الفصل الثانيمظاهر الانحراف في عصر الإمام الرضا (عليه السلام)نستعرض في هذا الفصل مظاهر الانحراف المختلفة في العهد العباسي وفي فترة حكومة هارون وابنه محمد حتى قتله من قبل جيش أخيه المأمون سنة (198 هـ ) وهي الفترة الواقعة بين سنة (183 هـ ) و (198 هـ )، ثم نتبعه في فصل آخر ببيان دور الإمام الرضا(عليه السلام) لمعالجة أنواع الانحراف في هذه الفترة. الانحراف الفكريلقد راجت التيارات الفكرية المنحرفة في عهد العباسيين، ووجدت لها اتباعاً وانصاراً، وكثر الجدل والمراء وانشغلت الاُمة بذلك، وهذا ان دلّ على شيء فإنّما يدل على منهج الحكّام العباسيين في الترويج لها وتشجيع القائمين عليها; لاشغال الاُمة عن الأحداث والمواقف التي يتخذونها في السياسة والاقتصاد والحياة العامة، و إبعادهم عن ما يثيرهم اتخاذ الموقف المعارض للسياسات القائمة . فعلى مستوى أصحاب الديانات نجد اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والبراهمة وهكذا الملحدين والدهرية وباقي اصناف الزنادقة كان لهم مطلق الحرية في التعبير عن أفكارهم وعقائدهم . وتعددت المذاهب الإسلامية بتعدد اربابها، وانتشرت الافكار العقلية الصرفة والفلسفية المثالية، وكثر الجدل في الجبر والتفويض والارجاء والتجسيم والتشبيه، وتحوّلت المذاهب السياسية الى مذاهب عقائدية. فالزيدية والاسماعيلية كانتا من الحركات والمذاهب السياسية التي تتبنى الجهاد المسلّح فتحوّلت الى مذاهب عقائدية وفكرية، وانتشرت الادّعاءات الباطلة والمُزيّفة ،كادّعاء النبوة، وكادّعاء أحد الأفراد انه ابراهيم الخليل. ولولا تشجيع الحكّام ومنح الحرية للتيارات والمذاهب المنحرفة لما انتشرت ولما استشرت هذه المذاهب في اوساط المسلمين . وكان الحكّام يفتعلون الآراء والنظريات أو يتبنونها لاشغال المسلمين بالجدال والنقاش وكثرة القيل والقال، وكانوا يعاقبون المخالفين لآرائهم المتبنّاة بالسجن والقتل على الرغم من عدم وجود تأثير واقعي لتلك الآراء، فقد شجّع هارون على القول بانّ القرآن قديم، وقام بقتل من يخالف رأيه. فحينما سُئِل عن رجل مقتول بين يديه أجاب : قتلته لانّه قال القرآن مخلوق[1]. وتغيَّرَ الرأي في عهد ابنه المأمون وناقض قرار والده والتزم بالقول بخلق القرآن وانه ليس قديماً ، وكان يمتحن العلماء في ذلك[2]. وكان هارون يشجّع على الروايات والاحاديث الكاذبة المنسوبة الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخصوصاً روايات واحاديث الخرافة ويعاقب كل من يعارض الترويج لهذه الروايات، ومن الامثلة على ذلك : انه دخل ابو معاوية الضرير على هارون وعنده رجل من وجوه قريش، فجرى الحديث الى ان ذكر ابو معاوية حديث ابي هريرة المنسوب الى رسول الله (صلى الله عليه وآله): «انّ موسى لقيَ آدم فقال : أنت آدم الذي اخرجتنا من الجنة»، فقال القرشي : أين لقيَ آدم موسى؟! فغضب هارون، وقال : النطع والسيف ،زنديق والله! يطعن في حديث رسول الله»، فما زال ابو معاوية يسكنه ويقول : كانت منه بادرة، ولم يفهم يا أمير المؤمنين حتى سكّنه[3]. وكان هارون يشجّع ويكرّم العلماء الذين ينسجمون مع آرائه واهوائه، في الوقت الذي كان يسجن العلماء العظام، والائمة من أهل البيت (عليهم السلام) ويحاصرهم. ومن تشجيعه في هذا المجال انه صبّ الماء على يد ابي معاوية، وقال له : اتدري من يصبّ على يديك ؟ قال : لا، قال : انا، قال ابو معاوية : انت يا أمير المؤمنين، قال : نعم اجلالاً للعلم[4]. وكان هارون يشجّع الافكار والآراء والأقوال التي تلبس حكمه لباساً مقدساً، فقد انشده أحد الشعراء اربعة أبيات لقّب فيها هارون بأمين الله، فأمر له لكل بيت بالف دينار، وقال : لو زدتنا لزدناك [5]، فانساق الشعراء وراء الأموال واخذوا يروّجون لقدسية الحكّام حتى قال احدهم مادحاً هارون : حب الخليفة حبّ لا يدين له *** عاصي الاله وشار يلقح الفتنا[6] وقال سَلْم الخاسر يمدح الامين وهارون : قد بايع الثقلان مهديَّ الهدى *** لمحمد بن زُبيدة ابنة جعفر قد وفق الله الخليفة إذ بنى***بيت الخلافة للهجان الأزهر فأعطته زبيدة جوهراً باعه بعشرين ألف دينار[7]. ومن أجل إبعاد المسلمين عن نهج أهل البيت (عليهم السلام) قام العباسيون بمحاصرة الفقهاء المؤيّدين لهم، وشجّعوا على نشوء التيارات الهدّامة، وهذا واضح من خلال عدم ملاحقتهم لاتباعها وأنصارها. فقد