back page fehrest page next page

الحكمة في خلق الشجر و أصناف النبات

تأمل الحكمة في خلق الشجر و أصناف النبات فإنها لما كانت تحتاج إلى الغذاء الدائم كحاجة الحيوان و لم يكن لها أفواه كأفواه الحيوان و لا حركة تنبعث بها لتناول الغذاء جعلت أصولها مركوزة في الأرض لتنزع منها الغذاء فتؤديه إلى الأغصان و ما عليها من الورق و الثمر فصارت الأرض كالأم المربية لها و صارت أصولها التي هي كالأفواه ملتقمة للأرض

[157]

لتنزع منها الغداء كما ترضع أصناف الحيوان أمهاتها أ لم تر إلى عمد الفساطيط و الخيم كيف تمد بالأطناب من كل جانب لتثبت منتصبة فلا تسقط و لا تميل فهكذا تجد النبات كله له عروق منتشرة في الأرض ممتدة إلى كل جانب لتمسكه و تقيمه و لو لا ذلك كيف كان يثبت هذا النخل الطوال و الدوح العظام في الريح العاصف فانظر إلى حكمة الخالق كيف سبقت حكمة الصناعة فصارت الحيلة التي تستعملها الصناع في ثبات الفساطيط و الخيم متقدمة في خلق الشجر لئن خلق الشجر قبل صنعه الفساطيط و الخيم أ لا ترى عمدها و عيدانها من الشجر فالصناعة مأخوذة من الخلقة .

خلق الورق و وصفه

تأمل يا مفضل خلق الورق فإنك ترى في الورقة شبه العروق مبثوثة فيها أجمع فمنها غلاظ ممتدة في طولها و عرضها و منها دقاق تتخلل تلك الغلاظ منسوجة نسجا دقيقا معجما لو كان مما يصنع بالأيدي كصنعة البشر لما فرغ من ورق شجره واحدة في عام كامل و لاحتيج إلى آلات و حركة و علاج و كلام فصار يأتي منه في أيام قلائل من الربيع ما يملأ الجبال و السهل و بقاع الأرض كلها بلا حركة و لا كلام إلا بالإرادة النافذة في كل شي‏ء و الأمر المطاع و اعرف مع ذلك العلة في تلك العروق

[158]

الدقاق فإنها جعلت تتخلل الورقة بأسرها لتسقيها و توصل الماء إليها بمنزلة العروق المبثوثة في البدن لتوصل الغذاء إلى كل جزء منه الغلاظ منها معنى آخر فإنها تمسك الورقة بصلابتها و متانتها لئلا تنهتك و تتمزق فترى الورقة شبيهة بورقة معمولة بالصنعة من خرق قد جعلت فيها عيدان ممدودة في طولها و عرضها لتتماسك فلا تضطرب فالصناعة تحكي الخلقة و إن كانت لا تدركها على الحقيقة .

العجم و النوى و العلة في خلقه

فكر في هذا العجم و النوى و العلة فيه فإنه جعل في جوف الثمرة ليقوم مقام الغرس إن عاق دون الغرس عائق كما يحرز الشي‏ء النفيس الذي تعظم الحاجة إليه في مواضع أخر فإن حدث على الذي في بعض المواضع منه حادث وجد في موضع آخر ثم هو بعد يمسك بصلابته رخاوة الثمار و رقتها و لو لا ذلك لتشدخت و تفسخت و أسرع إليها الفساد و بعضه يؤكل و يستخرج دهنه فيستعمل منه ضروب من المصالح و قد تبين لك موضع الأرب في العجم و النوى فكر الآن في هذا الذي تجده فوق النواة من الرطبة و فوق العجم من العنبة فما العلة فيه و لما ذا يخرج في هذه الهيئة و قد كان يمكن أن يكون مكان ذلك ما ليس فيه مأكل كمثل ما يكون في السدر

[159]

و الدلب و ما أشبه ذلك فلم صار يخرج فوقه هذه المطاعم اللذيذة إلا ليستمتع بها الإنسان .

