الإمام الكاظم (عليه السلام)وحكومة المهدي العبّاسي
ملامح عهد المهديّ العباسيّويمكن أن نوجز ملامح حكومته وعهده فيما يلي : أولا : لم يطرأعلى سياسية الخليفة العبّاسي المهدي أيّ تغيير يعول عليه، فقد التزم بالنهج العبّاسي كخط ثابت واستوحى منه ما يجب أن يعمله من تفصيلات قد تستحدث أثناء سلطته، وسار على ما سار عليه الخلفاء العبّاسيون من قبله، نعم طرأ بعض التغيير لصالح العلويين بعد ذلك التضييق الشديد من المنصور على العلويين فكانت مصلحة الحكم تقتضي شيئاً من المرونة، الأمر الذي دعا الإمام(عليه السلام) أن يستغل هذه المرونة التي اتّخذها المهدي العبّاسي لصالح اتباعه وتوسعة نشاطه ومحاور تحرّكه. ثانياً : إنّ المرونة التي طرأت على سياسة المهدي العبّاسي مع العلويين كانت في بداية حكمه وتمثلت فيما أصدره من عفو عام عن جميع المسجونين وفي ردّ جميع الاموال المنقولة وغير المنقولة والتي كان قد صادرها أبوه ظلماً وعدواناً الى أهلها، فردّ على الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) ما صادره أبوه من أموال الإمام الصادق(عليه السلام). ثالثاً : بعد أن نشط الإمام(عليه السلام) وذاع صيته خلال حكم المهدي استخدم المهدي سياسة التشدد على الإمام موسى الكاظم(عليه السلام)، فلقد استدعاه إلى بغداد وحبسه فيها ثم ردّه إلى المدينة[1]. وكان ذلك في أواخر حكم المهدي تقريباً. كما خطط في هذه المرّة لقتل الإمام عن طريق حميد بن قحطبة، حيث دعا المهدي حميد بن قحطبة نصف الليل وقال: إنّ إخلاص أبيك وأخيك فينا أظهر من الشمس، وحالك عندي موقوف. فقال: أفديك بالمال والنفس، فقال هذا لسائر الناس. قال: أفديك بالروح والمال والأهل والولد، فلم يجبه المهدي. فقال أفديك بالمال والنفس والأهل والولد والدين فقال: لله درّك. فعاهده المهديّ على ذلك وأمره بقتل الإمام الكاظم (عليه السلام) في السُحرة[2]بغتة، فنام فرأى في منامه علياً يشير اليه ويقرأ: (فهل عسيتم ان توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطّعوا أرحامكم)[3]. فانتبه مذعوراً، ونهى حميداً عمّا أمره، وأكرم الإمام الكاظم(عليه السلام) ووصله[4]. رابعاً : شجّع المهدي الوضّاعين في زمنه فقام هؤلاء بدوراعلامي تضليلي فأحاطوا السلاطين بهالة من التقديس وأبرزوهم في المجتمع على أنهم يمثلون ارادة الله في الارض وأن الخطأ لا يمسّهم فمثل غياث بن ابراهيم الذي عرف هوى المهدي في الحَمام وعشقه لها فحدّثه عن أبي هريرة أنه قال : لا سبق إلاّ في حافر أو نصل ـ وزاد فيه ـ أو جناح. فأمر له المهدي عوض افتعاله للحديث بعشرة آلاف درهم، ولمّا ولّى عنه قال لجلسائه: أشهد أنه كذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما قال رسول الله ذلك ولكنه أراد أن يتقرب اليّ[5]. وأسرف المهدي في صرف الاموال الضخمة من أجل انتقاص العلويين والحطّ من شأنهم فتحرّك الشعراء والمنتفعون وأخذوا يلفّقون الأكاذيب في هجاء العلويين ومن جملة هؤلاء الزنديق مروان بن أبي حفصة الذي دخل على المهدي ذات يوم وأنشده قائلا : يا ابن الذي ورث النبي محمداً***دون الأقارب من ذوى الأرحام الوحي بين بني البنات وبينكم***قطع الخصام فلات حين خصام ما للنساء مع الرجال فريضة***نزلت بذلك سورة الانعام أنى يكون وليس ذاك بكائن***لبني البنات وراثة الأعمام فأجازه المهدي على ذلك بسبعين ألف درهم تشجيعاً له ولغيره على انتقاص أهل البيت(عليهم