مكتبة الإمام زين العابدين

فهرس الكتاب

 

 

ثورة أهل المدينة :

إنّ نقد الوفد المدني ليزيد لم يكن هو الدليل الوحيد عند أهل المدينة على انحراف يزيد وتنكّره للإسلام وجوره وطغيانه، بل إنّهم كانوا قد لمسوا جور يزيد وعمّاله على البلدان الإسلامية وفسقهم وشدّة بطشهم واستهتارهم بالحرمات الإلهية التي لا مجال لتأويلها، إذ كيف يمكن تأويل ما ارتكبه من القتل الفظيع في حقّ الحسين بن علي بن أبي طالب(عليه السلام) ريحانة الرسول وسيّد شباب أهل الجنة وما اقترفه من السبي لأهله وحُرَمه؟ وكيف يمكن تأويل ما أظهره من شربه للخمور التي حرّمها الله بالنصّ الصريح؟!

هذا، فضلاً عن حقد الاُمويين على الأنصار، والذي لم يتردّد الاُمويّون في إظهاره لهم، ومن هنا لم يتلكّأ أهل المدينة في اخراج عامل يزيد عليها، فحاصروا بني اُمية وأتباعهم، وكلّم مروان بن الحكم ـ وهو العدوّ اللدود لآل الرسول (صلى الله عليه وآله) ـ الإمام زين العابدين(عليه السلام) في منح الأمان له، فاستجاب الإمام (عليه السلام) لهذا الطلب تكرّماً[1] وإغضاءً عن كلّ ما ارتكبه هذا العدوّ في حقّ أهل البيت(عليهم السلام)، في دفن الإمام الحسن(عليه السلام) وفي الضغط على الإمام الحسين(عليه السلام) من أجل أخذ البيعة ليزيد.

ولمّا بلغ أمر الثورة إلى مسامع يزيد أرسل مسلم بن عقبة ليقضي على ثورة أهل المدينة ـ وهي مدينة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومهبط وحي الله ـ وزوّده بتعليمات خاصّة تجاههم قائلاً له:

اُدع القوم ثلاثاً فإن أجابوك وإلاّ فقاتلهم، فإذا ظهرتَ عليهم فأبحها ـ  أي المدينة ـ ثلاثاً، فما فيها من مال أو دابّة أو سلاح أو طعام فهو للجند[2]. وأمرهُ أن يُجهِز على جريحهم ويقتل مدبرهم[3].

وصل جيش يزيد إلى المدينة، وبعد قتال عنيف مع أهلها استبسل فيه الثائرون دفاعاً عن دينهم، واستشهد أغلب المدافعين بمن فيهم عبد الله بن حنظلة ومجموعة من صحابة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ونفّذ قائد الجيش أوامر سيّده يزيد، وأوعز إلى جنوده باستباحة المدينة، فهجم الجند على البيوت وقتلوا الأطفال والنساء والشيوخ، كما أسروا آخرين.

قال المؤرّخ ابن كثير: أباح مسلم بن عقبة ـ الذي يقول فيه السلف (مسرف بن عقبة) قبّحه الله من شيخ سوء ما أجهله ـ المدينة ثلاثة أيام كما أمره يزيد ـ لا جزاه الله خيراً ـ وقتل خلقاً من أشرافها وقرّائها، وانتهب أموالاً كثيرة منها... وجاءته امرأة فقالت: أنا مولاتك وابني في الاُسارى، فقال: عجّلوه لها، فضرب عنقه، وقال: اُعطوها رأسه، ووقعوا على النساء حتى قيل: إنّه حبلت ألف أمرأة في تلك الأيام من غير زوج.

قال المدائني، عن هشام بن حسان: ولدت ألف امرأة من أهل المدينة بعد وقعة الحرّة من غير زوج. وروي عن الزهري أنّه قال: كان القتلى يوم الحرّة سبعمائة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ووجوه الموالي ممّن لا أعرف من حرٍّ وعبد وغيرهم عشرة آلاف[4].

وحدث مرةً أن دخلت الجيوش الشامية أحد البيوت، فلمّا لم يجدوا فيه إلاّ امرأة وطفلاً سألوها إن كان في البيت شيء ينهبونه، فقالت: إنّه ليس لديها مال، فأخذوا طفلها وضربوا رأسه بالحائط فقتلوه بعد أن انتثر دماغه من أثر الضرب بالحائط[5].

