[86]
اعتبر يا مفضل بأشياء خلقت لمآرب الإنسان و ما فيها من التدبير فإنه خلق له الحب لطعامه و كلف طحنه و عجنه و خبزة و خلق له الوبر لكسوته فكلف ندفه و غزله و نسجه و خلق له الشجر فكلف غرسها و سقيها و القيام عليها و خلقت له العقاقير لأدويته فكلف لقطها و خلطها و صنعها و كذلك تجد سائر الأشياء على هذا المثال فانظر كيف كفى الخلقة التي لم يكن عنده فيها حيلة و ترك عليه في كل شيء من الأشياء موضع عمل و حركة لما له في ذلك من الصلاح لأنه لو كفى هذا كله حتى لا يكون له في الأشياء موضع شغل و عمل لما حملته الأرض أشرا و بطرا و لبلغ به ذلك إلى أن يتعاطى أمورا فيها تلف نفسه و لو كفى الناس كلما يحتاجون إليه لما تهنئوا بالعيش و لا وجدوا له لذة أ لا ترى لو أن امرأ نزل بقوم فأقام حينا بلغ جميع ما يحتاج إليه من مطعم و مشرب و خدمة لتبرم بالفراغ و نازعته نفسه إلى التشاغل بشيء فكيف لو كان طول عمره مكفيا لا يحتاج إلى شيء فكان من صواب التدبير في هذه الأشياء التي خلقت للإنسان أن جعل له فيها موضع شغل لكيلا تبرمه البطالة و لتكفه عن تعاطي ما لا يناله و لا خير فيه إن ناله .
[87]
الخبز و الماء رأس معاش الإنسان و حياته
و اعلم يا مفضل أن رأس معاش الإنسان و حياته الخبز و الماء فانظر كيف دبر الأمر فيهما فإن حاجة الإنسان إلى الماء أشد من حاجته إلى الخبز و ذلك أن صبره على الجوع أكثر من صبره على العطش و الذي يحتاج إليه من الماء أكثر مما يحتاج إليه من الخبز لأنه يحتاج إليه لشربه و وضوئه و غسله و غسل ثيابه و سقي أنعامه و زرعه فجعل الماء مبذولا لا يشترى لتسقط عن الإنسان المئونة في طلبه و تكلفه و جعل الخبز متعذرا لا ينال إلا بالحيلة و الحركة ليكون للإنسان في ذلك شغل يكفه عما يخرجه إليه الفراغ من الأشر و العبث أ لا ترى أن الصبي يدفع إلى المؤدب و هو طفل لم تكمل ذاته للتعليم كل ذلك ليشتغل عن اللعب و العبث الذين ربما جنيا عليه و على أهله المكروه العظيم و هكذا الإنسان لو خلا من الشغل لخرج من الأشر و العبث و البطر إلى ما يعظم ضرره عليه و على من قرب منه و اعتبر ذلك بمن نشأ في الجدة و رفاهية العيش و الترفه و الكفاية و ما يخرجه ذلك إليه .
اختلاف صور الناس و تشابه الوحوش و الطير و غيرها من الحكمة في ذلك
اعتبر لم لا يتشابه الناس واحد بالآخر كما تتشابه الوحوش و الطير و غير ذلك فإنك ترى السرب من الظباء و القطا تتشابه حتى لا يفرق
[88]
بين واحد منها و بين الأخرى و ترى الناس مختلفة صورهم و خلقهم حتى لا يكاد اثنان منهم يجتمعان في صفة واحدة و العلة في ذلك أن الناس محتاجون إلى أن يتعارفوا بأعيانهم و حلاهم لما يجرى بينهم من المعاملات و ليس يجري بين البهائم مثل ذلك فيحتاج إلى معرفة كل واحد منها بعينه و حليته أ لا ترى أن التشابه في الطير و الوحش لا يضرها شيئا و ليس كذلك الإنسان فإنه ربما تشابه التوأم تشابها شديدا فتعظم المئونة على الناس في معاملتهما حتى يعطى أحدهما بالآخر و يؤخذ أحدهما بذنب الآخر و قد يحدث مثل هذا في تشابه الأشياء فضلا عن تشابه الصور فمن لطف بعباده بهذه الدقائق التي لا تكاد تخطر بالبال حتى وقف بها على الصواب إلا من وسعت رحمته كل شيء لو رأيت تمثال الإنسان مصورا على حائط و قال لك قائل إن هذا ظهر هنا من تلقاء نفسه لم يصنعه صانع أ كنت تقبل ذلك بل كنت تستهزئ به فكيف تنكر هذا في تمثال مصور جماد و لا تنكر في الإنسان الحي الناطق .
