back page fehrest page next page

ما في الأعضاء من المآرب الأخرى

قد أنبأتك بما في الأعضاء من الغناء في صنعة الكلام و إقامة الحروف و فيها مع الذي ذكرت لك مآرب أخرى فالحنجرة ليسلك فيها هذا النسيم إلى الرئة فتروح على الفؤاد بالنفس الدائم المتتابع الذي لو حبس شيئا يسيرا لهلك الإنسان و باللسان تذاق الطعوم فيميز بينها و يعرف كل واحد منها حلوها من مرها و حامضها من مرها و مالحها من عذبها و طيبها من خبيثها و فيه مع ذلك معونة على إساغة الطعام و الشراب و الأسنان لمضغ الطعام حتى يلين و تسهل إساغته و هي مع ذلك كالسند للشفتين تمسكهما و تدعمهما من داخل الفم و اعتبر ذلك فإنك ترى من سقطت أسنانه مسترخي الشفة و مضطربها و بالشفتين يترشف الشراب حتى

[64]

يكون الذي يصل إلى الجوف منه بقصد و قدر لا يثج ثجا فيغص به الشارب أو ينكي في الجوف ثم همى بعد ذلك كالباب المطبق على الفم يفتحها الإنسان إذا شاء و يطبقها إذا شاء و فيما وصفنا من هذا بيان أن كل واحد من هذه الأعضاء يتصرف و ينقسم إلى وجوه من المنافع كما تتصرف الأداة الواحدة في أعمال شتى و ذلك كالفأس تستعمل في النجارة و الحفر و غيرهما من الأعمال .

الدماغ و أغشيته و الجمجمة و فائدتها

و لو رأيت الدماغ إذا كشف عنه لرأيته قد لف بحجب بعضها فوق بعض لتصونه من الأعراض و تمسكه فلا يضطرب و لرأيت عليه الجمجمة بمنزلة البيضة كيما تقيه هد الصدمة و الصكة التي ربما وقعت في الرأس ثم قد جللت الجمجمة بالشعر حتى صارت بمنزلة الفرو للرأس يستره من شدة الحر و البرد فمن حصن الدماغ هذا التحصين إلا الذي خلقه و جعله ينبوع الحس و المستحق للحيطة و الصيانة بعلو منزلته من البدن و ارتفاع درجته و خطير مرتبته .

[65]

الجفن و أشفاره

تأمل يا مفضل الجفن على العين كيف جعل كالغشاء و الأشفار كالأشراح و أولجها في هذا الغار و أظلها بالحجاب و ما عليه من الشعر .

الفؤاد و مدرعته

يا مفضل من غيب الفؤاد في جوف الصدر و كساه المدرعة التي غشاؤه و حصنه بالجوانح و ما عليها من اللحم و العصب لئلا يصل إليه ما ينكيه .

الحلق و المري‏ء

من جعل في الحلق منفذين أحدهما لمخرج الصوت و هو الحلقوم

[66]

المتصل بالرئة و الآخر منفذا للغذاء و هو المري‏ء المتصل بالمعدة الموصل الغذاء إليها و جعل على الحلقوم طبقا يمنع الطعام أن يصل إلى الرئة فيقتل .

الرئة و عملها أشراج منافذ البول و الغائط

من جعل الرئة مروحة الفؤاد لا تفتر و لا تختل لكيلا تتحير الحرارة في الفؤاد فتؤدي إلى التلف . من جعل لمنافذ البول و الغائط أشراجا تضبطهما لئلا يجريا جريانا دائما فيفسد على الإنسان عيشه فكم عسى أن يحصي المحصي من هذا بل الذي لا يحصى منه و لا يعلمه الناس أكثر .