موت الشجر و تجدد حياته و ما في ذلك من ضروب التدبير

فكر في ضروب من التدبير في الشجر فإنك تراه يموت في كل سنة موته فتحتبس الحرارة الغريزية في عوده و يتولد فيه مواد الثمار ثم يحيى و ينتشر فيأتيك بهذه الفواكه نوعا بعد نوع كما تقدم إليك أنواع الأطبخة التي تعالج بالأيدي واحدا بعد واحد فترى الأغصان في الشجر تتلقاك بثمارها حتى كأنها تناولكها عن يد و ترى الرياحين تتلقاك في أفنانها كأنها تجئك بأنفسها فلمن هذا التقدير إلا لمقدر حكيم و ما العلة فيه إلا تفكيه الإنسان بهذه الثمار و الأنوار و العجب من أناس جعلوا مكان الشكر على النعمة جحود المنعم بها .

خلق الرمانة و أثر العمد فيه

و اعتبر بخلق الرمانة و ما ترى فيها من أثر العمد و التدبير ، فإنك ترى فيها كأمثال التلال من شحم مركوم في نواحيها و حب مرصوف صفا كنحو ما ينضد بالأيدي ، و ترى الحب مقسوما أقساما و كل قسم

[160]

منها ملفوفا بلفائف من حجب منسوجة أعجب النسج و ألطفه ، و قشره يضم ذلك كله ، فمن التدبير في هذه الصنعة أنه لم يكن يجوز أن يكون حشو الرمانة من الحب وحده ، و ذلك أن الحب لا يمد بعضه بعضا فجعل ذلك الشحم خلال الحب ليمده بالغذاء ، أ لا ترى أن أصول الحب مركوزة في ذلك الشحم ، ثم لف بتلك اللفائف لتضمه و تمسكه فلا يضطرب ، و غشي فوق ذلك بالقشرة المستحصفة لتصونه و تحصنه من الآفات . فهذا قليل من كثير من وصف الرمانة و فيه أكثر من هذا لمن أراد الإطناب و التذرع في الكلام ، و لكن فيما ذكرت لك كفاية في الدلالة و الاعتبار .

حمل اليقطين و ما فيه من التدبير و الحكمة

فكر يا مفضل في حمل اليقطين الضعيف مثل هذه الثمار الثقيلة من الدباء و القثاء و البطيخ و ما في ذلك من التدبير و الحكمة ، فإنه حين قدر أن يحمل مثل هذه الثمار ، جعل نباته منبسطا على الأرض ، و لو كان ينتصب قائما كما ينتصب الزرع و الشجر لما استطاع أن يحمل مثل هذه الثمار الثقيلة ، و لتقصف قبل إدراكها و انتهائها إلى غاياتها ، فانظر كيف

[161]

صار يمتد على وجه الأرض ليلقي عليها ثماره فتحملها عنه ، فترى الأصل من القرع و البطيخ مفترشا للأرض و ثماره مبثوثة عليها و حواليه كأنه هرة ممتدة و قد اكتنفتها جراؤها لترضع منها .

موافاة أصناف النبات في الوقت المشاكل لها

و انظر كيف صارت الأصناف توافي في الوقت المشاكل لها من حمارة الصيف و وقدة الحر فتلقاها النفوس بانشراح و تشوق إليها و لو كانت توافي الشتاء لوافقت من الناس كراهة لها و اقشعرارا منها مع ما يكون فيها من المضرة للأبدان أ لا ترى أنه ربما أدرك شي‏ء من الخيار في الشتاء فيمتنع الناس من أكله إلا الشره الذي لا يمتنع من أكل ما يضره و يسقم معدته .