[89]
نمو أبدان الحيوان و توقفها و سبب ذلك
لم صارت أبدان الحيوان و هي تغتذي أبدا لا تنمي بل تنتهي إلى غاية من النمو ثم تقف و لا تتجاوزها لو لا التدبير في ذلك فإن تدبير الحكيم فيها أن تكون أبدان كل صنف منها على مقدار معلوم غير متفاوت في الكبير و الصغير و صارت تنمي حتى تصل إلى غايتها ثم تقف ثم لا تزيد و الغذاء مع ذلك دائم لا ينقطع و لو تنمي نموا دائما لعظمت أبدانها و اشتبهت مقاديرها حتى لا يكون لشيء منها حد يعرف .
ما يعتري أجسام الإنس من ثقل الحركة و المشي لو لم يصبها ألم
لم صارت أجسام الإنس خاصة تثقل عن الحركة و المشي و تجفو عن الصناعات اللطيفة إلا لتعظيم المئونة فيما يحتاج إليه الناس للملبس و المضجع و التكفين و غير ذلك لو كان الإنسان لا يصيبه ألم و لا وجع بم كان يرتدع عن الفواحش و يتواضع لله و يتعطف على الناس...
[90]
أ ما ترى الإنسان إذا عرض له وجع خضع و استكان و رغب إلى ربه في العافية و بسط يده بالصدقة و لو كان لا يألم من الضرب بم كان السلطان يعاقب الدعار و يذل العصاة المردة و بم كان الصبيان يتعلمون العلوم و الصناعات و بم كان العبيد يذلون لأربابهم و يذعنون لطاعتهم أ فليس هذا توبيخ ابن أبي العوجاء و ذويه الذين جحدوا التدبير و المانوية الذين أنكروا الوجع و الألم .
انقراض الحيوان لو لم يلد ذكورا و إناثا
و لو لم يولد من الحيوان إلا ذكر فقط أو أنثى فقط أ لم يكن النسل منقطعا و باد مع أجناس الحيوان فصار بعض الأولاد يأتي ذكورا و بعضها يأتي إناثا ليدوم التناسل و لا ينقطع .
ظهور شعر العانة عند البلوغ و نبات اللحية للرجل دون المرأة و ما في ذلك من التدبير
لم صار الرجل و المرأة إذا أدركا تنبت لهما العانة ثم تنبت اللحية للرجل و تتخلف عن المرأة لو لا التدبير في ذلك فإنه لما جعل الله تبارك
[91]
و تعالى الرجل قيما و رقيبا على المرأة و جعل المرأة عرسا و خولا للرجل أعطى الرجل اللحية لما له من العز و الجلالة و الهيبة و منعها المرأة لتبقى لها نضارة الوجه و البهجة التي تشاكل المفاكهة و المضاجعة أ فلا ترى الخلقة كيف تأتي بالصواب في الأشياء و تتخلل مواضع الخطإ فتعطي و تمنع على قدر الأرب و المصلحة بتدبير الحكيم عز و جل قال المفضل ثم حان وقت الزوال فقام مولاي إلى الصلاة و قال بكر إلى غدا إن شاء الله تعالى فانصرفت من عنده مسرورا بما عرفته مبتهجا بما أوتيته حامدا لله تعالى عز و جل على ما أنعم به علي شاكرا لأنعمه على ما منحني بما عرفنيه مولاي و تفضل به علي فبت في ليلتي مسرورا بما منحنيه محبور بما علمنيه .