المعدة عصبانية و الكبد

من جعل المعدة عصبانية شديدة و قدرها لهضم الطعام الغليظ . و من جعل الكبد رقيقة ناعمة لقبول الصفو اللطيف من الغذاء و لتهضم

[67]

و تعمل ما هو ألطف من عمل المعدة إلا الله القادر . أ ترى الإهمال يأتي بشي‏ء من ذلك ? كلا . بل هو تدبير مدبر حكيم قادر عليم بالأشياء قبل خلقه إياها لا يعجزه شي‏ء و هو اللطيف الخبير .

المخ و الدم و الأظفار و الأذن و لحم الأليتين و الفخذين

فكر يا مفضل ، لم صار المخ الرقيق محصنا في أنابيب العظام هل ذلك إلا ليحفظه و يصونه . لم صار الدم السائل محصورا في العروق بمنزلة الماء في الظروف إلا لتضبطه فلا يفيض . لم صارت الأظفار على أطراف الأصابع إلا وقاية لها و معونة على العمل . لم صار داخل الأذن ملتويا كهيأه اللولب إلا ليطرد فيه الصوت حتى ينتهي إلى السمع ، و ليكسر حمة الريح فلا ينكي في السمع . لم حمل الإنسان على فخذيه و أليتيه هذا اللحم إلا ليقيه من الأرض فلا يتألم من الجلوس عليها كما يألم من نحل جسمه و قل لحمه إذا لم يكن بينه و بين الأرض حائل يقيه صلابتها .

الإنسان ذكر و أنثى و تناسله و آلات العمل و حاجته و حيلته و إلزامه بالحجة

من جعل الإنسان ذكرا و أنثى إلا من خلقه متناسلا و من خلقه

[68]

متناسلا إلا من خلقه مؤملا ، و من أعطاه آلات العمل إلا من خلقه عاملا ، و من خلقه عاملا إلا من جعله محتاجا ، و من جعله محتاجا إلا من ضربه بالحاجة ، و من ضربه بالحاجة إلا من توكل بتقويمه ، و من خصه بالفهم إلا من أوجب الجزاء ، و من وهب له الحيلة إلا من ملكه الحول ، و من ملكه الحول إلا من ألزمه الحجة ، من يكفيه ما لا تبلغه حيلته إلا من لم يبلغ مدى شكره . فكر و تدبر ما وصفته ، هل تجد الإهمال يأتي على مثل هذا النظام و الترتيب ، تبارك الله تعالى عما يصفون .

الفؤاد و ثقبه المتصلة بالرئة

أصف لك الآن يا مفضل الفؤاد ، اعلم أن فيه ثقبا موجهة نحو الثقب التي في الرئة ، تروح عن الفؤاد حتى لو اختلفت تلك الثقب ، و تزايل بعضها عن بعض ، لما وصل الروح إلى الفؤاد ، و لهلك الإنسان ، أ فيستجيز ذو فكرة و روية أن يزعم أن مثل هذا يكون بالإهمال ، و لا يجد شاهدا من نفسه يزعه عن هذا القول ، لو رأيت فردا من مصراعين فيه

[69]

كلوب أ كنت تتوهم أنه جعل كذلك بلا معنى ، بل كنت تعلم ضرورة أنه مصنوع يلقى فردا آخر فيبرزه ليكون في اجتماعهما ضرب من المصلحة ، و هكذا تجد الذكر من الحيوان كأنه فرد من زوج مهيأ من فرد أنثى فيلتقيان لما فيه من دوام النسل و بقائه . فتباً و خيبة و تعسا لمنتحلي الفلسفة ، كيف عميت قلوبهم عن هذه الخلقة العجيبة حتى أنكروا التدبير و العمد فيها .

فرج الرجل و الحكمة فيه

لو كان فرج الرجل مسترخيا ، كيف كان يصل إلى قعر الرحم ، حتى يفرغ النطفة فيه ، و لو كان منعضا أبدا ، كيف كان الرجل يتقلب في الفراش ، أو يمشي بين الناس و شي‏ء شاخص أمامه ، ثم يكون في ذلك مع قبح المنظر تحريك الشهوة في كل وقت من الرجال و النساء جميعا ، فقدر الله جل اسمه أن يكون أكثر ذلك لا يبدو للبصر في كل وقت و لا يكون على الرجال منه مؤنة ، بل جعل فيه قوة الانتصاب وقت الحاجة إلى ذلك ، لما قدّر أن يكون فيه من دوام النسل و بقائه .

