فقرات من كتاب العهد بخط المأمونكتب المأمون كتاب العهد بخط يده، ووضّح فيه سبب اختياره للإمام (عليه السلام)، وإليك فقرات منه : وكانت خيرته ... علي بن موسى الرضا بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، لما رأى من فضله البارع، وعلمه الذايع، وورعه الظاهر الشايع، وزهده الخالص النافع، وتخليته من الدنيا، وتفرده عن الناس، وقد استبان ما لم تزل الأخبار عليه مطبقة والألسن عليه متفقة والكلمة فيه جامعة، والأخبار واسعة ولما لم نزل نعرفه به من الفضل، يافعاً وناشئاً وحدثاً وكهلاً، فلذلك عقد بالعهد والخلافة من بعده ... ودعا أمير المؤمنين ولده وأهل بيته وخاصته، وقواده، وخدمه فبايعه الكل مطيعين مسارعين مسرورين ...[1]. فقرات مكتوبة بظهر كتاب العهد بخط الإمام (عليه السلام)كتب الإمام بخطه على ظهر كتاب العهد كتاباً جاء فيه «... انه جعل اليّ عهده والامرة الكبرى ان بقيت بعده ... وخوفاً من شتات الدين واضطراب أمر المسلمين، وحذر فرصة تنتهز وناعقة تبتدر; جعلت لله على نفسي عهداً ان استرعاني أمر المسلمين وقلدني خلافة العمل فيهم ... ان اعمل فيهم بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله)، ولا اسفك دماً حراماً، ولا أبيح فرجاً، ولا مالاً الاّ ما سفكته حدوده، وأباحته فرائضه، وأن اُتخير الكفاة جهدي وطاقتي ... وإن أحدثت أو غيّرت أو بدّلت كنت للعزل مستحقاً، وللنكال متعرّضاً ... وما أدري ما يفعل بي وبكم، إن الحكم إلاّ لله، يقصّ الحق وهو خير الفاصلين ...»[2]. فقد وضّح الإمام (عليه السلام) للامة المنهج السياسي للحاكم الإسلامي، ودوره في تطبيق احكام الشريعة، واسباب عزله وغير ذلك من المفاهيم السياسية، وكان الكتابان قد كتبا في السابع من شهر رمضان سنة (201 هـ ). أوامر المأمون بعد البيعةأمر المأمون بطرح السواد وهو شعار العباسيين، واستبداله بالخضرة، وأمر الجميع بذلك وبالبيعة للامام (عليه السلام) وكتب الى الامصار بذلك، وضرب الدراهم باسم الإمام، فلما وصل كتابه الى بغداد أجابه البعض وامتنع البعض الآخر [3]. وقام المأمون بسجن ثلاثة من قواده لرفضهم البيعة [4]. وتمرّد العباسيون على المأمون رافضين للبيعة وبايعوا لابراهيم بن المهدي في بغداد [5]. وتمرّدوا في الكوفة وكان شعارهم يا ابراهيم يا منصور لا طاعة للمأمون[6]. ولم يستطيعوا الاستمرار في التمرّد، فقد اطاعت جميع الامصار المأمون، وبايعت للامام بولاية العهد، وكان الدعاء للامام (عليه السلام) بالصورة التالية : «ولي عهد المسلمين علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن علي عليهم السلام . ستـة آبـاءهم مـا هم*** أفضل من يشرب صوب الغمام»[7] أحداث مابعد البيعةبحلول العيد أي بعد ثلاثة وعشرين يوماً من كتابة العهد بعث المأمون الى الإمام (عليه السلام) يسأله أن يصلي بالناس صلاة العيد ويخطب ليطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضله، وتقرّ قلوبهم على هذه الدولة، فبعث اليه الإمام (عليه السلام) بالقول : «قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخولي في هذا الأمر»، فقال المأمون : انما اريد بهذا ان يرسخ في قلوب العامة والجند والشاكرية هذا الأمر، فتطمئن قلوبهم، ويقرّوا بما فضّلك الله به. فلم يزل يرادّه الكلام في ذلك، فلما الحّ عليه، قال : «... إن أعفيتني من ذلك فهو أحبُّ اليّ، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)»، فقال المأمون : اخرج كما تحب . وأمر المأمون القوّاد والناس فقعدوا عند باب الإمام (عليه السلام) وفي الطرقات والسطوح، فلما طلعت الشمس، خرج الإمام متعمّماً بعمامة بيضاء والقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفه، ورفع ثوبه وهو حاف، ومعه مواليه على نفس الحالة، ثم رفع رأسه الى السماء، وكبّر اربع تكبيرات، وقال : «الله اكبر الله اكبر الله اكبر على ما هدانا، الله اكبر على ما رزقنا ...» ورفع صوته فأجهش الناس بالبكاء والعويل، ونزل القوّاد عن دوابهم وترجّلوا، وضجّت مرو ضجّة واحدة، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجيج، وكان الإمام (عليه السلام) يمشي ويقف في كل عشر خطوات وقفة، ولما سمع المأمون بذلك، قال له الفضل بن سهل : يا أمير المؤمنين ان بلغ الرضا المصلّى على هذا السبيل افتتن به الناس، فالرأي أن تسأله أن يرجع، فبعث اليه وسأله الرجوع، فدعا الإمام (عليه السلام) بخفّه فلبسه ورجع [8]. واستطاع الإمام (عليه السلام) بفعله هذا ان يعيد سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في صلاة العيد، بعد ان اندثرت معالمها لعدم اهتمام الحكّام والولاة بها، واستطاع