(250)
فلمّا
كان في السحر ارتحل الحسين عليهالسلام فبلغ ذلك إبن الحنفية ، فأتاه فأخذ زمام
ناقته التي ركبها ، فقال له : يا أخي ألم تعدني النظر فيما سألتك ؟ قال : بلى ،
قال : فما حداك على الخروج عاجلاً ؟ فقال : أتاني رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
بعد ما فارقتك فقال :
«
يا حسين أخرج فانّ اللّه قد شاء أن يراك قتيلاً » .
فقال
له إبن الحنفية : انّا للّه وانّا اليه راجعون ، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك
، وأنت تخرج على مثل هذه الحال ؟ قال له : قد قال لي : انّ اللّه قد شاء أن
يراهنّ سبايا . وسلّم عليه ومضى
(1) .
وفي
روايات معتبرة انّه جاء كل من العبادلة (عبد اللّه بن عباس ، وعبد اللّه بن
الزبير ، وعبد اللّه بن عمر) ومنعوا الحسين عليهالسلام من السير نحو العراق ،
فكان يجيب كل واحد منهم جوابا شافيا ثم يوّدعه ويذهب .
وروى
أبو الفرج الاصبهاني وغيره انّه : جاء به عبد اللّه بن عباس ، وقد اجمع الحسين
عليهالسلام رأيه على الخروج وحققه ، فجعل يناشده في المقام ويعظم عليه القول في
ذمّ أهل الكوفة ، وقال له :
انّك
تأتي قوما قتلوا أباك ، وطعنوا أخاك ، وما أراهم الاّ خاذليك ، فقال له : هذه
كتبهم معي ، وهذا كتاب مسلم باجتماعهم ، فقال له إبن عباس : أما اذ كنت لابد
فاعلاً فلا تخرج أحدا من ولدك ولا حرمك ولا نسائك ، فخليق أن تقتل وهم ينظرون إليك
كما قتل إبن عفان ، فأبى ذلك ولم يقبله .
قال
: فذكر من حضره يوم قتل وهو يلتفت الى حرمه واخوته ، وهنّ يخرجن من أخبيتهنّ جزعا
لقتل من يقتل معه وما يرينه به ويقول : للّه درّ إبن عباس فيما أشار عليّ به .
قال
: فلما أبي الحسين عليهالسلام قبول رأي ابن عباس أرسل عينيه في البكاء وودّع
الحسين عليهالسلام وانصرف ، ومضى الحسين عليهالسلام لوجهه ولقى إبن عباس بعد
خروجه عبد اللّه إبن الزبير فقال له إبن عباس :
يا لَك مِن قبّرة بمعمرِ
خلا لَكِ الجوّ فبيضي واصفري ونقّري ما شِئت أن تنقّري هذا
الحسينُ خارجٌ فاستبشري(2)
على كل حال ، لمّا خرج الحسين
عليهالسلام من مكة ، بعث عمرو بن سعيد بن العاص أخاه يحيى في جماعة كي يمنعوه من
السفر ، فلمّا وصلوا اليه قالوا : انصرف الى أين تذهب ؟ فأبى عليهم ومضى وتدافع
الفريقان واضطربوا بالسياط وامتنع الحسين واصحابه منهم ، فتركوه عليهالسلام قبل
وقوع القتال .
(1) اللهوف : 60 ـ 65 .
(2) مقاتل الطالبيين
: 72 ـ 73 .
(251)
فسار
عليهالسلام حتى أتى التنعيم ، فلقي عيرا قد اقبلت من اليمن ، وعليها الورس والحلل
قد أرسلها والي اليمن الى يزيد ، فأخذها الحسين عليهالسلام (لانّ حكم امور
المسلمين لأمام الزمان ، والحسين أحق بتلك الاموال من غيره) وقال لأصحاب الابل :
من أحبّ منكم أن يمضي معنا الى العراق أوفينا كراءه وأحسنّا صحبته ، ومن أحبّ أن
يفارقنا من مكاننا أعطيناه نصيبه من الكراء ، فمضى معه قوم وامتنع آخرون .
وروى
الشيخ المفيد : والحقه عبد اللّه بن جعفر ـ إبن عمه ـ بابنيه عون ومحمد ، وكتب
على أيديهما اليه كتابا يقول فيه :
«
أما بعد فانّي أسألك باللّه لما انصرفت حين تنظر في كتابي ، فانّي مشفق عليك من
الوجه الذي توجهت له أن يكون فيه هلاكك واستيصال أهل بيتك ، وان هلكت اليوم طفئ
نور الأرض فانّك علم المهتدين ورجاء المؤمنين ، ولا تعجل بالمسير فانّي في أثر
كتابي ، والسلام » .
وصار
عبد اللّه الى عمرو بن سعيد ، فسأله أن يكتب للحسين أمانا ويمنيه ليرجع عن وجهه ،
فكتب اليه عمرو بن سعيد كتابا يمنه فيه الصلة ويؤمنه على نفسه ، وأنفذه مع أخيه
يحيى بن سعيد ، فلحقه يحيى وعبد اللّه بن جعفر بعد نفوذ ابنيه ، ودفعا اليه
الكتاب وجهدا به في الرجوع .
فقال
: انّي رأيت رسول اللّه صلىاللهعليهوآله في المنام وأمرني بما أنا ماض له ،
فقالا له : فما تلك الرؤيا ؟ قال : ما حدثت أحدا بها ولا أنا محدث حتى القى ربّي
عزوجل ، فلما أيس منه عبد اللّه بن جعفر رحمهالله أمر ابنيه عونا ومحمدا بلزومه
والمسير معه والجهاد دونه ، ورجع مع يحيى بن سعيد الى مكة ، وتوجه الحسين
عليهالسلام نحو العراق مجدا لا يلوي عن شيء حتى نزل ذات عرق
(1) .
وعلى
رواية السيد انّه : لقى الحسين عليهالسلام بشر بن غالب واردا من العراق ، فسأله
عن أهلها ، فقال : خلّفت القلوب معك والسيوف مع بني اميّة ، فقال : صدق أخو بني
أسد ، انّ اللّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد(2) .
وروى
الشيخ المفيد انّه : لما بلغ عبيد اللّه بن زياد اقبال الحسين عليهالسلام من مكة
الى الكوفة بثّ الحصين بن نمير ، صاحب شرطته حتى نزل القادسية ، ونظم الخيل ما بين
القادسية الى خفان وما بين القادسية الى القطقطانية ، وقال للناس : هذا الحسين
يريد العراق .
ولما
بلغ الحسين عليهالسلام الحاجز من بطن الرمة بعث قيس بن مسهر الصيداوي ويقال : بل
بعث أخاه من الرضاعة عبد اللّه بن يقطر ، الى الكوفة ولم يكن عليهالسلام عَلِم
بخبر
(1) الارشاد : 219 .
(2) اللهوف : 69 .
(252)
إبن عقيل
رحمهالله وكتب معه (الى أهل الكوفة)(1) .
بسم اللّه الرحمن الرحيم
من
الحسين بن عليّ الى اخوانه من المؤمنين والمسلمين ، سلام عليكم فاني أحمد اليكم
اللّه الذي لا اله الا هو .
اما
بعد ، فانّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبر فيه بحسن رأيكم واجتماع مَلَئِكُمْ على
نصرنا والطلب بحقنا ، فسألت اللّه أن يحسن لنا الصنيع ، وأن يثيبكم على ذلك أعظم
الاجر ، وقد شخصت اليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية ،
فاذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم وجدّوا فانّي قادم عليكم في ايّامي هذه ،
والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته .
والسبب
في ارساله هذه الرسالة الى أهل الكوفة ان مسلم بن عقيل كان قد كتب اليه قبل أن
يُقتل بسبع وعشرين ليلة باجتماع رأي أهل الكوفة على نصرته وطاعته ، وكتب اليه أهل
الكوفة انّ لك هنا مائة الف سيف فلا تتأخّر ، فأقبل قيس بن مسهر الى الكوفة بكتاب
الحسين عليهالسلام حتى اذا انتهى الى القادسية أخذه الحصين بن نمير
(2) ، وعلى رواية السيد أراد أن يفتشه فأخرج قيس
الكتاب فخرقه .
فبعث
به الى عبيد اللّه بن زياد ، فلمّا وصل اليه قال له اللعين : من أنت ؟ قال : انا
رجل من شيعة امير المؤمنين عليّ بن ابي طالب عليهالسلام وابنه ، قال : فلماذا
خرقت الكتاب ؟ قال : لئلاّ تعلم ما فيه ، قال : وممن الكتاب والى من ؟ قال : من
الحسين عليهالسلام الى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم .
فغضب
إبن زياد وقال : لا واللّه لا تفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم ، أو تصعد
المنبر فتلعن الحسين بن علي وأباه وأخاه والاّ قطعتك اربا اربا ، فقال قيس : أمّا
القوم فلا أخبرك بأسمائهم ، وأمّا لعن الحسين وابيه وأخيه فأفعل .
فصعد
المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ، وصلّى على النبي صلىاللهعليهوآله واكثر من
الترحم على عليّ والحسن والحسين صلوات اللّه عليهم ، ثم لعن عبيد اللّه بن زياد
وأباه ولعن عتاة بني أميّة عن آخرهم ، ثم قال :
أيها
الناس أنا رسول الحسين عليهالسلام اليكم وقد خلفته بموضع كذا فأجيبوه ، فأخبر إبن
زياد بذلك فأمر بالقائه من أعالي القصر ، فالقي من هناك فمات
(3) .
وفي
رواية أخرى انّه : وقع الى الارض مكتوفا ، فتكسرت عظامه وبقي به رمق فجاء رجل يقال
له : عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه(4) .
(1) وعلى رواية السيد
بعثها الى سليمان بن صرد ومسيّب بن نَجْبة ورُفاعة وغيرهم من الشيعة . (منه
رحمهالله )
(2) الارشاد : 219 .
(3) اللهوف : 75 .
(253)
يقول
المؤلف : قيس بن مسهر الصيداوي الاسدي ، رجل شريف شجاع راسخ في محبّة أهل البيت
عليهمالسلام وسيأتي بكاء الحسين عليهالسلام عليه لما بلغه خبر قتله وانه قال :
«
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عهَدُواْ اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ
مَّنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلَواْ تَبْدِيلاً »
(1) .
واشار
اليه الكميت بن زيد الاسدي في شعره وعبّر عنه بشيخ بني صيداء ، فقال : وشيخ بني
صيداء قد فاظ بينهم ، (فاظ أي مات) .
قال
الشيخ المفيد رحمهالله : ثم أقبل الحسين عليهالسلام من الحاجز يسير نحو الكوفة ،
فانتهى الى ماء من مياه العرب ، فاذا عليه عبد اللّه بن مطيع العدوي وهو نازل به
، فلما رأى الحسين عليهالسلام قام اليه فقال : بأبي أنت وأمي يا بن رسول اللّه
ما اقدمك ، واحتمله فانزله ، فقال له الحسين عليهالسلام :
«
كان من موت معاوية ما قد بلغك ، فكتب اليّ أهل العراق يدعونني الى أنفسهم» .
فقال
له عبد اللّه بن مطيع : أذكرك يا بن رسول اللّه وحرمة الاسلام أن تنتهك ، أنشدك
اللّه في حرمة قريش ، أنشدك اللّه في حرمة العرب ، فو اللّه لئن طلبت ما في
أيدي بني أمية ليقتلنّك ، ولئن قتلوك لا يهابوا بعدك أحدا أبدا ، واللّه انّها
لحرمة الاسلام تنتهك ... فلا تفعل ولا تأت الكوفة ولا تعرض نفسك لبني أميّة .
فأبى
الحسين عليهالسلام الاّ أن يمضى وقرأ هذه الاية : « ... لَنْ يُصِيبَنَا الاّ مَا
كَتَبَ اللّهُ لَنَا »
(2) .
وكان
عبيد اللّه أمر فأخذ ما بين واقصة (وهي طريق الكوفة) الى طريق الشام الى طريق
البصرة فلا يدعون أحدا يلج ولا أحدا يخرج ، وأقبل الحسين عليهالسلام لا يعلم بشيء
(ظاهرا) حتى لقي الاعراب فسألهم فقالوا : لا واللّه ما ندري غير انا لا نستطيع ان
نلج ولا نخرج ، فسار تلقاء وجهه .
وحدّث
جماعة من فزارة وبجلة قالوا : كنّا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة ،
فكنّا نساير الحسين عليهالسلام فلم يكن شيء أبغض الينا من أن ننازله في منزل ،
فاذا سار الحسين عليهالسلام ونزل منزلاً لم نجد بدا من أن ننازله .
فنزل
الحسين عليهالسلام في جانب ونزلنا في جانب ، فبينا نحن جلوس نتغدى من طعام لنا اذ
اقبل رسول الحسين عليهالسلام حتى سلّم ثم دخل ، فقال : يا زهير بن القين انّ ابا
عبد اللّه الحسين عليهالسلام بعثني إليك لتأتيه .
(1) الارشاد : 220 .
(2) الاحزاب : 23 .
(3) التوبة : 51 .
(254)
فطرح
كل انسان منّا ما في يده حتى كأنّ على رؤوسنا الطير ، فقالت له امرأته : سبحان
اللّه أيبعث إليك ابن بنت رسول اللّه ثم لا تأتيه ، لو أتيته فسمعت من كلامه ثم
انصرفت ، فأتاه زهير بن القين فما لبث أن جاء مستبشرا قد أشرق وجهه ، فأمر بفسطاطه
وثقله ورحله ومتاعه فقوض وحمل الى الحسين عليهالسلام .
ثم
قال لامرأته : أنت طالق ، الحقي بأهلك فانّي لا أحبّ أن يصيبك بسببي الاّ خيرا
(1) ، (وعلى روية السيد قال :) وقد عزمت على
صحبة الحسين عليهالسلام لأفديه بنفسي وأقيه بروحي ، ثم أعطاها مالها وسلّمها الى
بعض بني عمّها ليوصلها الى أهلها .
فقامت
اليه وبكت وودّعته وقالت : كان اللّه عونا ومعينا ، خار اللّه لك أسألك أن
تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين عليهالسلام .
فقال
لأصحابه : من أحبّ أن يصحبني والاّ فهو آخر العهد منّي به ، فودّعهم وسار نحو
الحسين عليهالسلام
(2) ، وقال بعض ارباب السير : انّه لحقه إبن
عمّه سلمان بن مضارب إبن قيس ، واستشهد في ظهر عاشوراء بكربلاء .
وروى
الشيخ المفيد عن عبد اللّه بن سليمان والمنذر بن المشمعل الأسديان قالا :
لما
قضينا حجنا لم تكن لنا همة الاّ اللحاق بالحسين عليهالسلام في الطريق لننظر ما
يكون من أمره ، فأقبلنا ترقل بنا ناقتنا مسرعين حتى لحقناه بزرود (موضع يقرب عن
الثعلبية) فلما دنونا منه اذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى
الحسين عليهالسلام ، فوقف الحسين عليهالسلام كأنّه يريده ثم تركه ومضى ، ومضينا
نحوه فقال أحدنا لصاحبه : اذهب بنا الى هذا نسأله فانّ عنده خبر الكوفة .