[70]

منفذ الغائط و وصفه

اعتبر الآن يا مفضل بعظم النعمة على الإنسان في مطعمه و مشربه و تسهيل خروج الأذى أ ليس من حسن التقدير في بناء الدار أن يكون الخلاء في أستر موضع منها فكذا جعل الله سبحانه المنفذ المهيأ للخلاء من الإنسان في أستر موضع منه فلم يجعله بارزا من خلفه و لا ناشزا من بين يديه بل هو مغيب في موضع غامض من البدن مستور محجوب يلتقي عليه الفخذان و تحجبه الأليتان بما عليهما من اللحم فتواريانه فإذا احتاج الإنسان إلى الخلاء و جلس تلك الجلسة ألفى ذلك المنفذ منه منصبا مهيأ لانحدار الثفل فتبارك من تظاهرت آلاؤه و لا تحصى نعماؤه .

الطواحن من أسنان الإنسان

فكر يا مفضل في هذه الطواحن التي جعلت للإنسان فبعضها حداد لقطع الطعام و قرضه و بعضها عراض لمضغه و رضه فلم ينقص واحد من الصفتين إذ كان محتاجا إليهما جميعا .

[71]

الشعر و الأظفار و فائدة قصهما

تأمل و اعتبر بحسن التدبير في خلق الشعر و الأظفار فإنهما لما كانا مما يطول و يكثر حتى يحتاج إلى تخفيفه أولا فأولا جعلا عديما الحس لئلا يؤلم الإنسان الأخذ منهما و لو كان قص الشعر و تقليم الأظفار مما يوجد له ألم وقع من ذلك بين مكروهين إما أن يدع كل واحد منهما حتى يطول فيثقل عليه و إما أن يخففه بوجع و ألم يتألم منه قال المفضل فقلت فلم لم يجعل ذلك خلقة لا تزيد فيحتاج الإنسان إلى النقصان منه فقال (عليه السلام) إن لله تبارك اسمه في ذلك على العبد نعما لا يعرفها فيحمده عليها اعلم أن آلام البدن و أدواءه تخرج بخروج الشعر في مسامه و بخروج الأظفار من أناملها و لذلك أمر الإنسان بالنورة و حلق الرأس و قص الأظفار في كل أسبوع ليسرع الشعر و الأظفار في النبات فتخرج الآلام و الأدواء بخروجهما و إذا طالا تحيرا و قل خروجهما فاحتبست الآلام و الأدواء في البدن

[72]

فأحدثت عللا و أوجاعا و منع مع ذلك الشعر من المواضع التي تضر بالإنسان و تحدث عليه الفساد و الضر لو نبت الشعر في العين أ لم يكن سيعمى البصر و لو نبت في الفم أ لم يكن سينغص على الإنسان طعامه و شرابه و لو نبت في باطن الكف أ لم يكن سيعوقه عن صحة اللمس و بعض الأعمال و لو نبت في فرج المرأة و على ذكر الرجل أ لم يكن سيفسد عليهما لذة الجماع فانظر كيف تنكب الشعر عن هذه المواضع لما في ذلك من المصلحة ثم ليس هذا في الإنسان فقط بل تجده في البهائم و السباع و سائر المتناسلات فإنك ترى أجسامها مجللة بالشعر و ترى هذه المواضع خالية منه لهذا السبب بعينه فتأمل الخلقة كيف تتحرز وجوه الخطإ و المضرة و تأتي بالصواب و المنفعة .

