هجم
عليهم .
فلمّا
رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق البيت ، فأخذوا يرمونه بالحجارة ، ويلهبون النار في
اطنان القصب ثم يلقونها عليه من فوق البيت ، فلما رأى ذلك وأيس من الحياة هجم
عليهم كرة اخرى وقتل جمعا آخر منهم .
فلما
رأى إبن الاشعث ذلك وعلم انّه لا يمكّن من نفسه قال له : لك الامان لا تقتل نفسك
وانّ إبن زياد لا يريد قتلك ، فقال مسلم : لا أمان لكم يا أهل الكوفة فان الوفاء
بعيد من المنافقين ، وكان قد اثخن بالجراح وعجز عن القتال ، فأسند ظهره الى الجدار
.
(1) كامل البهائي 2:275 .
(2) مروج الذهب 3:59
، مقاتل الطالبيين : 69 ، ولا يخفى انّ الابيات تخالف ما في المصدرين .
(244)
فعرض
إبن الاشعث عليه الامان مرة أخرى ، فقبل منه مع علمه بعدم وفائهم بالامان وانّهم
يكذبون ، فقال لابن الاشعث : أآمن ؟ قال : نعم ، فقال للقوم الذين معه : الى
الامان ؟ قال القوم له : نعم ، فترك القتال ووطن نفسه على القتل .
وعلى
رواية السيد بن طاووس انّه : نادى اليه محمد بن الاشعث وقال : يا مسلم لك الامان ،
فقال مسلم : وأيّ أمان للغدرة الفجرة ثم أقبل يقاتلهم ويرتجز ، فتكاثروا عليه بعد
ان أثخن بالجراح ، فطعنه رجل من خلفه فخرّ الى الارض فأخذ أسيرا
(1) .
فأتي
ببغلة فحمل عليها فاجتمعوا حوله وانتزعوا سيفه ، فكأنّه عند ذلك أيس من نفسه ودمعت
عيناه ثم قال : هذا اول الغدر ، قال له محمد بن الاشعث : أرجوا أن لا يكون عليك
بأس ، فقال : وما هو الاّ الرجاء أين أمانكم ؟ فتأوّه وقال : « انّا للّه وانّا
اليه راجعون » وبكى .
فقال
له عبيد اللّه بن العباس السلمي : انّ من يطلب مثل الذي تطلب اذا نزل به مثل الذي
نزل بك لم يبك ، قال : واللّه ما لنفسي بكيت ولا لها من القتل أرثي ، ولكن ابكي
لأهلي المقبلين اليّ أبكي للحسين عليهالسلام .
ثم
أقبل على محمد بن الاشعث فقال : يا عبد اللّه انّي أراك واللّه ستعجز عن أماني ،
فهل عندك خير تستطيع أن تبعث من عندك رجلاً على لساني أن يبلغ حسينا ، فانّي لا
أراه الاّ قد خرج اليكم مقبلاً أو هو خارج غدا وأهل بيته ، ويقول انّ إبن عقيل
بعثني إليك وهو أسير في أيدي القوم لا يرى انّه يمسي حتى يقتل وهو يقول : ارجع
فداك أبي وأمي بأهل بيتك ولا يغرّك أهل الكوفة ، فانّهم اصحاب ابيك الذي كان يتمنى
فراقهم بالموت أو القتل ، انّ أهل الكوفة قد كذبوك وليس لكذوب رأي .
فتعهد
إبن الاشعث له بذلك ، وأقبل بابن عقيل الى باب القصر فدخل على إبن زياد الدعي بن
الدعي ، فأخبره خبر إبن عقيل وما كان من أمانه ، فقال له عبيد اللّه : وما أنت
والامان كأنّا أرسلناك لتؤمنه ، فسكت ابن الاشعث .
ولمّا
جيء بذلك الغريق في بحر المحن والبلاء على باب القصر ، كان قد اشتد عليه العطش
وعلى باب القصر ناس جلوس ينتظرون الاذن ، واذا قلة باردة موضوعة على الباب ، فقال
مسلم لهؤلاء الغدرة الفجرة : اسقوني من هذا الماء .
فقال
مسلم بن عمرو : أتراها ما أبردها واللّه لا تذوق منها قطرة أبدا حتى تذوق الحميم
في نار جهنّم ، فقال له إبن عقيل : ويلك من أنت ؟ قال : أنا من عرف الحق اذ انكرته
، ونصح لامامه اذ غششته ، واطاعه اذ خالفته ، أنا مسلم بن عمرو الباهلي (لعنه
اللّه) .
فقال
له إبن عقيل : لامّك الثكل ما أجفاك وأفظّك وأقسى قلبك ، انت يا بن باهلة
(1) اللهوف : 54 .