[92]
المجلس الثاني
قال المفضل فلما كان اليوم الثاني بكرت إلى مولاي فاستؤذن لي فدخلت فأمرني بالجلوس فجلست فقال الحمد لله مدبر الأدوار و معيد الأكوار طبقا عن طبق و عالما بعد عالم ليجزي الذين أساءوا بما عملوا و يجزي الذين أحسنوا بالحسنى عدلا منه تقدست أسماؤه و جلت آلاؤه لا يظلم الناس شيئا و لكن الناس أنفسهم يظلمون يشهد بذلك قوله جل قدسه فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ في نظائر لها في كتابه الذي فيه تبيان كل شيء و لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد و لذلك
[93]
قال سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) إنما هي أعمالكم ترد إليكم ثم أطرق الإمام هنيئة و قال يا مفضل الخلق حيارى عمهون سكارى في طغيانهم يترددون و بشياطينهم و طواغيتهم يقتدون بصراء عمى لا يبصرون نطقاء بكم لا يعقلون سمعاء صم لا يسمعون رضوا بالدون و حسبوا أنهم مهتدون حادوا عن مدرجة الأكياس و رتعوا في مرعى الأرجاس الأنجاس كأنهم من مفاجأة الموت آمنون و عن المجازات مزحزحون يا ويلهم
[94]
ما أشقاهم و أطول عناءهم و أشد بلاءهم يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا و لا هم ينصرون إلا من رحم الله قال المفضل فبكيت لما سمعت منه فقال لا تبك تخلصت إذ قبلت و نجوت إذ عرفت .
أبنية أبدان الحيوان و تهيئتها و إيضاح ذلك
ثم قال أبتدئ لك بذكر الحيوان ليتضح لك من أمره ما وضح لك من غيره فكر في أبنية أبدان الحيوان و تهيئتها على ما هي عليه فلا هي صلاب كالحجارة و لو كانت كذلك لا تنثني و لا تتصرف في الأعمال و لا هي على غاية اللين و الرخاوة فكانت لا تتحامل و لا تستقل بأنفسها فجعلت من لحم رخو ينثني تتداخله عظام صلاب يمسكه عصب و عروق تشده و تضم بعضه إلى بعض و غلقت فوق ذلك بجلد يشتمل على البدن كله و أشباه ذلك هذه التماثيل التي تعمل من العيدان و تلف بالخرق و تشد بالخيوط و تطلي فوق ذلك بالصمغ فتكون العيدان بمنزلة العظام و الخرق بمنزلة اللحم و الخيوط بمنزلة العصب و العروق و الطلاء بمنزلة الجلد فإن جاز أن يكون الحيوان المتحرك حدث بالإهمال من غير صانع جاز أن يكون ذلك في هذه التماثيل الميتة فإن كان هذا غير جائز في التماثيل فبالحري أن لا يجوز في الحيوان .
[95]
أجساد الأنعام و ما أعطيت و ما منعت و سبب ذلك
و فكر يا مفضل بعد هذا في أجساد الأنعام فإنها حين خلقت على أبدان الإنس من اللحم و العظم و العصب أعطيت أيضا السمع و البصر ليبلغ الإنسان حاجته فإنها لو كانت عميا صما لما انتفع بها الإنسان و لا تصرفت في شيء من مآربه ثم منعت الذهن و العقل لتذل للإنسان فلا تمتنع عليه إذا كدها الكد الشديد و حملها الحمل الثقيل فإن قال قائل إنه قد يكون للإنسان عبيد من الإنس يذلون و يذعنون بالكد الشديد و هم مع ذلك غير عديمي العقل و الذهن فيقال في جواب ذلك إن هذا الصنف من الناس قليل فأما أكثر الناس فلا يذعنون بما تذعن به الدواب من الحمل و الطحن و ما أشبه ذلك و لا يغرون بما يحتاج إليه منه ثم لو كان الناس يزاولون مثل هذه الأعمال بأبدانهم لشغلوا بذلك عن سائر الأعمال لأنه كان يحتاج مكان الجمل الواحد و البغل الواحد إلى عدة أناسي فكان هذا العمل يستفرغ الناس حتى لا يكون فيهم عنه فضل لشيء من الصناعات مع ما يلحقه من التعب الفادح في أبدانهم و الضيق و الكد في معاشهم .