شعر الركب و الإبطين

إن المنانية و أشباههم حين أجهدوا في عيب الخلقة و العمد عابوا الشعر النابت على الركب و الإبطين و لم يعلموا أن ذلك من رطوبة تنصب إلى هذه المواضع فينبت فيها الشعر كما ينبت العشب في مستنفع المياه أ فلا ترى إلى هذه المواضع أستر و أهيأ لقبول تلك الفضلة من غيرها

[73]

ثم إن هذه تعد مما يحمل الإنسان من مؤنة هذا البدن و تكاليفه لما له في ذلك من المصلحة فإن اهتمامه بتنظيف بدنه و أخذ ما يعلوه من الشعر مما يكسر به شرته و يكف عاديته و يشغله عن بعض ما يخرجه إليه الفراغ من الأشر و البطالة .

الريق و ما فيه من المنفعة

تأمل الريق و ما فيه من المنفعة فإنه جعل يجري جريانا دائما إلى الفم ليبل الحلق و اللهوات فلا يجف فإن هذه المواضع لو جعلت كذلك كان فيه هلاك الأسنان ثم كان لا يستطيع أن يسيغ طعاما إذا لم يكن في الفم بلة تنفذه تشهد بذلك المشاهدة و اعلم أن الرطوبة مطية الغذاء و قد تجري من هذه البله إلى مواضع أخر من المرة فيكون في ذلك صلاح تام للإنسان و لو يبست المرة لهلك الإنسان .

محاذير كون بطن الإنسان كهيئة القباء

و لقد قال قوم من جهلة المتكلمين و ضعفة المتفلسفين بقلة التمييز

[74]

و قصور العلم لو كان بطن الإنسان كهيئة القباء يفتحه الطبيب إذا شاء فيعاين ما فيه و يدخل يده فيعالج ما أراد علاجه أ لم يكن أصلح من أن يكون مصمتا محجوبا عن البصر و اليد لا يعرف ما فيه إلا بدلالات غامضة كمثل النظر إلى البول و جس العرق و ما أشبه ذلك مما يكثر فيه الغلط و الشبهة حتى ربما كان ذلك سببا للموت فلو علم هؤلاء الجهلة أن هذا لو كان هكذا كان أول ما فيه أن كان يسقط عن الإنسان الوجل من الأمراض و الموت و كان يستشعر البقاء و يغتر بالسلامة فيخرجه ذلك إلى العتو و الأشر ثم كانت الرطوبات التي في البطن تترشح و تتحلب فيفسد على الإنسان مقعده و مرقده و ثياب بدلته و زينته بل كان يفسد عليه عيشه ثم إن المعدة و الكبد و الفؤاد إنما تفعل أفعالها بالحرارة الغريزية التي جعلها الله محتبسة في الجوف فلو كان في البطن فرج ينفتح حتى يصل البصر إلى رؤيته و اليد إلى علاجه لوصل برد الهواء إلى الجوف فمازج الحرارة الغريزية و بطل عمل الأحشاء فكان في ذلك هلاك الإنسان أ فلا ترى أن كلما تذهب إليه الأوهام سوى ما جاءت به الخلقة خطأ و خطل .

[75]

أفعال الإنسان في الطعم و النوم و الجماع و شرح ذلك

فكر يا مفضل في الأفعال التي جعلت في الإنسان من الطعم و النوم و الجماع و ما دبر فيها فإنه جعل لكل واحد منها في الطباع نفسه محرك يقتضيه و يستحث به فالجوع يقتضي الطعم الذي فيه راحة البدن و قوامه و الكرى يقتضي النوم الذي فيه راحة البدن و إجمام قواه و الشبق يقتضي الجماع الذي فيه دوام النسل و بقاؤه و لو كان الإنسان إنما يصير إلى أكل الطعام لمعرفته بحاجة بدنه إليه و لم يجد من طباعه شيئا يضطره إلى ذلك كان خليقا أن يتوانى عنه أحيانا بالثقل و الكسل حتى ينحل بدنه فيهلك كما يحتاج الواحد إلى الدواء لشي‏ء مما يصلح به بدنه فيدافع به حتى يؤديه ذلك إلى المرض و الموت و كذلك لو كان إنما يصير إلى النوم بالفكر في حاجته إلى راحة البدن و إجمام قواه كان عسى أن يتثاقل عن ذلك فيدفعه حتى ينهك بدنه و لو كان إنما يتحرك للجماع بالرغبة في الولد كان غير بعيد أن يفتر عنه حتى يقل النسل أو ينقطع فإن من الناس من لا يرغب في الولد و لا يحفل به