(245)
أولى بالحميم
والخلود في نار جهنّم منّي ، ثم جلس فتساند الى حائط فرقّ له عمرو بن حريث فبعث
اليه غلاما له فجاءه بقلة عليها منديل وقدح فصب فيه ماء وقال له : اشرب ، فأخذ
كلّما شرب امتلأ القدح دما من فيه فلا يقدر ان يشرب ، ففعل ذلك مرّة أو مرّتين ،
فلما ذهب في الثالثة ليشرب سقطت ثنيتاه في القدح فقال : « الحمد للّه لو كان لي
من الرزق المقسوم لشربته » .
وخرج
رسول ابن زياد فأمر بادخاله اليه ، فلما دخل لم يسلم عليه فقال له الحرسي : الا
تسلم على الأمير ؟ فقال مسلم : أما واللّه انّه ليس أميري ، وفي رواية اخرى : ان
كان يريد قتلي فما سلامي عليه ، وان كان لا يريد قتلي ليكثرن سلامي عليه ، فقال له
إبن زياد : لعمري لأقتلنّك سواء سلّمت أم لم تسلم .
فقال
مسلم : دعني أوصي الى بعض قومي ، قال : افعل ، فنظر مسلم الى جلساء عبيد اللّه
وفيهم عمر بن سعد ، فقال : يا عمر انّ بيني وبينك قرابة ولي إليك حاجة ، وقد يجب
لي عليك نجح حجتي وهي سرّ ، فامتنع عمر بن سعد تظاهرا لعبيد اللّه بالاخلاص
والمودّة ، فقال له عبيد اللّه : ويلك لم تمتنع ان تنظر في حاجة إبن عمّك ؟
فلما
سمع ذلك من إبن زياد قام وأخذ مسلم الى ناحية من القصر فقال له مسلم :
انّ
عليّ بالكوفة دينا استدنته منذ قدمت الكوفة سبعمائة درهم فبع سيفي ودرعي فاقضها
عنّي ، فاذا قتلت فاستوهب جثتي من ابن زياد فوارها ، وابعث الى الحسين عليهالسلام
من يردّه فانّي قد كتبت اليه اعلمه انّ الناس معه ولا أراه الاّ مقبلاً .
فجاء
عمر الى إبن زياد وذكر له قول مسلم بتمامه ، فقال له إبن زياد : انّه لا يخونك
الامين ولكن قد يؤتمن الخائن ، اما مالك فهو لك ولسنا نمنعك ان تصنع به ما أحببت ،
واما جثته فانّا لا نبالي اذا قتلناه ما صنع بها ، وأما الحسين فان هو لم يردنا لم
نرده .
وعلى
رواية أبي الفرج انّه قال إبن زياد : وامّا جثته فانّا لا نشفعك فيها ، فانّه ليس
لذلك منّا بأهل وقد خالفنا وحرص على هلاكنا
(1) .
ثم
انتبه الى إبن عقيل وتجاسر عليه ، فأجابه مسلم بأجوبة فصيحة بكلّ جرأة وقوّة قلب ،
وتكاثر الكلام بينهما حتى سبّ إبن زياد اللعين الدعي بن الدعي امير المؤمنين
والحسين عليهماالسلام وعقيلاً ، ثم دعا بكر بن حمران ـ وقد ضربه مسلم بن عقيل على
رأسه ضربة منكرة ـ فأمره أن يصعد به الى سطح القصر ويضرب عنقه .
فقال
مسلم لابن زياد : واللّه لو كان بيني وبينك قرابة ما قتلتني ، وكان مراده
رحمهالله من هذا الكلام الاعلام بان عبيد اللّه وأباه أولاد زنا ولا ينتسبون الى
قريش قط
(2) .
(1) مقاتل الطالبيين : 71
.
(2) انّ المطلب المتعلق
ببكر بن حمران هنا لا يوافق ما قاله ابن شهر آشوب فانّه قال : انّ مسلم قد قتل بكر
في المعركة . (منه رحمهالله )
(246)
فصعد
بكر به وهو يكبر ويستغفر اللّه ويصلّي على رسوله ويقول : اللهم احكم بيننا وبين
قوم غرونا وكذبونا وخذلونا .
فأشرف
بكر بن حمران لعنه اللّه به على موضع الحذّائين ، فضرب عنقه وألقى رأسه من فوق
القصر على الارض ثم أتبع جسده رأسه
(1) ، ورجع مرتعشا خائفا الى إبن زياد ، فسأله
اللعين عن سبب خوفه ؟ فقال له : لما أردت قتله رأيت رجلاً أسودا عظيما واقفا أمامي
، يعض أصابعه ، فأصابتني دهشة لم تصبني قبلها قط ، فقال له : انّك قد تخيلت وغلبك
الخوف لانّك فعلت شيئا لم تعهده من قبل(2) .
