الإمام جعفر الصادق

ومع أن الحرب الكلامية والافتراءات الموجهة للرواة كانت ضروسا فقد وثق الأئمة الفقهاء والمحدثون- أعظم التوثيق - الإمام جعفر الصادق . وشرفوا بالرواية عنه. ووقفت المذاهب الأربعة موقف الإجلال له. فكان ذلك إعلانا من أهل العلم أن أئمة أهل البيت للجميع لا للشيعة وحدهم. وأن الحديث متى ثبت عنهم هو حديث جدهم صلى الله عليه وسلم:
كان يوسف بن أبي يوسف يروي عن أبيه عن أبي حنيفة عن «جعفر بن محمد» عن سعيد بن جبير عن ابن عمر حديث رسول الله. وفي الوقت ذاته يروي عن أبيه عن أبي حنيفة عن اسحاق بن ثابت عن أبيه عن علي بن الحسين حديث رسول الله، مع أن علي بن الحسين (زين العابدين) لم ير جده - واللقاء من شروط البخاري - ويروي يوسف عن أبيه عن أبي حنيفة عن «جعفر بن محمد» حديث رسول الله - مع أن الصادق حفيد زين العابدين - فهذا أبوحنيفة ومن روى عنهم - كمثل مالك وغيره - يروون عن أئمة أهل البيت، ويأخذون بحديثهم عن رسول الله، مع أنهم لم يلقوه أو لم يكن بينهم وبين الرسول صحابي.
والكتب التي يقوم عليها الفقه الشيعي تروى كلها عن الإمام جعفر الصادق أو الأئمة المعصومين. يستوي في ذلك الكتب الأربعة الشهيرة وغيرها.
في هذه الأضواء نستطيع أن نفهم انقسام العلم بانقسام مصادره. وانحسار هذا البحر من بحاره عن الجمهور، باقتصاره على الشيعة. ولا جرم كانت فيه كفاية لإنتاج دق الفقه وجله، بما فيه عن غزارة، وباعتماده على النقل والعقل معاً. وبإقبال الشيعة - شأن الأقليات جميعها - على تعميق علومها، وتقوية شعوبها. وساعدهم انفتاح الفكر واجتهاد الرأي في تطهير وسطهم العلمي والاجتماعي ممن ينتسبون، أو ينسبهم الخصوم، إليهم، من الغلاة في علي بن أبي طالب(1). ثم تمييز علمهم من علم المخالفين الذين يتولون غير الإمام جعفر


(1) كان وجود غلاة في الشيعة فرصة للمغرضين، إذ نسبوا عمل الغلاة إلى الشيعة كلهم. فأحدثوا بذلك أثراً كاذباً في أفهام الآخرين، بدعاوى هم منها براء، مثل أن الإمام هو الله ظهورا واتحادا . وهو غلو يبلغ الكفر.وأكثر المنسوبين للشيعة غلوا أتباع ابن سبأ وأبي الخطاب الأسدي الذين يؤلهون عليا والأئمة. وهؤلاء ليسوا مسلمين.
ولقد حرق علي النار من ألهوه وتبرأ الصادق من أبي الخطاب الأسدي. وقتله جند أبي جعفر.
وكان ابن سبأ يهوديا من صنعاء أسلم وانطلق إلى الحجاز والبصرة والشام ومصر. والمؤرخون الأولون كالطبري(210) والمؤرخان الشيعيان ابو خلف القمي(301) والنوبختي(310) يؤكدون وجوده، في حين يشكك في وجوده آخرون ممن جاءوا بعد ذلك.
كان ابن سبأ يحرض أبناء العشائر ضد عثمان. قائلا إن لعلي مكانا فوق الصحابة بل فوق سائر الخلق. ولما قتل علي قال انه سيرجع. وقد نفاه علي إلى المدائن إذ كان يقول له (أنت أنت) ثم صار يقول (عجبا من الذين يكذبون رجوع محمد في حين إن عيسى يرجع) ويقول ان محمد خاتم النبيين وعليا خاتم الأوصياء. ويقول ان عثمان ولي الخلافة بغير حق.
وقال البعض إن ابن سبأ دفع أبا ذر ليقول ما قال لعثمان. ولا شك أن ابن سبأ أقل من أن يرتفع إلى مستوى تحريض أبي ذر. وأن نسبة أثار ضخمة جداً لأراجيف ابن سبأ في محيط صغير جداً وزمان قصير جداً - ليس إلا وجه من تعليق الأوزار، التي ارتكبتها أجيال أفرخت فيها الفتن، على عاتق رجل لا قيمة له. والكثيرون من المؤرخين على أن ابن سبأ لم يلق أبا ذر.
وتعليق الأوزار هروب. وهو عيب قديم في المجتمعات التي تفقد صدق الرؤية، فتبرئ نفسها - ظلما - من عيوبها، فتلقيها على الآخرين. وهو أيا كانت الحال غلو في تضخيم شأن ابن سبأ وأشباهه لتبغيض الشيعة إلى الآخرين. ولقد طالما أحدث هذا التبغيض من قوم لا يعلمون الحقائق آثاره في نفس قوم مخلصين. وفي ظلمات هذه الجهالات يتوارث المسلمون فرقة يفرضها عليهم من يفيدون لأنفسهم ومن يجهلون.

اللاحق   السابق   فهرست الكتاب   كتب متفرقة