back page fehrest page next page

[134]

كلها منتقلة لم يكن لمسيرها منازل تعرف و لا رسم يوقف عليه لأنه إنما يوقف عليه بمسير المنتقلة منها بتنقلها في البروج الراتبة كما يستدل على سير السائر على الأرض بالمنازل التي يجتاز عليها أو لو كان تنقلها بحال واحد لاختلط نظامها و بطلت المآرب فيها و لساغ القائل يقول إن كينونتها على حال واحدة توجب عليها الإهمال من الجهة التي وصفنا ففي اختلاف سيرها و تصرفها و ما في ذلك من المآرب و المصلحة أبين دليل على العمد و التدبير فيها .

فوائد بعض النجوم

فكر في هذه النجوم التي تظهر في بعض السنة ، و تحتجب في بعضها ، كمثل الثريا ، و الجوزاء ، و الشعريين ، و سهيل ، فإنها لو كانت

[135]

بأسرها تظهر في وقت واحد ، لم يكن لواحد فيها على حياله دلالات ، يعرفها الناس و يهتدون بها لبعض أمورهم ، كمعرفتهم الآن بما يكون من طلوع الثور ، و الجوزاء ، إذا طلعت ، و احتجابها إذا احتجبت ، فصار ظهور كل واحد و احتجابه في وقت غير الوقت الآخر ، لينتفع الناس بما يدل عليه كل واحد منها على حدته ، و ما جعلت الثريا ، و أشباهها ، تظهر حينا و تحتجب حينا ، إلا لضرب من المصلحة ، و كذلك جعلت بنات نعش ظاهرة لا تغيب ، لضرب آخر من المصلحة ، فإنها بمنزلة الأعلام التي يهتدي بها الناس في البر و البحر للطرق المجهولة ، و كذلك إنها لا تغيب و لا تتوارى فهم ينظرون إليها متى أرادوا أن يهتدوا بها إلى حيث شاءوا ، و صار الأمران جميعا على اختلافهما موجهين نحو الأرب و المصلحة ، و فيهما مآرب أخرى علامات و دلالات ، على أوقات كثيرة من الأعمال ، كالزراعة و الغراس و السفر في البر و البحر ، و أشياء مما يحدث في الأزمنة ، من الأمطار و الرياح و الحر و البرد ، و بها يهتدي السائرون في ظلمة الليل لقطع القفار الموحشة ، و اللجج الهائلة ، مع ما في ترددها في كبد السماء ، مقبلة و مدبرة و مشرقة

[136]

و مغربة من العبر ، فإنها تسير أسرع السير و أحثه ، أ رأيت لو كانت الشمس و القمر و النجوم بالقرب منا حتى يتبين لنا سرعة سيرها بكنه ما هي عليه ، أ لم تكن تستخطف الأبصار بوهجها و شعاعها كالذي يحدث أحيانا من البروق إذا توالت و اضطرمت في الجو ، و كذلك أيضا لو أن أناسا كانوا في قبة مكللة بمصابيح ، تدور حولهم دورانا حثيثا ، لحارت أبصارهم حتى يخروا لوجوههم ، فانظر كيف قدّر أن يكون مسيرها في البعد البعيد ، لكيلا تضر في الأبصار و تنكأ فيها ، و بأسرع السرعة لكيلا تتخلف عن مقدار الحاجة في مسيرها ، و جعل فيها جزء يسيرا من الضوء ليسد مسد الأضواء إذا لم يكن قمر ، و يمكن فيه الحركة ، إذا حدثت ضرورة كما قد يحدث الحادث على المرء فيحتاج إلى التجافي في جوف الليل ، فإن لم يكن شي‏ء من الضوء يهتدى به لم يستطع أن يبرح مكانه ، فتأمل اللطف و الحكمة في هذا التقدير حين جعل للظلمة دولة و مدة ، لحاجة إليها ، و جعل خلالها شي‏ء من الضوء للمآرب التي وصفنا .

