[155]
قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى و ما وصفهم به من إذهابه الرجس عنهم و تطهيره إياهم في قوله إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ثم إن المأمون بر رسول الله (ص) في عترته و وصل أرحام أهل بيته فرد ألفتهم و جمع فرقتهم و رأب صدعهم و رتق فتقهم و أذهب الله به الضغائن و الإحن بينهم و أسكن التناصر و التواصل و المودة و المحبة قلوبهم فأصبحت بيمنه و حفظه و بركته و بره و صلته أيديهم واحدة و كلمتهم جامعة و أهواؤهم متفقة و رعى الحقوق لأهلها و وضع المواريث مواضعها و كافأ إحسان المحسنين و حفظ بلاء المبتلين و قرب و باعد على الدين ثم اختص بالتفضيل و التقديم و التشريف من قدمته مساعيه فكان ذلك ذي الرئاستين الفضل بن سهل إذ رآه له مؤازرا و بحقه قائما و بحجته ناطقا و لنقبائه نقيبا و لخيوله قائدا و لحروبه مدبرا و لرعيته سائسا و إليه داعيا و لمن أجاب إلى طاعته مكافيا و لمن عدل عنها منابذا و بنصرته متفردا و لمرض القلوب و النيات مداويا لم ينهه عن ذلك قلة مال و لا عوز رجال و لم يمل به طمع و لم يلفته عن نيته و بصيرته وجل بل عند ما يهول المهولون و يرعد و يبرق له المبرقون و المرعدون و كثرة المخالفين و المعاندين من المجاهدين و المخاتلين أثبت ما يكون عزيمة و أجرى جنانا و أنفذ مكيدة و أحسن تدبيرا و أقوى في تثبيت حق المأمون و الدعاء إليه حتى قصم أنياب الضلالة و فل حدهم و قلم أظفارهم و حصد شوكتهم و صرعهم مصارع الملحدين في دينهم و الناكثين لعهده .
[156]
الوانين في أمره المستخفين بحقه الآمنين لما حذر من سطوته و بأسه مع آثار ذي الرئاستين في صنوف الأمم من المشركين و ما زاد الله به في حدود دار المسلمين مما قد وردت أنباؤه عليكم و قرئت به الكتب على منابركم و حمله أهل الآفاق إليكم إلى غيركم فانتهى شكر ذي الرئاستين بلاء أمير المؤمنين عنده و قيامه بحقه و ابتذاله مهجته و مهجة أخيه أبي محمد الحسن بن سهل الميمون النقيبة المحمود السياسة إلى غاية تجاوز فيها الماضين و فاز بها الفائزين و انتهت مكافاة أمير المؤمنين إياه إلى ما حصل له من الأموال و القطائع و الجواهر و إن كان ذلك لا يفي بيوم من أيامه و لا بمقام من مقاماته فتركه زهدا فيه و ارتفاعا من همته عنه و توفيرا له على المسلمين و إطراحا للدنيا و استصغارا لها و إيثارا للآخرة و منافسة فيها و سأل أمير المؤمنين ما لم يزل له سائلا و إليه فيه راغبا من التخلي و التزهد فعظم ذلك عنده و عندنا لمعرفتنا بما جعل الله عز و جل في مكانه الذي هو به من العز و الدين و السلطان و القوة على صلاح المسلمين و جهاد المشركين و ما أرى الله به من تصديق نيته و يمن نقيبته و صحة تدميره و قوة رأيه و نجح طلبته و معاونته على الحق و الهدى و البر و التقوى فلما وثق أمير المؤمنين وثقنا منه بالنظر للدين و إيثار ما فيه صلاحه و أعطيناه سؤله الذي يشبه قدره و كتبنا له كتاب حباء و شرط قد نسخ في أسفل كتابي هذا و أشهدنا الله عليه و من حضرنا