[76]

فانظر كيف جعل لكل واحد من هذه الأفعال التي بها قوام الإنسان و صلاحه محركا من نفس الطبع يحركه لذلك و يحدوه عليه و اعلم أن في الإنسان قوى أربعا قوة جاذبة تقبل الغذاء و تورده على المعدة و قوة ماسكة تحبس الطعام حتى تفعل فيه الطبيعة فعلها و قوة هاضمة و هي التي تطبخه و تستخرج صفوه و تبثه في البدن و قوة دافعة تدفعه و تحدر الثفل الفاضل بعد أخذ الهاضمة حاجتها ففكر في تقدير هذه القوى الأربع التي في البدن و أفعالها و تقديرها للحاجة إليها و الأرب فيها و ما في ذلك من التدبير و الحكمة فلو لا الجاذبة كيف كان يتحرك الإنسان لطلب الغذاء الذي به قوام البدن و لو لا الماسكة كيف كان يلبث الطعام في الجوف حتى تهضمه المعدة و لو لا الهاضمة كيف كان ينطبخ حتى يخلص منه الصفو الذي يغذو البدن و يسد خلله و لو لا الدافعة كيف كان الثفل الذي تخلفه الهاضمة يندفع و يخرج أولا فأولا أ فلا ترى كيف وكل الله سبحانه بلطف صنعه و حسن تقديره هذه القوى بالبدن و القيام بما فيه صلاحه و سأمثل لك في ذلك مثالا إن البدن بمنزلة دار الملك له فيها حشم و صبية

[77]

و قوام موكلون بالدار فواحد لقضاء حوائج الحشم و إيرادها عليهم و آخر لقبض ما يرد و خزنة إلى أن يعالج و يهيأ و آخر لعلاج ذلك و تهيئته و تفريقه و آخر لتنظيف ما في الدار من الأقذار و إخراجه منها فالملك في هذا هو الخلاق الحكيم ملك العالمين و الدار هي البدن و الحشم هم الأعضاء و القوام هم هذه القوى الأربع و لعلك ترى ذكرنا هذه القوى الأربع و أفعالها بعد الذي وصفت فضلا و تزدادا و ليس ما ذكرته من هذه القوى على الجهة التي ذكرت في كتب الأطباء و لا قولنا فيه كقولهم لأنهم ذكروها على ما يحتاج إليه في صناعة الطب و تصحيح الأبدان و ذكرناها على ما يحتاج في صلاح الدين و شفاء النفوس من الغي كالذي أوضحته بالوصف الشافي و المثل المضروب من التدبير و الحكمة فيها .

قوى النفس و موقعها من الإنسان

تأمل يا مفضل هذه القوى التي في النفس و موقعها من الإنسان

[78]

أعني الفكر و الوهم و العقل و الحفظ و غير ذلك أ فرأيت لو نقص الإنسان من هذه الخلال الحفظ وحده كيف كانت تكون حاله و كم من خلل كان يدخل عليه في أموره و معاشه و تجاربه إذا لم يحفظ ما له و ما عليه و ما أخذه و ما أعطى و ما رأى و ما سمع و ما قال و ما قيل له و لم يذكر من أحسن إليه ممن أساء به و ما نفعه مما ضره ثم كان لا يهتدي لطريق لو سلكه ما لا يحصى و لا يحفظ علما و لو درسه عمره و لا يعتقد دينا و لا ينتفع بتجربة و لا يستطيع أن يعتبر شيئا على ما مضى بل كان حقيقا أن ينسلخ من الإنسانية .