الشمس و القمر و النجوم و البروج تدل على الخالق

فكر في هذا الفلك بشمسه و قمره و نجومه و بروجه تدور على العالم هذا الدوران الدائم بهذا التقدير و الوزن لما في اختلاف الليل و النهار

[137]

و هذه الأزمان الأربعة المتوالية من التنبيه على الأرض و ما عليها من أصناف الحيوان و النبات من ضروب المصلحة كالذي بينت و شخصت لك آنفا و هل يخفى على ذي لب أن هذا تقدير مقدر و صواب و حكمة من مقدر حكيم فإن قال قائل إن هذا شي‏ء اتفق أن يكون هكذا فما منعه أن يقول مثل هذا في دولاب يراه يدور و يسقي حديقة فيها شجر و نبات فيرى كل شي‏ء من آلاته مقدرا بعضه يلقى بعضا على ما فيه صلاح تلك الحديقة و ما فيها و بم كان يثبت هذا القول لو قاله و ما ترى الناس كانوا قائلين له لو سمعوه منه أ فينكر أن يقول في دولاب خشب مصنوع بحيلة قصيرة لمصلحة قطعة من الأرض أنه كان بلا صانع و مقدر و يقدر أن يقول في هذا الدولاب الأعظم المخلوق بحكمة تقصر عنها أذهان البشر لصلاح جميع الأرض و ما عليها أنه شي‏ء اتفق أن يكون بلا صنعة و لا تقدير لو اعتل هذا الفلك كما تعتل الآلات التي تتخذ للصناعات و غيرها أي شي‏ء كان عند الناس من الحيلة في إصلاحه .

مقادير الليل و النهار

فكر يا مفضل في مقادير النهار و الليل ، كيف وقعت على ما فيه صلاح هذا الخلق ، فصار منتهى كل واحد منهما إذا امتد إلى

[138]

خمس عشرة ساعة لا يجاوز ذلك ، أ فرأيت لو كان النهار يكون مقداره مائة ساعة ، أو مائتي ساعة ، أ لم يكن في ذلك بوار كل ما في الأرض من حيوان و نبات ، أما الحيوان فكان لا يهدأ ، و لا يقر ، طول هذه المدة ، و لا البهائم كانت تمسك عن الرعي لو دام لها ضوء النهار ، و لا الإنسان كان يفتر عن العمل و الحركة ، و كان ذلك ينهكها أجمع ، و يؤديها إلى التلف . و أما النبات فكان يطول عليه حر النهار و وهج الشمس حتى يجف و يحترق ، كذلك الليل لو امتد مقدار هذه المدة ، كان يعوق أصناف الحيوان عن الحركة و التصرف في طلب المعاش حتى تموت جوعا ، و تخمد الحرارة الطبيعية عن النبات حتى يعفن و يفسد ، كالذي تراه يحدث على النبات إذا كان في موضع لا تطلع عليه الشمس .

الحر و البرد و فوائدهما

اعتبر بهذا الحر و البرد كيف يتعاوران العالم و يتصرفان هذا التصرف في الزيادة و النقصان و الاعتدال لإقامة هذه الأزمنة الأربعة

[139]