من أهل بيتنا و القواد و الصحابة و القضاة و الفقهاء و الخاصة و العامة و رأى أمير المؤمنين الكتاب به إلى الآفاق ليذيع و يشيع في أهلها و يقرأ على منابرها و يثبت عند ولاتها و قضاتها فسألني أن أكتب بذلك و أشرح معانيه و هي على ثلاثة أبواب ففي الباب الأول البيان عن كل آثاره التي أوجب الله تعالى بها حقه علينا و على المسلمين و الباب الثاني البيان عن مرتبته في إزاحة علته في كل ما دبر و دخل فيه و ألا سبيل عليه فيما ترك و كره و ذلك لما ليس لخلق ممن في عنقه بيعة إلا له وحده و لأخيه و من إزاحة العلة تحكيمها في كل من بغى عليهما و سعى بفساد علينا و عليهما و على أوليائنا لئلا يطمع [157]
طامع في خلاف عليهما و لا معصية لهما و لا احتيال في مدخل بيننا و بينهما و الباب الثالث البيان عن إعطائنا إياه ما أحب من ملك التحلي و حلية الزهد و حجة التحقيق لما سعى فيه من ثواب الآخرة بما يتقرب في قلب من كان شاكا في ذلك منه و ما يلزمنا له من الكرامة و العز و الحباء الذي بذلناه له و لأخيه في منعهما ما نمنع منه أنفسنا و ذلك محيط بكل ما يحتاط فيه محتاط في أمر دين و دنيا و هذه نسخة الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب و شرط من عبد الله المأمون أمير المؤمنين و ولي عهده علي بن موسى الرضا لذي الرئاستين الفضل بن سهل في يوم الإثنين لسبع ليال خلون من شهر رمضان من سنة إحدى و مائتين و هو اليوم الذي تمم الله فيه دولة أمير المؤمنين و عقد لولي عهده و ألبس الناس اللباس الأخضر و بلغ أمله في إصلاح وليه و الظفر بعدوه إنا دعوناك إلى ما فيه بعض مكافاتك على ما قمت به من حق الله تبارك و تعالى و حق رسوله (ص) و حق أمير المؤمنين و ولي عهده علي بن موسى و حق هاشم التي بها يرجى صلاح الدين و سلامة ذات البين بين المسلمين إلى أن يثبت النعمة علينا و على العامة بذلك و بما عاونت عليه أمير المؤمنين من إقامة الدين و السنة و إظهار الدعوة الثانية و إيثار الأولى مع قمع المشركين و كسر الأصنام و قتل العتاة و سائر آثارك الممثلة للأمصار في المخلوع و قابل و في المسمى بالأصفر المكنى بأبي السرايا و في المسمى بالمهدي محمد بن جعفر الطالبي و الترك الحولية و في طبرستان و ملوكها إلى بندار هرمز بن شروين و في الديلم و ملكها مهورس و في كابل و ملكها هرموس ثم ملكها الأصفهبد و في ابن البرم و جبال .
[158]
بدار بندة و غرشستان و الغور و أصنافها و في خراسان خاقان و ملون صاحب جبل التبت و في كيمان و التغرغر و في أرمينية و الحجاز و صاحب السرير و صاحب الخزر و في المغرب و حروبه و تفسير ذلك في ديوان السيرة و كان ما دعوناك إليه و هو معونة لك مائة ألف ألف درهم و غلة عشرة ألف ألف درهم جوهرا سوى ما أقطعك أمير المؤمنين قبل ذلك و قيمة مائة ألف ألف درهم جوهرا يسيرا عندنا ما أنت له مستحق فقد تركت مثل ذلك حين بذله لك المخلوع و آثرت الله و دينه و إنك شكرت أمير المؤمنين و ولي عهده و آثرت توفير ذلك كله على المسلمين و جدت لهم به و