[162]

في النخل و خلقة الجذع و الخشب و فوائد ذلك

فكر يا مفضل في النخل ، فإنه لما صار فيه إناث تحتاج إلى التلقيح ، جعلت فيه ذكورة للقاح من غير غراس ، فصار الذكر من النخل بمنزلة الذكر من الحيوان ، الذي يلقح الإناث لتحمل و هو لا يحمل ، تأمل خلقة الجذع ، كيف هو ؟ فإنك تراه كالمنسوج نسجا من خيوط ممدودة كالسدى ، و أخرى معه معترضة كاللحمة ، كنحو ما ينسج بالأيدي ، و ذلك ليشتد و يصلب و لا يتقصف من حمل القنوات الثقيلة ، و هز الرياح العواصف إذا صار نخلة ، و ليتهيأ للسقوف و الجسور و غير ذلك مما يتخذ منه إذا صار جذعا ، و كذلك ترى الخشب مثل النسج فإنك ترى بعضه مداخلا بعضه بعضا طولا و عرضا كتداخل أجزاء اللحم ، و فيه مع ذلك متانة ليصلح لما يتخذ منه من الآلات فإنه لو كان مستحصفا كالحجارة لم يمكن أن يستعمل في السقوف و غير ذلك مما يستعمل فيه الخشبة كالأبواب و الأسرة و التوابيت و ما أشبه ذلك ، و من جسيم المصالح في الخشب أنه

[163]

يطفو على الماء ، فكل الناس يعرف هذا منه و ليس كلهم يعرف جلاله الأمر فيه فلو لا هذه الخلة ، كيف كانت هذه السفن و الأظراف تحمل أمثال الجبال من الحمولة ، و أنى كان ينال الناس هذا الرفق و خفة المئونة في حمل التجارات من بلد إلى بلد و كانت تعظم المئونة عليهم في حملها حتى يلقى كثير مما يحتاج إليه في بعض البلدان مفقودا أصلا أو عسر وجوده .

العقاقير و اختصاص كل منها

فكر في هذه العقاقير و ما خص بها كل واحد منها من العمل في بعض الأدواء فهذا يغور في المفاصل فيستخرج الفضول الغليظة مثل الشيطرج ، و هذا ينزف المرة السوداء مثل الأفتيمون ، و هذا

[164]

ينفي الرياح مثل السكبينج ، و هذا يحلل الأورام ، و أشباه هذا من أفعالها فمن جعل هذه القوى فيها إلا من خلقها للمنفعة ، و من فطن الناس لها ، إلا من جعل هذا فيها ، و متى كان يوقف على هذا منها بالعرض و الاتفاق كما قال القائلون ، و هب الإنسان فطن لهذه الأشياء بذهنه و لطيف رويته و تجاربه ، فالبهائم كيف فطنت لها حتى صار بعض السباع يتداوى من جراحة إن أصابته ببعض العقاقير ، فيبرأ ، و بعض الطير يحتقن من الحصر يصيبه بماء البحر ، فيسلم ، و أشباه هذا كثير ، و لعلك تشكك في هذا النبات النابت في الصحاري و البراري ، حيث لا أنس و لا أنيس ، فتظن أنه فضل لا حاجة إليه ، و ليس كذلك ، بل هو طعم لهذه الوحوش ، و حبه علف للطير ، و عوده و أفنانه حطب فيستعمله الناس ، و فيه بعد أشياء تعالج بها الأبدان ، و أخرى تدبغ بها الجلود ، و أخرى تصبغ الأمتعة ، و أشباه هذا من المصالح . أ لست تعلم أن من أخس النبات و أحقره هذا البردي ، و ما أشبهها ، ففيها مع هذا من ضروب المنافع ، فقد يتخذ من البردي القراطيس التي يحتاج إليها الملوك و السوقة ، و الحصر التي يستعملها كل صنف من الناس ، و يعمل منه الغلف التي يوقى بها الأواني ، و يجعل حشوا بين الظروف في الأسفاط لكيلا تعيب و تنكسر ، و أشباه هذا من المنافع ، فاعتبر بما ترى من ضروب المآرب في صغير الخلق و كبيره ، و بما له قيمة

[165]