النعمة على الإنسان في الحفظ و النسيان

فانظر إلى النعمة على الإنسان في هذه الخلال و كيف موقع الواحدة منها دون الجميع و أعظم من النعمة على الإنسان في الحفظ النعمة في النسيان فإنه لو لا النسيان لما سلا أحد عن مصيبة و لا انقضت له حسرة و لا مات له حقد و لا استمتع بشي‏ء من متاع الدنيا مع تذكر الآفات و لا رجاء غفلة من سلطان و لا فترة من حاسد أ فلا ترى كيف جعل في الإنسان الحفظ و النسيان و هما مختلفان متضادان و جعل له في كل منهما ضربا من المصلحة و ما عسى أن يقول الذين قسموا الأشياء بين خالقين متضادين في هذه الأشياء المتضادة المتباينة و قد تراها تجتمع على ما فيه الصلاح و المنفعة .

[79]

اختصاص الإنسان بالحياء دون بقية الحيوانات

انظر يا مفضل إلى ما خص به الإنسان دون جميع الحيوان من هذا الخلق الجليل قدره العظيم غناؤه أعني الحياء فلولاه لم يقر ضيف و لم يوف بالعداة و لم تقض الحوائج و لم يتحر الجميل و لم يتنكب القبيح في شي‏ء من الأشياء حتى إن كثيرا من الأمور المفترضة أيضا إنما يفعل للحياء فإن من الناس من لو لا الحياء لم يرع حق والديه و لم يصل ذا رحم و لم يؤد أمانة و لم يعف عن فاحشة أ فلا ترى كيف وفى الإنسان جميع الخلال التي فيها صلاحه و تمام أمره .

اختصاص الإنسان بالمنطق و الكتابة

تأمل يا مفضل ما أنعم الله تقدست أسماؤه به على الإنسان من هذا المنطق الذي يعبر به عما في ضميره و ما يخطر بقلبه و ينتجه فكره

[80]

و به يفهم عن غيره ما في نفسه و لو لا ذلك كان بمنزله البهائم المهملة التي لا تخبر عن نفسها بشي‏ء و لا تفهم عن مخبر شيئا و كذلك الكتابة التي بها تقيد أخبار الماضين للباقين و أخبار الباقين للآتين و بها تخلد الكتب في العلوم و الآداب و غيرها و بها يحفظ الإنسان ذكر ما يجري بينه و بين غيره من المعاملات و الحساب و لولاه لانقطع أخبار بعض الأزمنة عن بعض و أخبار الغائبين عن أوطانهم و درست العلوم و ضاعت الآداب و عظم ما يدخل على الناس من الخلل في أمورهم و معاملاتهم و ما يحتاجون إلى النظر فيه من أمر دينهم و ما روى لهم مما لا يسعهم جهله و لعلك تظن أنها مما يخلص إليه بالحيلة و الفطنة و ليست مما أعطيه الإنسان من خلقه و طباعه و كذلك الكلام إنما هو شي‏ء يصطلح عليه الناس فيجري بينهم و لهذا صار يختلف في الأمم المختلفة و كذلك لكتابة العربي و السرياني و العبراني و الرومي و غيرها من سائر الكتابة التي هي متفرقة في الأمم إنما اصطلحوا عليها كما اصطلحوا على الكلام فيقال لمن ادعى ذلك أن الإنسان و إن كان له في الأمرين جميعا فعل أو حيلة فإن الشي‏ء الذي يبلغ به ذلك الفعل و الحيلة عطية و هبة من الله عز و جل له في خلقه فإنه لو لم يكن له لسان مهيأ للكلام و ذهن يهتدي به للأمور لم يكن ليتكلم أبدا و لو لم تكن له كف مهيئة و أصابع للكتابة لم يكن ليكتب أبدا و اعتبر ذلك من البهائم التي لا كلام لها و لا كتابة فأصل ذلك فطرة الباري جل و عز و ما تفضل به على خلقه فمن شكر أثيب

[81]

و من كفر فإن الله غني عن العالمين .