من السنة و ما فيهما من المصالح ثم هما بعد دباغ الأبدان التي عليها بقاؤها و فيهما صلاحها فإنه لو لا الحر و البرد و تداولهما الأبدان لفسدت و أخوت و انتكثت فكر في دخول أحدهما على الآخر بهذا التدريج و الترسل فإنك ترى أحدهما ينقص شيئا بعد شي‏ء و الآخر يزيد مثل ذلك حتى ينتهي كل واحد منهما منتهاه في الزيادة و النقصان و لو كان دخول أحدهما على الآخر مفاجأة لأضر ذلك بالأبدان و أسقمها كما أن أحدكم لو خرج من حمام حار إلى موضع البرودة لضره ذلك و أسقم بدنه فلم يجعل الله عز و جل هذا الترسل في الحر و البرد إلا للسلامة من ضرر المفاجأة و لم جرى الأمر على ما فيه السلامة من ضرر المفاجأة لو لا التدبير في ذلك فإن زعم زاعم أن هذا الترسل في دخول الحر و البرد إنما يكون لإبطاء مسير الشمس في ارتفاعها و انحطاطها سئل عن العلة في إبطاء مسير الشمس في ارتفاعها و انحطاطها فإن اعتل في الإبطاء ببعد ما بين المشرقين سئل عن العلة في ذلك فلا تزال هذه المسألة ترقي معه إلى حيث رقى من هذا القول حتى استقر على العمد و التدبير لو لا الحر لما كانت الثمار

[140]

الجاسية المرة تنضج فتلين و تعذب حتى يتفكه بها رطبة و يابسة و لو لا البرد لما كان الزرع يفرخ هكذا و يريع الريع الكثير الذي يتسع للقوت و ما يرد في الأرض للبذر أ فلا ترى ما في الحر و البرد من عظيم الغناء و المنفعة و كلاهما مع غنائه و المنفعة فيه يؤلم الأبدان و يمضها و في ذلك عبرة لمن فكر و دلالة على أنه من تدبير الحكيم في مصلحة العالم و ما فيه .

الريح و ما فيها

و أنبهك يا مفضل على الريح و ما فيها أ لست ترى ركودها إذا ركدت كيف يحدث الكرب الذي يكاد أن يأتي على النفوس و يمرض الأصحاء و ينهك المرضى و يفسد الثمار و يعفن البقول و يعقب الوباء في الأبدان و الآفة في الغلات ففي هذا بيان أن هبوب الريح من تدبير الحكيم في صلاح الخلق .

[141]

الهواء و الأصوات

و أنبئك عن الهواء بخلة أخرى فإن الصوت أثر يؤثره اصطكاك الأجسام في الهواء و الهواء يؤديه إلى المسامع و الناس يتكلمون في حوائجهم و معاملاتهم طول نهارهم و بعض ليلهم فلو كان أثر هذا الكلام يبقى في الهواء كما يبقى الكتاب في القرطاس لامتلأ العالم منه فكان يكربهم و يفدحهم و كانوا يحتاجون في تجديده و الاستبدال به إلى أكثر مما يحتاج إليه في تجديد القراطيس لأن ما يلفظ من الكلام أكثر مما يكتب فجعل الخلاق الحكيم جل قدسه هذا الهواء قرطاسا خفيا يحمل الكلام ريثما يبلغ العالم حاجتهم ثم يمحى فيعود جديدا نقيا و يحمل ما حمل أبدا بلا انقطاع و حسبك بهذا النسيم المسمى هواء عبرة و ما فيه من المصالح فإنه حياة هذه الأبدان و الممسك لها من داخل بما يستنشق منه من خارج بما يباشر من روحه و فيه تطرد هذه الأصوات فيؤدي البعد البعيد و هو الحامل لهذه الأرواح ينقلها من موضع إلى موضع

[142]

أ لا ترى كيف تأتيك الرائحة من حيث تهب الريح فكذلك الصوت و هو القابل لهذا الحر و البرد اللذين يتعاقبان على العالم لصلاحه و منه هذه الريح الهابة فالريح تروح عن الأجسام و تزجي السحاب من موضع إلى موضع ليعم نفعه حتى يستكشف فيمطر و تفضه حتى يستخف فيتفشى و تلقح الشجر و تسير السفن و ترخى الأطعمة و تبرد الماء و تشب النار و تجفف الأشياء الندية و بالجملة إنها تحيي كل ما في الأرض فلو لا الريح لذوي النبات و لمات الحيوان و حمت الأشياء و فسدت .

