back page fehrest page  

عمي ماني عن دلائل الحكمة و ادعاؤه علم الأسرار

أعجب يا مفضل من قوم لا يقضون على صناعة الطب بالخطإ و هم يرون الطبيب يخطئ و يقضون على العالم بالإهمال و لا يرون شيئا منه مهملا بل أعجب من أخلاق من ادعى الحكمة حتى جهلوا مواضعها في الخلق فأرسلوا ألسنتهم بالذم للخالق جل و علا بل العجب من المخذول ماني حين ادعى علم الأسرار و عمي عن دلائل الحكمة في الخلق حتى نسبه إلى الخطإ و نسب خالقه إلى الجهل تبارك الحكيم الكريم .

انتقاد المعطلة فيما راموا أن يدركوا بالحس ما لا يدرك بالعقل

و أعجب منهم جميعا المعطلة الذين راموا أن يدركوا بالحس ما لا يدرك بالعقل فلما أعوزهم ذلك خرجوا إلى الجحود و التكذيب فقالوا و لم لا يدرك بالعقل قيل لأنه فوق مرتبة العقل كما لا يدرك البصر ما هو

[177]

فوق مرتبته فإنك لو رأيت حجرا يرتفع في الهواء علمت أن راميا رمى به فليس هذا العلم من قبل البصر بل من قبل العقل لأن العقل هو الذي يميزه فيعلم أن الحجر لا يذهب علوا من تلقاء نفسه أ فلا ترى كيف وقف البصر على حده فلم يتجاوزه فكذلك يقف العقل على حده من معرفة الخالق فلا يعدوه و لكن يعقله بعقل أقر أن فيه نفسا و لم يعاينها و لم يدركها بحاسة من الحواس .

معرفة العقل للخالق معرفة إقرار لا معرفة إحاطة

و على حسب هذا أيضا نقول : إن العقل يعرف الخالق من جهة توجب عليه الإقرار ، و لا يعرفه بما يوجب له الإحاطة بصفته .

فإن قالوا : فكيف يكلف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللطيف و لا يحيط به ?

قيل لهم : إنما كلف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه ، و هو أن يوقنوا به ، و يقفوا عند أمره و نهيه ، و لم يكلفوا الإحاطة بصفته ، كما أن الملك لا يكلف رعيته أن يعلموا أ طويل هو أم قصير ، و أبيض هو أم أسمر ، و إنما يكلفهم الإذعان لسلطانه و الانتهاء إلى أمره ، أ لا ترى أن رجلا لو أتى باب الملك ، فقال : أعرض علي نفسك حتى أتقصى معرفتك و إلا لم أسمع لك ، كان قد أحل نفسه بالعقوبة ، فكذا القائل إنه لا يقر بالخالق سبحانه حتى يحيط بكنهه متعرضا لسخطه .

فإن قالوا : أ و ليس قد نصفه ? فنقول : هو العزيز الحكيم الجواد الكريم .

قيل لهم : كل هذه صفات إقرار و ليست صفات إحاطة ، فإنا نعلم أنه حكيم و لا نعلم بكنه ذلك منه ، و كذلك

[178]

قدير و جواد و سائر صفاته ، كما قد نرى السماء فلا ندري ما جوهرها ، و نرى البحر و لا ندري أين منتهاه ، بل فوق هذا المثال بما لا نهاية له ، و لأن الأمثال كلها تقصر عنه و لكنها تقود العقل إلى معرفته .

فإن قالوا : و لم يختلف فيه ?

قيل لهم : لقصر الأوهام عن مدى عظمته و تعديها أقدارها في طلب معرفته ، و أنها تروم الإحاطة به و هي تعجز عن ذلك و ما دونه .