[96]
خلق الأصناف الثلاثة من الحيوان
فكر يا مفضل في هذه الأصناف الثلاثة من الحيوان و في خلقها على ما هي عليه مما فيه صلاح كل واحد منها فالإنس لما قدروا أن يكونوا ذوي ذهن و فطنة و علاج لمثل هذه الصناعات من البناء و التجارة و الصياغة و الخياطة و غير ذلك خلقت لهم أكف كبار ذوات أصابع غلاظ ليتمكنوا من القبض على الأشياء و أوكدها هذه الصناعات .
آكلات اللحم من الحيوان و التدبير في خلقها
و آكلات اللحم لما قدر أن تكون معايشها من الصيد خلقت لهم أكف لطاف مدمجة ذوات براثن و مخالب تصلح لأخذ الصيد و لا تصلح للصناعات و آكلات النبات لما قدر أن يكونوا لا ذوات صنعه و لا ذات صيد خلقت لبعضها أظلاف تقيها خشونة الأرض إذا حاولت طلب المرعى و لبعضها حوافر ململمة ذوات قعر
[97]
كأخمص القدم تنطبق على الأرض عند تهيئها للركوب و الحمولة تأمل التدبير في خلق آكلات اللحم من الحيوان حين خلقت ذوات أسنان حداد و براثن شداد و أشداق و أفواه واسعة فإنه لما قدر أن يكون طعمها اللحم خلقت خلقه تشاكل ذلك و أعينت بسلاح و أدوات تصلح للصيد و كذلك تجد سباع الطير ذوات مناقير و مخالب مهيئة لفعلها و لو كانت الوحوش ذوات مخالب كانت قد أعطيت ما لا تحتاج إليه لأنها لا تصيد و لا تأكل اللحم و لو كانت السباع ذوات أظلاف كانت قد منعت ما تحتاج إليه أعني السلاح الذي تصيد به و تتعيش أ فلا ترى كيف أعطي كل واحد من الصنفين ما يشاكل صنفه و طبقته بل ما فيه بقاؤه و صلاحه .
ذوات الأربع و استقلال أولادها
انظر الآن إلى ذوات الأربع كيف تراها تتبع أماتها مستقلة بأنفسها لا تحتاج إلى الحمل و التربية كما تحتاج أولاد الإنس فمن أجل أنه ليس عند أماتها ما عند أمهات البشر من الرفق و العلم بالتربية و القوة عليها بالأكف و الأصابع المهيأة لذلك أعطيت النهوض و الاستقلال بأنفسها و كذلك
[98]
ترى كثيرا من الطير كمثل الدجاج و الدراج و القبج تدرج و تلقط حين تنقاب عنها البيضة فأما ما كان منها ضعيفا لا نهوض فيه كمثل فراخ الحمام و اليمام و الحمر فقد جعل في الأمهات فضل عطف عليها فصارت تمج الطعام في أفواهها بعد ما توعيه حواصلها فلا تزال تغذوها حتى تستقل بأنفسها و لذلك لم ترزق الحمام فراخا كثيرة مثل ما ترزق الدجاج لتقوى الأم على تربية فراخها فلا تفسد و لا تموت فكلا أعطي بقسط من تدبير الحكيم اللطيف الخبير .