هيئة الأرض

فكر يا مفضل فيما خلق الله عز و جل عليه هذه الجواهر الأربعة ليتسع ما يحتاج إليه منها فمن ذلك سعة هذه الأرض و امتدادها فلو لا ذلك كيف كانت تتسع لمساكن الناس و مزارعهم و مراعيهم و منابت أخشابهم و أحطابهم و العقاقير العظيمة و المعادن الجسيم غناؤها و لعل من

[143]

ينكر هذه الفلوات الخاوية و القفار الموحشة فيقول ما المنفعة فيها فهي مأوى هذه الوحوش و محالها و مراعيها ثم فيها بعد تنفس و مضطرب للناس إذا احتاجوا إلى الاستبدال بأوطانهم فكم بيداء و كم فدفد حالت قصورا و جنانا بانتقال الناس إليها و حلولهم فيها و لو لا سعة الأرض و فسحتها لكان الناس كمن هو في حصار ضيق لا يجد مندوحة عن وطنه إذا أحزنه أمر يضطره إلى الانتقال عنه ثم فكر في خلق هذه الأرض على ما هي عليه حين خلقت راتبة راكنة فتكون موطنا مستقرا للأشياء فيتمكن الناس من السعي عليها في مآربهم و الجلوس عليها لراحتهم و النوم لهدوئهم و الإتقان لأعمالهم فإنها لو كانت رجراجة منكفئة لم يكونوا يستطيعون أن يتقنوا البناء و النجارة و الصناعة و ما أشبه ذلك بل كانوا لا يتهنون بالعيش و الأرض ترتج من تحتهم و اعتبر ذلك بما يصيب الناس حين الزلازل على قلة

[144]

مكثها حتى يصيروا إلى ترك منازلهم و الهرب عنها فإن قال قائل فلم صارت هذه الأرض تزلزل قيل له إن الزلزلة و ما أشبهها موعظة و ترهيب يرهب بها الناس ليرعوا و ينزعوا عن المعاصي و كذلك ما ينزل بهم من البلاء في أبدانهم و أموالهم يجري في التدبير على ما فيه صلاحهم و استقامتهم و يدخر لهم إن صلحوا من الثواب و العوض في الآخرة ما لا يعدله شي‏ء من أمور الدنيا و ربما عجل ذلك في الدنيا إذا كان ذلك في الدنيا صلاحا للعامة و الخاصة ثم إن الأرض في طباعها الذي طبعها الله عليه باردة يابسة و كذلك الحجارة و إنما الفرق بينها و بين الحجارة فضل يبس في الحجارة أ فرأيت لو أن اليبس أفرط على الأرض قليلا حتى تكون حجرا صلدا أ كانت تنبت هذا النبات الذي به حياة الحيوان و كان يمكن بها حرث أو بناء أ فلا ترى كيف نقصت من يبس الحجارة و جعلت على ما هي عليه من اللين و الرخاوة لتتهيأ للاعتماد .

فوائد الماء و السبب في كثرته

و من تدبير الحكيم جل و علا في خلقة الأرض أن مهب الشمال أرفع من مهب الجنوب فلم جعل الله عز و جل كذلك إلا لتنحدر المياه

[145]

على وجه الأرض فتسقيها و ترويها ثم تفيض آخر ذلك إلى البحر فكما يرفع أحد جانبي السطح و يخفض الآخر لينحدر الماء عنه و لا يقوم عليه كذلك جعل مهب الشمال أرفع من مهب الجنوب لهذه العلة بعينها و لو لا ذلك لبقي الماء متحيرا على وجه الأرض فكان يمنع الناس من أعمالها و يقطع الطرق و المسالك ثم الماء لو لا كثرته و تدفقه في العيون و الأودية و الأنهار لضاق عما يحتاج إليه الناس لشربهم و شرب أنعامهم و مواشيهم و سقي زروعهم و أشجارهم و أصناف غلاتهم و شرب ما يرده من الوحوش و الطير و السباع و تتقلب فيه الحيتان و دواب الماء و فيه منافع أخر أنت بها عارف و عن عظيم موقعها غافل فإنه سوى الأمر الجليل المعروف من عظيم غنائه في إحياء جميع ما على الأرض من الحيوان و النبات يمزج الأشربة فتلذ و تطيب لشاربها و به تنظف الأبدان و الأمتعة من الدرن الذي يغشاها و به يبل التراب فيصلح للأعمال و به