فمضينا
حتى انتهينا اليه فقلنا السلام عليك ، فقال : وعليكم السلام ، قلنا : ممن الرجل ؟
قال : أسدي ، قلنا له : ونحن أسديان ، فمن انت ؟ قال : انا بكر بن فلان ، وانتسبنا
له ، ثم قلنا له : اخبرنا عن الناس ورائك .
قال
: نعم ، لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة ، ورأيتهما يجران
بأرجلهما في السوق ، فاقبلنا حتى لحقنا الحسين عليهالسلام فسايرناه حتى نزل
الثعلبية ممسيا ، فجئناه حين نزل فسلّمنا عليه فردّ علينا السلام ، فقلنا له :
رحمك اللّه انّ عندنا خبرا ان شئت حدّثناك علانية وان شئت سرا .
فنظر
الينا والى اصحابه ثم قال : ما دون هؤلاء ستر ، فقلنا له : أرأيت الراكب الذي
استقبلته عشيّ أمس ؟ قال : نعم وقد اردت مسألته ، فقلنا قد واللّه استبرأنا لك
خبره وكفيناك مسألته ، وهو امرؤ منّا ذو رأي وصدق وعقل ، وانّه حدّثنا انّه لم
يخرج من
(1) الارشاد : 220 .
(2) اللهوف : 72 .
(255)
الكوفة حتى
قتل مسلم وهاني ورآهما يجران في السوق بأرجلهما .
فقال
: « انّا للّه وانّا اليه راجعون » رحمة اللّه عليهما . يردد ذلك مرارا ، فقلنا
له : ننشدك اللّه في نفسك وأهل بيتك الاّ انصرفت من مكانك هذا ، فانّه ليس لك
بالكوفة ناصر ولا شيعة بل نتخوف أن يكونوا عليك ، فنظر الى بني عقيل فقال : ماذا
ترون ؟ فقد قتل مسلم ، فقالوا : واللّه لا نرجع حتى نصيب ثارنا أو نذوق ما ذاق .
فأقبل
علينا الحسين وقال : لا خير في العيش بعد هؤلاء ، فعلمنا انّه قد عزم رأيه على
المسير ، فقلنا له : خار اللّه لك ، فقال : رحمكما اللّه ، فقال له اصحابه :
انّك واللّه ما انت مثل مسلم بن عقيل ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع ،
فسكت (لعلمه عليهالسلام بعاقبة الامر)
(1) .
وعلى
رواية السيد بن طاووس انّه : لما بلغ الحسين عليهالسلام قتل مسلم ، استعبر باكيا
ثم قال : رحم اللّه مسلما ، فلقد صار الى روح اللّه وريحانه وجنّته ورضوانه ،
امّا انّه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا ، ثم أنشأ يقول :
فان تكن الدنيا تعدّ نفسية
فانّ ثواب اللّه أعلى وانبل وان تكن الأبدان للموت انشئت فقتل
امرء بالسيف في اللّه أفضل وان تكن الأرزاق قسما مقدرا فقلّة حرص
المرء في السعي أجمل وان تكن الأموال للترك جمعها فما بال متروك به
المرء يبخل(2) وجاء
في بعض كتب التواريخ انّه كان لمسلم بنت عمرها ثلاث عشرة سنة ، وكانت مع بنات
الحسين عليهالسلام وتصاحبهم ليلاً ونهارا ، فلمّا بلغ الحسين عليهالسلام مقتل
مسلم جاء الى فسطاطه فأخذ ابنته وتلطّف اليها ، ومسح على رأسها اكثر مما كان يفعل
، فقالت إبنة مسلم : يا بن رسول اللّه تتعامل معي معاملة الايتام هل استشهد ابي ؟
فبكى الحسين عليهالسلام وقال لها : لا تحزني يا بنيّة ان قُتل مسلم فأنا بمنزلة
ابيك ، وأختي بمنزلة أمّك ، وبناتي بمنزلة أخواتك .
فصاحت
وعلا صوتها بالبكاء وبكى ايضا أولاد مسلم وكشفوا رؤوسهم ووافقهم أهل البيت ،
فاشتدّ المجلس بالبكاء والنحيب ، وحزن الحسين عليهالسلام على مسلم حزنا شديدا .
روى
الشيخ الكليني قدسسره انّه : لقي رجل الحسين بن عليّ عليهالسلام بالثعلبية وهو
يريد كربلاء ، فدخل عليه فسلّم عليه ، فقال له الحسين عليهالسلام : من أيّ البلاد
أنت ؟ قال : من أهل الكوفة ، قال : أما واللّه يا أخا أهل الكوفة لو لقيتك
بالمدينة لأريتك أثر جبرئيل عليهالسلام من دارنا ونزوله بالوحي على جدّي ، يا أخا
أهل الكوفة أفمستقى الناس العلم من عندنا ،
(1) الارشاد : 222 .
(2) اللهوف : 74 .
(256)
فعلموا
وجهلنا ؟ هذا ما لا يكون(1) .
وقال
إبن طاووس انّه : سار الحسين عليهالسلام حتى أنزل الثعلبية وقت الظهيرة فوضع رأسه
فرقد ، ثم استيقظ فقال : قد رأيت هاتفا يقول : انتم تسرعون والمنايا تسرع بكم الى
الجنّة ، فقال له ابنه عليّ : يا أبة أفلسنا على الحق ، فقال : بلى يا بني واللّه
الذي اليه مرجع العباد ، فقال : إذن لا نبالي بالموت ، فقال له الحسين عليهالسلام
: جزاك اللّه يا بني خير ما جزى والدا عن والد .
ثم
بات عليهالسلام في الموضع المذكور ، فلمّا اصبح اذا برجل من أهل الكوفة يكنّى أبا
هرّة الازدي قد أتاه ، فسلّم عليه ثم قال : يا بن رسول اللّه ما الذي أخرجك عن
حرم اللّه وحرم جدّك رسول اللّه ؟
فقال
الحسين عليهالسلام : ويحك يا أبا هرّة انّ بني اميّة اخذوا مالي فصبرت ، وشتموا
عرضي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت ، وأيم اللّه لتقتلني الفئة الباغية وليلبسنّهم
اللّه ذلاً شاملاً وسيفا قاطعا ، وليسلطنّ اللّه عليهم من يذلّهم حتى يكونوا
أذلّ من قوم سبا اذ ملكتهم امرأة فحكمت في اموالهم ودمائهم
(2) .
وعلى
رواية الشيخ المفيد وغيره انّه : ثم انتظر عليهالسلام حتى اذا كان السحر قال
لفتيانه وغلمانه : اكثروا من الماء ، فاستقوا واكثروا ثم ارتحلوا ، فسار حتى انتهى
الى زبالة (اسم موضع) فأتاه خبر مقتل عبد اللّه بن يقطر ، فأخرج عليهالسلام الى
الناس كتابا فقرأه عليهم :
بسم اللّه الرحمن الرحيم
«
اما بعد فانّه قد اتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد اللّه بن
يقطر ، وقد خذلنا شيعتنا فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ليس معه ذمام »
.
فتفرق
الناس عنه وأخذوا يمينا وشمالاً حتى بقي في اصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة
ونفر يسير ممّن انضموا اليه ، وانّما فعل ذلك لانّه عليهالسلام علم انّ الاعراب
الذين اتبعوه انّما اتبعوه وهم يظنون انّه يأتي بلدا قد استقامت له طاعة أهله ،
فكره أن يسيروا معه الاّ وهم يعلمون على ما يقدمون .
فلمّا
كان السحر أمر أصحابه فاستقوا ماء واكثروا ، ثم ساروا حتى مرّ ببطن العقبة فنزل
عليها ، فلقيه شيخ من بني عكرمة يقال له عمرو بن لوذان ، فسأله أين تريد ؟ فقال له
الحسين عليهالسلام : الكوفة ، فقال الشيخ : أنشدك لما انصرفت فو اللّه ما تقدم
الاّ على الاسنة وحد السيوف ، وانّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة
القتال ووطؤا لك
(1) الكافي ، ج 1 ، باب
انّ مستقى العلم من بيت آل محمد عليهمالسلام ، ح 2 .
(2) اللهوف : 70 .
(257)
الاشياء
فقدمت عليهم كان ذلك رأيا ، فأما على هذه الحال التي تذكر فانّي لا أرى لك أن تفعل
.
فقال
له : يا عبد اللّه ليس يخفى عليّ الرأي ، وانّ اللّه عزوجل لا يغلب على أمره ،
ثم قال عليهالسلام : واللّه لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فاذا
فعلوا سلّط اللّه عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذلّ فرق الامم
(1) .
* * *
الفصل السادس
في لقاء الامام الحسين عليهالسلام مع الحرّ بن يزيد
الرياحي رحمهالله ،
وما جرى بينهما الى نزوله بكربلاء
لما
ارتحل الحسين عليهالسلام عن بطن العقبة نزل شراف (بفتح الشين) ، فلما كان في
السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا ، ثم سار منها حتى انتصف النهار ،
فبينا هو يسير اذ كبّر رجل من أصحابه ، فقال له الحسين عليهالسلام : اللّه اكبر
لم كبّرت ؟ قال : رأيت النخل ، فقال له جماعة من اصحابه : واللّه انّ هذ المكان
ما رأينا به نخلة قط .
فقال
له الحسين عليهالسلام : فما ترونه ؟ قالوا : نراه واللّه آذان الخيل ، قال : انا
واللّه أرى ذلك ، ثم قال عليهالسلام : ما لنا ملجأ نلجأ اليه فنجعله في ظهورنا
ونستقبل القوم بوجه واحد ؟ فقلنا له : بلى هذا ذو حسم (اسم جبل) الى جنبك تميل
اليه عن يسارك فان سبقت اليه فهو كما تريد .
فأخذ
اليه ذات اليسار وملنا معه ، فما كان باسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل ،
فاستبقنا الى ذى حسم فسبقناهم اليه ، فضربنا الخيام وجاء القوم زهاء الف فارس مع
الحر بن يزيد التميمي حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين عليهالسلام في حرّ الظهيرة ،
والحسين عليهالسلام واصحابه معتمون متقلدون أسيافهم .
فقال
الحسين عليهالسلام (وهو منبع الجود والكرم) لفتيانه : اسقو القوم وأرووهم من
الماء ورشفوا الخيل ترشيفا ، ففعلوا وأقبلوا يملؤون القصاع والطساس من الماء ثم
يدنونها من الفرس ، فاذا عب فيها ثلاثا أو أربعا أو خمسا عزلت عنه ، حتى سقوا كلها
.
(1) الارشاد : 222 .
(258)
قال
علي بن الطعان المحاربي : كنت مع الحر يومئذ ، فجئت في آخر من جاء من أصحابه ،
فلما رأى الحسين عليهالسلام ما بي وفرسي من العطش قال : انخ الراوية (والراوية
عندي السقاء) ، ثم قال : يا بن الاخ أنخ الجمل ، فأنخته ، فقال : اشرب ، فجعلت
كلّما شربت سال الماء من السقاء ، فقال الحسين عليهالسلام : اخنث السقاء أي أعطفه
، فلم أدر كيف أفعل ، فقام فخنثه فشربت وسقيت فرسي .
فلم
يزل الحر موافقا للحسين عليهالسلام حتى حضرت صلاة الظهر ، وامر الحسين عليهالسلام
الحجاج بن مسروق أن يؤذن ، فلما حضرت الاقامة خرج الحسين في ازار ورداء ونعلين ،
فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال : أيّها الناس انّي لم آتكم حتى أتتني كتبكم وقدمَت
عليّ رسلكم ان اقدم علينا فانّه ليس لنا امام لعلّ اللّه أن يجمعنا بك على الهدى
والحق ، فان كنتم على ذلك فقد جئتكم فاعطوني ما اطمئنّ له من عهودكم ومواثيقكم ،
وان لم تفعلوا وكنتم لقدومي كارهين انصرفت عنكم الى المكان الذي جئت منه اليكم .
فسكتوا
عنه ولم يتكلم أحد منهم بكلمة ، فقال للمؤذن : أقم ، واقام الصلوة ، فقال للحر :
أتريد أن تصلي بأصحابك ، قال : لا بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك ، فصلّى بهم الحسين
عليهالسلام ، ثم دخل فاجتمع اليه اصحابه وانصرف الحر الى مكانه الذي كان فيه ،
فدخل خيمة قد ضربت له واجتمع اليه جماعة من أصحابه ، وعاد الباقون الى صفهم الذي
كانوا فيه فأعادوه ، ثم أخذ كل رجل منهم بعنان دابته وجلس في ظلّها (من شدّة الحر)
.
فلما
كان وقت العصر أمر الحسين بن علي عليهالسلام أن تهيؤوا للرحيل ففعلوا ، ثم أمر
مناديه فنادى بالعصر وأقام ، فاستقدم الحسين عليهالسلام وقام فصلى ثم سلم وانصرف
اليهم بوجهه فحمد اللّه واثنى عليه ثم قال :
اما
بعد ايها الناس فانكم ان تتقوا اللّه وتعرفوا الحق لأهله تكن ارضى للّه عنكم ،
ونحن أهل بيت محمد وأولى بولاية هذا الامر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ،
والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، وان أبيتم الاّ الكراهية لنا والجهل بحقنا ،
وكان رأيكم الان غير ما أتتني به كتبكم وقدمت به عليّ رسلكم انصرفت عنكم .
فقال
له الحر : انا واللّه ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر ، فقال الحسين
عليهالسلام لبعض اصحابه : يا عقبة بن سمعان ، اخرج الخرجين الذين فيهما كتبهم
اليّ ، فأخرج خرجين مملوّين بالصحف فنشرت بين يديه ، فقال له الحر : انا لسنا من
هؤلاء الذين كتبوا إليك ، وقد أمرنا اذا نحن لقيناك ألاّ نفارقك حتى نقدمك الكوفة
على عبيد اللّه .
فقال
له الحسين عليهالسلام : الموت أدنى إليك من ذلك ، ثم قال لأصحابه : قوموا فاركبوا
، فركبوا وانتظروا حتى ركب نساؤهم ، فقال لأصحابه : انصرفوا ، فلما ذهبوا
(259)
لينصرفوا
حال القوم بينهم وبين الانصراف ، فقال الحسين عليهالسلام للحر : ثكلتك امّك ما
تريد ؟
قال
له الحر : أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما
تركت ذكر أمّه بالثكل كائنا من كان ، ولكن واللّه ما لي الى ذكر أمّك من سبيل
الاّ بأحسن ما نقدر عليه .
فقال
له الحسين عليهالسلام : فما تريد ؟ قال : أريد أن أنطلق بك الى الامير عبيد
اللّه ، قال : اذا واللّه لا أتبعك ، قال : اذا واللّه لا أدعك ، فترادآ القول
ثلاث مرات ، فلمّا كثر الكلام بينهما قال له الحر : انّي لم أومر بقتالك انّما
امرت الاّ أفارقك حتى أقدمك الكوفة ، فاذا أبيت فخذ طريقا لا يدخلك الكوفة ولا
يردك الى المدينة ، تكون بيني وبينك نصفا حتى اكتب الى الامير فلعل اللّه أن يأتي
بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بشيء من أمرك ، فخذ هاهنا فتياسر عن طريق
العذيب والقادسية .