سألتنا أن نبلغك الخصلة التي لم تزل إليها تائقا من الزهد و التخلي ليصح عند من شك في سعيك للآخرة دون الدنيا و تركك الدنيا و ما عن مثلك يستغنى في حال و لا مثلك رد عن طلبه و لو أخرجتنا طلبتك عن شطر النعيم علينا فكيف نأمر رفعت فيه المئونة و أوجبت به الحجة على من كان يزعم أن دعاك إلينا للدنيا لا للآخرة و قد أجبناك إلى ما سألت به و جعلنا ذلك لك مؤكدا بعهد الله و ميثاقه الذي لا تبديل له و لا تغيير و فوضنا الأمر في وقت ذلك إليك فما أقمت فغريز مزاح العلة مدفوع عنك الدخول فيما تكرهه من الأعمال كائنا ما كان نمنعك مما نمنع منه أنفسنا في الحالات كلها و إذا أردت التخلي فمكرم مزاح البدن و حق لبدنك بالراحة و الكرامة ثم نعطيك مما تتناوله مما بذلناه لك في هذا الكتاب فتركته اليوم و جعلنا للحسن بن سهل مثل ما جعلناه لك فنصف ما بذلناه من العطية و أهل ذلك هو لك و بما بذل من نفسه في جهاد العتاة و فتح العراق مرتين و تفريق جموع الشيطان بيده حتى قوى الدين و خاض نيران الحروب و وقانا عذاب السموم بنفسه و أهل بيته و من ساس من أولياء الحق و أشهدنا الله و ملائكته و خيار خلقه و كل من أعطانا بيعته و صفقة يمينه في هذا اليوم و بعده على ما في [159]
هذا الكتاب و جعلنا الله علينا كفيلا و أوجبنا على أنفسنا الوفاء بما اشترطنا من غير استثناء بشيء ينقضه في سر و لا علانية و المؤمنون عند شروطهم و العهد فرض مسئول و أولى الناس بالوفاء من طلب من الناس الوفاء و كان موضعا للقدرة قال الله تعالى وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ و كتب الحسن بن سهل توقيع المأمون فيه بسم الله الرحمن الرحيم قد أوجب أمير المؤمنين على نفسه جميع ما في هذا الكتاب و أشهد الله تعالى و جعله عليه داعيا و كفيلا و كتب بخطه في صفر سنة اثنتين و مائتين تشريفا للحباء و توكيدا للشروط توقيع الرضا (ع) فيه بسم الله الرحمن الرحيم قد ألزم علي بن موسى الرضا نفسه بجميع ما في هذا الكتاب على ما أكد فيه في يومه و غده ما دام حيا و جعل الله تعالى عليه داعيا و كفيلا و كفى بالله شهيدا و كتب بخطه في هذا الشهر من هذه السنة و الحمد لله رب العالمين و صلى الله على محمد و آله و سلم و حسبنا الله و نعم الوكيل .
24- حدثنا حمزة بن محمد بن أحمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) بقم في رجب سنة تسع و ثلاثين و ثلاثمائة قال أخبرني علي بن إبراهيم بن هاشم فيما كتب إلي سنة سبع و ثلاثمائة قال حدثني ياسر الخادم قال كان الرضا (ع) إذا كان خلا جمع حشمه كلهم عنده الصغير و الكبير فيحدثهم و يأنس بهم و يؤنسهم و كان (ع) إذا جلس على المائدة لا يدع صغيرا و لا كبيرا حتى السائس و الحجام إلا أقعده معه على مائدته قال ياسر الخادم فبينا نحن عنده يوما إذ سمعنا وقع القفل الذي كان على باب المأمون إلى دار أبي الحسن (ع) فقال لنا الرضا (ع) قوموا تفرقوا فقمنا عنه فجاء المأمون و معه كتاب طويل فأراد الرضا (ع) أن يقوم فأقسم عليه المأمون بحق رسول الله (ص) ألا يقوم إليه ثم جاء حتى انكب على أبي الحسن (ع) و قبل وجهه [160]