نشأ تيار الواقفة وتيار الغلاة، ولم يبادر العباسيون الى تطويقهما في بداية نشوئهما، سعياً منهم لتشويه منهج أهل البيت (عليهم السلام) وتفتيت كيانهم . وقام المأمون بترجمة كتب الفلسفة من اليونانية الى العربية[8] وبطبيعة الحال تؤدّي الترجمة الى انتشار الأفكار والمصطلحات المنطقية والفروض الذهنية البعيدة عن الواقع . وفي عهدهم كثر الافتاء بالرأي، وتفسير القرآن بالرأي، وراج القياس الباطل القائم على أساس قياس حكم فرعي بحكم فرعي آخر، وأصبحت الفتاوى تابعة لاهواء الحكّام وشهواتهم، فعن ابن المبارك انّه قال : لما أفضت الخلافة الى الرشيد وقعت في نفسه جارية من جواري المهدي، فراودها عن نفسها، فقالت: لا أصلح لك، إنّ اباك قد طاف بي، فشغف بها، فارسل الى أبي يوسف، فسأله : أعندك في هذا شيء ؟ فقال : يا أمير المؤمنين أو كلّما ادّعت أَمة شيئاً ينبغي أن تصدَّق؟ لا تصدّقها فإنّها ليست بمأمونة، قال ابن المبارك : فلم أدر ممن أعجب: من هذا الذي قد وضع يده في دماء المسلمين وأموالهم يتحرج عن حرمة أبيه؟! أو من هذه الأَمة التي رغبت بنفسها عن أميرالمؤمنين؟! أو من هذا فقيه الأرض وقاضيها؟! قال : اهتك حرمة ابيك، واقض شهوتك، وصيره في رقبتي[9]. وعن عبدالله بن يوسف قال : قال الرشيد لأبي يوسف : اني اشتريت جارية وأريد أن اطأها قبل الاستبراء، فهل عندك حيلة ؟ قال : نعم، تهبها لبعض ولدك، ثم تتزوّجها[10]. وهكذا اصبح الفقهاء تبعاً للحكّام يفتون بما ينسجم مع اهوائهم ورغباتهم باستثناء الفقهاء من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) ممن كانت لديهم شجاعة لمقارعة الظالمين فإنهم كانوا مطاردين وملاحقين من قبل الحكّام وأعوانهم . ونشر فقهاء البلاط مفاهيم خاطئة عن الزهد ومفاهيم التصوّف المنحرف لابعاد المسلمين عن التدخل في السياسة أو الاعتراض على مواقف الحكّام، فانتشر التصوّف وانزوى الكثير واعتزلوا الحياة، ولم يقوموا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . التلاعب بأموال المسلمينخالف العباسيون أسس النظام الاقتصادي الاسلامي التي تنصّ على أنّ الاموال هي وديعة عند الحاكم وليست ملكاً خاصاً له، وانّ انفاقها يجب ان يكون مقيداً بقيود شرعية، فكانوا يتصرّفون بالاموال حسب رغباتهم وشهواتهم، فكانوا ينفقونه لشراء الذمم من أجل تثبيت سلطانهم، وكانوا يعيشون اعلى درجات البذخ والترف، وكان للجواري والمغنيين والمتملّقين نصيبٌ كبيرٌ في بيت المال، وقد جيء الى هارون بخراج عظيم واموال طائلة من الموصل، فامر بصرف المال الى بعض جواريه، فاستعظم الناس ذلك وتحدّثوا به، فقال ابو العتاهية : ايدفع هذا المال الجليل الى امرأة، ولا تتعلق كفّي بشيء منه، ثم دخل على هارون فانشده ثلاثة ابيات، فاعطاه عشرين ألف درهم، وزاده الفضل بن الربيع خمسة الآف[11]. وأسمعه ابراهيم بن المهدي اغنية فأمر له بألف ألف درهم[12]. واشترى هارون جارية بسبعين ألف درهم، واشترى لها جوهراً باثني عشر ألف دينار، ثم حلف ألا تسأله يومه ذلك شيئاً الاّ اعطاها[13]. وفي مقابل ذلك نجد ان كثيراً من المسلمين كانوا يعيشون الفقر والحرمان، كما هو ظاهر من حوار رجلين من قريش مع هارون اذ قالا له: نهكتنا النوائب، وأجحفت بأموالنا المصائب[14]. وكان الترف والبذخ من نصيب الحكّام والمقربين لهم، من وزراء وولاة حتى بلغت اموال والي هارون على خراسان ثمانين ألف ألف[15]. وقد وصلت ملكية هارون حداً غير متصور فقد خلّف مائة ألف ألف دينار، ومن الاثاث والجوهر والورق والدواب ما قيمته مائة ألف ألف دينار، وخمسة وعشرون ألف دينار[16]. وسار اولاده على نهجه في البذخ والترف والتلاعب بأموال المسلمين، فقد بنى محمد الامين قبة اتخذ لها فراشاً مبطناً بأنواع الحرير والديباج المنسوج بالذهب الأحمر وغير ذلك من انواع الابريسم ...[17]. وفي الوقت الذي يعيش فيه المسلمون اجواء الفقر والحرمان نجد الأمين يتلاعب بالأموال دون قيود، فقد صيدت له سمكة وهي صغيرة فقرّطها حلقتين من ذهب فيهما حبتا درّ، وقيل ياقوت[18]، وكان ينفق الأموال على لهوه وعلى جلسائه والخصيان[19]. وانفق المأمون في زواجه أموالاً طائلة لا حصر لها، وأمر باعطاء خراج فارس والاهواز الى والد زوجته يجبى اليه لمدة سنة[20]، وكان بطانة والي بغداد في عهده ينهبون أموال الناس وممتلكاتهم ولا أحد يمنعهم من ذلك[21]. |
|