فسار
الحسين عليهالسلام وسار الحر في اصحابه يسايره ، حتى انتهوا الى عذيب الهجانات
(1) ، فاذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة
على رواحلهم يجنبون فرسا لنافع بن هلال يقال له الكامل ، ومعهم دليلهم طرماح إبن
عدي (ليس من المعلوم أن يكون هذا هو إبن عدي بن حاتم وعلى الظاهر اسم أبيه عدي وهو
غير عدي المعروف) فانتهوا الى الحسين عليهالسلام .
فأقبل
اليهم الحر وقال : انّ هؤلاء من أهل الكوفة وأنا حابسهم أو رادهم ، فقال له الحسين
عليهالسلام : لأمنعهم ممّا أمنع منه نفسي ، انما هؤلاء انصاري وهم بمنزلة من جاء
معي ، فان تممت على ما كان بيني وبينك والاّ ناجزتك ، فكفّ الحر عنهم .
فقال
لهم الحسين عليهالسلام : أخبروني خبر الناس وراءكم ، فقال له مجمّع بن عبد اللّه
العائذي وهو أحدهم : أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم ومُلئت غرائرهم ، يستمال
ودّهم ويستخلص به نصيحتهم فهم ألبٌ واحد عليك ، وأما سائر الناس بعدهم فانّ قلوبهم
تهوي إليك وسيوفهم غدا مشهورة عليك .
وسألهم
عن رسوله قيس بن مسهر الصيداوي ، فقالوا : نعم أخذه الحصين ابن نمير فبعث به الى
إبن زياد ، فأمره أن يلعنك ويلعن أباك ، فصلّى عليك وعلى أبيك ولعن إبن زياد وأباه
، ودعا الى نصرتك وأخبرهم بقدومك ، فأمر إبن زياد به فألقي من طمار القصر ،
فترقرقت عينا الحسين عليهالسلام بالدموع ، ولم يملك دمعته ثم قرأ :
«
فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِر وَمَا بَدَّلُوا
تَبْديلاً »
(2) .
ثم
دنا الطرماح بن عدي وقال : واللّه انّي لأنظر فما أرى معك أحدا ، ولو لم
(1) الارشاد : 223 ـ 225 .
(2) سورة الاحزاب : 23 .
(260)
يقاتلك
الاّ هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفى بهم ، ولقد رأيت قبل خروجي من الكوفة
اليك بيوم ظهر الكوفة وفيه من الناس ما لم تر عيناي جميعا في صعيد واحد اكثر منه
قط ، فسألت عنهم فقيل اجتمعوا ليعرضوا ثم يسرحون الى الحسين .
فأنشدك
اللّه ان قدرت على أن لا تقدم اليهم شبرا فافعل ، فان أردت أن تنزل بلدا يمنعك
اللّه به حتى ترى رأيك ويستبين لك ما أنت صانع فسر حتى أنزلك مناع جبلنا الذي
يُدعى أجاء ، فهو واللّه جبل امتنعنا به من ملوك غسان وحمير والنعمان بن المنذر
ومن الاحمر والأسود ، واللّه ما دخل علينا ذل قط ، فأسير معك أنزلك ثم تبعث الى
الرجال ممن بأجاء وسلمى من طي ، فو اللّه لا يأتي عليك عشرة أيام حتى يأتيك طي
رجالاً وركبانا .
ثم
أقم فينا ما بدالك ، فان هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين الف طائيّ يضربون بين يديك
بأسيافهم ، فو اللّه لا يوصل إليك أبدا وفيهم عين تطرف .
فقال
له : جزاك اللّه وقومك خيرا ، انّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر
معه الانصراف ، ولا ندري على ما تنصرف بنا وبهم الامور في عاقبة
(1) .
وكان
الطرماح بن عدي حاملاً نفقة عياله ، فودّع الحسين عليهالسلام كي يذهب الى أهله ثم
يأتي لنصرته ، ففعل كما قال لكنه لما وصل الى عذيب الهجانات لقى سماعة بن بدر ،
فنعى اليه الحسين عليهالسلام فرجع الطرماح من مكانه .
ولما
سار الحسين عليهالسلام من عذيب الهجانات ، وصل الى قصر بني مقاتل ، فنزل به فاذا
هو بفسطاط مضروب فقال : لمن هذا ؟ فقيل : لعبيد اللّه بن الحر الجعفي ، قال :
ادعوه اليّ ، فلمّا أتاه الرسول قال له : هذا الحسين بن عليّ عليهالسلام يدعوك ،
فقال عبيد اللّه : انا للّه وانا اليه راجعون ، واللّه ما خرجت من الكوفة الاّ
كراهية أن يدخلها الحسين وأنا بها ، واللّه ما أريد أن أراه ولا يراني ولم يأت .
فرجع
الرسول فأخبره ، فقام اليه الحسين عليهالسلام فجاء حتى دخل عليه وسلم وجلس ثم
دعاه الى الخروج معه ، فأعاد عليه عبيد اللّه بن الحر تلك المقالة واستقاله ممّا
دعاه اليه ، فقال له الحسين عليهالسلام : فان لم تكن تنصرنا فاتق أن تكون ممن
قاتلنا ، فو اللّه لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا الاّ هلك ، فقال : اما هذا
فلا يكون أبدا انشاء اللّه تعالى ، ثم قام الحسين عليهالسلام من عنده حتى دخل
رحله .
ولما
كان في آخر الليل أمر فتيانه بالاستقاء من الماء ثم أمر بالرحيل فارتحل من قصر بني
مقاتل ، فقال عقبة بن سمعان : فسرنا معه ساعة فخفق وهو على ظهر فرسه خفقة ثم انتبه
وهو يقول : انا للّه وانا اليه راجعون والحمد للّه رب العالمين ، ففعل ذلك مرتين
أو ثلاثة ، فأقبل ابنه عليّ بن الحسين عليهماالسلام فقال : مم حمدت اللّه
واسترجعت ؟
(1) تاريخ الطبري 4:306 ،
مع اختلاف ما .
(261)
فقال : يا
بني انّي خفقت خفقة فعنَّ لي فارس على فرس وهو يقول : القوم يسيرون والمنايا تسير
اليهم ، فعلمت انّها أنفسنا نعيت الينا .
فقال
له : يا أبة لا أراك اللّه سوء ، ألسنا على الحق ؟ قال : بلى والذي اليه مرجع
العباد ، قال : فاننا اذا لا نبالي أن نموت محقين ، فقال له عليهالسلام : جزاك
اللّه من ولد خير ما جزى ولدا عن والده .
فلما
أصبح نزل فصلّى الغداة ثم عجّل في الركوب ، فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرقهم
فيأتيه الحرّ بن يزيد فيرده وأصحابه ، فلم يزالوا يتياسرون كذلك حتى انتهوا الى
نينوى ، فاذا راكب على نجيب له عليه السلاح متنكب قوسا مقبل من الكوفة ، فوقفوا
جميعا ينتظرون فلما انتهى اليهم سلم على الحر وأصحابه ولم يسلم على الحسين وأصحابه
، ودفع الى الحر كتابا من عبيد اللّه بن زياد اللعين ، فاذا فيه :
«
أما بعد فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي ، ولا تنزله الاّ بالعراء
في غير خضر وعلى غير ماء ، فقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بانفاذك
أمري ، والسلام » .
فلما
قرأ الحر الكتاب قرأه على الحسين عليهالسلام وأصحابه ، وأخذهم بالنزول في ذلك
المكان على غير ماء ولا قرية ، فقال له الحسين عليهالسلام : دعنا ويحك ننزل في
هذه القرية أو هذه ، يعنى نينوى والغاضريّة ، قال : واللّه لا أستطيع ذلك وهذا
الرجل قد بعث اليّ عينا عليّ .
فقال
زهير بن القين : يا ابن رسول اللّه دعنا نقاتلهم ، انّ قتال هؤلاء القوم الساعة
أهون علينا من قتال من يأتينا بعدهم ، فلعمري ليأتينا بعدهم ما لا قبل لنا به ،
فقال الحسين عليهالسلام : ما كنت لأبدأهم بالقتال ، ثم نزل وذلك يوم الخميس وهو
اليوم الثاني من المحرم
(1) .
روى
السيد إبن طاووس انّه : وصل كتاب عبيد اللّه بن زياد الى الحر في عذيب الهجانات ،
فضيّق الحر على الامام عليهالسلام بحسب ما أمره عبيد اللّه ، فجمع الحسين
عليهالسلام أصحابه وقام فيهم خطيبا ، فحمد اللّه وأثنى عليه وذكر جدّه فصلّى
عليه ثم قال :
«
انّه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون ، وانّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت ، وأدبر
معروفها واستمرت حذاء ، ولم تبق منها الاّ صبابة كصبابة الاناء وخسيس عيش كالمرعى
الوبيل ، الا ترون الى الحق لا يعمل به ، والى الباطل لا يتناهى عنه ، ليرغب
المؤمن في لقاء ربّه محقّا ، فانّي لا أرى الموت الاّ سعادة والحياة مع الظالمين الاّ
برما » .
فقام
زهير بن القين وقال : قد سمعنا هداك اللّه يا بن رسول اللّه مقالتك ، ولو كانت
الدنيا لنا باقية وكنّا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الاقامة ، وقام هلال
بن نافع
(1) الارشاد : 226 .
(262)
البجلي
فقال : واللّه ما كرهنا لقاء ربنا وانّا على نيّاتنا وبصائرنا نوالي من والاك
ونعادي من عاداك ، وقام برير بن خضير فقال : واللّه يا بن رسول اللّه لقد منّ
اللّه بك علينا أن نقاتل بين يديك وتقطع فيك أعضاؤنا ، ثم يكون جدّك شفيعنا يوم
القيامة(1) .
* * *
(1) اللهوف : 78 .
(263)
(264)
المقصد الثالث
في بيان قدوم الامام الحسين عليه آلاف التحيّة
والثناء الى كربلاء والحوادث الواقعة الى استشهاده عليهالسلام
(265)
(266)
الفصل الاول
في بيان نزوله عليهالسلام بكربلاء والوقائع التي
وقعت
الى اليوم التاسع
اعلم
انّه وقع الخلاف في يوم ورود الحسين عليهالسلام الى كربلاء ، والأصح انّه قدمها
في اليوم الثاني من شهر محرم الحرام سنة احدى وستين للهجرة ، فلما نزل بها قال :
ما يقال لهذه الارض ؟ فقالوا : كربلاء ، فلما سمع عليهالسلام اسمها قال : اللهم
انّي أعوذ بك من الكرب والبلاء ، ثم قال : هذا موضع كرب وبلاء انزلوا ، ههنا محط
رحالنا ومسفك دمائنا وهنا محل قبورنا ، بهذا حدّثني جدّي رسول اللّه
صلىاللهعليهوآله .
فنزلوا
جميعا ونزل الحر وأصحابه ناحية
(1) ، وجاء عمر بن سعد في اليوم الثاني في أربعة
آلاف مقاتل فارس واصطف مقابل جيش الحسين عليهالسلام .
قال
أبو الفرج : كان عبيد اللّه بن زياد لعنه اللّه قد ولّى عمر بن سعد الريّ ،
فلمّا بلغه الخبر بقدوم الحسين عليهالسلام الى العراق ، وجّه اليه أن سر الى
الحسين أولاً فاقتله فاذا قتلته رجعت ومضيت الى الري ، فقال له : أتركني أنظر في
أمري فتركه (ففكر تلك الليلة كثيرا حتى غلبته شقاوته) فلما كان من الغد غدا عليه
فوجه معه بالجيوش لقتال الحسين عليهالسلام
(2) .
وذكر
إبن الجوزي ما يشبه هذا ثم قال : ذكر محمد بن سيرين انه قد ظهرت كرامات عليّ بن
ابي طالب عليهالسلام في هذا ، فانّه لقى عمر بن سعد يوما وهو شاب فقال : ويحك يا
إبن سعد ، كيف بك اذا أقمت يوما مقاما تخيّر فيه بين الجنة والنار ، فتختار النار(3)
.
على
كل حال ، لما وصل عمر بن سعد بعث الى الحسين عليهالسلام عروة بن قيس الأحمسي فقال
له : ايته فسله ما الذي جاء بك وماذا تريد ؟ وكان عروة ممن كتب الى الحسين
عليهالسلام فاستحى منه أن يأتيه ، فعرض ذلك على الرؤساء الذين كاتبوه ، فكلّهم
أبى ذلك وكرهه ، فقام اليه كثير بن عبد اللّه الشعبي ـ وكان فارسا شجاعا فاسقا
فتاكا لا يرد وجهه شيء ـ فقال له : أنا أذهب اليه وواللّه لئن شئت لأفتكنّ به .
(1) اللهوف : 80 .
(2) مقاتل الطالبيين : 74
.
(3) تذكرة الخواص : 247 .
(267)
فقال
له عمر : ما أريد أن تفتك به ولكن ايته فسله ما الذي جاء به ، فأقبل كثير اليه
فلما رآه أبو ثمامة الصائدي قال للحسين عليهالسلام : أصلحك اللّه يا ابا عبد
اللّه قد جاءك شرّ أهل الأرض وأجراهم على دم وأفتكهم ، وقام اليه فقال له : ضع
سيفك ، قال : لا واللّه ولا كرامة انّما أنا رسول فان سمعتم مني بلغتكم ما أرسلت
به اليكم وان أبيتم انصرفت عنكم ، قال : أخبرني بما جئت به وأنا ابلغه عنك ولا
أدعك تدنو منه فانّك فاجر ، فاستبّا وانصرف الى عمر فأخبره الخبر .
فدعا
عمر قرة بن قيس الحنظلي فقال له : ويحك يا قرة الق حسينا فسله ما جاء به وماذا
يريد ، فاتاه قرة فلمّا رأه الحسين عليهالسلام مقبلاً قال : أتعرفون هذا ؟ فقال
له حبيب بن مظاهر : نعم هذا رجل من حنظلة تميم ، وهو إبن اختنا وقد كنت أعرفه بحسن
الرأى وما كنت أراه شهد هذا المشهد .
فجاء
حتى سلّم على الحسين عليهالسلام وابلغه رسالة عمر بن سعد اليه فقال له الحسين
عليهالسلام : كتب اليّ أهل مصركم هذا أن أقدم ، فامّا اذا كرهتموني فانا انصرف
عنكم .
ثم
قال له حبيب بن مظاهر : ويحك يا قرة ، اين ترجع الى القوم الظالمين ، انصر هذا
الرجل الذي بآبائه أيّدك اللّه بالكرامة ، فقال له قرة : ارجع الى صاحبي بجواب
رسالته وأرى رأيي ، فانصرف الى عمر بن سعد فأخبره الخبر ، فقال عمر : أرجو أن
يعافيني اللّه من حربه وقتاله ، وكتب الى عبيد اللّه بن زياد وشرح له الحال
وأخبره الخبر .