و قعد بين يديه على وسادة فقرأ ذلك الكتاب عليه فإذا هو فتح لبعض قرى كابل فيه إنا فتحنا قرية كذا و كذا فلما فرغ قال له الرضا (ع) و سرك فتح قرية من قرى الشرك فقال له المأمون أ و ليس في ذلك سرور فقال يا أمير المؤمنين اتق الله في أمة محمد (ص) و ما ولاك الله من هذا الأمر و خصك به فإنك قد ضيعت أمور المسلمين و فوضت ذلك إلى غيرك يحكم فيهم بغير حكم الله و قعدت في هذه البلاد و تركت بيت الهجرة و مهبط الوحي و إن المهاجرين و الأنصار يظلمون دونك و لا يرقبون في مؤمن إلا و لا ذمة و يأتي على المظلوم دهر يتعب فيه نفسه و يعجز عن نفقته و لا يجد من يشكو إليه حاله و لا يصل إليك فاتق الله يا أمير المؤمنين في أمور المسلمين و ارجع إلى بيت النبوة و معدن المهاجرين و الأنصار أ ما علمت يا أمير المؤمنين أن والي المسلمين مثل العمود في وسط الفسطاط من أراده أخذه قال المأمون يا سيدي فما ترى قال أرى أن تخرج من هذه البلاد و تتحول إلى موضع آبائك و أجدادك و تنظر في أمور المسلمين و لا تكلهم إلى غيرك فإن الله تعالى سائلك عما ولاك فقام المأمون فقال نعم ما قلت يا سيدي هذا هو الرأي فخرج و أمر أن يقدم النوائب و بلغ ذلك ذا الرئاستين فغمه غما شديدا و قد كان غلب على الأمر و لم يكن للمأمون عنده رأي فلم يجسر أن يكاشفه ثم قوي بالرضا (ع) جدا فجاء ذو الرئاستين إلى المأمون فقال له يا أمير المؤمنين ما هذا الرأي الذي أمرت به قال أمرني سيدي أبو الحسن (ع) بذلك و هو الصواب فقال يا أمير المؤمنين ما هذا الصواب قتلت بالأمس أخاك و أزلت الخلافة عنه و بنو أبيك معادون لك و جميع أهل العراق و أهل بيتك و العرب ثم أحدثت هذا الحدث الثاني إنك وليت ولاية العهد لأبي الحسن و أخرجتها من بني أبيك و العامة و الفقهاء و العلماء و آل العباس لا يرضون بذلك و قلوبهم متنافرة عنك فالرأي أن تقيم بخراسان حتى تسكن قلوب الناس على هذا و يتناسوا ما كان من أمر محمد أخيك و هاهنا يا أمير المؤمنين مشايخ قد خدموا
[161]
الرشيد و عرفوا الأمر فاستشرهم في ذلك فإن أشاروا بذلك فأمضه فقال المأمون مثل من قال مثل علي بن أبي عمران و أبو يونس و الجلودي و هؤلاء الذين نقموا بيعة أبي الحسن (ع) و لم يرضوا به فحبسهم المأمون بهذا السبب فقال المأمون نعم فلما كان من الغد جاء أبو الحسن (ع) فدخل على المأمون فقال يا أمير المؤمنين ما صنعت فحكى له ما قال ذو الرئاستين و دعا المأمون بهؤلاء النفر فأخرجهم من الحبس فأول من أدخل (ع) علي بن أبي عمران فنظر إلى الرضا (ع) بجنب المأمون فقال أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تخرج هذا الأمر الذي جعله الله لكم و خصكم به و تجعله في أيدي أعدائكم و من كان آباؤك يقتلهم و يشردونهم في البلاد فقال المأمون يا ابن الزانية و أنت بعد على هذا قدمه يا حرسي فاضرب عنقه فضرب عنقه فأدخل أبو يونس فلما نظر إلى الرضا (ع) بجنب المأمون فقال يا أمير