و ما لا قيمة له ، و أخس من هذا و أحقره الزبل و العذرة ، التي اجتمعت فيها الخساسة و النجاسة معا ، و موقعها من الزروع و البقول و الخضر أجمع ، الموقع الذي لا يعدله شي‏ء ، حتى أن كل شي‏ء من الخضر لا يصلح و لا يزكو إلا بالزبل و السماد الذي يستقذره الناس و يكرهون الدنو منه ، و اعلم أنه ليس منزلة الشي‏ء على حسب قيمته ، بل هما قيمتان مختلفتان بسوقين ، و ربما كان الخسيس في سوق المكتسب نفيسا في سوق العلم ، فلا تستصغر العبرة في الشي‏ء لصغر قيمته ، فلو فطن طالبوا الكيمياء لما في العذرة ، لاشتروها بأنفس الأثمان و غالوا بها .

قال المفضل : و حان وقت الزوال ، فقام مولاي إلى الصلاة و قال : بكر إلى غدا إن شاء الله تعالى .

فانصرفت و قد تضاعف سروري بما عرفنيه ، مبتهجا بما آتانيه ، حامدا لله على ما منحنيه ، فبتّ ليلتي مسرورا .

[166]

المجلس الرابع

قال المفضل : فلما كان اليوم الرابع بكّرت إلى مولاي ، فاستؤذن لي ، فأمرني بالجلوس فجلست .

فقال (عليه السلام) : منا التحميد و التسبيح و التعظيم و التقديس للاسم الأقدم ، و النور الأعظم ، العلي العلام ، ذي الجلال و الإكرام ، و منشئ الأنام ، و مفني العوالم و الدهور ، و صاحب السر المستور ، و الغيب المحظور ، و الاسم المخزون ، و العلم المكنون ، و صلواته و بركاته على مبلغ وحيه ، و مؤدي رسالته ، الذي بعثه بشيرا و نذيرا ، و داعيا إلى الله بإذنه و سراجا منيرا ، ليهلك من هلك عن بينة ، و يحيا من حي عن بينة ، فعليه و على آله من بارئه الصلوات الطيبات ، و التحيات الزاكيات الناميات ، و عليه و عليهم السلام و الرحمة و البركات ، في الماضين و الغابرين أبد الآبدين و دهر الداهرين ، و هم أهله و مستحقوه .

الموت و الفناء و انتقاد الجهال و جواب ذلك

قد شرحت لك يا مفضل من الأدلة على الخلق ، و الشواهد على صواب التدبير ، و العمد في الإنسان ، و الحيوان ، و النبات ، و الشجر ، و غير ذلك ما فيه عبرة لمن اعتبر ، و أنا أشرح لك الآن الآفات الحادثة في بعض الأزمان ، التي اتخذها أناس من الجهال ذريعة إلى جحود الخلق و الخالق و العمد و التدبير ، و ما أنكرت المعطلة ، و المنانية ، من المكاره و المصائب ، و ما

[167]

أنكروه من الموت و الفناء و ما قاله أصحاب الطبائع و من زعم أن كون الأشياء بالعرض و الاتفاق ليتسع ذلك القول في الرد عليهم قاتلهم الله أنى يؤفكون .

الآفات و نظر الجهال إليها و الجواب على ذلك

اتخذ أناس من الجهال هذه الآفات الحادثة في بعض الأزمان كمثل الوباء ، و اليرقان ، و البرد ، و الجراد ، ذريعة إلى جحود الخالق و التدبير و الخلق . فيقال في جواب ذلك : أنه إن لم يكن خالق و مدبر فلم لا يكون ما هو أكثر من هذا و أفظع ؟ فمن ذلك أن تسقط السماء على الأرض ، و تهوي الأرض فتذهب سفلا ، و تتخلف الشمس عن الطلوع أصلا ، و تجف الأنهار و العيون حتى لا يوجد ماء للشفه ، و تركد الريح حتى تخم الأشياء و تفسد ، و يفيض ماء البحر على الأرض فيغرقها ، ثم هذه الآفات التي ذكرناها من الوباء و الجراد و ما أشبه ذلك ، ما بالها لا تدوم و تمتد حتى تجتاح كل ما في العالم ، بل تحدث في الأحايين ، ثم لا تلبث أن ترفع ، أ فلا ترى أن العالم يصان و يحفظ من تلك الأحداث الجليلة التي لو حدث عليه شي‏ء منها كان فيه بواره ، و يلذع أحيانا بهذه الآفات اليسيرة لتأديب الناس و تقويمهم ، ثم لا تدوم هذه الآفات ، بل تكشف

