[110]
يأخذ السمك فيقتله و يسرحه حتى يطفو على الماء ، ثم يكمن تحته و يثور الماء الذي عليه حتى لا يتبين شخصه ، فإذا وقع الطير على السمك الطافي ، وثب إليها فاصطادها . فانظر إلى هذه الحيلة ، كيف جعلت طبعا في هذه البهيمة لبعض المصلحة .
التنين و السحاب
قال المفضل فقلت : أخبرني يا مولاي عن التنين و السحاب .
فقال (عليه السلام) : إن السحاب كالموكل به يختطفه حيثما ثقفه كما يختطف حجر المغناطيس الحديد فهو لا يطلع رأسه في الأرض خوفا من السحاب و لا يخرج إلا في القيظ مرة إذا صحت السماء فلم يكن فيها نكتة من غيمة .
قلت : فلم وكل السحاب بالتنين يرصده و يختطفه إذا وجده .
قال : ليدفع عن الناس مضرته .
[111]
في الذرة و النمل و أسد الذباب و العنكبوت و طبائع كل منهما
قال المفضل : فقلت قد وصفت لي يا مولاي من أمر البهائم ما فيه معتبر لمن اعتبر ، فصف لي الذرة ، و النملة ، و الطير .
فقال (عليه السلام) : يا مفضل تأمل وجه الذرة الحقيرة الصغيرة ، هل تجد فيها نقصا عما فيه صلاحها ، فمن أين هذا التقدير و الصواب في خلق الذرة ، إلا من التدبير القائم في صغير الخلق و كبيره ، انظر إلى النمل و احتشاده في جمع القوت ، و أعداده ، فإنك ترى الجماعة منها إذا نقلت الحب إلى زبيتها بمنزلة جماعة من الناس ينقلون الطعام أو غيره بل للنمل في ذلك من الجد و التشمير ما ليس للناس مثله .
[112]
أ ما تراهم يتعاونون على النقل كما يتعاون الناس على العمل ، ثم يعمدون إلى الحب فيقطعونه قطعا لكيلا ينبت فيفسد عليهم ، فإن أصابه ندي أخرجوه فنشروه حتى يجف ، ثم لا يتخذ النمل الزبية إلا في نشز من الأرض ، كيلا يفيض السيل فيغرقها ، و كل هذا منه بلا عقل و لا روية ، بل خلقة خلق عليها ، لمصلحة من الله جل و عز .
انظر إلى هذا الذي يقال له الليث ، و تسميه العامة أسد الذباب ، و ما أعطي من الحيلة و الرفق في معاشه ، فإنك تراه حين يحس بالذباب قد وقع قريبا منه تركه مليا ، حتى كأنه موات لا حراك به ، فإذا رأى الذباب قد اطمأن و غفل عنه ، دب دبيبا دقيقا حتى يكون منه بحيث تناله وثبته ، ثم يثب عليه فيأخذه ، فإذا أخذه اشتمل عليه بجسمه كله ، مخافة أن ينجو منه ، فلا يزال قابضا عليه حتى يحس بأنه قد ضعف و استرخى ، ثم يقبل عليه فيفترسه و يحيى بذلك منه .
فأما العنكبوت فإنه ينسج ذلك النسج فيتخذه شركا و مصيدة للذباب ، ثم يكمن في جوفه ، فإذا نشب فيه الذباب أحال عليه يلدغه ساعة بعد ساعة ، فيعيش بذلك منه .
[113]
فذلك يحكي صيد الكلاب و الفهود ، و هذا يحكي صيد الإشراك و الحبائل ، فانظر إلى هذه الدويبة الضعيفة كيف جعل في طبعها ما لا يبلغه الإنسان إلا بالحيلة ، و استعمال الآلات فيها فلا تزدرى بالشيء إذا كانت العبرة فيه واضحة كالذرة و النملة و ما أشبه ذلك فإن المعنى النفيس قد يمثل بالشيء الحقير فلا يضع منه ذلك كما لا يضع من الدينار و هو من ذهب أن يوزن بمثقال من حديد .