[99]
قوائم الحيوان و كيفية حركتها
انظر إلى قوائم الحيوان كيف تأتي أزواجا لتتهيأ للمشي و لو كانت أفرادا لم تصلح لذلك لأن الماشي ينقل قوائمه يعتمد على بعض فذو القائمتين ينقل واحدة و يعتمد على واحدة و ذو الأربع ينقل اثنتين و يعتمد على اثنتين و ذلك من خلاف لأن ذا الأربع لو كان ينقل قائمتين من أحد جانبيه و يعتمد على قائمتين من الجانب الآخر لم يثبت على الأرض كما يثبت السرير و ما أشبهه فصار ينقل اليمنى من مقاديمه مع اليسرى من مآخيره و ينقل الأخريين أيضا من خلاف فيثبت على الأرض و لا يسقط إذا مشى .
انقياد الحيوانات المسخرة للإنسان و سببه
أ ما ترى الحمار كيف يذل للطحن و الحمولة و هو يرى الفرس مودعا منعما و البعير لا يطيقه عدة رجال لو استعصى كيف كان ينقاد للصبي و الثور الشديد كيف كان يذعن لصاحبه حتى يضع النير على عنقه و يحرث به و الفرس الكريم يركب السيوف و الأسنة بالمواتاة لفارسه و القطيع من الغنم يرعاه واحد و لو تفرقت الغنم فأخذ كل واحد منها في
[100]
ناحية لم يلحقها و كذلك جميع الأصناف المسخرة للإنسان كانت كذلك إلا بأنها عدمت العقل و الروية فإنها لو كانت تعقل و تتروى في الأمور كانت خليقة أن تلتوي على الإنسان في كثير من مآربه حتى يمتنع الجمل على قائده و الثور على صاحبه و تتفرق الغنم عن راعيها و أشباه هذا من الأمور .
افتقاد السباع للعقل و الروية و فائدة ذلك
و كذلك هذه السباع لو كانت ذات عقل و رويه فتوازرت على الناس كانت خليقة أن تجتاحهم فمن كان يقوم للأسد و الذئاب و النمور و الدببة لو تعاونت و تظاهرت على الناس أ فلا ترى كيف حجر ذلك عليها و صارت مكان ما كان يخاف من إقدامها و نكايتها تهاب مساكن الناس و تحجم عنها ثم لا تظهر و لا تنتشر لطلب قوتها إلا بالليل فهي مع صولتها كالخائف من الإنس بل مقموعة ممنوعة منهم و لو كان ذلك لساورتهم في مساكنهم و ضيقت عليهم
عطف الكلب على الإنسان و محاماته عنه
ثم جعل في الكلب من بين هذه السباع عطف على مالكه و محاماة
[101]
عنه و حافظ له ينتقل على الحيطان و السطوح في ظلمة الليل لحراسة منزل صاحبه و ذب الذعار عنه و يبلغ من محبته لصاحبه أن يبذل نفسه للموت دونه و دون ماشيته و ماله و يألفه غاية الألف حتى يصبر معه على الجوع و الجفوة فلم طبع الكلب على هذه الألفة و المحبة إلا ليكون حارسا للإنسان له عين بأنياب و مخالب و نباح هائل ليذعر منه السارق و يتجنب المواضع التي يحميها و يخفرها .