[168]

عنهم عند القنوط منهم فيكون وقوعها بهم موعظة ، و كشفها عنهم رحمة ، و قد أنكرت المنانية من المكاره و المصائب التي تصيب الناس ، فكلاهما يقول : إن كان للعالم خالق رءوف رحيم فلم تحدث فيه هذه الأمور المكروهة ؟ و القائل بهذا القول يذهب إلى أنه ينبغي أن يكون عيش الإنسان في هذه الدنيا صافيا من كل كدر ، و لو كان هكذا ، كان الإنسان يخرج من الأشر و العتو إلى ما لا يصلح في دين و لا دنيا ، كالذي ترى كثيرا من المترفين و من نشأ في الجدة و الأمن يخرجون إليه حتى أن أحدهم ينسى أنه بشر ، و أنه مربوب ، أو أن ضررا يمسه ، أو أن مكروها ينزل به ، أو أنه يجب عليه أن يرحم ضعيفا ، أو يواسي فقيرا ، أو يرثي لمبتلى ، أو يتحنن على ضعيف ، أو يتعطف على مكروب ، فإذا عضته المكاره و وجد مضضها اتعظ و أبصر كثيرا مما كان جهله و غفل عنه ، و رجع إلى كثير مما كان يجب عليه ، و المنكرون لهذه الأمور المؤذية بمنزلة الصبيان الذين يذمون الأدوية المرة البشعة ، و يتسخطون من المنع من الأطعمة الضارة ، و يتكرهون الأدب و العمل ، و يحبون أن يتفرغوا للهو و البطالة ، و ينالوا كل مطعم و مشرب ، و لا يعرفون ما تؤديهم إليه البطالة من سوء النشو و العادة ، و ما تعقبهم الأطعمة اللذيذة الضارة من الأدواء و الأسقام ، و ما لهم في الأدب من الصلاح ، و في الأدوية من المنفعة ، و إن شاب ذلك بعض الكراهة .

[169]

فإن قالوا : فلم لم يكن الإنسان معصوما من المساوئ حتى لا يحتاج إلى أن تلذعه هذه المكاره ؟

قيل : إذا كان يكون غير محمود على حسنة يأتيها و لا مستحقا للثواب عليها . فإن قالوا : و ما كان يضره أن لا يكون محمودا على الحسنات مستحقا للثواب بعد أن يصير إلى غاية النعيم و اللذات . قيل لهم : اعرضوا على امرئ صحيح الجسم و العقل أن يجلس منعما و يكفى كلما يحتاج إليه بلا سعي و لا استحقاق فانظروا هل تقبل نفسه ذلك بل ستجدونه بالقليل مما يناله بالسعي و الحركة أشد اغتباطا و سرورا منه بالكثير مما يناله بغير الاستحقاق و كذلك نعيم الآخرة أيضا يكمل لأهله بأن ينالوه بالسعي فيه و الاستحقاق له فالنعمة على الإنسان في هذا الباب مضاعفة فإن أعد له الثواب الجزيل على سعيه في هذه الدنيا و جعل له السبيل إلى أن ينال ذلك بسعي و استحقاق فيكمل له السرور و الاغتباط بما يناله منه فإن قالوا أ و ليس قد يكون من الناس من يركن إلى ما نال من خير و إن كان لا يستحقه فما الحجة في منع من رضي أن ينال نعيم الآخرة على هذه الجملة قيل لهم إن هذا باب لو صح للناس لخرجوا إلى غاية الكلب و الضراوة على الفواحش و انتهاك المحارم فمن كان يكف نفسه عن فاحشة أو يتحمل المشقة في باب من أبواب البر لوثق بأنه