إعطاء الإنسان ما يصلح دينه و دنياه و منعه مما سوى ذلك

فكر يا مفضل فيما أعطي الإنسان علمه و ما منع فإنه أعطي جميع علم ما فيه صلاح دينه و دنياه فمما فيه صلاح دينه معرفة الخالق تبارك و تعالى بالدلائل و الشواهد القائمة في الخلق و معرفة الواجب عليه من العدل على الناس كافة و بر الوالدين و أداء الأمانة و مواساة أهل الخلة و أشباه ذلك مما قد توجد معرفته و الإقرار و الاعتراف به في الطبع و الفطرة من كل أمة موافقة أو مخالفة و كذلك أعطي علم ما فيه صلاح دنياه كالزراعة و الغراس و استخراج الأرضين و اقتناء الأغنام و الأنعام و استنباط المياه و معرفة العقاقير التي يستشفى بها من ضروب الأسقام و المعادن التي يستخرج منها أنواع الجواهر و ركوب السفن و الغوص في البحر و ضروب الحيل في صيد الوحش و الطير و الحيتان و التصرف في الصناعات و وجوه المتاجر و المكاسب و غير ذلك مما يطول شرحه و يكثر تعداده مما فيه صلاح أمره في هذه الدار فأعطي علم ما يصلح به دينه و دنياه و منع ما سوى ذلك مما ليس في شأنه و لا طاقته أن يعلم كعلم الغيب و ما هو كائن و بعض ما قد كان أيضا كعلم ما فوق السماء و ما تحت الأرض و ما في لجج البحار و أقطار العالم و ما في قلوب الناس و ما في الأرحام و أشباه هذا مما حجب عن الناس علمه

[82]

و قد ادعت طائفة من الناس هذه الأمور فأبطل دعواهم ما يبين من خطئهم فيما يقضون عليه و يحكمون به فيما ادعوا عليه فانظر كيف أعطي الإنسان علم جميع ما يحتاج إليه لدينه و دنياه و حجب عنه ما سوى ذلك ليعرف قدره و نقصه و كلا الأمرين فيها صلاحه .

ما ستر عن الإنسان علمه من مدة حياته

تأمل الآن يا مفضل ما ستر عن الإنسان علمه من مدة حياته فإنه لو عرف مقدار عمره و كان قصير العمر لم يتهنأ بالعيش مع ترقب الموت و توقعه لوقت قد عرفه بل كان يكون بمنزلة من قد فنى ماله أو قارب الفناء فقد استشعر الفقر و الوجل من فناء ماله و خوف الفقر على أن الذي يدخل على الإنسان من فناء العمر أعظم مما يدخل عليه من فناء المال لأن من يقل ماله يأمل أن يستخلف منه فيسكن إلى ذلك و من أيقن بفناء العمر استحكم عليه اليأس و إن كان طويل العمر ثم عرف ذلك وثق بالبقاء و انهمك في اللذات و المعاصي و عمل على أنه يبلغ من ذلك شهوته ثم يتوب في آخر عمره و هذا مذهب لا يرضاه الله من عباده و لا يقبله أ لا ترى لو أن عبدا لك عمل على أنه يسخطك سنة و يرضيك يوما أو شهرا لم تقبل ذلك منه و لم يحل عندك محل العبد الصالح دون أن يضمر طاعتك و نصحك في كل الأمور و في كل الأوقات على تصرف الحالات فإن قلت أ و ليس قد يقيم الإنسان على المعصية حينا ثم يتوب فتقبل توبته قلنا إن ذلك شي‏ء يكون من الإنسان لغلبة

[83]