قال
حسان بن قائد العبسي : وكنت عند عبيد اللّه حين أتاه كتاب عمر بن سعد فلمّا قرأه
قال :
الان اذ علقت مخالبنا به
يرجوا النجاة ولات حين مناص
وكتب
الى عمر بن سعد : اما بعد ، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت ، فاعرض على الحسين أن
يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه ، فاذا هو فعل ذلك رأينا رأينا ، والسلام .
فلما
ورد الجواب على عمر بن سعد قال : قد خشيت أن لا يقبل إبن زياد العافية ، ولم يعرض
الكتاب على الحسين عليهالسلام لانه علم ان الحسين لا يبايع ليزيد .
وورد
كتاب إبن زياد في الاثر الى عمر بن سعد : أن حُل بين الحسين وأصحابه وبين الماء ،
فلا يذوقوا منه قطرة كما صنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان
(1) .
(1) لا يخفى انّ المصريين
حاصروا عثمان بن عفان ومنعوه الماء فبلغ ذلك امير المؤمنين عليهالسلام فتأذى
وأرسل اليه الماء ، وقد ذكرت هذه القضية في التواريخ ، لكن بني أمية أخذوا هذه
الواقعة لعبة بيدهم وأظهروا للناس انّ عثمان قتل عطشانا ولابد من الانتقام ،
وقالوا للناس : انّ الثورة ضد عثمان كانت برأي عليّ عليهالسلام وأمره ، وقد قتل
أهل الفتنة والنواصب والخوارج كثيرا من الناس بهذه التهمة حتى كانت وقعة الطف .
فأوّل
أمر أصدره إبن زياد هو منع الماء عن عترة النبي صلىاللهعليهوآله ، فأرسل عمر
بن سعد أصحابه الى الشريعة وأمرهم بمنع الماء عن جيش الحسين عليهالسلام وحاصروه ،
وكرّر إبن زياد التأكيد على منع الماء فجعل عمر بن سعد ، عمرو بن الحجاج في
خمسمائة فارس على الفرات ، فاشتدّ العطش على الحسين عليهالسلام وأصحابه .
وفي
المناقب لابن شهر آشوب انّه منع الحسين عليهالسلام عن الماء ثلاثة أيّام واذا
حفروا عينا واراها هؤلاء الكفرة الفجرة ، وذهب أبو الفضل العباس عليهالسلام في
بعض الليالي وجاء بالماء من النهر ، وفي رواية الامالي عن السجاد عليهالسلام انّه
ذهب علي الاكبر ليلة عاشوراء الى النهر في خمسين نفرا وجاء بالماء فأمر الحسين
أصحابه ، أن يقوموا ويشربوا منه ويتوضأوا ويغتسلوا به فانّه آخر زادهم من الدنيا ،
وأمرهم بلبس ثيابهم فانّها تكون أكفانهم .
وفي
صبيحة عاشوراء انقطع الماء تماما عن حرم الحسين عليهالسلام وأصحابه ، ومن المعلوم
سرعة العطش في ذلك الجوّ الحار والمشقة التي يتلقّاها العطشان والثابت في التواريخ
استشهاد الحسين عليهالسلام وأصحابه عطاشى ، فجدير من المحب ذكرهم عند شرب الماء .
وفي
مصباح الكفعمي انّه : جاءت سكينة الى المقتل ورأت أباها على تلك الهيئة فضمّته الى
صدرها وبكت بكاءً شديدا حتى أغمي عليها فسمعت هذا البيت من الشعر من ابيها في تلك
الحالة :
شيعتي ما ان شربتم ريّ عذبٍ فاذكروني أو سمعتم بغريب
أو شهيد فاندبوني
والظاهر
انّ باقي الابيات المتداولة في ألسن الناس ، من ملحقات الشعراء ولم تكن منه
عليهالسلام .
وفي
كامل البهائي انّ إبن زياد جاء الى المسجد الجامع وأمر المنادي أن ينادي بخروج
الرجال من الكوفة مع السلاح لحرب الحسين عليهالسلام وكل من تخلف فدمه مهدور وسوف
يقتل ، فما بقى فيها رجل الاّ جاء الى كربلاء طوعا أو كرها لقتل الحسين
عليهالسلام امّا بالسيف أو الرمح أو الحجارة أو العصا .
وقيل
انّ رواة هذه الواقعة علي بن الحسين عليهالسلام وزينب أخت الحسين عليهالسلام
وحميد بن مسلم الكندي الذي كان في جيش عمر بن سعد وكان عنده شيء من المروءة لكنه
حضر معهم كرها واجبارا . (منه رحمهالله )
(268)
فلما
وصل الكتاب بعث عمر بن سعد في الوقت عمرو بن الحجاج في خمسمائة فارس ، فنزلوا على
الشريعة وحالوا بين الحسين عليهالسلام وأصحابه وبين الماء أن يستقوا منه قطرة ،
وذلك قبل قتل الحسين عليهالسلام بثلاثة ايام(1) .
وكانت
الجيوش تأتي عمر بن سعد كل يوم ، حتى أرسل اليه إبن زياد الى السادس من محرم عشرين
الف فارس ـ على رواية السيد ـ وفي بعض الروايات انّ إبن زياد أرسل الجيش تدريجا
حتى بلغ عددهم ثلاثين الف فارسا وراجلاً .
وكتب
إبن زياد الى عمر بن سعد : انّي لم اجعل لك علة في كثرة الخيل والرجال ، فانظر لا
أصبح ولا أمسي الا وخبرك عندي غدوة وعشية .
ولما
رأى الحسين عليهالسلام نزول العساكر مع عمر بن سعد لعنه اللّه انفذ اليه : انّي
أريد أن ألقاك واجتمع معك ، فاجتمعا ليلاً فتناجيا طويلاً ثم رجع عمر بن سعد الى
مكانه وكتب الى عبيد اللّه إبن زياد :
«
اما بعد ، فانّ اللّه قد أطفى النائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الامة ، هذا حسين قد
أعطاني عهدا أن يرجع الى المكان الذي هو منه أتى أو يسير الى ثغر من الثغور
(1) الارشاد : 227 .
(269)
فيكون
رجلاً من المسلمين ، له ما لهم وعليه ما عليهم أو يأتي امير المؤمنين يزيد فيضع
يده في يده فيرى فيما بينه وبينه ، وفي هذا لك رضى وللأمة صلاح »(1) .
يقول
المؤلف : روى أهل السير والتاريخ عن عقبة بن سمعان مولى رباب زوجة الحسين
عليهالسلام انّه قال :
صحبت
حسينا فخرجت معه من المدينة الى مكة ومن مكة الى العراق ولم أفارقه حتى قتل
عليهالسلام ، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكة ولا في الطريق و لا
بالعراق ولا في عسكر الى يوم مقتله الاّ وقد سمعتها ، لا واللّه ما أعطاهم ما
يتذاكر الناس وما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية
(2) .
فالظاهر
انّ هذه جملة كتبها عمر بن سعد من قبل نفسه كي يصلح الامر ويجتنب المقاتلة ، لانّه
كان يكره قتال الحسين عليهالسلام .
على
كل حال ، لما قرأ عبيد اللّه الكتاب قال : هذا كتاب ناصح مشفق على قومه ، فقام
اليه شمر بن ذي الجوشن لعنه اللّه فقال : أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك والى جنبك
، واللّه لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ليكوننّ أولى بالقوة ولتكوننّ أولى
بالضعف والعجز ، فلا تعطه هذه المنزلة فانّها من الوهن ولكن لينزل على حكمك هو
وأصحابه فان عاقبت فأنت أولى بالعقوبة وان عفوت كان ذلك لك .
فقال
له إبن زياد : نعم ما رأيت ، الرأي رأيك ، اخرج بهذا الكتاب الى عمر بن سعد ،
فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي ، فان فعلوا فليبعث بهم اليّ سلما وان
هم أبوا فليقاتلهم ، فان فعل فاسمع له وأطع ، وان أبى أن يقاتلهم فأنت أمير الجيش
واضرب عنقه وابعث اليّ برأسه .
وكتب
الى عمر بن سعد :
«
انّي لم أبعثك الى الحسين لتكفّ عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه السلامة والبقاء ولا
لتعتذر عنه ولا لتكون له عندي شافيا ، انظر فان نزل الحسين وأصحابه على حكمي
واستسلموا فابعث بهم اليّ سلما ، وان أبوا فازحف اليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم فانهم
لذلك مستحقون ، وان قتل الحسين فأوطىء الخيل صدره وظهره ، فانّه عاق ظلوم ، ولست
أرى انّ هذا يضرّ بعد الموت شيئا ، ولكن على قول قد قلته ان لو قتلته لفعلت هذا به
، فان أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع ، وان أبيت فاعتزل عملنا
وجندنا وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر فانّا قد أمرناه بأمرنا ، والسلام »
(3) .
(1) الارشاد : 229 .
(2) انظر نفس المهموم :
221 ، عن الطبري وابن الأثير .
(3) الارشاد : 229 .
(270)
* * *
(271)
الفصل الثاني
وقائع يوم التاسع وليلة العاشر من محرم
جاء
شمر الى كربلاء في يوم الخميس الموافق للتاسع من محرم الحرام ، فلما قدم على ابن
سعد بكتاب إبن زياد وقرأه عمر قال له عمر : ما لك ويلك لا قرب اللّه دارك وقبّح
اللّه ما قدمت به عليّ ، واللّه انّي لأظنّك انّك نهيته أن يقبل عما كتبت به
اليه ، وأفسدت علينا أمرا كنا قد رجونا أن يصلح ، لا يستسلم واللّه الحسين ، انّ
نفس ابيه لبين جنبيه .
فقال
له شمر : أخبرني بما أنت صانع ، أتمضي لأمر أميرك تقاتل عدوّه ، والاّ فخلّ بيني
وبين الجند والعسكر ، قال : لا ولا كرامة لك ولكن أنا أتولى ذلك دونك ، فكن أنت
على الرجّالة .
وجاء
شمر حتى وقف على أصحاب الحسين عليهالسلام فقال : أين بنو أختنا ؟ يعني العباس
وجعفر وعبد اللّه وعثمان بني عليّ بن ابي طالب عليهالسلام (لانّ امهم أم البنين
كانت من قبيلة بني كلاب وشمر ايضا من تلك القبيلة) فقال الحسين عليهالسلام لهم :
أجيبوه وان كان فاسقا فانّه قريبكم .
فخرج
هؤلاء السعداء الى ذلك الشقي وقالوا له : ما تريد ؟ فقال : انتم يا بني أختي آمنون
فاتركوا الحسين وكونوا مع يزيد ، فناداه العباس عليهالسلام : تبت يداك وبئس ما
جئتنا به من أمانك يا عدو اللّه ، أتأمرنا أن نترك أخانا وسيدنا الحسين بن فاطمة
عليهماالسلام وندخل في طاعة اللعناء أولاد اللعناء ، أتؤمنوننا وإبن رسول اللّه
لا أمان له .
فرجع
شمر لعنه اللّه الى عسكره مغضبا ، ثم نادى عمر بن سعد : يا خيل اللّه اركبي
وبالجنّة أبشري ، فركب الناس حتى زحف نحوهم بعد العصر في اليوم التاسع ، والحسين
عليهالسلام جالس امام بيته محتبيا بسيفه اذ خفق برأسه على ركبته
(1) .
روى
الكليني عن الصادق عليهالسلام انّه قال : « تاسوعاء يوم حوصر فيه الحسين
عليهالسلام وأصحابه بكربلاء ، واجتمع عليه خيل أهل الشام وأناخوا عليه ، وفرح إبن
مرجانة وعمر بن سعد بتوافر الخيل وكثرتها ، واستضعفوا فيه الحسين عليهالسلام
وأصحابه ، وأيقنوا انّه لا يأتي الحسين عليهالسلام ناصر ولا يمدّه أهل العراق (ثم
قال :) بأبي المستضعف الغريب »(2) .
ولما
سمعت زينب الضجة دنت من أخيها فقالت : يا أخي أما تسمع الاصوات
(1) الارشاد : 229 ، مع
اختلاف .
(2) الكافي 4:147 .
(272)
قد اقتربت
؟ فرفع الحسين عليهالسلام رأسه فقال : انّي رأيت رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
الساعة في المنام فقال لي : انّك تروح الينا ، فلطمت أخته وجهها ونادت بالويل ،
فقال لها الحسن عليهالسلام : ليس لك الويل يا أخية اسكتي رحمك اللّه .
ثم
قال له العباس : يا أخي أتاك القوم ، فنهض ثم قال : يا عباس اركب بنفسي أنت يا أخي
حتى تلقاهم وتقول لهم ما لكم وما بدالكم وتسألهم عمّا جاء بهم ، فأتاهم العباس في
نحو من عشرين فارسا فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر ، فقال لهم العباس : ما بدا
لكم وما تريدون ؟ قالوا : قد جاء أمر الامير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو
نناجزكم ، فقال : فلا تعجلوا حتى ارجع الى أبي عبد اللّه .
فرجع
يركض الى الحسين عليهالسلام يخبره الخبر ، فقال عليهالسلام : ارجع اليهم فان
استطعت أن تؤخرهم الى غدوة وتدفعهم عنا العشية لعلنا نصلّي لربنا الليلة وندعوه
ونستغفره ، فهو يعلم انّي قد كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء
والاستغفار ، فمضى العباس اليهم وأخذ منهم التأجيل لتلك الليلة
(1) .
قال
السيد : توقف عمر بن سعد لعنه اللّه في أجابة العباس ، فقال له عمرو بن الحجاج
الزبيدي : واللّه لو انّهم من الترك والديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم ، فكيف وهم
آل محمد صلىاللهعليهوآله فأجابوهم الى ذلك(2) .
وقال
الطبري : قال قيس بن الاشعث : أجبهم الى ما سألوك ، فلعمري ليصبحنّك بالقتال غدوة
، فقال : واللّه لو أعلم أن فعلوا ما أخرجتهم العشية(3) .
فأمهل
عمر بن سعد الحسين عليهالسلام تلك الليلة ، وأرسل رسولاً اليه مع العباس
عليهالسلام يقول : انّا قد اجّلناكم الى غد ، فان استسلمتم سرحناكم الى أميرنا
عبيد اللّه بن زياد ، وان أبيتم فلسنا تاركيكم(4) .
« في ذكر
وقائع ليلة عاشوراء »
جمع
الحسين عليهالسلام أصحابه قرب المساء ، قال علي بن الحسين زين العابدين
عليهالسلام : فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم وانا اذ ذاك مريض ، فسمعت أبي يقول
لأصحابه :
«
أثني على اللّه أحسن الثناء ، وأحمده على السراء والضراء ، اللهم انّي أحمدك على
أن أكرمتنا بالنبوة ، وعلمتنا القرآن ، وفقهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعا
(1) الارشاد : 230 .
(2) اللهوف : 89 .