وجه الدابة و فمها و ذنبها و شرح ذلك
يا مفضل تأمل وجه الدابة كيف هو فإنك ترى العينين شاخصتين أمامها لتبصر ما بين يديها لئلا تصدم حائطا أو تتردى في حفرة و ترى الفم مشقوقا شقا في أسفل الخطم و لو شق كمكان الفم من الإنسان في مقدم الذقن لما استطاع أن يتناول به شيئا من الأرض أ لا ترى أن الإنسان لا يتناول الطعام بفيه و لكن بيده تكرمه له على
[102]
سائر الأكلات فلما لم يكن للدابة يد تتناول بها العلف جعل خرطومها مشقوقا من أسفله لتقبض على العلف ثم تقضمه و أعينت بالجحفلة لتتناول بها ما قرب و ما بعد اعتبر بذنبها و المنفعة لها فيه فإنه بمنزلة الطبق على الدبر و الحياء جميعا يواريهما و يسترهما و من منافعها فيه أن ما بين الدبر و مراقي البطن منها وضر يجتمع عليها الذباب و البعوض فجعل لها الذنب كالمذبة تذب بها عن تلك المواضع و منها أن الدابة تستريح إلى تحريكه و تصريفه يمنة و يسرة فإنه لما كان قيامها على الأربع بأسرها و شغلت المقدمتان بحمل البدن عن التصرف و التقلب كان لها في تحريك الذنب راحة و فيه منافع أخرى يقصر عنها الوهم فيعرف موقعها في وقت الحاجة إليها فمن ذلك أن الدابة ترتطم في الوحل فلا يكون شيء أعون على نهوضها من الأخذ بذنبها و في شعر الذنب منافع للناس كثيرة يستعملونها في مآربهم ثم جعل ظهرها مسطحا مبطوحا على قوائم أربع ليتمكن من ركوبها و جعل حياها بارزا من ورائها ليتمكن الفحل من ضربها و لو كان أسفل البطن كما كان الفرج من المرأة
[103]
لم يتمكن الفحل منها أ لا ترى أنه لا يستطيع أن يأتيها كفاحا كما يأتي الرجل المرأة .
الفيل و مشفره
تأمل مشفر الفيل و ما فيه من لطيف التدبير فإنه يقوم مقام اليد في تناول العلف و الماء و ازدرادهما إلى جوفه و لو لا ذلك لما استطاع أن يتناول شيئا من الأرض لأنه ليست له رقبة يمدها كسائر الأنعام فلما عدم العنق أعين مكان ذلك بالخرطوم الطويل ليسد له فيتناول به حاجته فمن ذا الذي عوضه مكان العضو الذي عدم ما يقوم مقامه إلا الرءوف بخلقه و كيف يكون هذا بالإهمال كما قالت الظلمة فإن قال قائل فما باله لم يخلق ذا عنق كسائر الأنعام قيل إن رأس الفيل و أذنيه أمر عظيم و ثقل ثقيل فلو كان ذلك على عنق عظيم لهدها و أوهنها فجعل رأسه ملصقا بجسمه لكيلا يناله منه ما وصفناه و خلق له مكان العنق هذا المشفر ليتناول به غذاءه فصار مع عدم العنق مستوفيا ما فيه بلوغ حاجته .
[104]
حياء الأنثى من الفيلة
انظر الآن كيف جعل حياء الأنثى من الفيلة في أسفل بطنها فإذا هاجت للضراب ارتفع و برز حتى يتمكن الفحل من ضربها فاعتبر كيف جعل حياء الأنثى من الفيلة على خلاف ما عليه في غيرها من الأنعام ثم جعلت فيه هذه الخلة ليتهيأ للأمر الذي فيه قوام النسل و دوامه .