جسم الطائر و خلقته
تأمل يا مفضل جسم الطائر و خلقته ، فإنه حين قدر أن يكون طائرا في الجو ، خفف جسمه ، و أدمج خلقه ، و اقتصر به من القوائم الأربع ، على اثنتين ، و من الأصابع الخمس ، على أربع ، و من منفذين للزبل و البول ، على واحد يجمعهما ، ثم خلق ذا جؤجؤ محدد ، ليسهل عليه أن يخرق الهواء ، كيف ما أخذ فيه ، كما جعلت السفينة بهذه الهيئة لتشق الماء ، و تنفذ فيه ، و جعل في جناحيه و ذنبه ريشات طوال متان لينهض بها
[114]
للطيران ، و كسا كله الريش ليتداخله الهواء فيقله ، و لما قدّر أن يكون طعمه الحب و اللحم يبلعه بلعا بلا مضغ نقص من خلقة الإنسان و خلق له منقار صلب جاسي يتناول به طعمه فلا ينسحج من لقط الحب و لا يتقصف من نهش اللحم و لما عدم الأسنان و صار يزدرد الحب صحيحا و اللحم غريضا أعين بفضل حرارة في الجوف تطحن له الطعم طحنا يستغني به عن المضغ و اعتبر ذلك بأن عجم العنب و غيره يخرج من أجواف الإنس صحيحا و يطحن في أجواف الطير لا يرى له أثر ثم جعل مما يبيض بيضا و لا يلد ولادة لكيلا يثقل عن الطيران فإنه لو كانت الفراخ في جوفه تمكث حتى تستحكم لأثقلته و عاقته عن النهوض و الطيران فجعل كل شيء من خلقه مشاكلا للأمر الذي قدر أن يكون عليه ثم صار الطائر السائح في هذا الجو يقعد على بيضه فيحضنه أسبوعا و بعضها أسبوعين و بعضها ثلاثة أسابيع حتى يخرج الفرخ من البيضة ثم يقبل عليه فيزقه الريح لتتسح حوصلته للغذاء ثم يربيه و يغذيه بما يعيش به فمن كلفه أن يلقط الطعم و الحب يستخرجه بعد
[115]
أن يستقر في حوصلته و يغذو به فراخه و لأي معنى يحتمل هذه المشقة و ليس بذي روية و لا تفكر و لا يأمل في فراخه ما يؤمل الإنسان في ولده من العز و الرفد و بقاء الذكر فهذا من فعله يشهد أنه معطوف على فراخه لعله لا يعرفها و لا يفكر فيها و هي دوام النسل و بقاؤه لطفا من الله تعالى ذكره .
الدجاجة و تهيجها لحضن البيض و التفريخ
انظر إلى الدجاجة كيف تهيج لحضن البيض و التفريخ و ليس لها بيض مجتمع و لا وكر موطأ بل تنبعث و تنتفخ و تقوى و تمتنع من الطعم حتى يجمع لها البيض فتحضنه و تفرخ فلم كان ذلك منها إلا لإقامة النسل و من أخذها بإقامة النسل و لا روية لها و لا تفكير لو لا أنها مجبولة على ذلك .
خلق البيضة و التدبير في ذلك
اعتبر بخلق البيضة و ما فيها من ألمح الأصفر الخاثر و الماء
[116]
الأبيض الرقيق فبعضه ينشو منه الفرخ و بعضه ليغتذى به إلى أن تنقاب عنه البيضة و ما في ذلك من التدبير فإنه لو كان نشوء الفرخ في تلك القشرة المستحفظة التي لا مساغ لشيء إليها جعل معه في جوفها من الغذاء ما يكتفي به إلى وقت خروجه منها كمن يحبس في حبس حصين لا يوصل إلى من فيه فيجعل معه من القوت ما يكتفي به إلى وقت خروجه منه .
حوصلة الطائر
فكر يا مفضل في حوصلة الطائر و ما قدر له فإن مسلك الطعم إلى القانصة ضيق لا ينفذ فيه الطعام إلا قليلا قليلا فلو كان الطائر لا يلقط حبة ثانية حتى تصل الأولى إلى القانصة لطال عليه و متى كان يستوفي طعمه فإنما يختلسه اختلاسا لشدة الحذر فجعلت له الحوصلة كالمخلاة المعلقة أمامه ليوعي فيها ما أدرك من الطعم بسرعة ثم تنفذه إلى القانصة على مهل و في الحوصلة أيضا خلة أخرى فإن من الطائر ما يحتاج إلى أن يزق فراخه فيكون رده للطعم من قرب أسهل عليه .
