الطائفة الاولى :تتضمّن أساليب الرشيد مع الإمام والتي تدور بين اكرام الإمام مرة والتخطيط لقتله مرّة اخرى، والاعتراف بكونه الإمام المفترض الطاعة مرّة ثالثة. 1 ـ جاء عن الفضل أنه قال: «كنت أحجب الرشيد، فأقبل عليّ يوماً غضباناً، وبيده سيف يقلّبه. فقال لي : يا فضل بقرابتي من رسول الله(صلى الله عليه وآله) لئن لم تأتني بابن عمي لآخذن الذي فيه عيناك. فقلت: بمن أجيئك؟ فقال: بهذا الحجازي. قلت: وأيّ الحجازيين؟ قال: موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. قال الفضل: فخفت من الله عزّ وجلّ إن جئت به إليه، ثم فكرت في النقمة، فقلت له: أفعل. فقال: ائتني بسوطَين وحصارَين[1] وجلاّدين. قال : فأتيته بذلك ومضيت الى منزل أبي ابراهيم موسى بن جعفر(عليه السلام) فأتيت الى خربة فيها كوخ[2] من جرائد النخل فإذا أنا بغلام أسود. فقلت له: استأذن لي على مولاك يرحمك الله. فقال لي: لج[3] ليس له حاجب ولا بوّاب . فولجت إليه، فإذا أنا بغلام أسود بيده مقص يأخذ اللحم من جبينه وعرنين أنفه من كثرة سجوده. فقلت له: السلام عليك ياابن رسول الله، أجب الرشيد. فقال: ما للرشيد ومالي؟ أما تشغله نعمته عنّي؟ ثم قام مسرعاً، وهو يقول: لولا أني سمعت في خبر عن جدي رسول الله(صلى الله عليه وآله) : إنّ طاعة السلطان للتقية واجبة[4] إذن ما جئت. فقلت له : استعد للعقوبة يا أبا ابراهيم رحمك الله ، فقال(عليه السلام): أليس معي من يملك الدنيا والآخرة، ولن يقدر اليوم على سوء لي ان شاء الله. قال الفضل بن الربيع: فرأيته وقد أدار يده يلوح بها على رأسه ثلاث مرات . فدخلت على الرشيد، فإذا هو كأنه امرأة ثكلى قائم حيران فلمّا رآني قال لي: يا فضل. فقلت: لبيك. فقال: جئتني بابن عمّي؟ قلت: نعم. قال: لا تكون أزعجته؟ فقلت: لا. قال: لا تكون أعلمته أني عليه غضبان؟ فإني قد هيّجت على نفسي ما لم أرده، أئذن له بالدخول. فأذنت له. فلمّا رآه وثب اليه قائماً وعانقه وقال له: مرحباً بابن عمي وأخي ووارث نعمتي ، ثم أجلسه على مِخَدّة وقال له: ما الذي قطعك عن زيارتنا؟ فقال(عليه السلام): سعة ملكك وحبّك للدنيا. فقال: ائتوني بحقة الغالية[5] فاُتي بها فغلفه بيده، ثم أمر أن يحمل بين يديه خلع وبدرتان دنانير. قال الفضل : فتبعته(عليه السلام) فقلت له: ما الذي قلت حتى كُفيت أمر الرشيد ؟ فقال : دعاء جدي علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان إذا دعا به، ما برز الى عسكر إلاّ هزمه ولا الى فارس إلاّ قهره، وهو دعاء كفاية البلاء. قلت: وما هو ؟ قال: قل: اللهم بك أساور، وبك أُحاول ( وبك أحاور ) ، وبك أصول، وبك انتصر، وبك أموت، وبك أحيا، أسلمت نفسي اليك، وفوّضت أمري اليك، لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم. اللهم انك خلقتني ورزقتني وسترتني، وعن العباد بلطف ما خوّلتني أغنيتني، وإذا هويت رددتني، وإذا عثرت قوّمتني، وإذا مرضت شفيتني، وإذا دعوت اجبتني يا سيدي ارض عني فقد أرضيتني»[6]. 