(3) تاريخ الطبري 4:316 .
(4) الارشاد : 230 .
(273)
وأبصارا
وأفئدة فاجعلنا من الشاكرين .
اما
بعد فانّي لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي ، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من
أهل بيتي ، فجزاكم اللّه عنّي خيرا ، ألا وانّي لا أظن يوما لنا من هؤلاء ، ألا
واني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم منّي ذمام ، وهذا الليل قد غشيكم
فاتخذوه جملاً » .
فقال
له اخوته وابناؤه وبنو اخيه وابنا عبد اللّه بن جعفر : لم نفعل ذلك لنبقى بعدك ،
لا أرانا اللّه ذلك أبدا ، بدأهم بهذا القول العباس بن علي عليهماالسلام واتبعه
الجماعة عليه ، فتكلموا بمثله ونحوه .
فقال
الحسين عليهالسلام : يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم ، فاذهبوا انتم فقد أذنت
لكم ، قالوا : سبحان اللّه فما يقول الناس ، يقولون انّا تركنا شيخنا وسيدنا وبني
عمومتنا خير الاعمام ، ولم نرم معهم بسهم ، ولم نطعن معهم برمح ، ولم نضرب معهم
بسيف ولا ندري ما صنعوا ، لا واللّه ما نفعل ولكن نفديك بانفسنا وأموالنا وأهلينا
ونقاتل معك حتى نرد موردك ، فقبّح اللّه العيش بعدك .
وقام
اليه مسلم بن عوسجة فقال : أنحن نخلّي عنك ، وبما نعتذر الى اللّه في أداء حقك ،
أما واللّه حتى أطعن في صدورهم برمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولو
لم يكن معي سلاح اقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ، واللّه لا نخلّيك حتى يعلم اللّه
انّا قد حفظنا غيبة رسوله فيك ، أما واللّه لو قد علمت انّي اقتل ثم أحيي ثم أحرق
ثم أحيي وثم أذرّى ، يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى القى حمامي دونك ، وكيف
لا أفعل ذلك وانّما هي قتلة واحدة ، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا .
وقام
زهير بن القين رحمهالله فقال : واللّه لوددت انّي قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى اقتل
هكذا الف مرّة ، وانّ اللّه عزوجل يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء
الفتيان من أهل بيتك ، وتكلّم جماعة من أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا في وجه واحد ،
فجزاهم الحسين عليهالسلام خيرا وانصرف الى مضربه
(1) .
قال
المجلسي رحمهالله : فأراهم الحسين عليهالسلام منازلهم في الجنة ، فرأوا القصور
والحور والنعيم الذي أعدّ لهم ، وزاد يقينهم وثباتهم ، فلذا كانوا يستبقون الى
الشهادة ولا يحسّون الم السيوف والنبال .
روى
السيد بن طاووس انّه : قيل لمحمد بن بشير الحضرمي في تلك الحال : قد أسر ابنك في
ثغر الري ، فقال : عند اللّه أحتسبه ونفسي ما كنت أحب أن يؤسر وأنا أبقى بعده ،
فسمع الحسين عليهالسلام قوله فقال :
رحمك
اللّه انت في حلّ من بيعتي فاعمل في فكاك ابنك ، فقال : اكلتني السباع
(1) الارشاد : 231 .
(274)
حيّا ان
فارقتك ، قال : فأعط ابنك هذه الاثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه ، فأعطاه
خمسة اثواب قيمتها ألف دينار(1) .
قال
الشيخ المفيد رحمهالله : انصرف الحسين عليهالسلام الى خيامه بعد مكالمته مع
أصحابه ، قال عليّ بن الحسين عليهماالسلام : انّي جالس في تلك العشية التي قتل ابي
في صبيحتها وعندي عمتي زينب تمرضني ، اذ اعتزل ابي في خباء له وعنده جوين مولى أبي
ذر الغفاري ، وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول :
يا دهر أف لك من خليل
كم لك بالاشراق والأصيل من صاحب أو طالبٍ قتيل والدهر لا يقنع
بالبديل وانّما الأمر الى الجليل وكلّ حي سالك سبيلي
فاعادها
مرتين أو ثلاثا حتى فهمتها وعرفت ما أراد ، فخنقتني العبرة فرددتها ولزمت السكوت
وعلمت انّ البلاء قد نزل ، وأمّا عمّتي فانّها سمعت ما سمعت وهي امرأة ومن شأن
النساء الرقة والجزع ، فلم تملك نفسها اذ وثبت تجر ثوبها وانها لحاسرة حتى انتهت
اليه فقالت : وا ثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة ، اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي عليّ
وأخي الحسن عليهالسلام ، يا خليفة الماضين وثمال الباقين .
فنظر
اليها الحسين عليهالسلام فقال لها : يا أخيّة لا يذهبن حلمك الشيطان ، وترقرقت
عيناه بالدموع وقال : « لو ترك القطا لنام » ، فقالت : يا ويلتاه افتغتصب نفسك
اغتصابا ، فذاك أقرح لقلبي وأشد على نفسي ، ثم لطمت وجهها وهوت الى جيبها فشقته ،
وخّرت مغشيّا عليها .
فقام
اليها الحسين عليهالسلام فصب على وجهها الماء وقال لها : أيها يا أختاه اتقي
اللّه وتعزي بعزاء اللّه ، واعلمي انّ أهل الارض يموتون ، وأهل السماء لا يبقون
، وانّ كل شيء هالك الاّ وجه اللّه الذي خلق الخلق بقدرته ، ويبعث الخلق ويعيدهم
وهو فرد وحده ، جدّي خير مني ، وأبي خير منّي ، وأمّي خير منّي ، وأخي خير منّي ،
ولي ولكل مسلم برسول اللّه صلىاللهعليهوآله أسوة .
فعزاها
بهذا ونحوه وقال لها : يا أخيّة انّي أقسمت عليك فابري قسمي ، لا تشقي عليّ جيبا ،
ولا تخمشي عليّ وجها ، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور اذا انا هلكت ، ثم جاء بها حتى
أجلسها عندي ، ثم خرج الى أصحابه فأمرهم أن يقرب بعضهم بيوتهم من بعض ، وأن يدخلوا
الاطناب بعضها في بعض ، وأن يكونوا بين البيوت فيستقبلون القوم من وجه واحد
والبيوت من ورائهم وعن ايمانهم وعن شمائلهم ، قد حفت بهم الاّ الوجه الذي يأتيهم
منه عدوّهم
(2) .
(1) اللهوف : 93 .
(2) الارشاد : 232 .
(275)
ثم
أمر عليهالسلام بحفيرة فحفرت حول عسكره تشبه الخندق ، وأمر فحشيت حطبا ، وأرسل
عليّا ابنه في ثلاثين فارسا وعشرين راجلاً ليستقوا الماء وهم على وجل شديد ، فقال
الحسين عليهالسلام لأصحابه : قوموا فاشربوا من الماء فانّه آخر زادكم وتوضأوا
واغتسلوا واغسلوا ثيابكم لتكون اكفانكم .
وبات
الحسين عليهالسلام وأصحابه تلك الليلة ولهم دويّ كدوي النحل ، ما بين راكع وساجد
وقائم وقاعد .
وباتوا فمنهم ذاكر ومسبح
وداع ومنهم ركع وسجود
وفي
رواية انّه عبر عليهم في تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد اثنان وثلاثون رجلاً
(1) .
فلما
كان من الغداة أمر الحسين عليهالسلام بفسطاط فضرب فامر بجفنة فيها مسك كثير وجعل
عندها نورة ثم دخل ليطلي ، فروي انّ برير بن خضير الهمداني وعبد الرحمن بن عبد
ربّة الانصاري ، وقفا على باب الفسطاط ليطليا بعده .
فجعل
برير يضاحك عبد الرحمن ، فقال له عبد الرحمن : يا برير أتضحك ؟ ما هذه ساعة ضحك
ولا باطل ، فقال برير : لقد علم قومي ما احببت الباطل كهلاً ولا شابّا ، وانّما
أفعل ذلك استبشارا بما نصير اليه ، فو اللّه ما هو الاّ أن نلقي هؤلاء القوم
باسيافنا نعالجهم بها ساعة ثم نعانق الحور العين
(2) .
* * *
الفصل الثالث
في بيان واقعة يوم عاشوراء ، أكبر
وأعظم الدواهي في عالم الايجاد
أصبح
الحسين عليهالسلام فصلّى بأصحابه الفجر ثم عبّأ أصحابه ، وعلى رواية قال :
ستستشهدون كلكم سوى عليّ بن الحسين ، وكان معه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلاً
، وفي رواية اثنان ومائة راجل ، ونقل سبط إبن الجوزي في تذكرته : اثنين وعشرين ،
وكان جيش عمر بن سعد ستة آلاف نفر ، وفي بعض المقاتل ألف نفرا ، وعلى رواية ثلاثين
ألف نفر .
(1) اللهوف : 94 .
(2) اللهوف : 95 .
(276)
وقد
اضطربت آراء ارباب السير والمقاتل في عدد جنود الحسين عليهالسلام وعمر بن سعد .
وجعل
عليهالسلام زهير بن القين في الميمنة ، وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه وأعطى
رايته أخاه ، وفي رواية انّه ارسل مع زهير عشرين نفرا الى الميمنة ، ومع حبيب
عشرين نفرا الى الميسرة ، ووقف هو وباقي الاصحاب في القلب ، وجعلوا البيوت في
ظهورهم ، وأمر بحطب وقصب كان من وراء البيوت أن يترك في خندق كان قد حفر هناك ،
وأن يحرق بالنار مخافة أن يأتوهم من ورائهم .
وعبأ
عمر بن سعد أصحابه ايضا ، فجعل عمرو بن الحجاج على الميمنة ، وشمر بن ذي الجوشن
على الميسرة ، وجعل عروة بن قيس على الخيالة ، وجعل شبث بن ربعي عل الرجالة ،
وأعطى الراية دريدا مولاه .
وروي
انّ الحسين عليهالسلام رفع يديه للدعاء فقال : « اللهم أنت ثقتي في كل كرب ، وأنت
رجائي في كل شدة ، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة ، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد
وتقلّ فيه الحلية ، ويخذل فيه الصديق ، ويشمت فيه العدو ، أنزلته بك وشكوته إليك
رغبةً مني إليك عمن سواك ، ففرجته عنّي وكشفته ، فأنت وليّ كل نعمة ، وصاحب كل
حسنة ، ومنتهى كل رغبة »
(1) .
وأقبل
القوم يجولون حول بيوت الحسين عليهالسلام ، فيرون الخندق في ظهورهم والنار تضطرم
في الحطب والقصب الذي كان القي فيه ، فنادى شمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته : يا حسين
اتعجلت النار قبل يوم القيامة ؟
فقال
الحسين عليهالسلام : من هذا ؟ كأنّه شمر بن ذي الجوشن ، فقالوا له : نعم ، فقال
له : يا بن راعية المعزى أنت أولى بها صليّا ، ورام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم
فمنعه الحسين عليهالسلام من ذلك فقال له : دعني حتى ارميه فانّه الفاسق من اعداء
اللّه وعظماء الجبارين وقد امكن اللّه منه ، فقال له الحسين عليهالسلام : لا
ترمه فانّي أكره أن أبدأهم .
ثم
دعا الحسين عليهالسلام براحلته فركبها ونادى بأعلى صوته يا أهل العراق ، فقال :
ايها الناس اسمعوا قولي ، ولا تعجلوا حتى أعظكم بما يحق لكم عليّ ، وحتى اعذر
اليكم فان أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد ، وان لم تعطوني النصف من انفسكم
فاجمعوا رأيكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا اليّ ولا تنظرون « إِنَّ
وَلِىِّ اللّهُ الَّذِى نَزَّلَ الْكِتبَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّلِحِينَ »
(2) .
قال
الراوي : فلما سمع اخواته كلامه هذا صحن وبكين وبكى بناته فارتفعت أصواتهن ، فأرسل
اليهنّ أخاه العباس بن عليّ عليهماالسلام وعليا ابنه وقال لهما : اسكتاهنّ
(1) الارشاد : 223 .
(2) الاعراف : 196 .
(277)
فلعمري
ليكثرنّ بكاؤهنّ(1) .
فلما
سكتن حمد اللّه وأثنى عليه وذكر اللّه بما هو أهله ، وصلى على نبيه
صلىاللهعليهوآله وعلى ملائكة اللّه وانبيائه ، فلم يسمع متكلم قط قبله ولا
بعده أبلغ في منطق منه ، ثم قال :
اما
بعد فانسبوني وانظروا من أنا ثم ارجعوا الى أنفسكم وعاتبوها ، فانظروا هل يصلح لكم
قتلي وانتهاك حرمتي ؟ ألست إبن بنت نبيكم وإبن وصيه وإبن عمه وأول المؤمنين المصدّق
لرسول اللّه بما جاء به من عند ربه ؟ أوليس حمزة سيد الشهداء عمّي ؟
أو
ليس جعفر الطيار في الجنة بجناحين عمّي ؟ أولم يبلغكم ما قال رسول اللّه
صلىاللهعليهوآله لي ولأخي : هذان سيدا شباب أهل الجنة ، فان صدّقتموني بما
أقول وهو الحق ، واللّه وما تعمدت كذبا منذ علمت أنّ اللّه يمقت عليه أهله ، وان
كذبتموني فانّ فيكم من ان سألتموه عن ذلك أخبركم .
سلوا
جابر بن عبد اللّه الانصاري ، وأبا سعيد الخدري ، وسهل بن سعد الساعدي ، وزيد بن
أرقم ، وأنس بن مالك ، يخبروكم انهم سمعوا هذه المقالة من رسول اللّه لي ولأخي ،
أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي ؟
فقال
له شمر بن ذي الجوشن : هو يعبد اللّه على حرف ان كان يدري ما تقول ، فقال له حبيب
بن مظاهر : واللّه انّي لأراك تعبد اللّه على سبعين حرفا ، وأنا أشهد انّك صادق
ما تدري ما يقول ، قد طبع اللّه على قلبك .
ثم
قال لهم الحسين عليهالسلام : فان كنتم في شك من هذا أفتشكون انّي إبن بنت نبيكم ،
فو اللّه ما بين المشرق والمغرب إبن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم ، ويحكم
أتطلبوني بقتيل منكم قتلته ، أو مال استهلكته ، أو بقصاص جراحة ؟
فأخذوا
لا يكلمونه فنادى : يا شبث بن ربعي ، ويا حجّار بن أبجر ، ويا قيس بن الاشعث ، ويا
زيد بن الحارث ، ألم تكتبوا اليّ أن قد أينعت الثمار ، واخضر الجناب ، وانما تقدم
على جند لك مجند فأقبل ، فقال له قيس بن الاشعث : ما ندري ما تقول ولكن انزل على
حكم بني عمك (يزيد وعبيد اللّه) فانّهم لن يروك الاّ ما تحب .
