الباب الثالث ملامح عصر الإمام الكاظم(عليه السلام)
لم يغيّر المنصور من سياسته ضد العلويين بعد قتله للإمام الصادق(عليه السلام)، وبعد قضائه على الثورات العلوية في زمانه، بل بقي هاجس الخوف والقلق يلاحقه، ولم تهدأ ذاته المليئة بالحقد عليهم، فاستمر في اضطهادهم، فزجّ الابرياء في السجون المظلمة وهدمها عليهم، ودفن البعض وهم أحياء في اسطوانات البناء، وبثّ الجواسيس، لاجل أن يحيط علماً بكل نشاطهم، وأخذت عيونه ترصد كل حركة بعد تحويرها وتحريفها بالكذب لتنسجم مع رغبات الخليفة فكانوا يرفعونها له مكتوبة كما سمح للتيّارات الالحادية كالغلاة والزنادقة في أن تأخذ طريقها بين عامة الناس لاضلالهم. كما استعمل بعض العلماء واستغلّهم لتأييد سياسته واسباغ الطابع الشرعي على حكمه. ويمكن استجلاء هذا الوضع ضمن عدة نقاط : النقطة الأولى :إنّ وصية الإمام الصادق(عليه السلام) التي عهد بها أمام الناس لخمسة أشخاص، هم أبو جعفر المنصور، محمد بن سليمان، وعبدالله، وموسى، وحميدة، مع كتابة المنصور لعامله في المدينة بأن يقتل وصيّ الإمام الصادق(عليه السلام) ان كان معيناً، يتضح ـ من هذه الوصية مع أوامر المنصور بقتل الوصيّ ـ نوع الطريقة التي كان يتحرك بها المنصور تجاه الإمام موسى(عليه السلام) ثم يتضح أيضاً حجم النشاط وحجم الاهتمام الذي كان يعطيه المنصور للإمام(عليه السلام) لمراقبة حركته. ولكن الإمام الصادق(عليه السلام) كان يستشف من وراء الغيب ما تحمله الأيّام المقبلة من أخطار لابنه موسى(عليه السلام) ومن هنا فقد خاطب شيعته بلغة خاصة ضمّنها الحقيقة التي اراد ايصالها اليهم وان كان ذلك يسلتزم الالتباس عند بعض ، والتحيّر في معرفة ولي الأمر من بعده لفترة تقصر أو تطول ; لأن حفظ الوصي وولي عهده والإمام المفترض الطاعة في تلك الظروف العصيبة كان أمراً ضرورياً بلا ريب لأن استمرار الخط لا يمكن ضمانه إلاّ بحفظ الإمام المعصوم بما يتناسب مع طبيعة تلك الظروف. ولكن الواعين والنابهين من صحابة الإمام الصادق(عليه السلام) لم تلتبس عليهم حقيقة وصية الإمام(عليه السلام) التي تضمّنت الوصية للإمام الكاظم(عليه السلام). قال داود بن كثير الرقي: وفد من خراسان وافد يكنّى أبا جعفر، اجتمع إليه جماعة من أهل خراسان، فسألوه أن يحمل لهم أموالا ومتاعاً ومسائلهم في الفتاوى والمشاورة، فورد الكوفة ونزل وزار قبر أمير المؤمنين(عليه السلام)، ورأى في ناحية المسجد رجلا حوله جماعة. فلما فرغ من زيارته قصدهم فوجدهم شيعة فقهاء يسمعون من الشيخ، فقالوا: هو أبو حمزة الثمالي . قال: فبينما نحن جلوس اذ أقبل اعرابي، فقال: جئت من المدينة، وقد مات جعفر بن محمد(عليه السلام) فشهق أبو حمزة ثم ضرب بيده الارض، ثم سأل الاعرابي: هل سمعت له بوصية ؟ قال : أوصى الى ابنه عبدالله والى ابنه موسى، والى المنصور. فقال : الحمد لله الذي لم يُضلّنا، دلّ على الصغير وبيّن على الكبير، وستر الأمر العظيم. ووثب الى قبر أمير المؤمنين(عليه السلام) فصلى وصلّينا. ثم أقبلت عليه وقلت له: فسّر لي ما قلته ؟ قال: بيّن أن الكبير ذو عاهة ودلّ على الصغير أن أدخل يده مع الكبير، وستر الأمر العظيم بالمنصور حتى إذا سأل المنصور: من وصيّه؟ قيل أنت. قال الخراساني: فلم أفهم جواب ما قاله[1]. فذهب بعد ذلك الى المدينة ليطّلع بنفسه على الوصي من بعدالإمام جعفر بن محمد(عليه السلام). النقطة الثانية :لقد شدّدت السلطات في المراقبة على الشيعة بعد استشهادالإمام الصادق(عليه السلام) وعمّ الارتباك أوساطهم وشحنت الأجواء بالحذر والتحسّب. وعن هذه الفترة الزمنية المهمة في التاريخ الشيعي يحدّثنا هشام بن سالم أحد رموز الشيعة قائلا : كنا في المدينة بعد وفاة أبي عبد الله (عليه السلام) أنا ومؤمن الطاق ( أبو جعفر) والناس مجتمعون على أنّ عبدالله (الافطح) صاحب (الامام) بعد أبيه، فدخلنا عليه أنا وصاحب الطاق، والناس مجتمعون عند عبدالله وذلك انهم رووا عن أبي عبدالله(عليه السلام) : أن الأمر في الكبير مالم يكن به عاهة فدخلنا نسأله عمّا كنا نسأل عنه أباه، فسألناه عن الزكاة في كم تجب ؟ قال: في مائتين خمسة، قلنا: ففي مائة ؟ قال: درهمان ونصف درهم[2] . قلنا له : والله ما تقول المرجئة هذا. فرفع ( الافطح ) يده الى السماء، فقال : لا ، والله ما أدرى ما تقول المرجئة ! قال : فخرجنا من عنده ضُلاّلا، لا ندري الى أين نتوجه أنا وأبو جعفر الأحول[3] فقعدنا في بعض أزقّة المدينة باكين حيارى لا ندري الى من نقصد والى أين نتوجّه ؟! نقول: (نذهب) الى المرجئة ؟ الى القدرية؟ الى الزيدية؟ الى المعتزلة؟ الى الخوارج[4] ؟ قال : فنحن كذلك اذ رأيت رجلا شيخاً لا أعرفه يومئ اليّ بيده، فخفت أن يكون عيناً (جاسوساً) من عيون أبي جعفر (المنصور الدوانيقي). وذلك أنه كان له بالمدينة جواسيس ينظرون على من اتفق شيعة جعفر (الصادق) فيضربون عنقه، فخفت أن يكون (الرجل الشيخ) منهم . فقلت لأبي جعفر (مؤمن الطاق): تنح فإني خائف على نفسي وعليك، وانما يريدني (الشيخ) ليس يريدك، فتنحّ عنّي ، لا تهلك وتعين على نفسك. فتنحّى غير بعيد، وتبعت الشيخ، وذلك اني ظننت أني لا أقدر على التخلص منه، فما زلت أتبعه حتى ورد بي على باب أبي الحسن موسى (الكاظم)(عليه السلام) ثم خلاّني ومضى، فاذا خادم بالباب فقال لي : اُدخل، رحمك الله. قال: فدخلت فاذا أبو الحسن (الكاظم) (عليه السلام) فقال لي ابتداءً : لا الى المرجئة ، ولا الى القدرية، ولا الى الزيدية، (ولا الى المعتزلة)، ولا الى الخوارج، اليّ اليّ اليّ. قال (هشام): فقلت له: جعلت فداك مضى أبوك ؟ قال: نعم . قلت: جعلت فداك مضى في موت؟ قال: نعم ، قلت: جعلت فداك فمن لنا بعده؟ فقال: ان شاء الله يهديك هداك. قلت: جعلت فداك، إنّ عبدالله ( الافطح ) يزعم أنه ( إمام ) من بعد أبيه فقال: يريد عبدالله ـ الافطح ـ أن لا يعبد الله . قال: قلت له: جعلت فداك، فمن لنا بعده؟ فقال: ان شاء الله أن يهديك هداك أيضاً. قلت: جعلت فداك، أنت هو (الامام) ؟ قال: ما أقول ذلك قلت ـ في نفسي ـ لم أُصب طريق المسألة (أي أخطأت في كيفية السؤال). قال (هشام): قلت: جعلت فداك، عليك إمام ؟ قال: لا. فدخلني (دخل قلبي) شيء لا يعلمه إلاّ الله اعظاماً له وهيبة، أكثر ما كان يحلّ بي من (هيبة) أبيه (الإمام الصادق) إذا دخلت عليه. قلت: جعلت فداك، أسألك عمّا كان يُسأل أبوك؟ قال: سل تُخبر، ولا تُذِع (اي لا تنشر الخبر) فان أذعت فهو الذبح. قال (هشام): فسألته فاذا هو بحر ! قال (هشام): قلت جعلت فداك، شيعتك وشيعة أبيك ضُلاّل، فالقي إليهم (اخبرهم) وأدعوهم إليك؟ فقد أخذت عليّ بالكتمان. فقال (الإمام): من آنست منهم رشداً، فألق عليهم ـ أخبرهم ـ وخذ عليهم بالكتمان، فان اذاعوا فهو الذبح ـ وأشار بيده الى حلقه ـ » [5]. إنّ هذا الحديث الذي أدلى به هشام يكشف لنا عدة حقائق: 1 ـ كثرة انتشار الجواسيس، وجو الرعب، والحذر، والخوف، وفقدان الأمن الذي عمّ أبناء الاُمة واخيارها خصوصاً سكان المدينة . 2 ـ كما يكشف لنا عن أنّ اعلان الإمامة لموسى(عليه السلام) وإخبار الشيعة بإمامته، لم يكن ظاهراً لعامة الناس بل كان محدوداً ببعض الخواص من الشيعة[6] بحيث تجد حتى مثل هشام لا يعلم أن الأمر لمن، إلاّ بعد حين، وقد حصل عليه بالطرق الشرعية والعقلية، وهذه الممارسات وغيرها جعلت الشيعة تتدرب وتتمرّس على الاساليب التي تقيها من سيف الظالمين مثل السرّية والتقية، لذا نجد الرواة عند نقلهم لاخبار الإمام موسى(عليه السلام) لا يصرّحون باسمه الصريح بل كانوا يقولون: «قال العبد الصالح» ، أو «قال السيد»، أو «قال العالم» ونحو ذلك. 3 ـ إنّ الخنق الظالم والممنوعات السلطانية والحبس الفكري وملاحقة من يخالف، وبثّ الاشاعات المضادّة والكاذبة، كل هذه الاُمور خلقت مناخاً يتنفّس فيه الأدعياء وهواة الرذيلة والذين زاد نشاطهم وشاع صيتهم وتعددت فرقهم في هذه الفترة فطرحوا أنفسهم قادة للاُمة في الفكر والفقه والحديث بتشجيع من الخليفة . لذا نجد هشام بن سالم في حديثه يعدد لنا الفرق في زمانه حيث يقول: نذهب الى المرجئة؟ الى القدرية؟ الى الزيدية؟ الى المعتزلة؟ الى الخوارج؟ 4 ـ مارس الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) اُسلوباً في هذا الحديث يُميزه عن غيره من مدّعي الإمامة (مثل عبدالله الافطح) وذلك باخباره عن الكلام الذي دار بين هشام ومؤمن الطاق في أحد أزقّة المدينة المنورة حيث قال الإمام لهما: «لا الى المرجئة ولا الى القدرية .... اليّ اليّ اليّ» . |
|