الإمام (عليه السلام) أن يدخل الى قلوب الناس، في هذا العمل الآني، فقد تأثر به الجميع بما فيهم قوّاد المأمون . مكتسبات القبول بولاية العهدان الموقف الذي يتخذه الإمام (عليه السلام) لابد من اشتماله على مصلحة ذات عائد مقبول للإسلام والمسلمين ولاتباع أهل البيت (عليهم السلام)، وقد حصل الإمام(عليه السلام) على مكتسبات عديدة بعد اضطراره للقبول بولاية العهد، ولولا قبوله لما تحققت تلك المكتسبات، ومن هذه المكتسبات : أوّلاً : اعتراف المأمون بأحقيّة أهل البيت (عليهم السلام) قام الاُمويون ومن بعدهم العباسيون بمحاولة طمس فضائل أهل البيت (عليهم السلام) والتقليل من شأنهم، واستخدموا جيمع طاقاتهم للحد من ذلك، تحت الترغيب والترهيب، ولكنّ الوضع تغيّر بعد قبول الإمام (عليه السلام) بولاية العهد، فقد قام المأمون بتوضيح هذه الفضائل، وتوضيح مظلومية أهل البيت (عليهم السلام) من قبل الحكّام السابقين . فقد أجاب المأمون على كتاب كتبه له بنو هاشم، وضّح فيه تلك الحقائق إذ جاء فيه : «... فلم يقم مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحد من المهاجرين كقيام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فإنه آزره ووقاه بنفسه ... وهو صاحب الولاية في حديث غدير خم، وصاحب قوله : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي ...» وكان احب الخلق الى الله تعالى والى رسوله، وصاحب الباب، فتح له وسدّ ابواب المسجد، وهو صاحب الراية يوم خيبر، وصاحب عمرو بن عبد ود في المبارزة، وأخو رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين آخى بين المسلمين». ثم وضّح في الكتاب نفسه مظلومية أهل البيت (عليهم السلام) معترفاً بجرائم العباسيين بحقهم فقال : «... ثم نحن وهم يد واحدة كما زعمتم، حتى قضى الله تعالى بالأمر إلينا، فأخفناهم، وضيّقنا عليهم، وقتلناهم اكثر من قتل بني أميّة اياهم»[9]. وفي موضع آخر احتجّ المأمون على الفقهاء بفضائل الإمام علي (عليه السلام) وأحقيّته بالخلافة، فما كان من الفقهاء الاّ تأييد ما قاله، فقال يحيى بن أكثم القاضي : يا أمير المؤمنين قد أوضحت الحق لمن اراد الله به الخير، وأثبت ما يقدر أحد أن يدفعه، واتّبعه الفقهاء بالقول : كلنا نقول بقول أمير المؤمنين أعزه الله[10]. وكان المأمون يتحدّث عن فضائل أهل البيت (عليهم السلام) في اغلب جلساته، وهذا يعني تشجيعاً للولاة والامراء ليتحدّثوا عن أهل البيت (عليهم السلام) بمثل ما تحدّث به، وتشجيع لأنصار أهل البيت (عليهم السلام) في ذكر فضائلهم بحرية تامّة، وهذا ما يزيد من توسّع القاعدة الشعبية الموالية لاهل البيت فكراً وعاطفة وسلوكاً . واعترف المأمون أيضاً بأفضلية الإمام الرضا (عليه السلام) وأحقيته بالخلافة وأخبر خواصه بأنّه : نظر في ولد العباس وولد عليّ رضي الله عنهم، فلم يجد في وقته أحداً أفضل ولا احق بالأمر من علي بن موسى الرضا[11]. ثانياً : توظيف وسائل الإعلام لصالح الإمام (عليه السلام) وظّف المأمون وسائل الاعلام لصالح الإمام (عليه السلام) فأصبح من اكثر الناس شيوعاً صيتهُ، وتحققت معرفة المسلمين وغير المسلمين به، فالولاة والاُمراء وأئمة الجمعة، يدعون له من على المنابر كل يوم وكل جمعة وكل مناسبة، اضافة الى طبع اسمه على الدارهم والدنانير المعمول بها في جميع الامصار، ووجد الخطباء والشعراء الفرصة مناسبة للترويج لشخصية الإمام(عليه السلام) وآبائه واجداده، فكثرت الخطب والاشعار المادحة له، والذاكرة لفضائله وفضائل أهل بيته، وانتشرت في جميع الامصار، وهذا إن دل على شيء فإنما يدلّ على تعميق الارتباط بالإمام (عليه السلام) وتبنّي أفكاره وآرائه المطابقة للمنهج الاسلامي السليم، ولولا قبوله بولاية العهد لما كان ذلك بالصورة الأوسع والأمثل، مادامت وسائل الاعلام الرسمية موجودة في جميع الأمصار، دون الحاجة الى بث الدعاة لمنهجه ومنهج أهل بيته (عليهم السلام) . وقد كان المأمون سبّاقاً لغيره في نظم الشعر، ومما جاء في شعره، بعد ولاية العهد : أُلام على حب الوصيّ أبي الحسن*** وذلك عندي من عجائب ذي الزمن خليفة خير الناس والأوّل الذي *** أعان رسول الله في السر والعلن وقال أيضاً: لا تقبل التوبة من تائب*** إلاّ بحب ابن أبي طالب أخو رسول الله حلف الهدى *** والأخ فوق الخل والصاحب[12] وهذا الشعر وغيره من مدائح المأمون لأهل البيت (عليهم السلام) قد أثمر فيما بعد، حتى انه بعد استشهاد الإمام (عليه السلام) بثمان سنين أي في سنة (211 هـ ) أمر المأمون أن ينادى : «برئت الذمة ممّن يذكر معاوية بخير، وأن أفضل الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب»[13] . |
|