[146]

يكف عادية النار إذا اضطرمت و أشرف الناس على المكروه و به يستحم المتعب الكال فيجد الراحة من أوصابه إلى أشباه هذا من المآرب التي تعرف عظم موقعها في وقت الحاجة إليها فإن شككت في منفعة هذا الماء الكثير المتراكم في البحار و قلت ما الأرب فيه فعلم أنه مكتنف و مضطرب ما لا يحصى من أصناف السمك و دواب البحر و معدن اللؤلؤ و الياقوت و العنبر و أصناف شتى تستخرج من البحر و في سواحله منابت العود اليلنجوج و ضروب من الطيب و العقاقير ثم هو بعد مركب للناس و محمل لهذه التجارات التي تجلب من البلدان البعيدة كمثل ما يجلب من الصين إلى العراق و من العراق إلى الصين فإن هذه التجارات لو لم يكن لها محمل إلا على الظهر لبارت و بقيت في بلدانها و أيدي أهلها لأن أجر حملها يجاوز أثمانها فلا يتعرض أحد لحملها و كان يجتمع في ذلك أمران أحدهما فقد أشياء كثيرة تعظم الحاجة إليها و الآخر انقطاع معاش من يحملها و يتعيش بفضلها .

فوائد الهواء و السبب في كثرته

و هكذا الهواء لو لا كثرته و سعته لاختنق هذا الأنام من الدخان

[147]

و البخار الذي يتحير فيه و يعجز عما يحول إلى السحاب و أولا أولا فقد تقدم من صفته ما فيه كفاية .

منافع النار و جعلها كالمخزونة في الأجسام

و النار أيضا كذلك فإنها لو كانت مبثوثة كالنسيم و الماء كانت تحرق العالم و ما فيه و لما لم يكن بد من ظهورها في الأحايين لغنائها في كثير من المصالح جعلت كالمخزونة في الأجسام فتلتمس عند الحاجة إليها و تمسك بالمادة و الحطب ما احتيج إلى بقائها لئلا تخبو فلا هي تمسك بالمادة و الحطب فتعظم المئونة في ذلك و لا هي تظهر مبثوثة فتحرق كل ما هي فيه بل هي على تهيئة و تقدير اجتمع فيها الاستمتاع بمنافعها و السلامة من ضررها ثم فيها خلة أخرى و هي أنها مما خص بها الإنسان دون جميع الحيوان لما له فيها من المصلحة فإنه لو فقد النار لعظم ما يدخل عليه من الضرر في معاشه فأما البهائم فلا تستعمل النار و لا تستمع بها و لما قدر الله عز و جل أن يكون هذا هكذا خلق للإنسان كفا و أصابع مهيئة لقدح النار و استعمالها و لم يعط البهائم مثل ذلك لكنها أعينت بالصبر على الجفاء و الخلل في المعاش لكيلا ينالها في فقد النار ما ينال الإنسان عند فقدها و أنبئك من منافع النار على خلقة صغيرة عظيم موقعها و هي هذا المصباح الذي يتخذه الناس فيقضون به حوائجهم ما شاءوا في ليلهم و لو لا هذه الخلة لكان الناس تصرف أعمارهم بمنزلة من في القبور فمن كان

[148]

يستطيع أن يكتب أو يحفظ أو ينسج في ظلمة الليل و كيف كان حال من عرض له وجع في وقت من أوقات الليل فاحتاج إلى أن يعالج ضمادا أو سفوفا أو شيئا يستشفي به فأما منافعها في نضج الأطعمة و دفاء الأبدان و تجفيف أشياء و تحليل أشياء و أشباه ذلك فأكثر من أن تحصى و أظهر من أن تخفى .

