مكتبة الإمام الكاظم

فهرس الكتاب

 

1 ـ المجال السياسي :

قام الإمام (عليه السلام) بتوضيح موقفه تجاه الخلفاء والخلافة للاُمة، وان كلفه الموقف ثمناً قد يؤدّي بحياته.

لقد كان هذا التحرك من الإمام(عليه السلام) لئلا يتسرّب الفهم الخاطئ للنفوس ويكون تقريراً منه للوضع الحاكم أو يُتخذ سكوته ذريعة لتبرير المواقف الانهزامية.

من هنا نجد للإمام (عليه السلام) المواقف التالية :

الموقف الأول : لقد ذكرنا بأن المهدي العباسي عند تسلّمه زمام الحكم من أبيه المنصور أبدى سياسة مرنة مع العلويين أراد بها كسبهم وحاول أن ينسب من خلالها المظالم العبّاسية الى العهد البائد، ويوحي من جانب قوة الخلافة وشرعيتها وعدالتها عندما أعلن اعادة حقوق العلويين لهم وأصدر عفواً عاماً للمسجونين، وأرجع أموال الإمام الصادق(عليه السلام) الى الإمام الكاظم (عليه السلام).

من هنا وجد الإمام (عليه السلام) فرصته الذهبية لاستغلال هذه البادرة فبادر بمطالبة المهدي بارجاع فدك باعتبارها تحمل قيمة سياسية ورمزاً للصراع التأريخي بين خط السقيفة وخط أهل البيت (عليهم السلام).

فدخل على المهدي فرآه مشغولا بردّ المظالم فقال له الإمام (عليه السلام) : «ما بال مظلمتنا لا ترد ؟ !

فقال المهدي : وما ذاك يا أبا الحسن ؟ قال: إنّ الله تبارك وتعالى لمّا فتح على نبيّه(صلى الله عليه وآله) فدك وماوالاها لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فأنزل الله على نبيه (صلى الله عليه وآله): (وآت ذا القربى حقه)[1] فلم يدر رسول الله (صلى الله عليه وآله) من هم ؟ فراجع في ذلك جبرئيل وراجع جبرئيل(عليه السلام) ربّه فأوحى الله اليه: ان ادفع فدك إلى فاطمة (عليها السلام) .

فدعاها رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال لها: يا فاطمة إنّ الله أمرني أن أدفع إليك فدك، فقالت: قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك. فلم يزل وكلاؤها فيها في حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فلمّا ولّى أبو بكر أخرج عنها وكلاءها فأتته فسألته أن يردّها عليها فقال لها: ايتيني بأسود أو أحمر يشهد بذلك، فجاءت بأمير المؤمنين(عليه السلام) وأم أيمن فشهدا لها، فكتب لها بترك التعرّض فخرجت والكتاب معها. فلقيها عمر فقال: ماهذا معك يا بنت محمد؟ قالت: كتاب كتبه لي ابن أبي قحافة، قال: أرينيه فأبت، فانتزعه من يدها ونظر فيه ثم تفل فيه ومحاه وخرقه، فقال لها: هذا لم يوجف عليه أبوك بخيل ولا ركاب فضعي الجبال في رقابنا.

فقال له المهدي: حدّها لي.

فقال(عليه السلام): حدّ منها جبل احد، وحد منها عريش مصر، وحد منها سيف البحر، وحدّ منها دومة الجندل.

فقال المهدي : كل هذه حدود فدك ؟ !

فقال له الإمام(عليه السلام): نعم يا أمير المؤمنين هذا كلّه، إنّ هذا كله ممّا لم يوجف أهله على رسول الله بخيل ولا ركاب.

فتغيّر المهدي وبدا الغضب على وجهه حيث أعلن له الإمام(عليه السلام): أنّ جميع أقاليم العالم الإسلامي قد اخذت منهم، فانطلق قائلا: هذا كثير وأنظر فيه»[2].