الزرافة و خلقتها و كونها ليست من لقاح أصناف شتى
فكر في خلق الزرافة و اختلاف أعضائها و شبهها بأعضاء أصناف من الحيوان فرأسها رأس فرس و عنقها عنق جمل و أظلافها أظلاف بقرة و جلدها جلد نمر و زعم ناس من الجهال بالله عز و جل أن نتاجها من فحول شتى قالوا و سبب ذلك أن أصنافا من حيوان البر إذا وردت الماء تنزو على بعض السائمة و ينتج مثل هذا الشخص الذي هو كالملتقط من أصناف شتى و هذا جهل من قائله و قله معرفة بالبارئ جل قدسه و ليس كل صنف من الحيوان يلقح كل صنف فلا الفرس يلقح الجمل و لا الجمل يلقح البقر و إنما يكون التلقيح من بعض الحيوان فيما يشاكله و يقرب من خلقه كما يلقح الفرس الحمار فيخرج بينهما البغل و يلقح الذئب الضبع فيخرج من بينهما السمع على أنه ليس يكون في الذي يخرج من بينهما عضو كل واحد منهما كما في الزرافة عضو من الفرس
[105]
و عضو من الجمل و أظلاف من البقرة بل يكون كالمتوسط بينهما الممتزج منهما كالذي تراه في البغل فإنك ترى رأسه و أذنيه و كفله و ذنبه و حوافره وسطا بين هذه الأعضاء من الفرس و الحمار و شحيجه كالممتزج من صهيل الفرس و نهيق الحمار فهذا دليل على أنه ليست الزرافة من لقاح أصناف شتى من الحيوان كما زعم الجاهلون بل هي خلق عجيب من خلق الله للدلالة على قدرته التي لا يعجزها شيء و ليعلم أنه خالق أصناف الحيوان كلها يجمع بين ما يشاء من أعضائها في أيها شاء و يفرق ما شاء منها في أيها شاء و يزيد في الخلقة ما شاء و ينقص منها ما شاء دلالة على قدرته على الأشياء و أنه لا يعجزه شيء أراده جل و تعالى فأما طول عنقها و المنفعة لها في ذلك فإن منشأها و مرعاها في غياطل ذوات أشجار شاهقة ذاهبة طولا في الهواء فهي تحتاج إلى طول العنق لتتناول بفيها أطراف تلك الأشجار فتقوت من ثمارها .
القرد و خلقته و الفرق بينه و بين الإنسان
تأمل خلقة القرد ، و شبهه بالإنسان في كثير من أعضائه ، أعني الرأس ، و الوجه ، و المنكبين ، و الصدر ، و كذلك أحشاؤه شبيهة أيضا بأحشاء الإنسان ، و خص مع ذلك بالذهن و الفطنة التي بها يفهم عن سائسه ما يومئ إليه ، و يحكى
[106]
كثيرا مما يرى الإنسان يفعله ، حتى إنه يقرب من خلق الإنسان و شمائله في التدبير في خلقته ، على ما هي عليه أن يكون عبرة للإنسان في نفسه ، فيعلم أنه من طينة البهائم و سنخها إذ كان يقرب من خلقها هذا القرب ، و أنه لو لا فضيلة فضله بها في الذهن ، و العقل و النطق ، كان كبعض البهائم ، على أن في جسم القرد فضولا أخرى ، تفرق بينه و بين الإنسان ، كالخطم ، و الذنب المسدل ، و الشعر المجلل للجسم كله ، و هذا لم يكن مانعا للقرد أن يلحق بالإنسان ، لو أعطي مثل ذهن الإنسان و عقله و نطقه ، و الفصل الفاصل بينه و بين الإنسان في الحقيقة ، هو النقص في العقل و الذهن و النطق .
إكساء أجسام الحيوانات و خلقة أقدامها بعكس الإنسان و أسباب ذلك
انظر يا مفضل إلى لطف الله جل اسمه بالبهائم ، كيف كسيت أجسامها هذه الكسوة من الشعر ، و الوبر ، و الصوف ، لتقيها من البرد ، و كثرة الآفات ، ألبست الأظلاف و الحافر و الأخفاف لتقيها من الحفاء ، إذ كانت لا أيدي لها ، و لا أكف ، و لا أصابع مهيأة للغزل و النسج ، فكفوا بأن جعل كسوتهم في خلقهم باقية عليهم ما بقوا ، لا يحتاجون إلى تجديدها و استبدال بها ، فأما الإنسان فإنه ذو حيلة و كف مهيأة للعمل فهو ينسج و يغزل ،
[107]
و يتخذ لنفسه الكسوة ، و يستبدل بها حالا بعد حال ، و له في ذلك صلاح من جهات ، من ذلك أنه يشتغل بصنعة اللباس عن العبث و ما تخرجه إليه الكفاية ، و منها أنه يستريح إلى خلع كسوته إذا شاء ، و لبسها إذا شاء ، و منها أن يتخذ لنفسه من الكسوة ضروبا لها جمال و روعة ، فيتلذذ بلبسها و تبديلها ، و كذلك يتخذ بالرفق من الصنعة ضروبا من الخفاف و النعال يقي بها قدميه ، و في ذلك معايش لمن يعمله من الناس و مكاسب يكون فيها معايشهم و منها أقواتهم و أقوات عيالهم ، فصار الشعر و الوبر و الصوف يقوم للبهائم مقام الكسوة و الأظلاف و الحوافر و الأخفاف مقام الحذاء .