المؤمنين هذا الذي بجنبك و الله صنم يعبد من دون الله قال له المأمون يا ابن الزانية و أنت بعد على هذا يا حرسي قدمه فاضرب عنقه فضرب عنقه ثم أدخل الجلودي و كان الجلودي في خلافة الرشيد لما خرج محمد بن جعفر بن محمد بالمدينة بعثه الرشيد و أمره إن ظفر به أن يضرب عنقه و أن يغير على دور آل أبي طالب و أن يسلب نساءهم و لا يدع على واحدة منهن إلا ثوبا واحدا ففعل الجلودي ذلك و قد كان مضى أبو الحسن موسى بن جعفر (ع) فصار الجلودي إلى باب دار أبي الحسن الرضا (ع) هجم على داره مع خيله فلما نظر إليه الرضا جعل النساء كلهن في بيت و وقف على باب البيت فقال الجلودي لأبي الحسن (ع) لا بد من أن أدخل البيت فأسلبهن كما أمرني أمير المؤمنين فقال الرضا (ع) أنا أسلبهن لك و أحلف أني لا أدع عليهن شيئا إلا أخذته فلم يزل يطلب إليه و يحلف له حتى سكن فدخل أبو الحسن الرضا (ع) فلم يدع عليهن شيئا حتى أقراطهن و خلاخيلهن و أزرارهن إلا أخذه منهن و جميع ما كان في الدار من قليل و كثير فلما كان في هذا اليوم و أدخل الجلودي على المأمون قال الرضا (ع) يا أمير المؤمنين هب لي هذا الشيخ فقال المأمون يا سيدي هذا الذي فعل ببنات محمد (ص) ما فعل من سلبهن فنظر الجلودي إلى الرضا (ع) و هو يكلم
[162]
المأمون و يسأله عن أن يعفو عنه و يهبه له فظن أنه يعين عليه لما كان الجلودي فعله فقال يا أمير المؤمنين أسألك بالله و بخدمتي الرشيد أن لا تقبل قول هذا في فقال المأمون يا أبا الحسن قد استعفى و نحن نبر قسمه ثم قال لا و الله لا أقبل فيك قوله ألحقوه بصاحبيه فقدم فضرب عنقه و رجع ذو الرئاستين إلى أبيه سهل و قد كان المأمون أمر أن يقدم النوائب و ردها ذو الرئاستين فلما قتل المأمون هؤلاء علم ذو الرئاستين أنه قد عزم على الخروج فقال الرضا (ع) ما صنعت يا أمير المؤمنين بتقديم النوائب فقال المأمون يا سيدي مرهم أنت بذلك قال فخرج أبو الحسن (ع) و صاح بالناس قدموا النوائب قال فكأنما وقعت فيهم النيران فأقبلت النوائب تتقدم و تخرج و قعد ذو الرئاستين في منزله فبعث إليه المأمون فأتاه فقال له ما لك قعدت في بيتك فقال يا أمير المؤمنين إن ذنبي عظيم عند أهل بيتك و عند العامة و الناس يلومونني بقتل أخيك المخلوع و بيعة الرضا (ع) و لا آمن السعاية و الحساد و أهل البغي أن يسمعوا بي فدعني أخلفك بخراسان فقال له المأمون لا نستغني عنك فأما ما قلت أنه يسعى بك و تبغي لك الغوائل فلست أنت عندنا إلا الثقة المأمون الناصح المشفق فاكتب لنفسك ما تثق به من الضمان و الأمان و أكد لنفسك ما تكون به مطمئنا فذهب و كتب لنفسه كتابا و جمع عليه العلماء و أتى به إلى المأمون فقرأه و أعطاه المأمون كل ما أحب و كتب خطه فيه و كتب له بخطه كتاب الحبوة إني قد حبوتك بكذا و كذا من الأموال و الضياع و السلطان و بسط له من الدنيا أمله فقال ذو الرئاستين يا أمير المؤمنين نحب أن يكون خط أبي الحسن (ع) في هذا الأمان يعطينا ما أعطيت فإنه ولي عهدك فقال المأمون قد علمت أن أبا الحسن (ع) قد شرط علينا أن لا يعمل من ذلك شيئا و لا يحدث حدثا فلا نسأله ما يكرهه فسله أنت فإنه لا يأبى عليك في هذا فجاء و استأذن على أبي الحسن (ع) قال ياسر فقال لنا الرضا (ع) قوموا تنحوا فتنحينا فدخل فوقف بين يديه ساعة فرفع أبو الحسن رأسه إليه فقال له ما حاجتك يا فضل قال يا سيدي هذا أمان ما كتبه لي أمير المؤمنين و أنت أولى أن تعطينا مثل ما أعطى