فطلب
إبن زياد هاني ليقتله ، وكلّما سعى محمد بن الاشعث وغيره في شفاعته لم ينفع معه ،
فأمر أن يخرجوه الى السوق ، فجاؤوا به الى مكان من السوق يباع فيه الغنم وهو مكتوف
، فجعل يقول : وا مذحجاه ولا مذحج لي اليوم ، يا مذحجاه يا مذحجاه وأين مذحج ؟
وفي
حبيب السير : انّ هاني بن عروة كان من أشراف الكوفة واعيان الشيعة ، وروي انّه قد
ادرك النبي صلىاللهعليهوآله وتشرّف بصحبته ، وكان يوم قتل إبن تسع وثمانين سنة
.
وجاء
في مروج الذهب للمسعودي : انّه كان شيخ مراد وزعيمها ، يركب في أربعة الاف دارع وثمانية
الف راجل ، واذ اجابتها (آل مراد) احلافها من كندة وغيرها كان في ثلاثين الف دارع
(3) .
فلمّا
رأى أحدا لا ينصره جذب يده فنزعها من الكتاف ثم قال : أما عصا أو سكين أو حجر أو
عظم ، يحاجز به رجل عن نفسه ، فوثبوا اليه فشدّوه وثاقا ، ثم قيل له :
مدّ
عنقك ، فقال : ما انا بها بسخي ، وما انا بمعينكم على نفسي ، فضربه مولى لعبيد
اللّه تركي يقال له : رشيد بالسيف فلم يصنع شيئا ، فقال هاني : « الى اللّه
المعاد اللهم الى رحمتك ورضوانك » . ثم ضربه أخرى فقتله
(4) .
فلما
استشهد مسلم وهاني أمر إبن زياد بقتل عبد الاعلى الكلبي ، وكان من شجعان الكوفة
وقد نصر مسلم لما خرج ، فأسره كثير بن شهاب وكذلك أمر بقتل عمارة بن صلخة الازدي
من انصار مسلم ، فجاؤوا بهما فقتلوهما(5) .
روي
في بعض كتب المقاتل المعتبرة انّه : أمر إبن زياد بجرّ جثة مسلم وهاني
(1) الارشاد : 204 ـ 216 .
(2) البحار 44:357 نحوه .
(3) مروج الذهب 3:59 .
(4) الارشاد : 216 ،
البحار 44:358 مثله .
(5) مقتل أبي مخنف : 57 .
(247)
في الأزقّة
والاسواق ، وأن يصلبا في السوق الذي يباع فيه الغنم ، وقال سبط بن الجوزي : وصلبت
جثة مسلم بالكناسة(1) .
فلما
رأت مذحج ما فعل بسيّدها تحركوا وذهبوا الى جثته وجثة مسلم فأنزلوهما وصلّوا
عليهما ثم دفنوهما .
ثم
كتب إبن زياد كتابا الى يزيد اللعين وأرسل معه رأس مسلم وهاني وأخبره خبرهما ،
فلمّا وصل رأساهما فرح يزيد كثيرا وأمر بهما أن يوضعا على باب دمشق ، فكتب الى إبن
زياد ومدحه على فعاله وانعم عليه وتلطف اليه كثيرا وذكر له :
انّه
قد بلغني ان حسينا توجه الى العراق فضع المناظر والمسالح ، واحترس واحبس على الظنة
، واقتل على التهمة ، واكتب اليّ فيما يحدث من خبر ، والسلام .
وكان
خروج مسلم رحمهالله بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة وقتل يوم
الاربعاء لتسع خلون منه يوم عرفة
(2) .
كانت
امّ مسلم بن عقيل أمّ ولد يقال لها : علية ، وكان عقيل اشتراها من الشام فولدت له
مسلما(3) .
يقول
المؤلف : لم أر عدد أولاد مسلم في كتاب لكني ظفرت بأسماء خمسة منهم : الاول (عبد
اللّه) بن مسلم وهو أوّل شهيد من أولاد ابي طالب في وقعة الطف بعد عليّ الاكبر ،
وامّه رقية بنت امير المؤمنين عليهالسلام ، الثاني (محمد) وامّه ام ولد ، واستشهد
بكربلاء عقيب عبد اللّه ، ثم محمد وابراهيم ـ برواية كتب المناقب القديمة ـ
وامّهما من بنات جعفر الطيار ، وسيأتي ذكر حبسهما وقتلهما ، الخامس : بنت عمرها
ثلاث عشرة سنة على رواية اعثم الكوفي كانت مع بنات الحسين عليهالسلام في سفرهم
الى كربلاء .
واعلم
انّ مسلم بن عقيل كان ذا فضائل كثيرة ولا يسع المقام ذكرها ، ويكفي لبيان جلالته
الحديث الذي مضى في الفصل الخامس في الباب الاول ، ويكفيه فخرا وشرفا ما كتبه
الامام الحسين عليهالسلام في حقّه في الكتاب الذي أرسله بيده الى أهل الكوفة .