الصحو و المطر و تعاقبهما على العالم و فوائد ذلك

فكر يا مفضل في الصحو و المطر كيف يتعاقبان على هذا العالم لما فيه صلاحه و لو دام واحد منهما عليه كان في ذلك فساده أ لا ترى أن الأمطار إذا توالت عفنت البقول و الخضر و استرخت أبدان الحيوان و حصر الهواء فأحدث ضروبا من الأمراض و فسدت الطرق و المسالك و أن الصحو إذا دام جفت الأرض و احترق النبات و غيض ماء العيون و الأودية فأضر ذلك بالناس و غلب اليبس على الهواء فأحدث ضروبا أخرى من الأمراض فإذا تعاقبا على العالم هذا التعاقب اعتدل الهواء و دفع كل واحد منهما عادية الآخر فصلحت الأشياء و استقامت فإن قال قائل و لم لا يكون في شي‏ء من ذلك مضرة البتة قيل له ليمض ذلك الإنسان و يؤلمه بعض الألم فيرعوي عن المعاصي فكما أن الإنسان إذا سقم بدنه احتاج إلى الأدوية المرة البشعة ليقوم طباعه و يصلح ما فسد

[149]

منه كذلك إذا طغى و اشتد احتاج إلى ما يمضه و يؤلمه ليرعوي و يقصر عن مساويه و يثبته على ما فيه حظه و رشده و لو أن ملكا من الملوك قسم في أهل مملكته قناطيرا من ذهب و فضة أ لم يكن سيعظم عندهم و يذهب له به الصوت فأين هذا من مطره رواء يعم به البلاد و يزيد في الغلات أكثر من قناطير الذهب و الفضة في أقاليم الأرض كلها أ فلا ترى المطرة الواحدة ما أكبر قدرها و أعظم النعمة على الناس فيها و هم عنها ساهون و ربما عاقت عن أحدهم حاجة لا قدر لها فيتذمر و يسخط إيثارا للخسيس قدره على العظيم نفعه جميلا محمودا لعاقبته و قلة معرفته لعظيم الغناء و المنفعة فيها .

مصالح نزول المطر على الأرض و أثر التدبير فيه

تأمل نزوله على الأرض و التدبير في ذلك فإنه جعل ينحدر عليها من علو ليغشى ما غلظ و ارتفع منها فيرويه و لو كان إنما يأتيها من بعض نواحيها لما علا المواضع المشرفة منها و يقل ما يزرع في الأرض أ لا ترى أن الذي يزرع سيحا أقل من ذلك فالأمطار هي التي تطبق الأرض و ربما تزرع هذه البراري الواسعة و سفوح الجبال و ذراها فتغل

[150]

الغلة الكثيرة و بها يسقط عن الناس في كثير من البلدان مئونة سياق الماء من موضع إلى موضع و ما يجري في ذلك بينهم من التشاجر و التظالم حتى يستأثر بالماء ذو العز و القوة و يحرمه الضعفاء ثم إنه حين قدر أن ينحدر على الأرض انحدارا جعل ذلك قطرا شبيها بالرش ليغور في قعر الأرض فيرويها و لو كان يسكبه انسكابا كان ينزل على وجه الأرض فلا يغور فيها ثم كان يحطم الزروع القائمة إذا اندفق عليها فصار ينزل نزولا رقيقا فينبت الحب المزروع و يحيي الأرض و الزرع القائم و في نزوله أيضا مصالح أخرى فإنه يلين الأبدان و يجلو كدر الهواء فيرتفع الوباء الحادث من ذلك و يغسل ما يسقط على الشجر و الزرع من الداء المسمى باليرقان إلى أشباه هذا من المنافع فإن قال قائل أ و ليس قد يكون منه في بعض السنين الضرر العظيم الكثير لشدة ما يقع منه أو برد يكون فيه تحطم الغلات و بخوره يحدثها في الهواء فيولد كثيرا من الأمراض في الأبدان و الآفات في الغلات قيل بلى قد يكون ذلك الفرط لما فيه من صلاح الإنسان و كفه عن ركوب المعاصي و التمادي فيها فيكون المنفعة فيما يصلح له من دينه أرجح مما عسى أن يرزأ في ماله .