الشمس و اختلاف الفلاسفة في وضعها و شكلها و مقدارها

فمن ذلك هذه الشمس التي تراها تطلع على العالم و لا يوقف على حقيقة أمرها و لذلك كثرت الأقاويل فيها و اختلفت الفلاسفة المذكورون في وصفها فقال بعضهم هو فلك أجوف مملوء نارا له فم يجيش بهذا الوهج و الشعاع و قال آخرون هو سحابة و قال آخرون هو جسم زجاجي يقل نارية في العالم و يرسل عليه شعاعها و قال آخرون هو صفو لطيف ينعقد ماء البحر و قال آخرون هو أجزاء كثيرة مجتمعة من النار و قال آخرون هو من جوهر خامس سوى الجواهر الأربعة ثم اختلفوا في شكلها فقال بعضهم هي بمنزلة صفيحة عريضة و قال آخرون هي كالكرة المدحرجة و كذلك اختلفوا في مقدارها فزعم بعضهم أنها مثل الأرض سواء و قال آخرون بل هي أقل من ذلك و قال آخرون بل هي أعظم من الجزيرة العظيمة و قال أصحاب الهندسة هي أضعاف الأرض مائة و سبعين مرة ففي اختلاف

[179]

هذه الأقاويل منهم في الشمس دليل على أنهم لم يقفوا على الحقيقة من أمرها فإذا كانت هذه الشمس التي يقع عليها البصر و يدركها الحس قد عجزت العقول عن الوقوف على حقيقتها فكيف ما لطف عن الحس و استتر عن الوهم فإن قالوا و لم استتر قيل لهم لم يستتر بحيلة يخلص إليها كمن يحتجب من الناس بالأبواب و الستور و إنما معنى قولنا استتر أنه لطف عن مدى ما تبلغه الأوهام كما لطفت النفس و هي خلق من خلقه و ارتفعت عن إدراكها بالنظر فإن قالوا و لم لطف تعالى عن ذلك علوا كبيرا كان ذلك خطأ من القول لأنه لا يليق بالذي هو خالق كل شي‏ء إلا أن يكون مباينا لكل شي‏ء متعاليا عن كل شي‏ء سبحانه و تعالى .

الحق الذي تطلب معرفته من الأشياء أربعة أوجه و تفصيل ذلك

فإن قالوا كيف يعقل أن يكون مباينا لكل شي‏ء متعاليا عن كل شي‏ء قيل لهم الحق الذي تطلب معرفته من الأشياء هو أربعة أوجه فأولها أن ينظر أ موجود هو أم ليس بموجود و الثاني أن يعرف ما هو في ذاته و جوهرة و الثالث أن يعرف كيف هو و ما صفته و الرابع أن يعلم لما ذا هو و لأي علة فليس من هذه الوجوه شي‏ء يمكن للمخلوق أن يعرفه من الخالق حق معرفته غير أنه موجود فقط فإذا قلنا و كيف و ما هو فممتنع علم كنهه و كمال المعرفة به و أما لما ذا هو فساقط في صفة الخالق لأنه جل ثناؤه علة كل شي‏ء و ليس شي‏ء بعلة له ثم ليس

[180]

علم الإنسان بأنه موجود يوجب له أن يعلم ما هو و كيف هو كما أن علمه بوجود النفس لا يوجب أن يعلم ما هي و كيف هي و كذلك الأمور الروحانية اللطيفة فإن قالوا فأنتم الآن تصفون من قصور العلم عنه وصفا حتى كأنه غير معلوم قيل لهم هو كذلك من جهة إذا رام العقل معرفة كنهه و الإحاطة به و هو من جهة أخرى أقرب من كل قريب إذا استدل عليه بالدلائل الشافية فهو من جهة كالواضح لا يخفى على أحد و هو من جهة كالغامض لا يدركه أحد و كذلك العقل أيضا ظاهر بشواهده و مستور بذاته .

أصحاب الطبائع و مناقشة أقوالهم

فأما أصحاب الطبائع فقالوا إن الطبيعة لا تفعل شيئا لغير معنى و لا تتجاوز عما فيه تمام الشي‏ء في طبيعته و زعموا أن الحكمة تشهد بذلك فقيل لهم فمن أعطي الطبيعة هذه الحكمة و الوقوف على حدود الأشياء بلا مجاوزة لها و هذا قد تعجز عنه العقول بعد طول التجارب فإن أوجبوا للطبيعة الحكمة و القدرة على مثل هذه الأفعال فقد أقروا بما أنكروا لأن هذه في صفات الخالق و إن أنكروا أن يكون هذا للطبيعة فهذا وجه الخلق يهتف بأن الفعل للخالق الحكيم و قد كان من القدماء طائفة أنكروا العمد و التدبير في الأشياء و زعموا أن كونها بالعرض و الاتفاق و كان مما احتجوا به هذه الآيات التي تكون على غير مجرى العرف و العادة كإنسان يولد ناقصا أو زائدا إصبعا أو يكون المولود مشوها مبدل الخلق