ثمّ نصب كرسيّ لمسلم بن عقبة، وجيء بالاُسارى من أهل المدينة فكان يطلب من كلّ واحد منهم أن يبايع ويقول: إنّني عبد مملوك ليزيد بن معاوية يتحكّم فيّ وفي دمي وفي مالي وفي أهلي ما يشاء[6].

وكلّ من كان يمتنع ولم يبايع بالعبودية ليزيد وكان يصرّ على القول بأنّه عبدٌ لله ـ سبحانه وتعالى ـ كان مصيره القتل[7].

وجيء له بيزيد بن عبد الله ـ وجدّته اُمّ سلمة زوج رسول الله(صلى الله عليه وآله) ـ مع محمد بن حذيفة العدوي، فطلب اليهما أن يبايعا، فقالا: نحن نبايع على كتاب الله وسنّة نبيّه، فقال مسلم: لا والله لا اُقيلكم هذا أبداً، فقدّمهما فضرب أعناقهما.

فقال مروان بن الحكم ـ وكان حاضراً ـ : سبحان الله! أتقتل رجلين من قريش أتيا ليؤمنا فضربت أعناقهما؟! فنخس مسلم مروان بالقضيب في خاصرته، ثمّ قال له: وأنت والله لو قلت بمقالتهما ما رأيت السماء إلاّ برقة. (أي لقُتِلْتَ)[8].

ثمّ جيء بآخر فقال : إنّي اُبايع على سنّة عمر، فقال: اقتلوه، فقتل[9].

واُتي بزين العابدين(عليه السلام) إلى مسلم بن عقبة، وهو مغتاظ عليه فتبرّأ منه ومن آبائه. فلمّا رآه وقد أشرف عليه ارتعد وقام له، وأقعده إلى جانبه، وقال له: سلني حوائجك، فلم يسأله في أحد ممّن قدّم إلى السيف إلاّ شفّعه فيه، ثمّ انصرف عنه.

فقيل لعليّ بن الحسين(عليه السلام): رأيناك تحرّك شفتيك، فما الذي قلت؟

قال: «قلت: اللهمّ ربّ السماوات السبع وما أظللن، والأرضين السبع وما أقللن، ربّ العرش العظيم، ربّ محمّد وآله الطاهرين، أعوذ بك من شرّه، وأدرأ  بك في نحره، أسألك أن تؤتيني خيره، وتكفيني شرّه».

قيل لمسلم: رأيناك تسبّ هذا الغلام وسلفه، فلمّا اُتي به إليك رفعت منزلته؟ فقال: ما كان ذلك لرأي منّي، لقد مُلئ قلبي منه رعباً، ولم يبايع الإمام(عليه السلام) ليزيد كما لم يبايع عليّ بن عبد الله بن العباس، حيث امتنع بأخواله من كندة، فالحصين بن نمير نائب مسلم بن عقبة قال: لا يبايع ابن اختنا إلاّ كبيعة علي بن الحسين[10].

وذكر المؤرّخون : أنّ الإمام زين العابدين(عليه السلام) كفل في واقعة الحرّة أربعمئة امرأة من عبد مناف، وظلّ ينفق عليهنّ حتى خروج جيش مسلم من المدينة[11].

وجاء الحديث من غير وجه: أنّ مسرف بن عقبة لمّا قدم المدينة أرسل إلى عليّ بن الحسين(عليهما السلام) فأتاه، فلما صار إليه قرّبه وأكرمه وقال له: أوصاني أمير المؤمنين ببرّك وتمييزك من غيرك...[12].

وواضح أنّ البيعة إذا ما عرضت بشرطها الاستعبادي على الإمام(عليه السلام) فإنّه سيستمرّ على نهجه الرافض، وأنّ معنى الرفض هنا إنّه يتضرّج بدمائه الزكية، وهذا يعني دخول صورة من صور النقمة العارمة ضد الممارسات الاُموية القمعية التي سوف تزلزل أعمدة الكيان الحاكم.

وبعد انتهاء الأيام الدامية على مدينة الرسول(صلى الله عليه وآله) قال مسلم بن عقبة: اللّهمّ إنّي لم أعمل عملاً قط بعد شهادة لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله أحبّ إليّ من قتل أهل المدينة، ولا أرجى عندي في الآخرة[13].

كان مسلم في تلك الأيام قد تجاوز التسعين من عمره، أي انّه كان قريباً جداً من حتفه وقد هلك بُعيد وقعة الحرّة وقبل أن يصل إلى مكة، وكان من الذين لم يحملوا من الإسلام إلاّ اسمه، ووظّفوا ظاهر القرآن والحديث لتسويغ جرائمهم، فقد كان من المخلصين لمعاوية بن أبي سفيان، وفي صفّين كان يقود معسكر معاوية بن أبي سفيان ضد الخليفة الشرعي للمسلمين، ألا وهو الإمام عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين(عليه السلام)[14] .