[151]

منافع الجبال

انظر يا مفضل إلى هذه الجبال المركومة من الطين و الحجارة التي يحسبها الغافلون فضلا لا حاجة إليها و المنافع فيها كثيرة فمن ذلك أن تسقط عليها الثلوج فتبقى في قلالها لمن يحتاج إليه و يذوب ما ذاب منه فتجري منه العيون الغزيرة التي تجتمع منها الأنهار العظام و ينبت فيها ضروب من النبات و العقاقير التي لا ينبت مثلها في السهل و يكون فيها كهوف و معاقل للوحوش من السباع العادية و يتخذ منها الحصون و القلاع المنيعة للتحرز من الأعداء و ينحت منها الحجارة للبناء و الأرحاء و يوجد فيها معادن لضرب من الجواهر و فيها خلال أخر لا يعرفها إلا المقدر لها في سابق علمه .

أنواع المعادن و استفادة الإنسان منها

فكر يا مفضل في هذه المعادن و ما يخرج منها من الجواهر المختلفة مثل الجص و الكلس و الجبسين و الزرنيخ

[152]

و المرتك و التوتياء و الزئبق و النحاس و الرصاص و الفضة و الذهب و الزبرجد و الياقوت و الزمرد و ضروب الحجارة و كذلك ما يخرج منها من القار و الموميا و الكبريت و النفط و غير ذلك مما يستعمله الناس في مآربهم فهل يخفى على ذي عقل أن هذه كلها ذخائر ذخرت للإنسان في هذه الأرض ليستخرجها فيستعملها عند الحاجة إليها ثم قصرت حيلة الناس

[153]

عما حاولوا من صنعتها على حرصهم و اجتهادهم في ذلك فإنهم لو ظفروا بما حاولوا من هذا العلم كان لا محالة سيظهر و يستفيض في العالم حتى تكثر الفضة و الذهب و يسقطا عند الناس فلا تكون لهما قيمة و يبطل الانتفاع بهما في الشراء و البيع و المعاملات و لا كان يجبي السلطان الأموال و لا يدخرهما أحد للأعقاب و قد أعطي الناس مع هذا صنعة الشبه من النحاس و الزجاج من الرمل و الفضة من الرصاص و الذهب من الفضة و أشباه ذلك مما لا مضرة فيه فانظر كيف أعطوا إرادتهم في ما لا ضرر فيه و منعوا ذلك فيما كان ضارا لهم لو نالوه و من أوغل في المعادن انتهى إلى واد عظيم يجري منصلتا بماء غزير لا يدرك غوره و لا حيلة في عبوره و من ورائه أمثال الجبال من الفضة تفكر الآن في هذا من تدبير الخالق الحكيم فإنه أراد جل ثناؤه أن يرى العباد قدرته و سعة خزائنه ليعلموا أنه لو شاء أن يمنحهم كالجبال من الفضة لفعل لكن لا صلاح لهم في ذلك لأنه لو كان فيكون فيها كما ذكرنا سقوط هذا الجوهر عند الناس و قلة انتفاعهم به و اعتبر ذلك بأنه قد يظهر الشي‏ء الظريف مما يحدثه الناس من الأواني و الأمتعة فما دام عزيزا قليلا فهو نفيس جليل آخذ الثمن فإذا فشا و كثر في أيدي الناس سقط عندهم و خست قيمته و نفاسة الأشياء من عزتها .