2 ـ يصوّر لنا عبدالله المأمون بن الرشيد ذلك المستوى من الفهم الذي يمتلكه الرشيد ازاء الإمام. والذي اعترف به من خلال الاكرام والاجلال الذي قام به الرشيد للإمام الكاظم(عليه السلام) والذي يستبطن مدى الحقد والبغض، ويكشف هذا المشهد ثقل الإمام الشعبي الذي دفع بالرشيد الى أن يفتعل هذا المشهد من أجل اضلال الجماهير. قال المأمون: لقد حججت معه (الرشيد) سنة فلما صار الى المدينة تقدم الى حجابه وقال: لايدخلنّ عليّ رجل من أهل المدينة ومكة من أبناء المهاجرين والانصار وبني هاشم وسائر بطون قريش إلاّ نسب نفسه، فكان الرجل اذا أراد أن يدخل عليه يقول: أنا فلان ابن فلان حتى ينتهي الى جدّه من هاشم أو قريش وغيرهما فيدخل ويصله الرشيد بخمسة آلاف وما دونها الى مائتي دينار على قدر شرفه وهجرة آبائه. فبينما أنا ذات يوم واقف إذ دخل الفضل بن الربيع فقال: يا أمير المؤمنين على الباب رجل زعم انه موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام) فأقبل علينا ونحن قيام على رأسه والأمين والمؤتمن وسائر القوّاد، وقال احفظوا على أنفسكم. ثم قال لآذنه ائذن له ولا ينزل إلاّ على بساطي، فأنا كذلك إذ دخل شيخ قد انهكته العبادة كأنه شن بال قد كلم السجود وجهه وأنفه، فلما رأى الرشيد رمى بنفسه عن حمار كان يركبه فصاح الرشيد: لا والله إلاّ على بساطي فمنعه الحجّاب من الترجّل، ونظرنا إليه بأجمعنا بالاجلال والاعظام، فما زال يسير على حماره حتى سار الى البساط والحجّاب والقوّاد محدقون به. فنزل وقام اليه الرشيد واستقبله الى آخر البساط وقبّل وجهه ورأسه وأخذ بيده حتى جرّه في صدر المجلس وأجلسه معه وجعل يحدّثه ويقبل عليه ويسأله عن أحواله. ولمّا قام الرشيد لقيامه وودّعه، ثم أقبل عليّ وعلى الأمين والمؤتمن، وقال: يا عبدالله ويا محمد ويا ابراهيم: سيروا بين يدي عمّكم وسيدّكم وخذوا بركابه وسوّوا عليه ثيابه[7]. 3 ـ قال المأمون : فلمّا خلا المجلس قلت: يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي عظمته وأجللته، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له ؟ ! قال : هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده. فقلت: يا أمير المؤمنين أوليست هذه الصفات كلّها لك وفيك ؟ ! فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق. والله يا بنيّ انه لأحقّ بمقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) مني ومن الخلق جميعاً، والله لو نازعتني هذا الأمر لاخذت الذي فيه عيناك فإن الملك عقيم[8]. ونلاحظ أن هذا التصريح من الرشيد والاعتراف بحقانية امامة الكاظم(عليه السلام) كان أمراً سرياً. 4 ـ قال المأمون : فلما أراد الرشيد الرحيل من المدينة الى مكة أمر بصرّة فيها مائتا دينار، ثم أقبل على الفضل بن الربيع فقال له: اذهب بهذه الى موسى ابن جعفر(عليه السلام) وقل له: يقول لك أمير المؤمنين نحن في ضيق وسيأتيك برّنا بعد هذا الوقت. فقمت في صدره فقلت: يا أمير المؤمنين تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وسائر قريش، وبني هاشم، ومن لا يعرف حسبه ونسبه خمسة الآف دينار الى ما دونها وتعطي موسى بن جعفر ـ وقد أعطيته مائتي دينار ـ أخسّ عطية أعطيتها أحداً من الناس ؟ ! فقال: اسكت لا أمّ لك، فإني لو أعطيت هذا ما ضمنته له، ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غداً بمائة الف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وأعينهم[9]. |
|