مواراة البهائم عند إحساسها بالموت
فكر يا مفضل في خلقة عجيبة جعلت في البهائم ، فإنهم يوارون أنفسهم إذا ماتوا كما يواري الناس موتاهم ، و إلا فأين جيف هذه الوحوش و السباع و غيرها ، لا يرى منها شيء ، و ليست قليلة فتخفى لقلتها ، بل لو قال قائل أنها أكثر من الناس لصدق ، فاعتبر في ذلك بما تراه في الصحاري و الجبال من أسراب الظباء
[108]
و المها و الحمير الوحش و الوعول و الأيائل ، و غير ذلك من الوحوش و أصناف السباع من الأسد و الضباع و الذئاب و النمور ، و غيرها و ضروب الهوام و الحشرات و دواب الأرض ، و كذلك أسراب الطير من الغربان و القطاة و الإوز و الكراكي و الحمام و سباع الطير جميعا ، و كلها لا يرى منها إذا ماتت إلا الواحد بعد الواحد ، يصيده قانص أو يفترسه سبع ، فإذا أحسوا بالموت كمنوا في مواضع خفية فيموتون فيها ، و لو لا ذلك لامتلأت الصحاري منها حتى تفسد رائحة الهواء ، و تحدث الأمراض و الوباء ، فانظر إلى هذا بالذي يخلص إليه الناس ، و عملوه بالتمثيل الأول الذي مثل لهم ، كيف جعل طبعا و أذكارا في البهائم و غيرها ، ليسلم الناس من معرة ما يحدث عليهم من الأمراض و الفساد .
[109]
الفطن التي جعلت في البهائم الأيل و الثعلب و الدلفين
فكر يا مفضل في الفطن التي جعلت في البهائم لمصلحتها بالطبع و الخلقة ، لطفا من الله عز و جل لهم ، لئلا يخلو من نعمه جل و عز أحد من خلقه لا بعقل و روية ، فإن الأيل يأكل الحيات ، فيعطش عطشا شديدا ، فيمتنع من شرب الماء خوفا من أن يدب السم في جسمه فيقتله ، و يقف على الغدير و هو مجهود عطشا ، فيعج عجيجا عاليا و لا يشرب منه ، و لو شرب لمات من ساعته ، فانظر إلى ما جعل من طباع هذه البهيمة من تحمل الظمأ الغالب الشديد خوفا من المضرة في الشرب و ذلك مما لا يكاد الإنسان العاقل المميز يضبطه من نفسه . و الثعلب إذا أعوزه الطعم تماوت ، و نفخ بطنه حتى يحسبه الطير ميتا ، فإذا وقعت عليه لتنهشه وثب عليها فأخذها ، فمن أعان الثعلب العديم النطق و الروية بهذه الحيلة إلا من توكل بتوجيه الرزق له من هذا و شبهه ، فإنه لما كان الثعلب يضعف عن كثير مما تقوى عليه السباع من مساورة الصيد ، أعين بالدهاء و الفطنة و الاحتيال لمعاشه . و الدلفين يلتمس صيد الطير فيكون حيلته في ذلك أن