مكتبة الإمام الكاظم

فهرس الكتاب

 

ثالثاً : البناء العملي والانتماء الفكري :

ركّز الإمام الكاظم(عليه السلام) في تربيته للجماعة الصالحة على ضرورة الانتماء الفكري والمعرفي لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وتحرك الإمام(عليه السلام) بهذا الاتّجاه مستغلا للنهضة الفكرية التي حقّقها الإمام الصادق(عليه السلام) من قبل فقام باكمال عمل أبيه في بناء الكادر المتخصص فامتدّت قواعده من هذا النوع حتى ذكر له ( 319 ) صحابياً[1] كل منهم تلقى العلم والمعرفة من الإمام الكاظم(عليه السلام) وقد خضعت هذه الجماعة بانتمائها الفكري الى برمجة متقنة يمكنها مواجهة التحديات الثقافية والفقهية والابداع في ميدانها الخاص.

وفيما يلى نشير الى جانب من نشاط الإمام(عليه السلام) بهذا الاتّجاه :

قام الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) بإعداد نخبة من الفقهاء ورواة الحديث تقدّر كما ذكرنا بـ ( 319 ) شخصاً لكن قد تميّز من بين أصحابه ستة بالصدق والأمانة وأجمع الرواة على تصديقهم فيما يروونه عن الأئمة (عليهم السلام) على أنه اشتهر بين المحدثين ثمانية عشر فقيهاً ومحدّثاً من أصحاب الأئمة الثلاثة: (الباقر والصادق والكاظم) وهم المعروفون بأصحاب الاجماع، ستة من أصحاب «أبي جعفر» وستة من أصحاب «أبي عبدالله» وستة من أصحاب «أبي الحسن موسى(عليهم السلام)»، وهم : «يونس بن عبد الرحمن»، و«صفوان بن يحيى بياع السابري»، و«محمد بن أبي عمير»، و«عبدالله بن المغيرة»، و«الحسن ابن محبوب السرّاد»، و«أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي»[2]هذا في المجال الفقهي أما الميادين الفكرية الاُخرى مثل الكلام والقرآن، واللغة وماشاكل ذلك فلها أيضاً نخبة متخصصة فيها.

اعتقال الإمام الكاظم (عليه السلام)

لقد عرفنا عداء المهدي للعلويين بشكل عام بل لمن يتولاّهم، وما كان اخراجهم من السجون إلاّ لأنه أحسّ بأن حكومته لا تدوم لو استمرّ على سيرة أبيه المنصور في التضييق عليهم، وقد أعرب عن سياسته بقوله:

اني أرى التأديب بالصفح أبلغ منه بالعقوبة، والسلامة مع العفو أكثر منها مع العاجلة، والقلوب لا تبقى لوال لا يعطف اذا استعطف ولا يعفو إذا قدر، ولا يغفر إذا ظفر، ولا يرحم اذا استرحم، من قلّت رحمته واشتدّت سطوته وجب مقته وكثر مبغضوه[3].

ولكن مع كل هذا نجد المهديّ ينكّل بوزيره المحبوب عنده ( يعقوب بن داود) لأنه كان ذا ميل للعلويين، وبعد أن اختبره قال له: قد حلّ لي دمك ولو آثرت اراقته لأرقته ثم أمر بسجنه مؤبداً وصادر جميع أمواله[4].

ومن هنا نستطيع أن نكتشف أن سبب أمر المهدي العباسي باعتقال الإمام موسى إنّما كان شيوع ذكر الإمام(عليه السلام) وانتشار اسمه وعلمه في الآفاق مما جعله يتصوّر أن بقاء ملكه لا يتمّ إلاّ باعتقاله .

وقد عرفت أن المهدي اضطرّ الى اطلاق سراح الإمام(عليه السلام) بعد أن رأى في المنام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) متأثّراً حزيناً مخاطباً إياه :

«يامحمد ! (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) » ففزع المهدي من نومه .. وأمر باحضار الإمام وقصّ عليه رؤياه وطلب منه أن لا يخرج عليه أو على أحد من ولده. ثم أعطاه ثلاثة آلاف دينار وردّه الى المدينة[5].