[117]
اختلاف ألوان الطير و علة ذلك
قال المفضل فقلت إن قوما من المعطلة يزعمون أن اختلاف الألوان و الأشكال في الطير إنما يكون من قبل امتزاج الأخلاط و اختلاف مقاديرها المرج و الإهمال قال يا مفضل هذا الوشي الذي تراه في الطواويس و الدراج و التدارج على استواء و مقابلة كنحو ما يخط بالأقلام كيف يأتي به الامتزاج المهمل على شكل واحد لا يختلف و لو كان بالإهمال لعدم الاستواء و لكان مختلفا .
ريش الطائر و وصفه
تأمل ريش الطير كيف هو فإنك تراه منسوجا كنسج الثوب من سلوك دقاق قد ألف بعضه إلى بعض كتأليف الخيط إلى الخيط و الشعرة إلى الشعرة ثم ترى ذلك النسج إذا مددته ينفتح قليلا و لا ينشق لتداخله الريح فيقل الطائر إذا طار و ترى في وسط الريشة عمودا غليظا متينا قد نسج عليه الذي هو مثل الشعر ليمسكه بصلابته و هو القصبة التي
[118]
في وسط الريشة و هو مع ذلك أجوف ليخف على الطائر و لا يعوقه عن الطيران .
الطائر الطويل الساقين و التدبير في ذلك
هل رأيت يا مفضل هذا الطائر الطويل الساقين و عرفت ما له من المنفعة في طول ساقيه فإنه أكثر ذلك في ضحضاح من الماء فتراه بساقين طويلين كأنه ربيئة فوق مرقب و هو يتأمل ما يدب في الماء فإذا رأى شيئا مما يتقوت به خطا خطوات رقيقا حتى يتناوله و لو كان قصير الساقين و كان يخطو نحو الصيد ليأخذه يصيب بطنه الماء فيثور و يذعر منه فيفرق عنه فخلق له ذلك العمودان ليدرك بهما حاجته و لا يفسد عليه مطلبه تأمل ضروب التدبير في خلق الطائر فإنك تجد كل طائر طويل الساقين طويل العنق و ذلك ليتمكن من تناول طعمه من الأرض و لو كان طويل الساقين قصير العنق لما استطاع أن يتناول شيئا من الأرض
[119]
و ربما أعين مع العنق بطول المناقير ليزداد الأمر عليه سهولة و إمكانا أ فلا ترى أنك لا تفتش شيئا من الخلقة إلا وجدته على غاية الصواب و الحكمة .
العصافير و طلبها للأكل
انظر إلى العصافير كيف تطلب أكلها بالنهار فهي لا تفقده و لا تجده مجموعا معدا بل تناله بالحركة و الطلب و كذلك الخلق كله فسبحان من قدر الرزق كيف فرقه فلم يجعل مما لا يقدر عليه إذ جعل بالخلق حاجة إليه و لم يجعل مبذولا ينال بالهوينا إذ كان لا صلاح في ذلك فإنه لو كان يوجد مجموعا معدا كانت البهائم تنقلب عليه و لا تنقلع عنه حتى تبشم فتهلك و كان الناس أيضا يصيرون بالفراغ إلى غاية الأشر و البطر حتى يكثر الفساد و تظهر الفواحش .
معاش البوم و الهام و الخفاش
أ علمت ما طعم هذه الأصناف من الطير التي لا تخرج إلا بالليل كمثل البوم و الهام و الخفاش
[120]
قلت لا يا مولاي قال إن معاشها من ضروب تنتشر في الجو من البعوض و الفراش و أشباه الجراد و اليعاسيب و ذلك أن هذه الضروب مبثوثه في الجو لا يخلو منها موضع و اعتبر ذلك بأنك إذا وضعت سراجا بالليل في سطح أو عرصة دار اجتمع عليه من هذه الضروب شيء كثير فمن أين يأتي ذلك كله إلا من القرب فإن قال قائل إنه يأتي من الصحاري و البراري قيل له كيف يوافي تلك الساعة من موضع بعيد و كيف يبصر من ذلك البعد سراجا في دار محفوفة بالدور فيقصد إليه مع أن هذه عيانا تتهافت على السراج من قرب فيدل ذلك على أنها منتشرة في كل موضع من الجو فهذه الأصناف من الطير تلتمسها إذا خرجت فتتقوت بها فانظر كيف وجه الرزق لهذه الطيور التي لا تخرج إلا بالليل من هذه الضروب المنتشرة في الجو و اعرف ذلك المعنى في خلق هذه الضروب المنتشرة التي عسى أن يظن ظان أنها فضل لا معنى له .