[163]
أمير المؤمنين إذ كنت ولي عهد المسلمين فقال له الرضا (ع) اقرأه و كان كتابا في أكبر جلد فلم يزل قائما حتى قرأه فلما فرغ قال له أبو الحسن الرضا (ع) يا فضل لك علينا هذا ما اتقيت الله عز و جل قال ياسر فنغض عليه أمره في كلمة واحدة فخرج من عنده و خرج المأمون و خرجنا مع الرضا (ع) فلما كان بعد ذلك بأيام و نحن في بعض المنازل ورد على ذي الرئاستين كتاب من أخيه الحسن بن سهل إني نظرت في تحويل هذه السنة في حساب النجوم فوجدت فيه أنك تذوق في شهر كذا يوم الأربعاء حر الحديد و حر النار فأرى أن تدخل أنت و الرضا و أمير المؤمنين الحمام في هذا اليوم فتحتجم فيه و تصب الدم على بدنك ليزول نحسه عنك فبعث الفضل إلى المأمون و كتب إليه بذلك و سأله أن يدخل الحمام معه و يسأل أبا الحسن (ع) أيضا ذلك فكتب المأمون إلى الرضا (ع) رقعة في ذلك فسأله فكتب إليه أبو الحسن (ع) لست بداخل غدا الحمام و لا أرى لك يا أمير المؤمنين أن تدخل الحمام غدا و لا أرى للفضل أن يدخل الحمام غدا فأعاد إليه الرقعة مرتين فكتب إليه أبو الحسن (ع) لست بداخل غدا الحمام فإني رأيت رسول الله (ص) في النوم في هذه الليلة يقول لي يا علي لا تدخل الحمام غدا فلا أرى لك يا أمير المؤمنين و لا للفضل أن تدخلا الحمام غدا فكتب إليه المأمون صدقت يا سيدي و صدق رسول الله (ص) لست بداخل الحمام غدا و الفضل فهو أعلم و ما يفعله قال ياسر فلما أمسينا و غابت الشمس فقال لنا الرضا (ع) قولوا نعوذ بالله من شر ما ينزل في هذه الليلة فأقبلنا نقول ذلك فلما صلى الرضا (ع) الصبح قال لنا قولوا نعوذ بالله من شر ما ينزل في هذا اليوم فما زلنا نقول ذلك فلما كان قريبا من طلوع الشمس قال الرضا (ع) اصعد السطح فاستمع هل تسمع شيئا فلما صعدت سمعت الضجة و النحيب و كثر ذلك فإذا بالمأمون قد دخل من الباب الذي كان إلى داره من دار أبي الحسن (ع) يقول يا سيدي يا أبا الحسن آجرك الله في الفضل و كان دخل الحمام فدخل عليه قوم بالسيوف فقتلوه و أخذ من [164]
دخل عليه في الحمام و كانوا ثلاثة نفر أحدهم ابن خاله الفضل ذو القلمين قال و اجتمع القواد و الجند من كان من رجال ذي الرئاستين على باب المأمون فقالوا اغتاله و قتله فلنطلبن بدمه فقال المأمون للرضا (ع) يا سيدي ترى أن تخرج إليهم و تفرقهم قال ياسر فركب الرضا (ع) و قال لي اركب فلما خرجنا من الباب نظر الرضا (ع) إليهم و قد اجتمعوا و جاءوا بالنيران ليحرقوا الباب فصاح بهم و أومى إليهم بيده تفرقوا فتفرقوا قال ياسر فأقبل الناس و الله يقع بعضهم على بعض و ما أشار إلى أحد إلا ركض و مر و لم يقف له أحد .
