الباب الرابعملامح عهد الرشيد وسياسته مع الإمام الكاظم(عليه السلام)
تعتبر السنوات الأخيرة من عمر الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) من أعقد مراحل حياته وأشدّها صعوبة وأذىً على الإمام(عليه السلام) بالقياس الى المراحل الاُخرى التي سبقتها، وقد عاصر فيها هارون الرشيد لمدة ( 14 ) سنة وأشهراً[1] وكانت حافلة بالآلام والمصاعب. وقد صبّ فيها هارون كلّ الحقد الجاهلي وما تطويه نفسه الخبيثة من لؤم ودهاء على أهل البيت (عليهم السلام) فقد صمّم سياسة ظالمة تميّز بها عن غيره من الخلفاء، حتى كان من شأنها أن شل حركة الإمام (عليه السلام) وعزله عن الاُمة تمهيداً لقتله فيما بعد داخل السجن، وبهذا تشكل حياة الإمام موسى لجوؤه لأساليب اُخرى من العمل مرحلة جديدة بالنسبة لحركة الأئمة(عليهم السلام) الذين سبقوه. ويكون الحديث عن هذه المرحلة من حياة الإمام الكاظم(عليه السلام) في عدة فصول: الأوّل: عن عهد الرشيد وعن أساليبه التي استخدمها مع الإمام (عليه السلام). الثاني: موقف الإمام (عليه السلام) من حكم وسياسة الرشيد ونشاط الإمام(عليه السلام) مع الاُمة. الثالث : عن اعتقالات الإمام ودوره في داخل السجن حتى استشهاده(عليه السلام) في سنة ( 183 هـ ). ويقع الكلام في هذا الفصل ضمن بحثين: البحث الأول : ملامح عهد الرشيد :سبقت الإشارة الى الظواهر الانحرافية التي اجتاحت البلاد الإسلامية والسياسة الظالمة ضد أهل البيت (عليهم السلام) التي جاء بها العباسيون في منهجهم الجاهلي. ولا يسعنا أن نستعرض كل الاحداث والظروف التي أحاطت بالإمام (عليه السلام) في عصر حكومة الرشيد بل نحاول أن نقف على أهم ما امتازت به المرحلة من ظواهر لعلها تكون كافية لاعطاء الصورة الواقعية وحجم المأساة التي يعانيها الإمام(عليه السلام). اذا لاحظنا الأموال التي كانت تجبى له من أطراف البلاد لوجدناها تفوق ضخامتها ورقمها أموال كل من سبقه من الخلفاء وكانت تنفق على غير مصالح المسلمين مثل التفنن في الملذّات حتى أسرف هارون في هباته للمغنّين وأغدق عليهم الأموال الطائلة فقد أنشده أبو العتاهية هذه الأبيات: بأبي من كان في قلبي له***مرة حب قليل فسرق يا بني العبّاس فيكم ملك***شعب الاحسان منه تفترق إنّما هارون خير كله***مات كل الشر مذ يوم خلق وغنّاه ابراهيم الموصلي بها فأعطى كل واحد منهما مائة ألف درهم ومائة ثوب[2]. وكان هارون مولعاً بالجواري حريصاًعلى الاستمتاع والتلذّذ بهنّ حتى أفرط في ذلك وكان له قصة مع الجارية (غادر) جارية أخيه الهادي وكانت حسناء من أحسن الناس وجهاً وغناءاً وكان الهادي يحبها وشك ذات يوم بأن الرشيد سيتزوجها حال مماته فقال للرشيد أريد أن تحلف بأنك لا تتزوجها بعدي فحلف واستوفى عليه الايمان من الحج راجلا وطلاق الزوجات وعتق المماليك وتسبيل ما يملكه، ثم أحلفها بمثل ذلك فحلفت فلم يمض على ذلك الاشهر فمات الهادي وبويع الرشيد فبعث الى (غادر) وخطبها[3]. وكان الرشيد شديدالولع بالغناء فاشتمل قصره على مختلف الآلات الموسيقية وقد أمر المغنّين أن يختاروا له مائة صوت فاختاروها ثم أمرهم باختيار عشرة فاختاروها، ثم أمرهم باختيار ثلاثة ففعلوا[4] وانقطع إبراهيم عن الغناء لأنه عاهد الهادي بعدم الغناء بعده، لكن الرشيد أمره أن يغنّي فامتنع فرماه في السجن ولم يطلق سراحه حتى غنّى في مجلسه[5]. وكان هارون من المدمنين على شرب الخمرة، وكان يدعو خواصّ جواريه إذا أراد الشراب[6]. قال حماد بن اسحاق عن أبيه: أرسل إليّ الرشيد ذات ليلة فدخلت عليه فإذا هو جالس وبين يديه جارية عليها قميص مورّد وسراويل مورّدة ، فلما غنّت، فقال: لمن هذا اللحن؟ فقلت: لي يا أمير المؤمنين فقال: هات لحن ابن سريج فغنّيته إياه فطرب وشرب رطلا وسقى الجارية رطلا وسقاني رطلاً[7]. وكان الرشيد شديد التعلق بلعب القمار ( النرد ) و ( الشطرنج )[8] وبذل الأموال الطائلة من أجل هذه الألعاب. أمّا موقفه من العلويين فكان الرشيد شديد العداء والحقد عليهم وقد أقسم حين تولّى الخلافة على استئصالهم وقتلهم فقال: والله لاقتلنّهم ـ أي العلويين ـ ولأقتلنّ شيعتهم[9] وفعلا نفّذ قسمه بقتل طائفة كبيرة من أعلام العلويين هم خيرة المسلمين علماً وورعاً في الدين . وعندما رأى جماهير غفيرة من الاُمة الإسلامية تتهافت على زيارة مرقد الحسين(عليه السلام) قام بهدم الدورالمجاورة له، واقتلاع السدرة التي كانت الى جانب القبر الشريف[10] كما أمر بحرث أرض كربلاء ليمحو بذلك كلّ أثر للقبر المطهر، وقد انتقم الله منه فإنّه لم يدُر عليه الحول حتى هلك في خراسان [11]. وامتدّ سلوك هذا الحاكم الفاسد الى الاُمة، حيث اُشيع في البلاد الإسلامية كل أنواع الفساد، وتحوّلت بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية في عصره الى مسرح للّهو، والرقص، وحانات الخمور ودور المجون، حتى أصبحت هذه المظاهر سمة بارزة يتميّز بها ذلك العصر، وعكس لنا الشعراء انطباعاتهم وأحاسيسهم باللهو وحبّ الجواري والتلذّذ بالخمرة، وكرّس أبو نؤاس مجهوده الفكري فيوصف الأكواب والكؤوس والسقاة والخمّارين والندماء وافتتن الناس بخمرياته. وامتاز عصر هارون بالفقر والبؤس، الذي عم الملايين فنجد جموع المسلمين تعرى وتجوع، فيما زخرت بغداد بأموال المسلمين والتي تكرّست عند طبقة خاصة من الخلفاء وأبنائهم وعشيرتهم ووزرائهم والمغنين والجواري والخمّارين والوشاة والمنتفعين من مائدة الخلافة. وحيث ظهر الفقر والبؤس في موطن كان منشئاً للكفر. فقد ظهرت في ذلك العصر حركات إلحادية نشطت بين البسطاء. يقول ( فلهوزن ) : إنّ هناك صلة وثيقة بين الدعوة العباسية والزنادقة، ويقول: إنّ العبّاسيين في ذلك الوقت جمعوا الزنادقة حولهم ولم ينبذوهم إلاّ فيما بعد[12]. والغريب أنّ هذه الحركات الهدّامة التي انتشرت في البلاد الإسلامية مثل «المزدكيّة» وغيرها كانت تدعو للتحلّل من جميع القيم وهي نوع من أنواع الشيوعية، يقول الشهرستاني : إنّ مزدك أحلّ النساء وأباح الأموال وجعل الناس شركة كاشتراكهم في المال والنار والكلاء[13]. البحث الثاني: موقف الرشيد من الإمام الكاظم(عليه السلام)كان الرشيد شديد الحساسية والحقد على الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) بالنسبة الى الخلفاء العبّاسيين الذين سبقوه، من هنا بدأ بمحاصرة الإمام ومراقبته بغية شل حركته ونشاطه، بطرق وأساليب متعددة وملتوية ومتطوّرة تمثّلت في الاستدعاءات المتعدّدة للبلاط ثم الاعتقالات المتكرّرة، ومحاولات الاغتيال بتصفية أتباع الإمام(عليه السلام) وشيعته، وزجّ البعض في السجون بعد بثّه للجواسيس بشكل مكثّف ورصد ومُتابعة كل حركة تصدر من الإمام وأصحابه وإكرام الوشاة وتشجيعهم فيما إذا جاءوا بمعلومة سرّية عن الإمام حتى انه كانت تقدم رؤوس العلويين كهدايا للرشيد باعتبارها من الاُمور الثمينة عنده. واستخدم الرشيد سياسته هذه مع الإمام على المدى البعيد وأراد فيها تطويق الإمام(عليه السلام) وعزله بشكل تام وقطع كل أواصر الارتباط مع الاُمة. واتّسمت سياسة الرشيد العدوانية مع الإمام بأنها كانت منذ بويع للخلافة تراوحت بين السجن والاتّهام السياسي مرّة والاكرام والتعظيم نفاقاً مرة اُخرى. وسوف نستعرض مجموعة النصوص التي وردت في هذا الصدد لنقف على مجموعة الأساليب الصريحة والملتوية والمتطوّرة التي سلكها هذا الطاغية لتصفية حركة أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم. |
|