[154]

النبات و ما فيه من ضروب المآرب

فكر يا مفضل في هذا النبات و ما فيه من ضروب المآرب فالثمار للغذاء و الأتبان للعلف و الحطب للوقود و الخشب لكل شي‏ء من أنواع النجارة و غيرها و اللحاء و الورق و الأصول و العروق و الصموغ لضروب من المنافع أ رأيت لو كنا نجد الثمار التي نغتذي بها مجموعة على وجه الأرض و لم تكن تنبت على هذه الأغصان الحاملة لها كم كان يدخل علينا من الخلل في معاشنا و إن كان الغذاء موجودا فإن المنافع بالخشب و الحطب و الأتبان و سائر ما عددناه كثيرة عظيم قدرها جليل موقعها هذا مع ما في النبات من التلذذ بحسن منظره و نضارته التي لا يعدلها شي‏ء من مناظر العالم و ملاهيه .

الريع في النبات و سببه

فكر يا مفضل في هذا الريع الذي جعل في الزرع فصارت الحبة الواحدة تخلف مائة حبة و أكثر و أقل و كان يجوز للحبة أن تأتي بمثلها فلم صارت تريع هذا الريع إلا ليكون في الغلة متسع لما يرد في

[155]

الأرض من البذر و ما يتقوت الزراع إلى إدراك زرعها المستقبل أ لا ترى أن الملك لو أراد عمارة بلد من البلدان كان السبيل في ذلك أن يعطي أهله ما يبذرونه في أرضهم و ما يقوتهم إلى إدراك زرعهم فانظر كيف تجد هذا المثال قد تقدم في تدبير الحكيم فصار الزرع يريع هذا الريع ليفي بما يحتاج إليه للقوت و الزراعة و كذلك الشجر و النبت و النخل يريع الريع الكثير فإنك ترى الأصل الواحد حوله من فراخه أمرا عظيما فلم كان كذلك إلا ليكون فيه ما يقطعه الناس و يستعملونه في مآربهم و ما يرد فيغرس في الأرض و لو كان الأصل منه يبقى منفردا لا يفرخ و لا يريع لما أمكن أن يقطع منه شي‏ء لعمل و لا لغرس ثم كان إن أصابته آفة انقطع أصله فلم يكن منه خلف .

بعض النباتات و كيف تصان

تأمل نبات هذه الحبوب من العدس و الماش و الباقلاء و ما أشبه ذلك ، فإنها تخرج في أوعية مثل الخرائط لتصونها و تحجبها من الآفات إلى أن تشتد و تستحكم كما قد تكون المشيمة على الجنين لهذا المعنى بعينه .

[156]

و أما البر و ما أشبهه فإنه يخرج مدرجا في قشور صلاب ، على رءوسها أمثال الأسنة من السنبل ، ليمنع الطير منه ليتوفر على الزراع . فإن قال قائل : أ و ليس قد ينال الطير من البر و الحبوب . قيل له : بلى على هذا قدر الأمر فيها ، لأن الطير خلق من خلق الله تعالى ، و قد جعل الله تبارك و تعالى له في ما تخرج الأرض حظا ، و لكن حصنت الحبوب بهذه الحجب لئلا يتمكن الطير منها كل التمكن فيعبث بها و يفسد الفساد الفاحش ، فإن الطير لو صادف الحب بارزا ليس عليه شي‏ء يحول دونه لأكب عليه حتى ينسفه أصلا ، فكان يعرض من ذلك أن يبشم الطير فيموت ، و يخرج الزارع من زرعه صفرا ، فجعلت عليه هذه الوقايات لتصونه ، فينال الطائر منه شيئا يسيرا يتقوت به و يبقى أكثره للإنسان ، فإنه أولى به إذ كان هو الذي كدح فيه و شقي به و كان الذي يحتاج إليه أكثر مما يحتاج إليه الطير .

back page fehrest page next page