25- حدثنا الحاكم أبو علي الحسين بن أحمد البيهقي قال حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني عون بن محمد الكندي قال حدثنا أبو الحسين محمد بن أبي عباد قال لما كان من أمر الفضل بن سهل ما كان و قتل دخل المأمون إلى الرضا (ع) يبكي و قال له هذا وقت حاجتي إليك يا أبا الحسن فتنظر في الأمر و تعينني فقال له عليك التدبير يا أمير المؤمنين و علينا الدعاء قال فلما خرج المأمون قلت للرضا (ع) لم أخرت أعزك الله ما قاله لك أمير المؤمنين و أبيته فقال ويحك يا أبا حسن لست من هذا الأمر في شيء قال فرآني قد اغتممت فقال لي و ما لك في هذا لو آل الأمر إلى ما تقول و أنت مني كما أنت عليه الآن ما كانت نفقتك إلا في كمك و كنت كواحد من الناس .
26- حدثنا الحاكم أبو علي الحسين بن أحمد البيهقي قال حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن أبي الموج بن الحسين الرازي قال سمعت أبي يقول حدثني من سمع الرضا (ع) يقول الحمد لله الذي حفظ منا ما ضيع الناس و رفع منا ما وضعوه حتى لقد لعنا على منابر الكفر ثمانين عاما و كتمت فضائلنا و بذلت الأموال في الكذب علينا و الله تعالى يأبى لنا إلا أن يعلي ذكرنا و يبين فضلنا [165]
و الله ما هذا بنا و إنما هو برسول الله (ص) و قرابتنا منه حتى صار أمرنا و ما نروي عنه أنه سيكون بعدنا من أعظم آياته و دلالات نبوته .
27- حدثنا الحاكم أبو علي الحسين بن أحمد البيهقي قال حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الغلابي قال حدثنا أحمد بن عيسى بن زيد إن المأمون أمر بقتل رجل فقال استبقني فإن لي شكرا فقال و من أنت و ما شكرك فقال علي بن موسى الرضا (ع) يا أمير المؤمنين أنشدك الله تعالى أن تترفع عن شكر أحد و إن قل فإن الله تعالى أمر عباده بشكره فشكروه فعفا عنهم .
28- و قد ذكر قوم أن الفضل بن سهل أشار إلى المأمون بأن يجعل علي بن موسى الرضا (ع) ولي عهده منهم أبو علي الحسين بن أحمد السلامي فإنه ذكر ذلك في كتابه الذي صنفه في أخبار خراسان و قال كان الفضل بن سهل ذو الرئاستين وزير المأمون و مدبر أموره و كان مجوسيا فأسلم على يد يحيى بن خالد و صحبه و قيل بل أسلم سهل والد الفضل على يدي المهدي و إن الفضل اختاره يحيى بن خالد البرمكي لخدمة المأمون فضمه إليه فتغلب عليه فاستبد بالأمر دونه فإنما لقب بذو الرئاستين فإنه تقلد الوزارة و رئاسة الجند فقال الفضل حين استخلف المأمون يوما لبعض من كان يعاشره أين يقع فعلي فيما أتيته من فعال أبي مسلم فيما أتاه فقال إن أبا مسلم حولها من قبيلة إلى قبيلة و أنت حولتها من أخ إلى أخ و بين الحالتين ما تعلمه فقال الفضل بن سهل فإني أحولها من قبيلة إلى قبيلة ثم أشار إلى المأمون بأن يجعل علي بن موسى الرضا (ع) ولي عهده فبايعه و أسقط بيعة المؤتمن أخيه و كان علي بن موسى الرضا (ع) ورد على المأمون و هو بخراسان سنة مائتين على طريق البصرة و فارس مع رجاء بن أبي الضحاك و كان الرضا (ع) متزوجا بابنة المأمون فلما بلغ خبره العباسيين ببغداد ساءهم ذلك فاخرجوا إبراهيم بن المهدي و بايعوه بالخلافة ففيه يقول دعبل بن علي الخزاعي:
[166]