ومات المهدي لثمان بقين من المحرم سنة ( 169 هـ ) وهو ابن ثمان وأربعين سنة بعد أن خرج الى الصيد ودخل خربة أصاب بابها عمود ظهره أو أن بعض جواريه كانت قد دسّت له السم لانها كانت تغار من جارية كان يهواها ويخلص لها[6].

وهكذا انتهت حياته بعد أن كان قد أخذ البيعة لابنه موسى وهارون بالخلافة من بعده.

الإمام الكاظم (عليه السلام) في حكومة موسى الهادي العباسي

ثم استولى على الحكم موسى الهادي بعد وفاة أبيه المهدي في العشر الأخير من محرم سنة ( 169 هـ ) وتوفي في السنة ( 170 هـ ) وكان عمره (26 ) سنة[7] وبالرغم من قصر المدّة التي حكم فيها موسى الهادي إلاّ أنها قد تركت آثاراً سيّئة على الشيعة وامتازت بحدث مهم في التاريخ الاسلامي وهو «واقعة فخ» التي قال عنها الإمام الجواد(عليه السلام): «لم يكن لنا بعد الطف مصرع أعظم من فخ»[8] فكانت سياسة الهادي قد امتازت بنزعات شريرة ظهرت في سلوكه حتى نقم عليه القريب والبعيد وأبغضه الناس جميعاً وقد حقدت عليه اُمّه الخيزران حتى بلغ بها الغيظ له نهايته، قيل أنها هي التي قتلته[9].

ولقد نكّل بالعلويين وأذاع الخوف والرعب في صفوفهم وقطع ما أجراه لهم المهدي من الارزاق والاعطيات وكتب الى جميع الآفاق في طلبهم وحملهم الى بغداد[10].

ثورة فخ

إنّ الذي فجّر الثورة على الحاكم العبّاسي هو «الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب(عليه السلام)».

أسباب الثورة

والأسباب التي أدّت الى الثورة عديدة، نذكر منها سببين:

الأوّل: الاضطهاد والإذلال الذى مارسه الخلفاء العبّاسيون ضد العلويين واستبداد موسى الهادي على وجه الخصوص .

الثاني: الولاة الذين عيّنهم موسى الهادي على المدينة مثل تعيينه اسحاق ابن عيسى بن علي الذى استخلف عليها رجلا من ولد عمر بن الخطاب يعرف بعبد العزيز.

وقد بالغ هذا الأثيم في اذلال العلويين وظلمهم فالزمهم بالمثول عنده كل يوم، وفرض عليهم الرقابة الشخصية فجعل كل واحد منهم يكفل صاحبه بالحضور، وقبضت شرطته على كل من الحسن بن محمد بن عبدالله بن الحسن، ومسلم بن جندب وعمر بن سلام، وادّعت الشرطة انها وجدتهم على شراب فأمر بضربهم، وجعل في أعناقهم حبالا، وأمر أن يطاف بهم في الشوارع ليفضحهم[11].

وفي سنة ( 169 هـ ) عزم الحسين بن علي ـ صاحب فخ ـ على الخروج وفاتح الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) بالأمر وطلب منه المبايعة فقال له الإمام(عليه السلام): «يا ابن عم لا تكلّفني ماكلّف ابن عمك، عمك أبا عبدالله فيخرج مني ما لا أريد، كما خرج من أبي عبدالله ما لم يكن يريد». فقال له الحسين: إنّما عرضت عليك أمراً فان أردته دخلت فيه. وان كرهته لم أحملك عليه والله المستعان، ثم ودّعه.

فجمع الحسين أصحابه مثل يحيى، وسليمان، وادريس بن عبدالله بن الحسن، وعبد الله بن الحسن الافطس وغيرهم.

فلما أذّن المؤذن الصبح دخلوا المسجد ونادوا أحد أحد، وصعد الافطس المنارة، وأجبر المؤذّن على قول: حيّ على خير العمل وصلى الحسين بالناس الصبح.