خلقة الخفاش
خلق الخفاش خلقة عجيبة بين خلقة الطير و ذوات الأربع هو إلى ذوات الأربع أقرب و ذلك أنه ذو أذنين ناشزتين و أسنان و وبر
[121]
و هو يلد ولادا و يرضع و يبول و يمشي إذا مشى على أربع و كل هذا خلاف صفة الطير ثم هو أيضا مما يخرج بالليل و يتقوت بما يسرى في الجو من الفراش و ما أشبهه و قد قال قائلون إنه لا طعم للخفاش و إن غذاءه من النسيم وحده و ذلك يفسد و يبطل من جهتين أحدهما خروج الثفل و البول منه فإن هذا لا يكون من غير طعم و الأخرى أنه ذو أسنان و لو كان لا يطعم شيئا لم يكن للأسنان فيه معنى و ليس في الخلقة شيء لا معنى له و أما المآرب فيه فمعروفة حتى أن زبله يدخل في بعض الأعمال و من أعظم الأرب فيه خلقته العجيبة الدالة على قدرة الخالق جل ثناؤه و تصرفها فيما شاء كيف شاء لضرب من المصلحة .
حيلة الطائر أبو نمرة بالحسكة و منفعتها
فأما الطائر الصغير الذي يقال له ابن نمرة فقد عشش في بعض الأوقات في بعض الشجر فنظر إلى حية عظيمة قد أقبلت نحو عشه فاغرة فاها تبغيه لتبتلعه فبينما هو يتقلب و يضطرب في طلب حيلة منها إذ وجد حسكة فحملها فألقاها في فم الحية فلم تزل الحية تلتوي و تتقلب
[122]
حتى ماتت أ فرأيت لو لم أخبرك بذلك كان يخطر ببالك أو ببال غيرك أنه يكون من حسكة مثل هذه المنفعة أو يكون من طائر صغير أو كبير مثل هذه الحيلة اعتبر بهذا و كثير من الأشياء يكون فيها منافع لا تعرف إلا بحادث يحدث أو خبر يسمع به .
النحل عسله و بيوته
انظر إلى النحل و احتشاده في صنعة العسل ، و تهيئة البيوت المسدسة ، و ما ترى في ذلك من دقائق الفطنة ، فإنك إذا تأملت العمل رأيته عجيبا لطيفا ، و إذا رأيت المعمول وجدته عظيما شريفا موقعه من الناس ، و إذا رجعت إلى الفاعل ألفيته غبيا جاهلا بنفسه فضلا عما سوى ذلك ، ففي هذا أوضح الدلالة ، على أن الصواب و الحكمة في هذه الصنعة ليس للنحل ، بل هي للذي طبعه عليها ، و سخره فيها لمصلحة الناس .
[123]
الجراد و بلاؤه
انظر إلى هذا الجراد ما أضعفه و أقواه ، فإنك إذا تأملت خلقه رأيته كأضعف الأشياء ، و إن دلفت عساكره نحو بلد من بلدان لم يستطع أحد أن يحميه منه ، أ لا ترى أن ملكا من ملوك الأرض لو جمع خيله و رجله ليحمي بلاده من الجراد لم يقدر على ذلك ، أ فليس من الدلائل على قدرة الخالق ، أن يبعث أضعف خلقه إلى أقوى خلقه فلا يستطيع دفعه .
كثرة الجراد
انظر إليه كيف ينساب على وجه الأرض مثل السيل ، فيغشى السهل و الجبل ، و البدو و الحضر ، حتى يستر نور الشمس بكثرته ، فلو كان هذا مما يصنع بالأيدي ، متى كان تجتمع منه هذه الكثرة ، و في كم سنة كان يرتفع ؟ فأستدل بذلك على القدرة التي لا يؤدها شيء و لا يكثر عليها .
