الإمام جعفر الصادق

وهذا المنهج « الواقعي » القائم على النزاهة الفكرية والحرية العقلية هو الآن منهج عالمي، يدين به الجميع للقرآن وأصول الفكر الإسلامي على ما سنرى بعد(1) ففي حين استخلص علماء العالم القديم من اليونان
« نظريات » عمموها ليخضعوا لها نتائج الاستنباط، وفرضت سيادة الفكر الارستطاليسي على العقل في أوربة منطق النظريات والعمومات، وقاومت الكنيسة في تاريخها القديم حرية التفكير، نرى القرآن ينبه « العقل » على الاعتبار بالمحسوس التي يتمثل في « الواقع » وأن يرفض الاستسلام للعمومات التي تحكم مقدما أي أمر واقع. ويرشد الإنسان إلى استعمال فكره « بحرية » من أي قيد.
بل نرى الإمام الصادق يعتبر « التقليد » مذلة عقلية « واستعباداً للنفس »، ويحاجج في ذلك حجاج القرآن، ويفسره تفسيره الرائع.
عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه الصادق في معنى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه) قال (أما واللّه ما دعوهم إلى عبادة، ولو دعوهم ما أجابوهم. ولكن أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا. فعبدوهم من حيث لا يشعرون). وفي تعبير آخر يقول: عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه الصادق: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه قال (واللّه ما صاموا لهم ولا صلوا. لكن أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا فاتبعوهم). فالاتباع دون فهم، في الحلال والحرام، أو غيرهما، ترك لزمام النفس في قبضة


(1) والارتباط بين فروع المعرفة أحد «الأساسيات» العلمية، وهي جميعا تستعمل الطريقة التجريبية وتلتزم حقائق الحياة الواقعة وقوانين الكون التي لا تتخلف ولا تدع مجالا للفراغ أو المجازفة أو الصدفة. وكل شيء بمقدار. وكل أمر موزون - في الإنسان والحيوان والنبات والجماد. وفيما بينها. وفي العلوم الطبيعية والرياضية وفي العلوم الاجتماعية والإنسانية. والعلميون يستعملون مقولات: الوحدة والتفاضل والتكامل. واطراد العلل والنتائج. والآخرون يستعملون مقولات الوحدة، والتناسب والتناسق، والتزاوج والانسجام، في الأشياء والأشكال والألوان والأحجام. ويستوى في ذلك الذين يلتزمون بالدين أو الذي يلتزمون بإنكاره.
ومن الموضوعية « سلطان الإرادة » الإنسانية في التعاقد، أي حريتها، مع تقيدها بالقانون الذي يجتمع عليه الناس. وهذا مظهر الحرية الشخصية والفكرية التي أتاحها اللّه لعباده وأمرهم أن يستعملوها لأنها وسيلة للحياة الكريمة وللتقدم. وهو معلم من معالم السبق التشريعي الإسلامي.

اللاحق   السابق   فهرست الكتاب   كتب متفرقة