فقال
له الحسين عليهالسلام : لا واللّه لا أعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا أفر فرار
العبيد ، ثم نادى : يا عباد اللّه انّي عذت بربي وربكم أن ترجمون ، انّي أعوذ
بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ، ثم انّه أناخ راحلته وأمر عقبة بن
سمعان فعقلها فأقبلوا يزحفون نحوه
(2) .
(1) تاريخ الطبري 4:322 .
(2) الارشاد : 234 .
(278)
روى
أبو جعفر الطبري عن علي بن حنظلة بن أسعد الشامي ، عن كثير بن عبد اللّه الشعبي
انّه قال : لما زحفنا قبل الحسين عليهالسلام خرج الينا زهير بن القين على فرس له
ذنوب ، شاك في السلاح ، فقال :
أهل الكوفة نذار لكم من عذاب اللّه نذار ، انّ حقا على المسلم نصيحة أخيه المسلم
، ونحن حتى الان أخوة على دين واحد وملة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف ،
وأنتم للنصيحة منّا أهل فاذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنّا نحن أمّة وأنتم أمّة ،
انّ اللّه قد ابتلانا واياكم بذرية نبيه محمد صلىاللهعليهوآله لينظر ما نحن
وأنتم عاملون ، انّا ندعوكم الى نصرهم وخذلان الطاغية عبيد اللّه بن زياد ، فانكم
لا تدركون منهما الا سوءا عُمْرَ سلطانهما كلّه ، ليسملان اعينكم ، ويقطعان ايديكم
وارجلكم ، ويمثلان بكم ويرفعانكم على جذوع النخل ، ويقتلان أماثلكم وقراءكم أمثال
حجر بن عدي واصحابه وهاني بن عروة وأشباهه .
فسبوه
وأثنوا على عبيد اللّه بن زياد وقالوا : واللّه لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه
، أو نبعث به وبأصحابه الى الامير عبيد اللّه بن زياد سلما ، فقال لهم : يا عباد
اللّه انّ ولد فاطمة عليهاالسلام أحق بالودّ والنصر من إبن سميّة ، فان لم
تنصروهم فأعيذكم باللّه أن تقتلوهم ، وخلوا بين هذا الرجل وبين إبن عمه يزيد بن
معاوية ، فلعمري انّ يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين عليهالسلام .
فرماه
شمر بسهم وقال : أسكت اسكن اللّه نأمتك أبرمتنا بكثرة كلامك ، فقال له زهير
رحمهالله : يا بن البوال على عقبيه ما ايّاك أخاطب انّما انت بهيمة ، واللّه ما
أظنّك تحكم من كتاب اللّه آيتين ، فابشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم ،
فقال له شمر : انّ اللّه قاتلك وصاحبك عن ساعة ، قال : أفبالموت تخوفني فو اللّه
للموت معه أحبّ اليّ من الخلد معكم .
ثم
أقبل على الناس رافعا صوته فقال : يا عباد اللّه لا يغرنكم من دينكم هذا الجلف
الجفي وأشباهه ، فو اللّه لا تنال شفاعة محمد صلىاللهعليهوآله قوما أهرقوا
دماء ذريته وأهل بيته ، وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم ، فناداه رجل فقال له : انّ
ابا عبد اللّه يقول لك : أقبل فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في
الدعاء لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والابلاغ
(1) .
روى
السيد بن طاووس رحمهالله انّه : ركب أصحاب عمر بن سعد لعنهم اللّه ، فبعث الحسين
عليهالسلام برير بن خضير فوعظهم فلم يستمعوا وذكّرهم فلم ينتفعوا فركب الحسين
عليهالسلام ناقته وقيل فرسه فاستنصتهم فانصتوا ، فحمد اللّه واثنى عليه وذكره بما
هو أهله ، وصلى على محمد صلىاللهعليهوآله وعلى الملائكة والانبياء والرسل
وأبلغ في المقال ، ثم
(1) تاريخ الطبري 4:323 .
(279)
قال :
تبا
لكم ايتها الجماعة وترحا حين استصرختمونا والهين فاصرخناكم موجفين ، سللتم علينا
سيفا لنا في ايمانكم ، وحششتم علينا نارا اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم ، فاصبحتم
الباً لأعداكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، فهلاّ
لكم الويلات ، تركتمونا والسيف مشيم ، والجأش طامن ، والرمي لما يستصحف ، ولكن
أسرعتم اليها كطيرة الدبا تداعيتم اليها كتهافت الفراش ، فسحقا لكم يا عبيد الامة
، وشذاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ومحرّفي الكلم ، وعصبة الأثام ، ونفثة الشيطان ،
ومطفيء السنن ، أهؤلاء تعضدون وعنا تتخاذلون ، أجل واللّه غدر فيكم قديم وشجت
اليه أصولكم وتأزّرت عليه فروعكم ، فكنتم أخبث ثمر شجا للناظر واكلة للغاصب .
الا
وانّ الدعي بن الدعي قد ركز بن اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منّا الذلة ، يأبى
اللّه ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ، ونفوس أبيّة من أن
تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ، الا وانّي زاحف بهذا الأسرة مع قلّة العدد
وخذلة الناصر .
ثم
أوصل كلامه بأبيات فروة بن مسيك المرادي :
فان نُهزم فهزّامون قِدما
وان نُغلب فغير مغلَّبينا وما ان طبّنا جبن ولكن منايانا ودولة
أخرينا اذا ما الموت رفّع عن اناس كلا كله اناخ بآخرينا فافنى
ذلكم سَراوة قومي كما أفنى القرون الأولينا فلو خلد الملوك اذا خلدنا
ولو بقي الكرام اذا بقينا فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى
الشامتون كما لقينا
ثم
أيم اللّه لا تلبثون بعدها الاّ كريث ما يركب الفرس حتى تدور بكم دور الرحى ،
وتقلق بكم قلق المحور ، عهد عهده اليّ أبي عن جدّي ، فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا
يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا اليّ ولا تنظرون ، انّي توكّلت على اللّه ربّي
وربكم ، ما من دابة الاّ هو آخذ بناصيتها انّ ربي على صراط مستقيم .
اللهم
احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسني يوسف ، وسلط عليهم غلام ثقيف ،
فيسومهم كأسا مصبرة فانّهم كذبونا وخذلونا ، وأنت ربنا عليك توكلنا واليك أنبنا
وإليك المصير .
ثم
نزل عليهالسلام ودعا بفرس رسول اللّه صلىاللهعليهوآله المرتجز فركبه وعبّأ
أصحابه للقتال
(1) .
روى
الطبري عن سعد بن عبيدة انّه قال : انّ أشياخا من أهل الكوفة لوقوف على
(1) اللهوف : 96 .
(280)
التل يبكون
ويقولون : اللهم أنزل نصرك ، قال : قلت : يا أعداء اللّه ألا تنزلون فتنصرونه ،
قال : فأقبل الحسين يكلم من بعث اليه بابن زياد ، قال : وانّي لأنظر اليه وعليه
جبة من بُرُود ، فلما كلمهم انصرف فرماه رجل من بن¨ تميم يقال له عمر الطهوي بسهم
، فاني لأنظر الى السهم بين كتفيه متعلقا في جبته ، فلما أبوا عليه رجع الى مصافه
، وانّي لأنظر اليهم وانهم لقريب من مائة رجل فهم ، لصلب عليّ بن أبي طالب
عليهالسلام خمسة ومن بني هاشم ستة عشر(1) .
وفي
بعض المقاتل انّ الحسين عليهالسلام لما أتمّ الخطبة قال : أين عمر بن سعد ؟ ادعوا
لي عمر ، فدعي له ، وكان كارها لا يحبّ أن يأتيه ، فقال : يا عمر أنت تقتلني ؟
تزعم أن يولّيك الدعيّ بن الدعي بلاد الري وجرجان ، واللّه لا تتهنّأ بذلك أبدا ،
عهدا معهودا فاصنع ما أنت صانع ، فانّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، ولكأنّي
برأسك على قصبة قد نصب بالكوفة يتراماه الصبيان ويتخذونه غرضا بينهم .
فاغتاظ
عمر من كلامه ثم صرف بوجهه عنه ونادى بأصحابه : ما تنتظرون به ؟
احملوا
بأجمعكم انّما هي اكلة واحدة
(2) ، ثم انّ الحسين عليهالسلام دعا بفرس رسول
اللّه المرتجز فركبه وعبّأ أصحابه .
« تنبّه
الحرّ بن يزيد ورجوعه »
لما
رأى الحر انّ القوم قد صمّموا على قتال الحسين عليهالسلام وسمع نداءه يقول : «
أما من مغيث يغيثنا لوجه اللّه ، أما من ذاب يذب عن حرم رسول اللّه
صلىاللهعليهوآله » ، انتبه من نوم الغفلة ، وجاء الى عمر بن سعد فقال له : أي
عمر أمقاتل أنت هذا الرجل ؟ قال : اي واللّه قتالاً شديدا أيسره أن تسقط الرؤوس
وتطيح الايدي ، قال : أفما لكم فيما عرضه اليكم رضى ؟ قال عمر : أما لو كان الامر
اليّ لفعلت ولكن أميرك قد أبى .
فأقبل
الحر حتى وقف من الناس موقفا ، ومعه رجل من قومه يقال له قرة بن قيس ، فقال له :
يا قرة هل سقيت فرسك اليوم ؟ قال : لا ، قال : فما تريد أن تسقيه ؟ قال قرة :
وظننت واللّه انّه يريد أن يتنحى فلا يشهد القتال ، فكره أن أراه حين يصنع ذلك ،
فقلت له : لم أسقه وأنا منطلق لأسقيه .
فاعتزل
ذلك المكان الذي كان فيه ، فو اللّه لو انّه اطلعني على الذي يريد لخرجت معه الى
الحسين عليهالسلام ، فأخذ يدنو من الحسين قليلاً قليلاً ، فقال له مهاجر بن أوس :
ما تريد يا بن يزيد ؟ تريد أن تحمل ؟ فلم يجبه وأخذه مثل الافكل وهي الرعدة .
فقال
له مهاجر : انّ أمرك لمريب واللّه ما رأيت منك في موقف قط مثل هذا ولو
(1) تاريخ الطبري 4:295 .
(2) البحار 45:10 .
(281)
قيل لي من
أشجع أهل الكوفة ما عدوتك ، فما هذا الذي أرى منك ؟ فقال له الحر : انّي واللّه
اخير نفسي بين الجنة والنار ، فو اللّه لا أختار على الجنة شيئا ولو قطعت وحرقت ،
ثم ضرب فرسه قاصدا الى الحسين عليهالسلام ويده على رأسه وهو يقول :
«
اللهم إليك أنبت فتب عليّ ، فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد بنت نبيك » .
قال
أبو جعفر الطبري : فلما دنا من الحسين عليهالسلام وأصحابه قلب ترسه (كي يعلن
بانّه لم يأتِ للقتال) وسلم عليهم .
فلحق
بالحسين عليهالسلام فقال له : جعلت فداك يا بن رسول اللّه أنا صاحبك الذي حبستك
عن الرجوع ، وسايرتك في الطريق ، وجعجعت بك في هذا المكان ، وما ظننت أنّ القوم
يردون ما عرضته عليهم ، ولا يبلغون منك هذه المنزلة ، واللّه لو علمت انّهم
ينتهون بك الى ما أرى ما ركبت منك الذي ركبت ، وانّي تائب الى اللّه مما صنعت ،
فترى لي من ذلك توبة ؟
فقال
له الحسين عليهالسلام : نعم ، يتوب اللّه عليك فانزل ، قال : فأنا لك فارس خير من
راجل أقاتلهم على فرسي ساعة والى النزول آخر ما يصير أمري ، فقال له الحسين
عليهالسلام : فاصنع رحمك اللّه ما بدا لك ، فاستقدم امام الحسين عليهالسلام
فقال :
يا
أهل الكوفة ، لأمكم الهبل والعُبر ، دعوتم هذا العبد الصالح حتى اذا أتاكم
أسلمتموه ، وزعمتم انكم قاتلوا انفسكم دونه ، ثم عدوتم عليه لتقتلوه ، أمسكتم
بنفسه وأخذتم بكظمه ، وأحطتم به من كل جانب لتمنعوه التوجه في بلاد اللّه العريضة
، فصار كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرا ، وجلأتموه ونساءه
وصبيته وأهله عن ماء الفرات الجاري ، يشربه اليهود والنصارى والمجوس وتمرغ فيه
خنازير السواد وكلابه ، وها هم قد صرعهم العطش ، بئسما خلفتم محمدا
صلىاللهعليهوآله في ذريته لا سقاكم يوم الظماء .
فحمل
عليه رجال يرمونه بالنبل ، فأقبل حتى وقف أمام الحسين عليهالسلام ونادى عمر بن
سعد : يا دريد ادن رايتك ، فادناها ثم وضع سهمه في كبد قوسه ثم رمى فقال : اشهدوا
انّي أوّل من رمى
(1) .
روى
إبن طاووس انّه : لما رمى إبن سعد عسكر الامام عليهالسلام أقبلت السهام من القوم
كأنّها القطر ، فقال عليهالسلام لأصحابه : قوموا رحمكم اللّه الى الموت الذي
لابد منه ، فانّ هذه السهام رسل القوم اليكم ، فاقتتلوا ساعة من النهار حملة وحملة
حتى قتل من اصحاب الحسين عليهالسلام جماعة(2) . (وعلى رواية محمد بن
ابي طالب قتل خمسون نفرا)
يقول
المؤلف : لما كان لأصحاب الحسين عليهالسلام حقوق كثيرة علينا ،
(1) الارشاد : 235 .
(2) اللهوف : 100 .
(282)
فانّهم
(رض) :
السابقون الى المكارم والعلى
والحائزون غدا حياض الكوثر لو لا صوارمهم ووقع نبالهم لم يسمع
الاذان صوت مكبر
وكما
قال عدوّهم كعب بن جابر في حقّهم :
فلم ترعيني مثلهم في زمانهم
ولا قبلهم في الناس إذ أنا يافع أشد قراعا بالسيوف لدى الوغا
ألا كلُّ من يحمي الدمار مقارع وقد صبروا للطعن والضرب حُسَّرا
وقد نازلوا لو أنَّ ذلك نافع
فرأيت
من المناسب ذكر اسماء الذين استشهدوا في الحملة الاولى من الذين اطلعت عليهم ، وهم
كما ذُكِرَ في مناقب إبن شهر آشوب بهذا الترتب :
1
ـ نعيم بن عجلان : وهو أخو النعمان بن عجلان من أصحاب امير المؤمنين عليهالسلام
وعامله على البحرين وعمان ، وقيل انّهما مع نضر أخيهم الثالث من الشجعان والشعراء
، وقد حاربوا معاوية يوم صفين مع امير المؤمنين عليهالسلام .
2
ـ عمران بن كعب بن حارث الاشجعي : الذي ذكر في رجال الشيخ .
3
ـ حنظلة بن عمرو الشيباني وقاسط بن زهيرمع أخيه مقسط ، وقد ذكر الشيخ في رجاله انّ
اباهما عبد اللّه .
4
ـ كنانة بن عتيق التغلبي : من الابطال والقراء وعباد الكوفة .