الموقف الثاني : في هذه المرحلة كان الإمام(عليه السلام) حريصاً على تماسك الوجود الشيعي في وسط المجتمع الإسلامي ووحدة صفه، لان الظروف الصعبة، تشكّل فرصة لنفوذ النفوس الضعيفة والحاقدة بقصد التخريب.

وظاهرة القرابة والمحسوبية كانت أهم الركائز التي اعتمد عليها بناء الحكم العبّاسي، وكانت هي الحاكمة فوق كل المقاييس.

لذا نجد موقف الإمام(عليه السلام) من خطورة هذه الظاهرة كان حاسماً، إذ نراه يعلن عن مقاطعة عمّه محمّد بن عبدالله الأرقط أمام الناس تطهيراً للوجود الشيعي من أيّ عنصر مضر مهما كان نسبه قريباً من الإمام(عليه السلام)، فلم يسمح له بالتسلق وصولا للمواقع أو استغلالا لها.

فعن عمر بن يزيد قال: كنت عند أبي الحسن (عليه السلام) فذكر محمد بن عبدالله الأرقط فقال: «اني حلفت ان لا يظلّني وإيّاه سقف بيت.

فقلت في نفسي: هذا يأمر بالبرّ والصلة ويقول هذا لعمّه !

قال: فنظر اليّ فقال: هذا من البر والصلة، انّه متى يأتيني ويدخل عليّ فيقول يصدّقه الناس واذا لم يدخل عليّ، لم يقبل قوله إذا قال»[3].

وزاد في رواية ابراهيم بن المفضّل بن قيس: «فاذا علم الناس أن لا اُكلّمه لم يقبلوا منه وأمسك عن ذكرى فكان خيراً له»[4].

الموقف الثالث : هو موقف الإمام الكاظم(عليه السلام) من ثورة الحسين بن علي ابن الحسن ـ صاحب ثورة فخ ـ بن الحسن المثنى ابن الحسن المجتبى(عليه السلام).

إن الإمام الكاظم (عليه السلام) بالرغم من امتداد شيعة أبيه في أرجاء العالم الإسلامي لم يعمل في هذه المرحلة بصيغة المواجهة المسلّحة طيلة أيام حياته، حتى أعلن عن موقفه هذا من حكومة المهدي عندما حبسه المهدي ورأى الإمام علياً(عليه السلام) في عالم الرؤيا وقصّ رؤياه على الإمام(عليه السلام) وقرر إطلاق سراحه، قال له: أفتؤمنني أن تخرج عليّ أو على أحد من ولدي؟ فقال الإمام(عليه السلام) : «والله لا فعلت ذلك ولا هو من شأني»[5].

وهذا الموقف للإمام (عليه السلام) بقي كما هو مع حكومة موسى الهادي لأسباب موضوعية سبقت الاشارة الى بعضها إلاّ أن الإمام (عليه السلام) مارس دور الاسناد والتأييد لثورة الحسين ـ صاحب فخ ـ من أجل تحريك

ضمير الاُمة والارادة الإسلامية ضد التنازل المطلق عن شخصيتها وكرامتها للحكام المنحرفين.

ولمّا عزم الحسين على الثورة قال له الإمام (عليه السلام) : «إنّك مقتول فأحدّ الضراب فإنّ القوم فسّاق يظهرون إيماناً ويضمرون نفاقاً وشركاً فإنّا لله وإنّا إليه راجعون وعند الله أحتسبكم من عُصبة»[6].

ولمّا سمع الإمام الكاظم بمقتل الحسين رضي الله عنه بكاه وأبّنه بهذه الكلمات : «إنّا لله وإنا إليه راجعون ، مضى والله مسلماً صالحاً، صوّاماً قوّاماً، آمراً بالمعروف ، ناهياً عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله»[7].

2 ـ المجال الاخلاقي والتربوي :

لقد أشاع الحكّام العبّاسيون أخلاقاً وممارسات جاهلية أصابت القيم والاخلاق الإسلامية بالاهتزاز وعرّضت المثل العليا للضياع.