[170]

صائر إلى النعيم لا محالة أو من كان يأمن على نفسه و أهله و ماله من الناس لو لم يخاف الحساب و العقاب فكان ضرر هذا الباب سينال الناس في هذه الدنيا قبل الآخرة فيكون في ذلك تعطيل العدل و الحكمة معا و موضع للطعن على التدبير بخلاف الصواب و وضع الأمور في غير مواضعها .

لما ذا تصيب الآفات جميع الناس و ما الحجة في ذلك

و قد يتعلق هؤلاء بالآفات التي تصيب الناس فتعم البر و الفاجر أو يبتلى بها البر و يسلم الفاجر منها فقالوا كيف يجوز هذا في تدبير الحكيم و ما الحجة فيه فيقال لهم إن هذه الآفات و إن كانت تنال الصالح و الطالح جميعا فإن الله عز و جل جعل ذلك صلاحا للصنفين كليهما أما الصالحون فإن الذي يصيبهم من هذا يزدهم نعم ربهم عندهم في سالف أيامهم فيحدوهم ذلك على الشكر و الصبر و أما الطالحون فإن مثل هذا إذا نالهم كسر شرتهم و ردعهم عن المعاصي و الفواحش و كذلك يجعل لمن سلم منهم من الصنفين صلاحا في ذلك أما الأبرار فإنهم يغتبطون بما هم عليه من البر و الصلاح و يزدادون فيه رغبة و بصيرة و أما الفجار فإنهم يعرفون رأفة ربهم و تطوله عليهم بالسلامة من غير استحقاق فيحضهم ذلك على الرأفة بالناس و الصفح عمن أساء إليهم و لعل قائلا يقول إن هذه الآفات التي تصيب الناس في أموالهم فما قولك فيما يبتلون به في أبدانهم فيكون فيه تلفهم كمثل الحرق و الغرق و السيل و الخسف فيقال له إن الله جعل في هذا أيضا صلاحا للصنفين جميعا أما الأبرار فلما لهم في مفارقة هذه الدنيا من الراحة

[171]

من تكاليفها و النجاة من مكارهها و أما الفجار فلما لهم في ذلك من تمحيص أوزارهم و حبسهم عن الازدياد منها و جملة القول إن الخالق تعالى ذكره بحكمته و قدرته قد يصرف هذه الأمور كلها إلى الخير و المنفعة فكما أنه إذا قطعت الريح شجره أو قطعت نخلة أخذها الصانع الرفيق و استعملها في ضروب من المنافع فكذلك يفعل المدبر الحكيم في الآفات التي تنزل بالناس في أبدانهم و أموالهم فيصيرها جميعا إلى الخير و المنفعة فإن قال و لم تحدث على الناس قيل له لكيلا يركنوا إلى المعاصي من طول السلامة فيبالغ الفاجر في ركوب المعاصي و يفتر الصالح عن الاجتهاد في البر فإن هذين الأمرين جميعا يغلبان على الناس في حال الخفض و الدعة و هذه الحوادث التي تحدث عليهم تردعهم و تنبههم على ما فيه رشدهم فلو خلوا منها لغلوا في الطغيان و المعصية كما غلا الناس في أول الزمان حتى وجب عليهم البوار بالطوفان و تطهير الأرض منهم .