5
ـ عمرو بن ضبيعة بن قيس التميمي : الفارس الشجاع ، قيل انّه كان مع عمر بن سعد ثم
التحق بالحسين عليهالسلام .
6
ـ ضرغامة بن مالك التغلبي : وقيل انّه خرج للمبارزة بعد صلاة الظهر ثم استشهد .
7
ـ عامر بن مسلم العبدي ومولاه سالم من شيعة البصرة وقد جاءا لنصرة الحسين
عليهالسلام مع سيف بن مالك وأدهم بن أمية ويزيد بن ثبيط وابنائه ، وقد استشهدوا
في الحملة الأولى ، وقال الفضل بن عباس بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب رضوان
اللّه عليهم في حق عامر ، وزهير بن سليم ، وعثمان بن امير المؤمنين عليهالسلام ،
والحر ، وزهير بن القين ، وعمرو الصيداوي ، وبشر الحضرمي ، عند طعنه على فعال بني
أمية :
أرجعوا عامرا وردّوا زهيرا
ثم عثمان فارجِعُوا غارمينا وارجعوا الحرّ وإبن قين وقوما
قُتلوا حين جاوزوا صفّينا أين عمرو وأين بَشر وقتلى منهم
بالعَراءِ ما يُدْفنونا
8
ـ سيف بن عبد اللّه بن مالك العبدي : قيل انّه خرج للمبارزة بعد الزوال واستشهد
رحمهالله .
9
ـ عبد الرحمن بن عبد اللّه الأرحبي الهمداني : وهو الذي أرسله أهل الكوفة مع
(283)
قيس بن
مسهر الى الامام الحسين عليهالسلام لما كان بمكة ، ومعهما رسائل كثيرة وقد وصلا
اليه في اليوم الثاني عشر من شهر رمضان .
10
ـ حباب بن عامر التيمي : من شيعة الكوفة وقد بايع مسلما ، فلمّا رأى غدر أهل
الكوفة به لحق بالحسين عليهالسلام .
11
ـ عمرو الجُندُعي : وقد عدّه إبن شهر آشوب من المستشهدين في الحملة الاولى ، ولكن
قال بعض أهل السير والتاريخ : انّه جرح واصيب بضربة منكرة وجاء قومه وأخذوه من
المعركة ، وكان مريضا وملازما للفراش مدة سنة ، وقد مات في رأس السنة ، ويؤيده ما
ورد في زيارة الشهداء « السلام على المرتث معه عمرو بن عبد اللّه الجندعي » .
12
ـ حلاس (كغراب) بن عمرو الأزدي الراسبي ، وأخوه النعمان بن عمرو وهو من أهل الكوفة
ومن أصحاب امير المؤمنين عليهالسلام ، وكان حلاس من قوّاد جيش الامام بالكوفة .
13
ـ سَوّار بن أبي عُمَير النهمي :
(1) جرح في الحملة الاولى ، ووقع بين الجرحى حتى
أسر وجاؤوا به الى عمر بن سعد ، فأراد قتله لكن تشفع به قومه ، فانصرف عن قتله
وتركه بين الاسرى ، وكان على جرحه الى ستة أشهر ثم توفى بعدها كمُوقَّع بن ثمامة
الذي جرح فأخذه قومه الى الكوفة وأخفوه عن إبن زياد ، فلمّا بلغ إبن زياد ذلك أرسل
اليه ليقتلوه فتشفع فيه قومه بنو أسد ، فلم يقتله لكنه أوثقه وقيّده بالحديد
وأرسله الى بزارة (موضع بعمان) وبقي مريضا حتى توفى هناك بعد سنة ، وقد أشار اليه
الكميت الاسدي في هذا المصرع :
وانّ
أبا موسى اسير مكبل (أبو موسى كنية مُوَقَّع بن ثمامة) ، وجاء في زيارة الشهداء :
« السلام على الجريح الأسود سَوّار بن أبي عُمَير النهمي » .
14
ـ عمار بن أبي سلامة الدالاني الهمداني : من أصحاب امير المؤمنين عليهالسلام ومن
المجاهدين معه ، وقيل انّه أدرك النبي صلىاللهعليهوآله .
15
ـ زاهر مولى عمرو بن الحمق : جدّ محمد بن سنان الزاهري ، وقد تشرف بزيارة بيت
اللّه الحرام سنة ستين وصاحب الامام سيد الشهداء عليهالسلام حينذاك وكان معه الى
يوم عاشوراء ، واستشهد في الحملة الاولى .
وروي
عن القاضي نعمان المصري : انّ عمرو بن الحمق بقي بعد علي عليهالسلام فطلبه معاوية
فهرب منه نحو الجزيرة ومعه رجل من أصحاب عليّ عليهالسلام يقال له زاهر ، فلمّا
نزل الوادي نهشت عَمْرا حية في جوف الليل فأصبح منتفخا فقال : يا زاهر تنح عنّي
فانّ حبيبي رسول اللّه صلىاللهعليهوآله قد أخبرني انّه سيشرك في دمي الجن
والانس ولابد لي
(1) في المناقب : (سوّار
بن أبي عمير الفهمي) .
(284)
من أن أقتل
، فبيناهما كذلك اذ رأيا نواصي الخيل في طلبه فقال : يا زاهر تغيب فاذا قتلت فانهم
سوف يأخذون رأسي ، فاذا انصرفوا فاخرج الى جسدي فواره ، قال زاهر : لا بل أنثر
نبلي ثم أرميهم به فاذا فنيت نبلي قتلت معك قال : لا بل تفعل ما سألتك به ينفعك
اللّه به ، فاختفى زاهر ، وأتى القوم فقتلوا عمرا واحتزوا رأسه فحملوه ، فلما
انصرفوا خرج زاهر فوارى جسده ، ثم بقى حتى قتل مع الحسين عليهالسلام .
16
ـ جَبَلَة بن علي الشيباني : من شجعان الكوفة .
17
ـ مسعود بن الحجاج التيمي وابنه عبد الرحمن وهما من شجعان الكوفة وابطالها ، جاءا
مع إبن سعد قبل القتال ، ثم رأيا الحسين عليهالسلام فشملتهما السعادة وبقيا معه
حتى استشهدا في الحملة الاولى .
18
ـ زهير بن بشر الخثعمي .
19
ـ عمار بن حسان بن شريح الطائي : وهو من خلّص الشيعة وصاحب الحسين عليهالسلام من
مكّة الى كربلاء واستشهد هناك ، وكان أبوه حسان من أصحاب أمير المؤمنين
عليهالسلام واستشهد معه بصفين ، وجاء في كتب الرجال اسم عامر بدل عمّار ، ومن
أحفاده عبد اللّه بن أحمد بن عامر بن سليمان بن صالح بن وهب بن عامر المقتول بكربلاء
، ابن حسان وعبد اللّه مكنّى بأبي القاسم ، وله كتب كثيرة منها كتاب قضايا امير
المؤمنين عليهالسلام يرويه عن أبيه أبي الجعد أحمد بن عامر ، وقد روى الشيخ
النجاشي عن عبد اللّه بن أحمد المذكور انّه قال :
ولد
أبي سنة سبع وخمسين ومائة ، ولقى الرضا عليهالسلام سنة أربع وتسعين ومائة ، ومات
الرضا عليهالسلام بطوس سنة اثنين ومائتن يوم الثلاثاء لثمان عشرة خلون من جمادي
الاولى ، وشاهدت أبا الحسن وأبا محمد عليهماالسلام وكان أبي مؤذنهما الى آخر
الحديث
(1) .
فعلم
انهما نشئا في بيوت اجلاّء الشيعة قدس اللّه ارواحهم .
20
ـ مسلم بن كثير الازدي الكوفي التابعي : قيل انّه من اصحاب امير المؤمنين
عليهالسلام ، وقد أصيب بجرح في رجله في بعض الحروب التي شارك فيها مع الامام
عليهالسلام ، وجاء من الكوفة الى كربلاء لنصرة سيد العترة واستهشد في الحملة
الاولى ، واستشهد نافع مولاه بعد صلاة الظهر .
21
ـ زهير بن سليم الأزدي : وهذا الرجل العظيم من السعداء الذين لحقوا بالحسين
عليهالسلام ليلة عاشوراء .
22
ـ عبد اللّه وعبيد اللّه : ابنا يزيد بن ثبيط العبدي البصري
(2) .
روى
أبو جعفر الطبري : اجتمع ناس من الشيعة بالبصرة في منزل امرأة من عبد
(1) رجال
النجاشي : 100 ، تحت رقم 250 .
(2)
المناقب 4:113 مع زيادة توضيح من المؤلف رحمهالله .
(285)
القيس يقال
لها مارية ابنة سعد أو منقذ أياما وكانت تشيع وكان منزلها لهم مألفا يتحدّثون فيه
، وقد بلغ إبن زياد اقبال الحسين فكتب الى عامله بالبصرة أن يضع المناظر ويأخذ
بالطريق .
قال
: فأجمع يزيد بن ثبيط الخروج وهو من عبد القيس الى الحسين وكان له بنون عشرة ،
فقال : ايكم يخرج معي ؟ فانتدب معه ابنان له عبد اللّه وعبيد اللّه ، فقال
لأصحابه في بيت تلك المرأة : اني قد أزمعت على الخروج وأنا خارج ، فقالوا له :
انّا نخاف عليك أصحاب بن زياد ، فقال : انّي واللّه لو قد استوت أخفافهما بالجدد
لهان عليّ طلب من طلبني .
قال
: ثم خرج فقوى في الطريق حتى انتهى الى الحسين عليهالسلام ، فدخل في رحله بالأبطح
وبلغ الحسين مجيئه ، فجعل يطلبه وجاء الرجل الى رحل الحسين ، فقيل له : قد خرج الى
منزلك فأقبل في أثره ، ولما لم يجده الحسين جلس في رحله ينتظره ، وجاء البصري
فوجده في رحله جالسا ، فقال : بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا ، قال : فسلّم
عليه وجلس اليه فخبره بالذي جاء له فدعا له بخير ، ثم أقبل حتى أتى فقاتل معه فقتل
معه هو وابناه
(1) .
قال
بعض أهل السير والتاريخ : انّ يزيد بن ثبيط لما خرج من البصرة لازمه عامر ومولاه
سالم وسيف بن مالك وأدهم بن أمية واستشهدوا كلّهم بكربلاء ، وقيل في رثاء يزيد
وابنيه :
يا فرو قومي فاندبي
خير البريّة في القبور وابكى الشهيد بعبرة من فيض دمع ذي درور
وارث الحسين مع التفجّع والتـأوّه والزفير قتلوا الحرام من
الائمة في الحرام من الشهور وابكى يزيدَ مجدّلاً وابنيه في حرّ
الهجير مترمّلين دمائهم تجري على لبب النّحور يا لهف نفسي لم
تفز معهم بجنّات وحور
ومن
أوائل المقتولين ، جندب بن حجر الكندي الخولاني وكان من اصحاب امير المؤمنين
عليهالسلام ، ومنهم جنادة بن كعب الانصاري الذي لحق بالحسين عليهالسلام مع أهله
وعياله في مكة ، وقاتل ابنه عمرو بن جنادة بعد قتل ابيه بأمر أمه حتى استشهد .
ومنهم
سالم بن عمرو ، وقاسم بن حبيب الأزدي ، وبكر بن حيّ التيمي ، وجوين بن مالك التيمي
، وأميّة بن سعد الطائي ، وعبد اللّه بن بشر المشهور بالشجاعة ، وبشر بن عمرو ،
والحجاج بن بدر البصري حامل كتاب مسعود بن عمرو من البصرة
(1) تاريخ الطبري 4:263 .
(286)
الى الحسين
عليهالسلام .
ومنهم
صاحب الحجاج وصديقه ، قعنب بن عمرو النمري البصري ، وعائذ بن مُجمِّع بن عبد
اللّه العائذي رضوان اللّه عليهم اجمعين ، وعشرة من موالي الحسين عليهالسلام ،
واثنان من موالي امير المؤمنين عليهالسلام .
يقول
المؤلف : اسماء بعض هؤلاء الموالي الذين استشهدوا بهذا الترتيب : أسلم بن عمرو
كاتب الحسين عليهالسلام وكان أبوه تركيا ، وقارب بن عبد اللّه الدئلي وكانت أمه
جارية للحسين عليهالسلام ، ومُنْحِج بن سهم مولى الحسن عليهالسلام وقد جاء الى
كربلاء مع ابناء الامام الحسن عليهالسلام واستشهد معهم .
وسعد
بن الحرث مولى أمير المؤمنين عليهالسلام ، ونصر بن أبي نيزر مولاه أيضا ، ونصر هو
الذي كان يعمل أبوه في نخيل لأمير المؤمنين عليهالسلام ، وحرث بن نبهان مولى حمزة
، ... وغيرهم .
على
أي حال ، لمّا استشهد في هذه الحملة اكثر أصحاب الحسين ، تأثر الامام كثيرا وتأذّى
، فوضع يده الشريفة على لحيته وقال :
«
اشتدّ غضب اللّه تعالى على اليهود اذ جعلوا له ولدا ، واشتد غضب اللّه على
النصارى اذ جعلوه ثالث ثلاثة ، واشتد غضبه على المجوس اذ عبدوا الشمس والقمر دونه
، واشتد غضبه على قوم اتفقت كلمتهم على قتل إبن بنت نبيهم ، أما واللّه لا أجيبهم
الى شيء ممّا يريدون حتى ألقى اللّه وأنا مخضّب بدمي »
(1) .
و
لا يخفى أنّ جمعا من وجهاء جيش الكوفة ، ما كانوا يرضون قتال الحسين عليهالسلام
حذرا من خسران الدارين ، فلذا كانوا يماطلون ويسامحون في أمر القتال ، وكانت الرسل
والكتب تتبادل بين الجيشين ، فلما علموا انّ الحسين عليهالسلام لا يلبس لباس الذل
، وانّ عبيد اللّه بن زياد لا يترك الحسين كي يفعل ما يشاء ، عزموا على القتال .
واوّل
من تقدم للقتال من جيش عمر بن سعد يسار مولى زيد بن ابيه وسالم مولى إبن زياد ،
فخرج اليهما من أصحاب الحسين عليهالسلام عبد اللّه بن عمير الكلبي ، فقالا له :
من أنت ؟ قال : أنا عبد اللّه بن عمير ، قالا : لسنا نعرفك اذهب فليخرج الينا
زهير بن القين أو حبيب بن مظاهر .
وكان
يسار متقدم على سالم فقال له عبد اللّه : يا بن الفاعلة وبك رغبة عن مبارزة أحد
من الناس ، ثم شدّ عليه فضربه بسيفه حتى برد ، وانّه لمشتغل بضربه اذ شدّ عليه
سالم فصاح به أصحابه : قد رهقك العبد ، فلم يشعر به حتى غشيه فبدره بضربة اتقاها
إبن عمير بيده اليسرى فطارت أصابع كفه ، ثم شدّ عليه فضربه حتى قتله وأقبل وقد
قتلهما جميعا وهو يرتجز ويقول :
(1) اللهوف : 101 .