وصف السمك
تأمل خلق السمك و مشاكلته للأمر الذي قدر أن يكون عليه ، فإنه خلق غير ذي قوائم ، لأنه لا يحتاج إلى المشي إذ كان مسكنه الماء ، و خلق غير ذي رية لأنه لا يستطيع أن يتنفس و هو منغمس في اللجة
[124]
و جعلت له مكان القوائم أجنحة شداد ، يضرب بها في جانبيه كما يضرب الملاح بالمجاذيف من جانبي السفينة ، و كسا جسمه قشورا متانا متداخلة كتداخل الدروع و الجواشن ، لتقيه من الآفات ، فأعين بفضل حس في الشم لأن بصره ضعيف ، و الماء يحجبه ، فصار يشم الطعم من البعد البعيد فينتجعه فيتبعه ، و إلا فكيف يعلم به و بموضعه ، و اعلم أن من فيه إلى صماخه منافذ ، فهو يعب الماء بفيه ، و يرسله من صماخيه ، فيتروح إلى ذلك كما يتروح غيره من الحيوان إلى تنسم هذا النسيم .
كثرة نسل السمك و علة ذلك
فكر الآن في كثرة نسله و ما خص به من ذلك ، فإنك ترى في جوف السمكة الواحدة من البيض ما لا يحصى كثرة ، و العلة في ذلك أن يتسع لما يغتذي به من أصناف الحيوان ، فإن أكثرها يأكل السمك ، حتى أن السباع أيضا في حافات الآجام عاكفة على الماء أيضا كي ترصد السمك ، فإذا مرّ بها خطفته ، فلما كانت السباع تأكل السمك ،
[125]
و الطير يأكل السمك ، و الناس يأكلون السمك ، و السمك يأكل السمك ، كان من التدبير فيه أن يكون على ما هو عليه من الكثرة .
سعة حكمة الخالق و قصر علم المخلوقين
فإذا أردت أن تعرف سعة حكمة الخالق ، و قصر علم المخلوقين ، فانظر إلى ما في البحار من ضروب السمك ، و دواب الماء ، و الأصداف ، و الأصناف التي لا تحصى و لا تعرف منافعها إلا الشيء بعد الشيء ، يدركه الناس بأسباب تحدث ، مثل القرمز ، فإنه لما عرف الناس صبغه ، بأن كلبة تجول على شاطئ البحر ، فوجدت شيئا من الصنف الذي يسمى الحلزون ، فأكلته ، فاختضب خطمها بدمه ، فنظر الناس إلى حسنه فاتخذوه صبغا ، و أشباه هذا مما يقف الناس عليه حالا بعد حال ، و زمانا بعد زمان .
[126]
قال المفضل : و حان وقت الزوال فقام مولاي (عليه السلام) إلى الصلاة و قال : بكر إلىّ غدا إن شاء الله تعالى . فانصرفت ، و قد تضاعفت سروري بما عرفنيه ، مبتهجا بما منحنيه ، حامدا لله على ما آتانيه ، فبت ليلتي مسرورا مبتهجا .
المجلس الثالث
فلما كان اليوم الثالث بكرت إلى مولاي فاستؤذن لي فدخلت فأذن لي بالجلوس فجلست .
فقال (عليه السلام) : الحمد لله الذي اصطفانا و لم يصطف علينا ، اصطفانا بعلمه ،
[127]
و أيدنا بحلمه ، من شذّ عنا فالنار مأواه ، و من تفيأ بظل دوحتنا ، فالجنة مثواه .
قد شرحت لك يا مفضل خلق الإنسان ، و ما دبر به و تنقله في أحواله و ما فيه من الاعتبار ، و شرحت لك أمر الحيوان ، و أنا أبتدئ الآن بذكر السماء ، و الشمس ، و القمر ، و النجوم ، و الفلك ، و الليل ، و النهار ، و الحر ، و البرد ، و الرياح ، و الجواهر الأربعة : الأرض ، و الماء ، و الهواء ، و النار . و المطر ، و الصخر ، و الجبال ، و الطين ، و الحجارة ، و النخل ، و الشجر ، و ما في ذلك من الأدلة و العبر .
لون السماء و ما فيه من صواب التدبير
فكر في لون السماء و ما فيه من صواب التدبير ، فإن هذا اللون أشد الألوان موافقة و تقوية للبصر ، حتى أن من صفات الأطباء ، لمن أصابه شيء أضر ببصره ، إدمان النظر إلى الخضرة ، و ما قرب منها إلى السواد ، و قد وصف الحذاق منهم لمن كلّ بصره ، الاطلاع في إجانة خضراء مملوءة ماء ، فانظر كيف جعل الله جل و تعالى ، أديم السماء بهذا اللون الأخضر إلى السواد ، ليمسك الأبصار المتقلبة عليه ، فلا ينكي فيها بطول مباشرتها له ، فصار هذا الذي أدركه الناس ، بالفكر و الروية و التجارب ، يوجد مفروغا
[128]
منه في الخلقة ، حكمة بالغة ليعتبر بها المعتبرون ، و يفكر فيها الملحدون ، قاتلهم الله أنى يؤفكون .