الشهوات له و تركه مخالفتها من غير أن يقدرها في نفسه و يبني عليه أمره فيصفح الله عنه و يتفضل عليه بالمغفرة فأما من قدر أمره على أن يعصي ما بدا له ثم يتوب آخر ذلك فإنما يحاول خديعة من لا يخادع بأن يتسلف التلذذ في العاجل و يعد و يمني نفسه التوبة في الأجل و لأنه لا يفي بما يعد من ذلك فإن النزوع من الترفه و التلذذ و معاناة التوبة و لا سيما عند الكبر و ضعف البدن أمر صعب و لا يؤمن على الإنسان مع مدافعته بالتوبة أن يرهقه الموت فيخرج من الدنيا غير تائب كما قد يكون على الواحد دين إلى أجل و قد يقدر على قضائه فلا يزال يدافع بذلك حتى يحل الأجل و قد نفذ المال فيبقى الدين قائما عليه فكان خير الأشياء للإنسان أن يستر عنه مبلغ عمره فيكون طول عمره يترقب الموت فيترك المعاصي و يؤثر العمل الصالح فإن قلت و ها هو الآن قد ستر عنه مقدار حياته و صار يترقب الموت في كل ساعة يقارف الفواحش و ينتهك المحارم قلنا إن وجه

[84]

التدبير في هذا الباب هو الذي جرى عليه الأمر فيه فإن كان الإنسان مع ذلك لا يرعوى و لا ينصرف عن المساوئ فإنما ذلك من مرحه و من قساوة قلبه لا من خطإ في التدبير كما أن الطبيب قد يصف للمريض ما ينتفع به فإن كان المريض مخالفا لقول الطبيب لا يعمل بما يأمره و لا ينتهي عما ينهاه عنه لم ينتفع بصفته و لم تكن الإساءة في ذلك للطبيب بل للمريض حيث لم يقبل منه و لئن كان الإنسان مع ترقبه للموت كل ساعة لا يمتنع عن المعاصي فإنه لو وثق بطول البقاء كان أحرى بأن يخرج إلى الكبائر الفظيعة فترقب الموت على كل حال خير له من الثقة بالبقاء ثم إن ترقب الموت و إن كان صنف من الناس يلهون عنه و لا يتعظون به فقد يتعظ به صنف آخر منهم و ينزعون عن المعاصي و يؤثرون العمل الصالح و يجودون بالأموال و العقائل النفيسة في الصدقة على الفقراء و المساكين فلم يكن من العدل أن يحرم هؤلاء الانتفاع بهذه الخصلة لتضييع أولئك حظهم منها .

الأحلام و امتزاج صادقها بكاذبها و سر ذلك

فكر يا مفضل في الأحلام كيف دبر الأمر فيها فمزج صادقها

[85]

بكاذبها فإنها لو كانت كلها تصدق لكان الناس كلهم أنبياء و لو كانت كلها تكذب لم يكن فيها منفعة بل كانت فضلا لا معنى له فصارت تصدق أحيانا فينتفع بها الناس في مصلحة يهتدي لها أو مضرة يتحذر منها و تكذب كثيرا لئلا يعتمد عليها كل الاعتماد .

الأشياء المخلوقة لمآرب الإنسان و إيضاح ذلك

فكر يا مفضل في هذه الأشياء التي تراها موجودة معدة في العالم من مآربهم فالتراب للبناء و الحديد للصناعات و الخشب للسفن و غيرها و الحجارة للأرحاء و غيرها و النحاس للأواني و الذهب و الفضة للمعاملة و الذخيرة و الحبوب للغذاء و الثمار للتفكه و اللحم للمأكل و الطيب للتلذذ و الأدوية للتصحح و الدواب للحمولة و الحطب للتوقد و الرماد للكلس و الرمل للأرض و كم عسى أن يحصي المحصي من هذا و شبهه أ رأيت لو أن داخلا دخل دارا فنظر إلى خزائن مملوءة من كل ما يحتاج إليه الناس و رأى كلما فيها مجموعا معدا لأسباب معروفة أ كان يتوهم أن مثل هذا يكون بالإهمال و من غير عمد فكيف يستجيز قائل أن يقول هذا من صنع الطبيعة في العالم و ما أعد فيه من هذه الأشياء

back page fehrest page next page