(287)
ان تنكروني فأنا ابن كلب
حسبي ببيتي في عليم(1) حسبي انّي امرء ذو مرّة(2)
وعصْب(3) ولست بالخوّار عند النّكب(4)
ثم
حمل عمرو بن الحجاج على ميمنة أصحاب الحسين عليهالسلام فيمن كان معه من أهل
الكوفة ، فلما دنا من اصحاب الحسين عليهالسلام جثوا له على الركب واشرعوا بالرماح
نحوهم ، فلم تقدم خيلهم على الرماح فذهبت الخيل لترجع فرشقهم أصحاب الحسين
عليهالسلام بالنبل ، فصرعوا منهم رجالاً وجرحوا منهم آخرين .
وجاء
رجل من بني تميم يقال له عبد اللّه بن حوزة ، فاقدم على عسكر الحسين عليهالسلام
فوقف وقال : يا حسين يا حسين ، قال الامام عليهالسلام : ما تريد ؟ قال : أبشر
بالنار ، فقال : كلاّ انّي أقدم على رب رحيم وشفيع مطاع ، فقال الحسين عليهالسلام
لأصحابه : من هذا ؟ قيل : هذا ابن حوزة التميمي ، فقال عليهالسلام : اللهم حزه
الى النار ، فاضطرب به فرسه في جدول فوقع ، وتعلقت رجله اليسرى بالركاب وارتفعت
اليمنى ، فشدّ عليه مسلم بن عوسجة فضرب رجله اليمنى ، وعدا به فرسه يضرب رأسه بكل
حجر ومدر حتى مات وعجل اللّه بروحه الى النار ، ونشب القتال فقتل من الجميع جماعة
(5) .
« مبارزة
الحرّ بن يزيد الرياحي رضىاللهعنه »
وفي
هذا الوقت حمل الحر بن يزيد على اصحاب عمر بن سعد كالليث الغضبان ، متمثلاً بشعر
عنترة :
ما زلت أرميهم بثُغرة نحره
ولبانه حتّى تسربل بالدّم
وكان
يرتجز ايضا :
انّي أنا الحرُّ ومأوى
الضَّيف أضرب في أعناقكم بالسيف عن خير من حلّ بأرض الخيف
أضربكم ولا أرى من حيف
يقول
الراوي :
رأيت
حرا وانّ فرسه لمضروب على أذنيه وحاجبه ، وانّ دماءه لتسيل ، فقال الحصين بن تميم
ليزيد بن سفيان : هذا الحر بن يزيد الذي كنت تتمنى قتله ؟ قال : نعم ، فخرج اليه
فقال له : هل لك يا حرّ في المبارزة ؟ قال : نعم قد شئت ، فبرز له ، فقال الحصين :
واللّه لبرز (الحر) له فكأنّما كانت نفسه بيده فما لبثه الحرّ حين خرج اليه أن
(1) عليم بالتصغير
فخذ من جناب ، وجناب بطن من كلب . (منه رحمهالله )
(2) ذو مرة بكسر الميم أي
صاحب قوة . (منه رحمهالله )
(3) عصب كفلس : أي شدّة .
(منه رحمهالله )
(4) خوار ككتان : أي
الضعيف . (منه رحمهالله )
(5) الارشاد : 236 .
(288)
قتله(1)
.
ودعا
عمر بن سعد الحصين بن تميم ، فبعث معه خمسمائة من المرامية ، فاقبلوا حتى اذا دنوا
من الحسين عليهالسلام وأصحابه رشقوهم بالنبل ، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم وصاروا
رجالة كلّهم .
وروى
أبو مخنف عن ايوب بن مشرح الخيواني انّه قال : أنا واللّه عقرت بالحر بن يزيد
فرسه ، حشأته سهما فما لبث أن أرعد الفرس واضطرب وكبا
(2) .
يقول
المؤلف : كأنّ حسان بن ثابت قال في هذا المقام :
ويقول للطّرف اصطبر لشبا
القنا فَهَدَمْتَ رُكْنَ المجدِ إن لم تُعْقِرَ
وما
أحلى ذكر هذا الحديث المروي عن الصادق عليهالسلام في هذا المقام حيث قال :
«
الحرُّ حرّ على جميع أحواله ، ان نابته نائبة صبر لها ، وان تداكت عليه المصائب لم
تكسره ، وان أسر وقهر واستبدل باليسر عسرا »
(3) .
قال
الراوي : لما عقر فرسه نزل عنه فجعل يقول :
ان تعقروا بي فانا إبن الحر
أشجع من ذي لبدٍ هِزَبْرِ
فما
رأيت احدا مثله يفري فريه
(4) ، ونقل أهل السير والتاريخ انّ الحر وزهير
تعاهدا بالهجوم على الجيش معا وأن يقاتلا قتالاً شديدا ويقتلا نفرا كثيرا واذا
حوصر احدهما جاء الاخر وخلّصه ، فقاتلا كذلك ساعة والحرّ يرتجز ويقول :
اليت لا أقتل حتى أقْتُلا
ولن أصاب اليوم الاّ مقبلا اضربهم بالسيف ضربا مِقصَلاً لا
ناكِلاً منهم ولا مُهلِّلاً
وكان
بيده سيف يلوح منه الموت ، وكأنّ إبن المعتز قال في حقه :
ولي صارم فيه المنايا كوامن
فما يُنْتَضى الا لسفك دماء ترى فوق منبته الفِرِندَ كأنّه
بقيّة غيم رقّ دون سماء
فهجم
عليه جمع من أصحاب عمر بن سعد فقتلوه وقيل : أتى الحسين عليهالسلام الى الحر ودمه
يشخب وفيه رمق من الحياة فقال له : بخ بخ يا حر أنت حر كما سميت في الدنيا والاخرة
، ثم أنشأ عليهالسلام يقول :
لنعم الحر حر بني رَياح
ونعم الحُرُّ عند مختلف الرّماح ونعم الحرُّ اذ نادى حسينا فجاد
بنفسه عند الصَّباح
(1) الطبري 4:330 ، مع
اختلاف يسير .
(2) مقتل ابي مخنف : 139 .
(3) البحار 71:69 ، باب 62
، عن الكافي 2:89 ، ح 6 .
(4) الطبري 4:333 .
(289)
« مقتل
برير بن خضير رضىاللهعنه »
وتقدم
برير للقتال ، وكان زاهدا عابدا يقال فيه سيد القراء ، ومن اشراف الكوفة ومن
الهمدانيين ، وهو خال ابي اسحاق عمرو بن عبد اللّه السبيعي الكوفي التابعي الذي
قيل فيه : قد صلى اربعين سنة صلاة صبحه بوضوء صلاة عشائه وختم القرآن مدة كل ليلة
، ولم يكن في زمانه أعبد ولا أزهد ولا أوثق في الحديث منه عند الخاصة والعامة ،
وهو من ثقات عليّ بن الحسين عليهالسلام .
على
أي حال ، لما خرج برير برز اليه يزيد بن معقل وتباهلا بان يقتل اللّه من كان
منهما على الضلالة ، فبرز كل واحد لصاحبه فاختلفا بضربتين ، فضرب يزيد بن معقل
برير بن خضير ضربة خفيفة لم تضره شيئا ، وضربه برير ضربة قدّت المغفر وبلغت الدماغ
، فخر اللعين كأنّما هوى من حالق ، فلما رأى رضي بن منقذ ذلك حمل على برير ،
فاعتنقا واعتركا ساعة ثم انّ بريرا قعد على صدره فاستغاث رضي بأصحابه ، فجاء كعب
بن جابر لنصرته ، فحمل على برير بالرمح حتى وضعه في ظهره ، فلما وجد مس الرمح برك
عليه فعض وجهه وقطع طرف انفه ، فطعنه كعب بن جابر حتى ألقاه عنه وقد غيب السنان في
ظهره ، ثم أقبل عليه يضربه بالسيف حتى قتله .
قال
الراوي : كأنّي أنظر الى العبدي الصريع قام ينفض التراب عن قبائه ويقول : أنعمت
عليّ يا أخا الأزد نعمة لا أنساها أبدا ، فلما رجع كعب بن جابر قالت له امرأته
وأخته النوار بنت جابر : أعنت على إبن فاطمة وقتلت سيد القراء لقد أتيت عظيما من
الامر ، واللّه لا أكلّمك من رأسي كلمة أبدا
(1) .
« مقتل وهب
رحمهالله »
خرج
وهب بن عبد اللّه بن حباب الكلبي ـ الذي حضر جيش الحسين عليهالسلام مع امه
وزوجته ـ للبراز بتحريض امّه وتشويقها له ، مرتجزا :
ان تنكروني فانا إبن الكلب
سوف تروني وترون ضربي وحملتي وصولتي في الحرب أدرك ثاري بعد ثار
صحبي وادفع الكرب أَمامَ الكرب ليس جهادي في الوغى باللَّعب
فقاتل
قتالاً شديدا وقتل جمعا ، ثم رجع الى امه وزوجته فقال لأمّه : هل رضيت عنّي ؟
قالت
: لا أرضى عنك حتى تقتل دون الحسين عليهالسلام ، فقالت زوجته : أقسمت عليك
باللّه أن لا تتركني ولا تفجعني بمصابك ، فقالت له امّه : يا بني لا تسمع لقولها
، اذهب الى القتال واستشهد في نصرة سيد العترة عليهالسلام كي تشملك شفاعة جدّه
يوم
(1) نفس المهموم : 260 .
(290)
القيامة ،
فرجع الى الميدان مرتجزا :
انّي زعيم لك أمّ وهب
بالطعن فيهم تارةً والضربِ
ضرب غلام مؤمن بالربِّ
فقتل
تسعة عشر فارسا واثني عشر راجلاً ، وقاتل حتى قطعت يداه ، فأخذت امّه عمود الخيمة
وذهبت الى الميدان وقالت : يا وهب فداك أبي وأمّي قاتل دون الطيبين ذرية محمد
صلىاللهعليهوآله ، فأقبل اليها يردها نحو النساء ، فأخذت تجاذب ثوبه ثم قالت :
انّي
لن أدعك دون أن أموت معك ، فناداها الحسين عليهالسلام فقال : جزيت من أهل البيت
خيرا ، ارجعي رحمك اللّه الى النساء فاجلسي معهنّ ، فانصرفت اليهن ، فأخذ يقاتل
حتى استشهد .
قال
الراوي : فذهبت امرأته تمسح الدم عن وجهه ، فبصر بها شمر فأمر غلاما له فضربها
بعمود كان معه فشدخها وقتلها ، وهي اوّل امرأة قتلت في عسكر الحسين عليهالسلام
(1) .
ثم
خرج بعده عمرو بن خالد الأزدي الأسدي الصيداوي وجاء الى الحسين عليهالسلام وقال
له : بأبي أنت وأمي يا أبا عبد اللّه ، اني عزمت اللحوق بركب الشهداء ، واكره أن
أبقى وأراك وحيدا قتيلاً ، فأذن له وقال له : ونحن لاحقون بك بعد ساعة . فخرج الى
العدو مرتجزا :
اليك يا نفس من الرحمن
فابشري بالرَّوح والرَّيحان
اليوم تجزيْن على الاحسان
فقاتل
حتى قتل ، رحمة اللّه عليه ، ثم خرج بعده ابنه خالد بن عمرو مرتجزا :
صبرا على الموت بني قحطان
كي ما تكونوا في رضى الرحمن يا ابتاه قد صرت في الجنان في قصر
درٍّ حَسَنِ البنيان
فقاتل
حتى قتل ، ثم خرج بعده سعد بن حنظلة التميمي ـ من أعيان جيش الحسين عليهالسلام ـ
مرتجزا :
صبرا على الاسياف والأسنّة
صبرا عليها لدخول الجنة وحور عين ناعمات هُنَّة يا نفس للراحة
فاجهدِنَّه
وفي طلاب الخير فارغِبَنَّه
فقاتل
قتالاً شديدا حتى قتل رحمهالله ، ثم خرج بعده عمير بن عبد اللّه المذحجي مرتجزا
:
قد علمت سعد وحيُّ مذحج
انّي لدى الهيجاء ليث محرج
(1) البحار 45:16 .
(291)
اعلو بسيفي هامة المدجّج
وأترك القرن لدى التعرج
فريسة الضّبع الازلِّ الاعرج
فقاتل
وقتل كثيرا من العدو حتى قتل بيد مسلم الضبابي وعبد اللّه البجلي
(1) .
« مبارزة
نافع بن هلال ومقتل مسلم بن عوسجة »
وخرج
نافع بن هلال الجملي للبراز مرتجزا :
انا ابنُ هِلال الجمليّ
انا على دين عليّ
فجاء
اليه مزاحم بن حريث وقال : انا على دين عثمان ، فقال له نافع : أنت على دين
الشيطان فحمل عليه وقتله ، فلما رأى عمرو بن الحجاج ذلك صاح بالناس : يا حمقى
أتدرون من تقاتلون ؟ تقاتلون فرسان المصر ، وتقاتلون قوما مستميتين لا يبرز اليهم
منكم أحد ، فانّهم قليل وقلّ ما يبقون ، واللّه لو ترمونهم الا بالحجارة
لقتلتموهم .
فقال
له عمر بن سعد : صدقت ، الرأي ما رأيت ، فأرسل الى الناس من يعزم عليهم أن لا
يبارز رجل منكم رجلاً منهم ، ثم حمل عمرو بن الحجاج وأصحابه على ميمنة الحسين
عليهالسلام من نحو الفرات ، وكان يحرض هؤلاء المنافقين على قتل الحسين
عليهالسلام ويقول :
يا
أهل الكوفة الزموا طاعتكم ، ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين وخالف الامام ،
(فضَّ اللّه فاك والجمك لجاما من نار جهنم بهذه الكلمات التي قلتها وجرحت قلب
الحسين عليهالسلام بها) .
ثم
اضطربوا ساعة ، فصرع مسلم بن عوسجة الاسدي رحمهالله ، وانصرف عمر واصحابه وانقطعت
الغبرة فوجدوا مسلما صريعا ، فمشى اليه الحسين عليهالسلام فاذا به رمق فقال :
رحمك اللّه يا مسلم : « ... فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً »
(2) .
ودنا
منه حبيب بن مظاهر فقال : عزّ عليّ مصرعك ، يا مسلم أبشر بالجنة ، فقال له مسلم
قولاً ضعيفا : بشرك اللّه بخير ، فقال له انّي أعلم انّي في أثرك لاحق بك من ساعتي
هذه لأحببت أن توصيني بكل ما أهمّك حتى أحفظك في كل ذلك بما أنت أهل له في القرابة
والدين ، قال : بل أنا أوصيك بهذا رحمك اللّه ، وأهوى بيده الى الحسين
عليهالسلام أن تموت دونه ، قال : أفعل وربّ الكعبة ، فما كان بأسرع من أن مات بين
أيديهم ، وصاحت جارية له فقالت : يا إبن عوسجتاه يا سيداه(3) .
(1) البحار 45:18 .
(2) الاحزاب : 23 .
(3) البحار 45:19 .