طلوع الشمس و غروبها و المنافع في ذلك
فكر يا مفضل في طلوع الشمس و غروبها ، لإقامة دولتي النهار و الليل ، فلو لا طلوعها ، لبطل أمر العالم كله ، فلم يكن الناس يسعون في معايشهم ، و يتصرفون في أمورهم ، و الدنيا مظلمة عليهم ، و لم يكونوا يتهنون بالعيش مع فقدهم لذة النور و روحه ، و الأرب في طلوعها ظاهر ، مستغنى بظهوره عن الإطناب في ذكره ، و الزيادة في شرحه ، بل تأمل المنفعة في غروبها ، فلو لا غروبها لم يكن للناس هدوء و لا قرار ، مع عظم حاجتهم إلى الهدوء و الراحة ، لسكون أبدانهم ، و جموم حواسهم ، و انبعاث القوة الهاضمة لهضم الطعام ، و تنفيذ الغذاء إلى الأعضاء ، ثم كان الحرص يستحملهم من مداومة العمل و مطاولته ، على ما يعظم نكايته في أبدانهم ، فإن كثيرا من الناس لو لا جثوم هذا الليل بظلمته عليهم ، لم يكن لهم هدوء و لا قرار ، حرصا على الكسب و الجمع و الادخار ، ثم كانت الأرض تستحمى بدوام الشمس بضيائها ، و يحمى كل ما عليها من حيوان و نبات ، فقدرها
[129]
الله بحكمته و تدبيره ، تطلع وقتا ، و تغرب وقتا ، بمنزلة سراج يرفع لأهل البيت تارة ليقضوا حوائجهم ، ثم يغيب عنهم مثل ذلك ليهدءوا و يقروا ، فصار النور و الظلمة مع تضادهما منقادين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم و قوامه .
التدبير و المصلحة في الفصول الأربعة من السنة
ثم فكر بعد هذا في ارتفاع الشمس و انحطاطها لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة و ما في ذلك من التدبير و المصلحة ففي الشتاء تعود الحرارة في الشجر و النبات فيتولد فيهما مواد الثمار و يتكثف الهواء فينشأ منه السحاب و المطر و تشتد أبدان الحيوان و تقوى و في الربيع تتحرك و تظهر المواد المتولدة في الشتاء فيطلع النبات و تنور الأشجار و يهيج الحيوان للسفاد و في الصيف يحتدم الهواء فتنضج الثمار و تتحلل فضول الأبدان و يجف وجه الأرض فتهيأ للبناء و الأعمال و في الخريف يصفو الهواء و ترتفع الأمراض و تصح الأبدان و يمتد الليل فيمكن فيه بعض الأعمال لطوله و يطيب الهواء فيه إلى مصالح أخرى لو تقصيت لذكرها لطال فيها الكلام .
[130]
معرفة الأزمنة و الفصول الأربعة عن طريق حركة الشمس
فكر الآن في تنقل الشمس في البروج الاثني عشر لإقامة دور السنة و ما في ذلك من التدبير فهو الدور الذي تصح به الأزمنة الأربعة من السنة الشتاء و الربيع و الصيف و الخريف تستوفيها على التمام و في هذا المقدار من دوران الشمس تدرك الغلات و الثمار و تنتهي إلى غاياتهم ثم تعود فيستأنف النشو و النمو أ لا ترى أن السنة مقدار مسير الشمس من الحمل إلى الحمل فبالسنة و أخواتها يكال الزمان من لدن خلق الله تعالى العالم إلى كل وقت و عصر من غابر الأيام و بها يحسب الناس الأعمار و الأوقات الموقتة للديون و الإجارات و المعاملات و غير ذلك من أمورهم و بمسير الشمس تكمل السنة و يقوم حساب الزمان على الصحة انظر إلى شروقها على العالم كيف دبر أن يكون فإنها لو كانت تبزغ في موضع من السماء فتقف لا تعدوه لما وصل شعاعها و منفعتها إلى كثير من الجهات لأن الجبال و الجدران كانت تحجبها عنها فجعلت تطلع أول النهار من المشرق فتشرق على ما قابلها من وجه المغرب ثم لا
[131]
تزال تدور و تغشى جهة بعد جهة حتى تنتهي إلى المغرب فتشرق على ما استتر عنها في أول النهار فلا يبقى موضع من المواضع إلا أخذ بقسطه من المنفعة منها و الأرب التي قدرت له و لو تخلفت مقدار عام أو بعض عام كيف كان يكون حالهم بل كيف كان يكون لهم مع ذلك بقاء أ فلا ترى كيف كان يكون للناس هذه الأمور الجليلة التي لم يكن عندهم فيها حيلة فصارت تجري على مجاريها لا تفتل و لا تتخلف عن مواقيتها لصلاح العالم و ما فيه بقاؤه .