فخطب بعد الصلاة وبايعه الناس، وبعد أن استولى على المدينة توجّه نحو مكة وبعد أن وصل الى ( فخ ) فعسكر فيه وكان معه (300 ) مقاتل ولحقته الجيوش العبّاسية وبعد صراع رهيب استشهد الحسين وأصحابه وأرسلت رؤوس الأبرار الى الطاغية موسى الهادي، ومعهم الأسرى وقد قيّدوا بالحبال والسلاسل ووضعوا في أيديهم وأرجلهم الحديد، وأمر الطاغية بقتلهم فقتلوا صبراً وصلبوا على باب الحبس[12].

نتائج الثورة

بعد ان انتهت الثورة باستشهاد «الحسين صاحب فخ» وصحبه أخذ الهادي يتوعّد الأحياء منهم، وقد ذكر سيدهم الإمام موسى قائلا: والله ما خرج حسين إلاّ عن أمره، ولا اتّبع إلاّ محبته، لأنه صاحب الوصية في أهل هذا البيت. قتلني الله ان أبقيت عليه[13].

وكتب علي بن يقطين الى الإمام موسى(عليه السلام) بصورة الأمر فورد الكتاب، فلما أصبح أحضر أهل بيته وشيعته فاطّلعهم على ما ورد عليه من الخبر فقال: ما تشيرون في هذا ؟

فقالوا: نشير عليك ـ أصلحك الله ـ وعلينا معك أن تباعد شخصك عن هذا الجبّار وتغيّب شخصك دونه.

فتبسم الإمام موسى(عليه السلام) ثم تمثّل ببيت كعب بن مالك أخي بني سلمة وهو :

زعمت سخينة أن ستغلب ربّها***فليغلبنَّ مغالب الغلاب

وأقبل الإمام نحو القبلة ودعا بدعاء الجوشن الصغير المعروف الوارد عنه(عليه السلام) ثم قال(عليه السلام): «قد ـ وحرمة هذا القبر ـ مات في يومه هذا والله (وانه لحق مثل ما أنكم تنطقون)[14] ».

قال الراوي: ثم قمنا الى الصلاة وتفرّق القوم فما اجتمعوا إلاّ لقراءة الكتاب الوارد بموت الهادي والبيعة للرشيد[15].

تحليل ثورة فخ وموقف الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) منها

لقد استعرضنا فيما سبق نشاط الإمام لاكمال بناء الجماعة الصالحة لايصالها الى المستوى العالي من العقيدة والايمان والوعي السياسي الذي يُهيّء الأرضية لانجاز المشروع التغييري الإسلامي الكبير.

أما العامل الثاني الذي يتكامل به انجاز هذا المشروع، فهو تحريك ضمير الاُمة وتحرير ارداتها الى حدّ يمنحها القوة والصلابة ويمنعها من التنازل عن كرامتها، والذوبان في سياسة الظالمين وذلك من خلال استمرار العمل الثوري ضد الحكومات الظالمة، فانطلاقاً من هذه الضرورة يمكن أن نلخّص موقف الإمام موسى من واقعة (فخ) بما يلي :

1 ـ لم يكن موقف الإمام (عليه السلام) في هذه المرحلة موقفاً ثورياً ضد نظام الحكم القائم.

2 ـ صرّح الإمام (عليه السلام) بموقفه من الثورة لزعيمها ( الحسين ) عندما طلب منه المبايعة وذكّره بموقف الإمام الصادق(عليه السلام) من ثورة محمد ذي النفس الزكية، وسوف يكون موقفه كأبيه فيما اذا أصرّ الحسين على ضرورة المبايعة[16].

3 ـ عندما استولى الحسين على المدينة وصلّى بالناس صلاة الصبح لم يتخلف عنه أحد من الطالبيين إلاّ الحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن وموسى بن جعفر(عليه السلام)[17].