السلام). ولمّا سمع الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) بقصيدة مروان تأثّر أشدّ التأثّر، وفي الليل سمع هاتفاً يتلو عليه أبياتاً تجيب على أبيات بشار وهي: أنى يكون ولا يكون ولم يكن***للمشركين دعائم الاسلام لبني البنات نصيبهم من جدهم***والعم متروك بغير سهام ما للطليق وللتراث وانما***سجد الطليق مخافة الصمصام وبقي ابن نثلة واقفاً متلدداً***فيه ويمنعه ذوو الأرحام إنّ ابن فاطمة المنوّه باسمه***حاز التراث سوى بني الاعمام[6]. خامساً : لقد شاع اللهو وانتشر المجون وسادت الميوعة والتحلّل في حكم المهدي العباسي . وبلغ المهدي حسن صوت ابراهيم الموصلي وجودة غنائه فقرّبه اليه وأعلى من شأنه[7]. ولقد استغرق المهدي في المجون واللهو وظن الناس به الظنون واتهموه بشتى التهم والى ذلك أشار بشار بن برد في هجائه ايّاه . خليفة يزني بعمّاته***يلعب بالدف وبالصولجان أبدلنا الله به غيره***ودسّ موسى في حر الخيزران[8] سادساً : إنّ جميع ما أخذه المنصور من أبناء الاُمة ظلماً وعدواناً وجمعه في خزانته وبخل عن بذله لإعمار البلاد واصلاح حال الاُمة قد بذله المهدي على شهواته حتى أسرف في ذلك بالرغم من كل ما شاهد من البؤس والفقر التي كانت حاضرة أمام الناظرين أيّام حكومته. وقد روي من بذخه واسرافه ما بذله لزواج ابنه هارون من زبيدة حتى قال معتز عن بدلة ليلة الزفاف: بأن هذا شيء لم يسبق اليه أكاسرة الفرس ولا قياصرة الروم ولا ملوك الغرب[9]. سابعاً : انّ السفّاح والمنصور لم يسمحا لنسائهما بالتدخل في شؤون الدولة ولكن المهدي لمّا استولى على الحكم بدأ سلطان المرأة ينفذ الى البلاط فزوجته الخيزران أصبحت ذات نفوذ قوي على القصر تقرب من تشاء وتبعّد من تشاء. ومن هذا العصر أخذ نفوذ المرأة يزداد ويقوى في بلاط الحكّام العباسيين حتى بلغ نهايته في أواسط العهد العباسي واستمر حتى نهاية حكمهم[10]. ثامناً : انّ انشغال المهدي باللهو من جانب وحاجته الى الاموال من جانب آخر شجّع عمّاله على نهب الاموال وسلب ثروات الاُمة حتى انتشرت الرشوة عند الموظّفين وتشدّد ولاته في أخذ الخراج . بل عمد المهدي نفسه الى الاجحاف بالناس فأمر بجباية أسواق بغداد وجعل الأجرة عليها[11]. هذه هي بعض الظواهر التي جاء بها عصر المهدي لتضيف كاهلاً آخر للتركة التأريخية المؤلمة التي خلفها بنو العباس والأمويون من قبلهم على الاُمة . وقد نشط الإمام الكاظم (عليه السلام) مستغلاً هذه الفرصة المحدودة فكان برنامجه يتوزّع على خطين : 1 ـ خط التحرك العام في دائرة الاُمة والانفتاح عليها بهدف إصلاحها ضمن صيغ وأساليب سياسية وتربوية من شأنها إعادة الاُمة إلى وعيها الإسلامي وقيمها الرسالية . 2 ـ خط بناء الجماعة الصالحة وتأصيل الامتداد الشيعي فتوجّه خلال هذهِ الفترة القصيرة بكل قوة نحو هذا الخط حتى جاء دور الرشيد فضيّق على الإمام (عليه السلام) وسجنه ثم قام بتصفية نشاطه وحياته (عليه السلام) . النشاط العام للإمام الكاظم (عليه السلام)كان الغالب على حياة الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) عدم الانفتاح على الاُمة في حركته العامة. وجاءت هذه المحدودية في الانفتاح على الاُمة بسبب تشدّد الخلفاء العباسيين ومراقبة أجهزتهم التجسسية له التي كانت تشك في أيّ حركة تصدر منه(عليه السلام). ومع ذلك فقد تنوّعت نشاطات الإمام في مجالات شتّى يمكن أن نشير إليها فيما يلي: |
|