ولعلّه لم يسمع حديث الرسول(صلى الله عليه وآله) الذي جاء فيه: «من أخاف أهل المدينة أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»[15].

ولعلّه قد سمع هذا الحديث، لكنّه لمّا وجد من يعتبر نفسه خليفة للنبىّ(صلى الله عليه وآله) قد تجرّأ على قتل ابن بنت النبىّ(صلى الله عليه وآله) وسبي بناته من مدينة إلى اُخرى، دون أن يعترض عليه أحد، فمِمّ يخشى هو إن اعتدى على مدينة النبىّ(صلى الله عليه وآله)؟!

وبعد أن قمع بوحشيّة ثورة أهل المدينة وأجهض انتفاضتهم; توجّه مسلم إلى مكة التي أعلن فيها عبد الله بن الزبير ثورته على الحكم الاُموي، لكنّه لقي حتفه في الطريق، فتسلّم الحصين بن نمير قيادة الجيش الاُموي بناءً على أوامر يزيد، وعندما وصل أطراف مكة فرض حصاراً عليها وضرب الكعبة بالمنجنيق وأحرقها[16].

وفي الوقت الذي كانت فيه مكّة تحت حصار الجيش الاُموي لقي يزيد حتفه، فعقد قائد الجيش الاُموي ـ الذي لم يكن وقتذاك يعرف زعيمه الذي يقاتل معه ـ مفاوضات مع ابن الزبير أعرب له فيها عن استعداده لقبول بيعته شريطة أن يرافقه إلى الشام، إلاّ أنّ ابن الزبير رفض الشرط، فعاد الحصين وجيشه إلى الشام.

[1] تأريخ الطبري : 4 /485 ، والكامل في التأريخ : 4 / 113.

[2] الطبري : 5 / 484 وعنه في الكامل.

[3] التنبيه والاشراف: 263 ط. القاهرة.

[4] البداية والنهاية : 8 / 220 ، وتأريخ الخلفاء: 233. أمّا الطبري فلم يذكر إلاّ إباحة القتال والأموال ثلاثة أيام: 5/491 وترك ذكر الفروج وتبعه الجزري في الكامل.

[5] تاريخ ابن عساكر : 10 / 13، المحاسن والمساوئ: 1 / 104.

[6] تاريخ الطبري 5/493 و 495 وعنه في الكامل  في التاريخ: 4/118 وفي مروج الذهب 3: 70، الكامل في التاريخ 4: 118، والبداية والنهاية 8 : 222.

وقد جاء في تاريخ اليعقوبي 2: 251: كان الرجل من قريش يؤتى به فيقال: بايع على أنّك عبد قنّ ليزيد، فيقول: لا. فيضرب عنقه.

[7] الكامل في التأريخ : 4 / 118، مروج الذهب : 3 / 70.

[8] تأريخ الطبري : 5 / 492 وعنه في الكامل في التاريخ : 4 / 118.

[9] تأريخ الطبري : 5 / 493، الاخبار الطوال: 265.

[10] النظرية السياسية لدى الإمام زين العابدين، محمود البغدادي: 273. المجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام) ـ الطبعة الاولى سنة 1415هـ .

[11] كشف الغمة : 2/319 عن نثر الدرر للآبي (ق 4 هـ ) عن ابن الأعرابي.

[12] الإرشاد: 2/152 .

[13] تأريخ الطبري : 5 / 497 وعنه في الكامل في التاريخ: 4/123 .

[14] وقعة صفين : 206 و 213 وفي الإصابة : 3 / 493 ـ 494.

[15] البداية والنهاية : 8 / 223، رواه عن النسائي، وروى مثله عن أحمد بن حنبل. اُنظر أحاديث اُخرى عن هذا الموضوع في كنز العمال، كتاب الفضائل الحديث 34886، ووفاء الوفاء: 90، وسفينة البحار: 8/38 ، 39 عن دعائم الإسلام.

[16] تأريخ الطبري : 5 / 498 وعنه في الكامل في التأريخ : 4 / 24  عن الكلبي عن عوانة بن الحكم، ثم روى أخباراً عن ابن عمر تحاول نسبة الحرق إلى أصحاب ابن الزبير خطأً، في محاولة لتبرير يزيد الشّرير.