[181]

فجعلوا هذا دليلا على أن كون الأشياء ليس بعمد و تقدير بل بالعرض كيف ما اتفق أن يكون و قد كان أرسطاطاليس رد عليهم فقال إن الذي يكون بالعرض و الاتفاق إنما هو شي‏ء يأتي في الفرط مرة لأعراض تعرض للطبيعة فتزيلها عن سبيلها و ليس بمنزلة الأمور الطبيعية الجارية على شكل واحد جريا دائما متتابعا و أنت يا مفضل ترى أصناف الحيوان أن يجري أكثر ذلك على مثال و منهاج واحد كالإنسان يولد و له يدان و رجلان و خمس أصابع كما عليه الجمهور من الناس فأما ما يولد على خلاف ذلك فإنه لعلة تكون في الرحم أو في المادة التي ينشأ منها الجنين كما يعرض في الصناعات حين يتعمد الصانع الصواب في صنعته فيعوق دون ذلك عائق في الأداة أو في الآلة التي يعمل فيها الشي‏ء فقد يحدث مثل ذلك في أولاد الحيوان

[182]

للأسباب التي وصفنا فيأتي الولد زائدا أو ناقصا أو مشوها و يسلم أكثرها فيأتي سويا لا علة فيه فكما أن الذي يحدث في بعض أعمال الأعراض لعلة فيه لا يوجب عليها جميعا الإهمال و عدم الصانع كذلك ما يحدث على بعض الأفعال الطبيعية لعائق يدخل عليها لا يوجب أن يكون جميعها بالعرض و الاتفاق فقول من قال في الأشياء إن كونها بالعرض و الاتفاق من قبيل أن شيئا منها يأتي على خلاف الطبيعة بعرض يعرض له خطأ و خطل فإن قالوا و لم صار مثل هذا يحدث في الأشياء قيل لهم ليعلم أنه ليس كون الأشياء باضطرار من الطبيعة و لا يمكن أن يكون سواه كما قال القائلون بل هو تقدير و عمد من خالق حكيم إذ جعل للطبيعة تجري أكثر ذلك على مجرى و منهاج معروف و تزول أحيانا عن ذلك لأعراض تعرض لها فيستدل بذلك على أنها مصرفة مدبرة فقيرة إلى إبداء الخالق و قدرته في بلوغ غايتها و إتمام عملها تبارك الله أحسن الخالقين يا مفضل خذ ما آتيتك و احفظ ما منحتك و كن لربك من الشاكرين و لآلائه من الحامدين و لأوليائه من المطيعين فقد شرحت لك من الأدلة على الخلق و الشواهد على صواب التدبير و العمد قليلا من كثير و جزء من كل فتدبره و فكر فيه و اعتبر به فقلت بمعونتك يا مولاي أقر على ذلك و أبلغه إن شاء الله فوضع يده على صدري فقال احفظ بمشيئة الله و لا تنس إن شاء الله فخررت مغشيا علي فلما أفقت قال كيف ترى نفسك يا مفضل فقلت قد استغنيت بمعونة مولاي

[183]

و تأييده عن الكتاب الذي كتبته و صار ذلك بين يدي كأنما أقرأه من كفي فلمولاي الحمد و الشكر كما هو أهله و مستحقه فقال يا مفضل فرغ قلبك و اجمع إليك ذهنك و عقلك و طمأنينتك فسألقي إليك من علم ملكوت السماوات و الأرض و ما خلق الله بينهما و فيهما من عجائب خلقه و أصناف الملائكة و صفوفهم و مقاماتهم و مراتبهم إلى سدرة المنتهى و سائر الخلق من الجن و الإنس إلى الأرض السابعة السفلى و ما تحت الثرى حتى يكون ما وعيته جزء من أجزاء انصرف إذا شئت مصاحبا مكلوء فأنت منا بالمكان الرفيع و موضعك من قلوب المؤمنين موضع الماء من الصدى و لا تسألن عما وعدتك حتى أحدث لك منه ذكرا قال المفضل فانصرفت من عند مولاي بما لم ينصرف أحد بمثله .

back page fehrest page