الموت و الفناء و انتقاد الجهال و جواب ذلك

و مما ينتقده الجاحدون للعمد و التقدير الموت و الفناء فإنهم يذهبون إلى أنه ينبغي أن يكون الناس مخلدين في هذه الدنيا مبرءين من هذه الآفات فينبغي أن يساق هذا الأمر إلى غايته فينظر ما محصوله أ فرأيت لو كان كل من دخل العالم و يدخله يبقون و لا يموت أحد منهم أ لم تكن الأرض تضيق بهم حتى تعوزهم المساكن و المزارع و المعايش فإنهم و الموت يفنيهم أولا فأولا يتنافسون في المساكن

[172]

و المزارع حتى تنشب بينهم في ذلك الحروب و تسفك فيهم الدماء فكيف كانت تكون حالهم لو كانوا يولدون و لا يموتون و كان يغلب عليهم الحرص و الشره و قساوة القلوب فلو وثقوا بأنهم لا يموتون لما قنع الواحد منهم بشي‏ء يناله و لا أفرج لأحد عن شي‏ء يسأله و لا سلا عن شي‏ء مما يحدث عليه ثم كانوا يملون الحياة و كل شي‏ء من أمور الدنيا كما قد يمل الحياة من طال عمره حتى يتمنى الموت و الراحة من الدنيا فإن قالوا إنه كان ينبغي أنه يرفع عنهم المكاره و الأوصاب حتى لا يتمنوا الموت و لا يشتاقوا إليه فقد وصفنا ما كان يخرجهم إليه من العتو و الأشر الحامل لهم على ما فيه فساد الدنيا و الدين و إن قالوا إنه كان ينبغي أن لا يتوالدوا كيلا تضيق عنهم المساكن و المعايش قيل لهم إذا كان يحرم أكثر هذا الخلق دخول العالم و الاستمتاع بنعم الله تعالى و مواهبه في الدارين جميعا إذا لم يدخل العالم إلا قرن واحد لا يتوالدون و لا يتناسلون فإن قالوا إنه كان ينبغي أن يخلق في ذلك القرن الواحد من الناس مثل ما خلق و يخلق إلى انقضاء العالم يقال لهم رجع الأمر إلى ما ذكرنا من ضيق المساكن و المعايش عنهم ثم لو كانوا لا يتوالدون و لا يتناسلون لذهب موضع الأنس بالقرابات و ذوي الأرحام و الانتصار بهم عند الشدائد و موضع تربية الأولاد و السرور بهم ففي هذا دليل على أن كلما تذهب إليه الأوهام سوى ما جرى به التدبير خطأ و سفه من الرأي و القول .

[173]

الطعن على التدبير من جهة أخرى و الجواب عليه

و لعل طاعنا يطعن على التدبير من جهة أخرى فيقول كيف يكون هاهنا تدبير و نحن نرى الناس في هذه الدنيا من عزيز فالقوي يظلم و يغصب ، و الضعيف يظلم و يسالم الخسف ، و الصالح فقير مبتلى ، و الفاسق معافى موسع عليه ، و من ركب فاحشة أو انتهك محرما لم يعاجل بالعقوبة ، فلو كان في العالم تدبير لجرت الأمور على القياس القائم ، فكان الصالح هو المرزوق ، و الطالح هو المحروم ، و كان القوي يمنع من ظلم الضعيف ، و المنتهك للمحارم يعاجل بالعقوبة . فيقال في جواب ذلك : إن هذا لو كان هكذا لذهب موضع الإحسان الذي فضل به الإنسان على غيره من الخلق ، و حمل النفس على البر ، و العمل الصالح احتسابا للثواب و ثقة بما وعد الله عنه ، و لصار الناس بمنزلة الدواب التي تساس بالعصا و العلف ، و يلمع لها بكل واحد منهما ساعة فساعة فتستقيم على ذلك و لم يكن أحد يعمل على يقين بثواب أو عقاب ، حتى كان هذا يخرجهم عن حد الإنسية إلى حد البهائم ، ثم لا يعرف ما غاب و لا يعمل إلا على الحاضر من نعيم الدنيا ، و كان يحدث من هذا أيضا أن يكون الصالح إنما يعمل للرزق و السعة في هذه الدنيا ، و يكون الممتنع من الظلم و الفواحش إنما يكف عن ذلك لترقب عقوبة تنزل به من ساعته حتى تكون أفعال الناس كلها تجري على الحاضر ، لا يشوبه شي‏ء من اليقين بما عند الله ، و لا يستحقون ثواب الآخرة و النعيم الدائم فيها ، مع أن هذه الأمور التي ذكرها الطاعن من