وهذا المخطط كان يستهدف المسخ الحضاري للاُمة الإسلامية ولم يكن حالة عقوبة أفرزتها نزوة الخليفة فقط وانّما هي ذات رصيد تأريخي وجزء من تخطيط جاهلي هادف لتغيير معالم الحضارة والاُمة الإسلامية التي ربّاها القرآن العظيم والرسول الكريم.

من هنا واجه الإمام (عليه السلام) هذا المخطط باسلوب أخلاقي يتناسب مع أهداف الرسالة يذكّر الاُمة بأخلاقية الرسول (صلى الله عليه وآله) ويعيد لها صوراً من مكارم أخلاقه .

هنا نشير الى نماذج من نشاطه :

النموذج الأول : عن حماد بن عثمان قال: بينا موسى بن عيسى في داره التي تشرّف على المسعى، إذ رأى أبا الحسن موسى(عليه السلام) مقبلا من المروة على بغلة فأمر ابن هيّاج ـ رجل من همدان منقطعاً اليه ـ أن يتعلّق بلجامه ويدّعي البغلة، فأتاه فتعلّق باللجام وادعّى البغلة، فثنى أبو الحسن (عليه السلام) رجله فنزل عنها وقال لغلمانه: خُذوا سرجها وادفعوها اليه، فقال والسرج أيضاً لي، فقال له أبو الحسن(عليه السلام) : «كذبت عندنا البيّنة بأنه سرج محمد بن علي، وأمّا البغلة فانا اشتريتها منذ قريب وأنت أعلم وما قلت»[8].

النموذج الثاني : خرج عبد الصمد بن علي ومعه جماعة فبصر بأبي الحسن(عليه السلام) مقبلا راكباً بغلاً، فقال لمن معه: مكانكم حتى أضحككم من موسى بن جعفر، فلما دنا منه قال له: ما هذه الدابّة التي لا تدرك عليها الثأر، ولا تصلح عند النزال؟ فقال له أبو الحسن(عليه السلام) : «تطأطأت عن سموّ الخيل وتجاوزت قموء العير، وخير الاُمور أوسطها». فافحم عبد الصمد فما أحار جواباً[9].

النموذج الثالث: عن الحسن بن محمد: أن رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن(عليه السلام) فكان يسبّه إذا رآه ويشتم علياً(عليه السلام).

وقد لاحظنا حسن تعامل الإمام معه وكيف أدّى ذلك الى صلاح رؤيته وتعامله مع الإمام(عليه السلام)[10].

[1] الإسراء (17): 26 .

[2] اُصول الكافي : 1 / 543 ح2 ، بحار الأنوار : 48 / 156. ونقل السبط في تذكرة الخواص: 314 عن ربيع الأبرار للزمخشري: أن ذلك لم يكن من المهدي بل من هارون كان يقول لموسى الكاظم: خذ فدكاً، وهو يمتنع ويقول: إنّ حددتها لم تردها، فلمّا ألحّ عليه قال: ما أخذها إلاّ بحدودها، قال: وما حدودها؟ فقال... فعند ذلك استلفى أمره وعزم على قتله.

[3] بحار الأنوار : 48 / 160 عن بصائر الدرجات: 64 ب 10 ح 5.

[4] بحار الأنوار : 48 / 159 عن قرب الاسناد: 232 ح 1174 .

[5] تاريخ بغداد، وعنه في تذكرة الخواص: 311 ومطالب السؤول لابن طلحة الشافعي: 83 وعن الجنابذي في كشف الغمة: 3/2 ـ 3 وعنه في بحار الأنوار: 48/148 ح 22.

[6] اُصول الكافي: 1/366 وعنه في بحار الأنوار : 48 / 161، ح 6 .

[7] بحار الأنوار : 48 / 165 عن مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الاصفهاني .

[8] بحار الأنوار : 48 / 148، ح 23 عن فروع الكافي: 8/ 86 .

[9] بحار الأنوار : 48 / 154 / ح26 عن فروع الكافي: 6/540.

[10] راجع الفصل الثالث من الباب الأوّل، مبحث حلمه(عليه السلام) ص 34 من هذا الكتاب.