ويقع
قبره الشريف جنب مسجد الكوفة وهو مزار الحاضر والبادي والقاصي والداني ، وقد ذكر
له السيد ابن طاووس زيارتين ، ذكرتهما في كتابي (هدية الزائرين) ، وقبر هاني
رحمهالله مقابل قبر مسلم ، وقد رثاهما عبد اللّه بن الزبير الاسدي في قصيدة
صدرها :
فان كنت لا تدرين ما الموتُ
فانظري الى هانيٍ في السوق وإبن عقيل(4)
(1) تذكرة الخواص : 242 .
(2) الارشاد : 204 ـ 218 .
(3) مقاتل الطالبيين : 52
.
(4) البحار 44:358 ،
وفي الارشاد : 217 .
(248)
وانّي
لأستحسن قول بعض السادة الاجلاء في رثاء مسلم بن عقيل :
سقتك دما يا بن عم الحسين
مدامعُ شيعتك السافحة ولا برحَتْ هاطلاتُ الدموع تُحَيّيك
غاديةً رائحة لأنّكَ لم تروَ من شربةٍ ثناياكَ فيها غدت طائحة
رَمَوكَ من القصر إذ أوثقوك فهل سَلِمت فيك من جارحة تُجَرُّ
بأسواقِهِم في الحبال ألستَ أميرهُمُ البارحة أتقضي ولم تبكِكَ
الباكيات أما لك في المصرِ من نائحة لئن تقضِ نحبا فكم في زرود عليكَ
العشيّةَ من صائحة
* * *
(249)
الفصل الخامس
في توجّه مولانا سيد الشهداء من مكة الى كربلاء
لما
قدم الحسين عليهالسلام الى مكة في الثالث من شعبان سنة (60) للهجرة ، بقي فيها
ذلك الشهر وشهر رمضان وشوّال وذي القعدة ، واشتغل هناك بعبادة اللّه واطاعته ،
واجتمع اليه تلك الفترة جمع من شيعة الحجاز والبصرة .
فأحرم
الامام عليهالسلام للحج في ذي الحجة ، وفي الثامن من هذا الشهر وهو يوم التروية ،
قدم عمرو بن سعيد بن العاص مكة في جمع كثيف ، واظهر انّه يريد الحج لكنه أُمر من
قبل يزيد بالقاء القبض على الحسين عليهالسلام ثم ارساله الى يزيد أو قتله .
وكان
الحسين عليهالسلام يعلم مكنون خاطرهم ، فعدل عن الحج الى العمرة ، وطاف بالبيت
وسعى ما بين الصفا والمروة وأحلّ ، فتوجّه من يومه الى العراق .
قال
إبن عباس : رأيت الحسين عليهالسلام قبل أن يتوجّه الى العراق على باب الكعبة وكفّ
جبرئيل عليهالسلام في كفّه ، وجبرئيل ينادي : « هلمّوا الى بيعة اللّه » .
وروى
السيد بن طاووس انّه : لما عزم الحسين عليهالسلام على الخروج الى العراق قام
خطيبا فقال : « الحمد للّه ما شاء اللّه ، ولا قوّة الاّ باللّه ، وصلى اللّه
على رسوله ، خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني الى
أسلافي اشتياق يعقوب الى يوسف ، وخيّر لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تقطّعها
عسلان الفلوات (أي جيش أهل الكوفة) بين النواويس وكربلا ، فيملأنّ منّي اكراشا
جوفا وأجربة سغبا لا محيص عن يوم خطّ بالقلم ، رضى اللّه رضانا أهل البيت ، نصبر
على بلائه ويوفّينا أجر الصابرين .
لن
تشذّ عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله لحمته ، وهي مجموعة له في حظيرة القدس
تقرّ بهم عينه وينجز بهم وعده ، من كان باذلاً فينا مهجته وموطنا على لقاء اللّه
نفسه ، فليرحل معنا فانّني راحل مصبحا انشاء اللّه تعالى » .
وروى
ايضا بسند معتبر عن الصادق عليهالسلام انّه قال : سار محمد بن الحنفية الى الحسين
عليهالسلام في الليلة التي أراد الخروج صبيحتها عن مكة ، فقال : يا أخي انّ أهل
الكوفة من قد عرفت غدرهم بابيك وأخيك ، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى ، فان
رأيت أن تقيم فانّك أعزّ من في الحرم وأمنعه .
فقال
: يا أخي قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم ، فاكون الذي يستباح به حرمة
هذا البيت ، فقال له إبن الحنفية : فان خفت ذلك فصر الى اليمن أو بعض نواحي البرّ
، فانّك أمنع الناس به ولا يقدر عليك ، فقال : أنظر فيما قلت .