يا معشر الأجناد لا تقنطوا ** خذوا عطاياكم و لا تسخطوا
فسوف يعطيكم حنينية ** يلذها الأمرد و الأشمط
و المعيديات لقوادكم ** لا تدخل الكيس و لا تربطو
هكذا يرزق أصحابه ** خليقة ضجفه البربط
و ذلك ابن إبراهيم بن المهدي كان مؤلفا بضرب العود منهمكا في الشرب فلما بلغ المأمون خبر إبراهيم علم أن الفضل بن سهل أخطأ عليه و أشار بغير الصواب فخرج من مرو منصرفا إلى العراق و احتال على الفضل بن سهل حتى قتله غالب خال المأمون في حمام بسرخس مغافصة في شعبان سنة ثلاث و مائتين و احتال المأمون على علي بن موسى الرضا (ع) حتى سم في علة كانت أصابته فمات و أمر بدفنه بسناباد من طوس بجنب قبر هارون الرشيد و ذلك في صفر سنة ثلاث و مائتين و كان ابن اثنتين و خمسين سنة و قيل ابن خمس و خمسين سنة هذا ما حكاه أبو علي الحسين بن أحمد السلامي في كتابه و الصحيح عندي أن المأمون إنما ولاه العهد و بايع له للنذر الذي قد تقدم ذكره و إن الفضل بن سهل لم يزل معاديا و مبغضا له و كارها لأمره لأنه كان من صنائع آل برمك و مبلغ سن الرضا تسع و أربعون سنة و ستة أشهر و كانت وفاته في سنة ثلاث و مائتين كما قد أسندته في هذا الكتاب .
29- حدثنا أبي رضي الله عنه قال حدثنا أحمد بن إدريس قال حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري قال حدثنا معاوية بن حكيم عن معمر بن خلاد قال قال لي أبو الحسن الرضا (ع) قال لي المأمون يوما يا أبا الحسن انظر بعض من تثق به نوليه هذه البلدان التي قد فسدت علينا فقلت له تفي [167]
لي و أوافي لك فإني إنما دخلت فيما دخلت على أن لا آمر فيه و لا أنهى و لا أعزل و لا أولي و لا أشير حتى يقدمني الله قبلك فو الله إن الخلافة لشيء ما حدثت به نفسي و لقد كنت بالمدينة أتردد في طرقها على دابتي و إن أهلها و غيرهم يسألوني الحوائج فأقضيها لهم فيصيرون كالأعمام لي و إن كتبي لنافذة في الأمصار و ما زدتني من نعمة هي علي من ربي فقال له أفي لك .
30- و روي أنه قصد الفضل بن سهل مع هشام بن إبراهيم الرضا (ع) فقال له يا ابن رسول الله جئتك في سر فأخل لي المجلس فأخرج الفضل يمينا مكتوبة بالعتق و الطلاق و مالا كفارة له و قالا له إنما جئناك لنقول كلمة حق و صدق و قد علمنا أن الإمرة أمرتكم و الحق حقكم يا ابن رسول الله و الذي نقوله بألسنتنا عليه ضمائرنا و إلا ينعتق ما نملك و النساء طوالق و علي ثلاثون حجة راجلا أنا على أن نقتل المأمون و تخلص لك الأمر حتى يرجع الحق إليك فلم يسمع منهما و شتمهما و لعنهما و قال لهما كفرتما النعمة فلا تكون لكما السلامة و لا لي إن رضيت بما قلتما فلما سمع الفضل ذلك منه مع هشام علما أنهما أخطئا فقصدا المأمون بعد أن قالا للرضا (ع) أردنا بما فعلنا أن نجربك فقال لهما الرضا (ع) كذبتما فإن قلوبكما على ما أخبرتماني به إلا أنكما لم تجداني كما أردتما فلما دخلا على المأمون قالا يا أمير المؤمنين إنا قصدنا الرضا (ع) و جربناه و أردنا أن نقف ما يضمره لك فقلنا و قال فقال المأمون وفقتما فلما خرجا من عند المأمون قصده الرضا (ع) و أخليا المجلس و أعلمه ما قالا و أمره أن يحفظ نفسه منهما فلما سمع ذلك من الرضا (ع) علم أن الرضا (ع) هو الصادق .