الاستدلال بالقمر في معرفة الشهور
استدل بالقمر ففيه دلالة جليلة تستعملها العامة في معرفة الشهور و لا يقوم عليه حساب السنة لأن دوره لا يستوفي الأزمنة الأربعة و نشو الثمار و تصرمها و لذلك صارت شهور القمر و سنوه تتخلف عن شهور الشمس و سنيها و صار الشهر من شهور القمر ينتقل فيكون مرة بالشتاء و مرة بالصيف .
ضوء القمر و ما فيه من المنافع
فكر في إنارته في ظلمة الليل و الأرب في ذلك فإنه مع الحاجة إلى الظلمة لهدوء الحيوان و برد الهواء على النبات لم يكن صلاح في أن يكون الليل ظلمة داجية لا ضياء فيها فلا يمكن فيه شيء من العمل لأنه ربما
[132]
احتاج الناس إلى العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في بعض الأعمال في النهار و لشدة الحر و إفراطه فيعمل في ضوء القمر أعمالا شتى كحرث الأرض و ضرب اللبن و قطع الخشب و ما أشبه ذلك فجعل ضوء القمر معونة للناس على معايشهم إذا احتاجوا إلى ذلك و أنسا للسائرين و جعل طلوعه في بعض الليل دون بعض و نقص مع ذلك عن نور الشمس و ضيائها لكيلا ينبسط الناس في العمل انبساطهم بالنهار و يمتنعوا من الهدوء و القرار فيهلكهم ذلك و في تصرف القمر خاصة في مهله و محاقه و زيادته و نقصانه و كسوفه من التنبيه على قدرة الله تعالى خالفه المصرف له هذا التصريف لصلاح العالم ما يعتبر به المعتبرون .
النجوم و اختلاف مسيرها و السبب في أن بعضها راتبة و الأخرى منتقلة
فكر يا مفضل في النجوم و اختلاف مسيرها فبعضها لا تفارق مراكزها من الفلك و لا تسير إلا مجتمعة و بعضها مطلقة تنتقل في البروج و تفترق في مسيرها فكل واحد منها يسير سيرين مختلفين أحدهما عام مع الفلك نحو المغرب و الآخر خاص لنفسه نحو المشرق كالنملة التي تدور على الرحى فالرحى تدور ذات اليمين و النملة تدور ذات الشمال
[133]
و النملة في ذلك تتحرك حركتين مختلفين إحداهما بنفسها فتتوجه أمامها و الأخرى مستكرهة مع الرحى تجذبها إلى خلفها فاسأل الزاعمين أن النجوم صارت على ما هي عليه بالإهمال من غير عمد و لا صانع لها ما منعها أن تكون كلها راتبة أو تكون كلها منتقلة فإن الإهمال معنى واحد فكيف صار يأتي بحركتين مختلفتين على وزن و تقدير ففي هذا بيان أن مسير الفريقين على ما يسيران عليه بعمد و تدبير و حكمة و تقدير و ليس بإهمال كما يزعم المعطلة فإن قال قائل و لم صار بعض النجوم راتبا و بعضها منتقلا قلنا إنها لو كانت كلها راتبة لبطلت الدلالات التي يستدل بها من تنقل المنتقلة و مسيرها في كل برج من البروج كما يستدل بها على أشياء مما يحدث في العالم بتنقل الشمس و النجوم في منازلها و لو كانت