[174]

الغنى و الفقر و العافية و البلاء ليست بجارية على خلاف قياسه بل قد تجري على ذلك أحيانا و الأمر المفهوم ، فقد ترى كثيرا من الصالحين يرزقون المال لضروب من التدبير و كيلا يسبق إلى قلوب الناس أن الكفار هم المرزوقون ، و الأبرار هم المحرومون ، فيؤثرون الفسق على الصلاح ، و ترى كثيرا من الفساق يعاجلون بالعقوبة إذا تفاقم طغيانهم ، و عظم ضررهم على الناس و على أنفسهم كما عوجل فرعون بالغرق ، و بخت‏نصر بالتيه ، و بلبيس بالقتل ، و إن أمهل بعض الأشرار بالعقوبة و أخر بعض الأخيار بالثواب إلى الدار الآخرة ، لأسباب تخفى على العباد لم يكن هذا مما يبطل التدبير ، فإن مثل هذا قد يكون من ملوك الأرض ، و لا يبطل تدبيرهم ، بل يكون تأخيرهم ما أخروه ، و تعجيلهم ما عجلوه داخلا في صواب الرأي و التدبير ، و إذا كانت

[175]

الشواهد تشهد و قياسهم يوجب أن للأشياء خالقا حكيما قادرا فما يمنعه أن يدبر خلقه فإنه لا يصلح في قياسهم أن يكون الصانع يهمل صنعته إلا بإحدى ثلاث خلال إما عجز و إما جهل و إما شرارة و كل هذا محال في صنعته عز و جل و تعالى ذكره و ذلك أن العاجز لا يستطيع أن يأتي بهذه الخلائق الجليلة العجيبة و الجاهل لا يهتدى لما فيها من الصواب و الحكمة و الشرير لا يتطاول لخلقها و إنشائها و إذا كان هذا هكذا وجب أن يكون الخالق لهذه الخلائق يدبرها لا محالة و إن كان لا يدرك كنه ذلك التدبير و مخارجه فإن كثيرا من تدبير الملوك لا تفهمه العامة و لا تعرف أسبابه لأنها لا تعرف دخيلة أمر الملوك و أسرارهم فإذا عرف سببه وجد قائما على الصواب و الشاهد المحنة و لو شككت في بعض الأدوية و الأطعمة فيتبين لك من جهتين أو ثلاث أنه حار أو بارد أ لم تكن ستقضي عليه بذلك و تنفي الشك فيه عن نفسك فما بال هؤلاء الجهلة لا يقضون على العالم بالخلق و التدبير مع هذه الشواهد الكثيرة و أكثر منها ما لا يحصى كثرة و لو كان نصف العالم و ما فيه مشكلا صوابه لما كان من حزم الرأي و سمت الأدب أن يقضى على العالم بالإهمال لأنه كان في النصف الآخر و ما يظهر فيه من الصواب و إتقان ما يردع الوهم عن التسرع إلى هذه القضية فكيف و كلما فيه إذا فتش وجد على غاية الصواب حتى لا يخطر بالبال شي‏ء إلا وجد ما عليه الخلقة أصح و أصوب منه .

[176]

اسم هذا العالم بلسان اليونانية

و اعلم يا مفضل أن اسم هذا العالم بلسان اليونانية الجاري المعروف عندهم قوسموس و تفسيره الزينة و كذلك سمته الفلاسفة و من ادعى الحكمة أ فكانوا يسمونه بهذا الاسم إلا لما رأوا فيه من التقدير و النظام فلم يرضوا أن يسموه تقديرا و نظاما حتى سموه زينة ليخبروا أنه مع ما هو عليه من الصواب و الإتقان على غاية الحسن و البهاء .

back page fehrest page next page