4 ـ صدر من الإمام تأييد ومساندة صريحة لحركة الحسين وثورته عندما عزم عليها في قوله(عليه السلام): «إنّك مقتول فأحدّ الضراب، فان القوم فسّاق يظهرون ايماناً ويضمرون نفاقاً وشركاً، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون وعند الله أحتسبكم من عصبة»[18].

5 ـ ولمّا سمع الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) بمقتل الحسين (رض) بكاه وابّنه بهذه الكلمات: «إنّا لله وإنّا اليه راجعون، مضى والله مسلماً صالحاً صوّاماً قوّاماً، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله»[19].

موسى الهادي يحاول عزل الرشيد من ولاية العهد :

قال اليعقوبي: وشجرت بين موسى وأخيه الوحشة فعزم على خلعه وتصيير ابنه جعفر وليّ العهد، ودعا القوّاد الى ذلك، فتوقف عامتهم وأشاروا عليه أن لا يفعل ،وسارع بعضهم وقووا عزيمته في ذلك وأعلموه أن الملك لا يصلح إن صار إلى هارون، فكان ممن سعى في خلعه أبو هريرة محمد بن فرّوخ الأزدي القائد من الأزد ، وقد كان موسى وجّه به في جيش كثير يستنفر من بالجزيرة والشام ومصر والمغرب ويدعو الناس الى خلع هارون، فمن أبى جرّد فيهم السيف فسار حتى صارالى الرقة فأتاه الخبر بوفاة موسى[20].

ومات موسى الهادي لاربع عشر ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة (170 هـ )[21].

[1] الإمام موسى الكاظم لباقر شريف القرشى : 2 / 223.

[2] انظر اختيار معرفة الرجال: 556 ح 1050.

[3] تاريخ اليعقوبي : 2 / 399 ـ 400 .

[4] حياة الإمام موسى بن جعفر : 1 / 447 ـ 449 وفي تاريخ اليعقوبي: 2/401: وكان يعقوب جميل المذهب ميمون النقيبة، محبّاً للخير، كثير الفضل، حسن الهدى، ثم سخط عليه فعزله وحبسه، فلم يزل محبوساً حتى مات المهدي. وفي مروج الذهب: 3/312: ثم اختصّ به يعقوب بن داود السلمي فكان يصل إليه في كل وقت دون كل الناس.. ثمّ اتّهمه بشيء من أمر الطالبيين.. فبقي في حسبه إلى أيام الرشيد فأطلقه، ثم نقل فيه أقوالاً اُخرى.

[5] تأريخ بغداد : 14 / 30 ـ 31 ، والمناقب : 4 / 325.

[6] تأريخ اليعقوبي : 2 / 401 وحياة الإمام موسى بن جعفر : 1 / 454.

[7] تاريخ اليعقوبي : 2 / 401 ـ 406.

[8] الإمام موسى الكاظم : 2 / 457 .

[9] عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: 172 عن سر السلسلة العلوية: 14. ونقل القول الاصفهاني في مقاتل الطالبيين وعنه في بحار الأنوار: 48/165.

[10] تاريخ اليعقوبي : 2 / 404.

[11] بحار الأنوار : 48 / 161 عن الاصفهاني في مقاتل الطالبيين.

[12] تاريخ الطبري : 10 / 29 وبحار الأنوار : 48 / 161 ـ 165 عن مقاتل الطالبيين .

[13] بحار الأنوار : 48 / 150 ـ 153 عن ابن طاووس في مهج الدعوات: 217.

[14] الذاريات (51) : 23.

[15] بحار الأنوار: 48/217، ح 17 عن مهج الدعوات لابن طاووس.

[16] اُصول الكافي: 1/366 وعنه في بحار الأنوار : 48 / 161.

[17] بحار الأنوار : 48 / 163 عن الاصفهاني في مقاتل الطالبيين.

[18] اُصول الكافي: 1/366 وعنه في بحار الأنوار: 48/160، ح 6.

[19] بحار الأنوار : 48 / 165 عن الاصفهاني في مقاتل الطالبيين .

[20] تأريخ اليعقوبي: 2 / 405 .

[21] تاريخ اليعقوبي : 2 / 407 .