الصفحة السابقة

شرح إحقاق الحق (ج1)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 454

تشكروا يرضه لكم (1)، والله لا يحب الفساد (2)، إلى غير ذلك من الآيات، فترى لأي غرض يخالفون هؤلاء القرآن العزيز وما دل العقل عليه؟ إنتهى قال الناصب أخفضه الله أقول: قد يستعمل لفظ الإرادة ويراد به الرضاء (3) والاستسحان ويقابله الكراهة بمعنى السخط وعدم الرضا، فقوله تعالى: وما الله يريد ظلما للعباد، أريد من الإرادة الرضا، فسلب الرضا بالظلم عن ذاته المقدسة، وهذا عين المذهب وأما الإرادة بمعنى التقدير والترجيح، أو مبدء الترجيح فلا تقابله الكراهة وهو معنى آخر وسائر النصوص محمولة على الإرادة بمعنى الرضا إنتهى أقول: قد مر أن الإرادة تتضمن الرضا، ولا تتحقق بدونه، وأما كون الإرادة بمعنى التقدير فقد مر أنه من مصطلحات الناصب، ولا يجديه إلا العذاب الواصب (4)

(هامش)

(1) الزمر. الآية 7. (2) البقرة. الآية 205. (3) قد مر منا مرارا إن إطلاق على الرضا مما اخترعه وابتدعه الرجل من عنده، وإن أصحابه لم يلتزموا بذلك، وهذه كتبهم وزبرهم بين يديك بمرئى منك ومشهد فراجعها، وممن صرح بكون هذا الاطلاق خلاف الظاهر والمتفاهم العرفي الفاضل شمس الدين اللاري المتوفى سنة 981 في تعليقته على الشرح الجديد للتجريد وهو من أعيان القوم وممن تنعقد إليه الخناصر (4) مقتبس من قوله تعالى في سورة الصافات. الآية 9 ومعنى وصب: دام والوصب: الدائم. (*)

ص 455

وعطف الترجيح على التقدير خلط وتلبيس لا يخفى على الطافي (1) والراسب (2) قال المصنف رفع الله درجته ومنها مخالفة المحسوس (خ ل وهي) وهو إسناد أفعال العباد إلى تحقق الدواعي وانتفاء الصوارف لأن الطاعات حسنة والمعاصي قبيحة، وأن الحسن جهة دعاء والقبح جهة صوف، فيثبت لله تعالى في الطاعة دعوى الداعي إليها، وانتفاء الصارف عنها، وفي القبيح ثبوت الصارف، وانتفاء الداعي، لأنه ليس داعي الحاجة لاستغنائه تعالى، ولا داعي الحكمة لمنافاتها إياه، ولا داعي الجهل لإحاطة علمه به، فحينئذ يتحقق ثبوت الداعي إلى الطاعات وثبوت الصارف في المعاصي، فثبت إرادته للأول وكراهته للثاني إنتهى . قال الناصب خفضه الله أقول: إسناد أفعال العباد إلى تحقق الدواعي وانتفاء الصوارف، لا ينافي سبق إرادة الله تعالى لأفعالهم وخلقه لها، لأن الاسناد بواسطة الكسب (3) والمباشرة،

(هامش)

(1) طفى يطفو طفوا وطفوا: على فوق الماء. (2) رسب الشيئ في الماء: سقط إلى أسفله. (3) قد مر الكلام مشبعا في مسألة (الكسب) وإن هذا المخترع بأي معنى فسر لا يسمن ولا يغني من جوع وإن شناعة الجبر وسائر التوالي الفاسدة التي تترتب على هذه المقالة لا تندفع بالالتزام بالكسب الغير الكاسب والمكتسب، ومن أمعن النظر وأجال البصر في خبايا كلمات الرازي في الأربعين والغزالي والشريف في شرح المواقف والأصفهاني في شرح المقاصد وأبي عذبة في الروضة البهية، ظهر له غاية الظهور أنهم مضطربون في تفسير هذا الكسب المخترع في قبال العدلية فما أجدر المثل المشهور لم تقول شعرا عريا عن الوزن حتى تضطر إلى اختراع بحر ووزن له؟ اللهم احرسنا عن الزلل بجاه نبي الهدى وآله مصابيح الدجى. (*)

ص 456

فلا يكون مخالفة للمحسوس، وأما ما ذكره من الدليل فهو مبني على إثبات الحسن والقبح العقليين، وقد أبطلنا هما إنتهى . أقول: إن الناصب لم يفهم أن مراد المصنف قدس سره من الداعي ماذا؟ فإن مراد المصنف بالداعي الإرادة المفسرة عنده وعند سائر الإمامية، وجمهور المعتزلة بالعلم بالنفع والعلم بالأصلح على اختلاف العبارتين، وحينئذ كيف يمكن أن يتوهم من كلام المصنف أنه ادعى أن إسناد أفعال العباد إلى تحقق الدواعي وانتفاء الصوارف ينافي سبق إرادة الله تعالى؟ حتى يرد عليه، بأنه لا ينافي ذلك، وبالجملة حاصل كلام المصنف أن ما ذهب إليه الأشاعرة من أنه تعالى يريد كل ما وقع في الوجود من الطاعة والمعصية يخالف ما هو المحسوس من إسناد الأفعال إلى داعي الإرادة المفسرة بالعلم بالنفع، فإنه لو كان الباري تعالى مريدا لكل الموجودات كما قالوا يلزم أن يفعل من غير علم بالنفع وبدون ملاحظة الأصلح، إذ لا نفع ولا أصلحية في إصدار بعض تلك الموجودات وهي القبائح المحكوم عليها في الشاهد بالقباحة، وعلى هذا لا يصير كلام الناصب مقابلا لكلام المصنف أصلا كما لا يخفى، ومن حصل له معنى محصلا مرتبطا بكلام المصنف فنحن في صدد الاستفادة، وأما ما ذكره من إبطال قاعدة الحسن والقبح العقليين، فقد عرفت بطلان إبطاله مما قررناه آنفا. قال المصنف رفع الله درجته

المطلب السادس في وجوب (1) الرضا بقضاء الله تعالى

اتفق الإمامية والمعتزلة

(هامش)

(1) لا يخفى عليك أن مسألة وجوب الرضا بالقضاء والقدر مما اختلفت الكلمة فيها، فأصحابنا جلهم ذهبوا إلى وجوبه وتمسكوا فيها بالأدلة السمعية والعقلية، والسمعية بين (*)

ص 457

نبوية وولوية فمن النبويات ما تدل على أن كل شيئ بقضائه وقدره، وأنه يجب الايمان بالقدر وخيره وشره كما في مجمع الزوائد (ج 7 ص 198 ط مصر) عن عبادة حين حضر أنه قال: سمعت رسول الله ص يقول: القدر على هذا، من مات على غيره دخل النار، وفيه (ج 7 ص 199) عن عدي عن النبي ص قال: يا عدي بن حاتم أسلم تسلم، قلت: وما الإسلام؟ قال: تشهد أن لا إله إلا الله وتشهد أني رسول الله وتؤمن بالأقدار كلها خيرها وشرها وحلوها ومرها وفي كنز العمال (ج 1 ص 102) بإسناده عن علي عليه السلام لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ويؤمن بالموت ويؤمن بالبعث بعد الموت ويؤمن بالقدر خيره وشره وفي البحار (جلد 3 ص 26 ط كمپانى) بإسناده عن علي ع قال قال: رسول الله ص لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربعة، حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله ص بعثني بالحق وحتى يؤمن بالبعث بعد الموت وحتى يؤمن بالقدر. وهناك عدة روايات في الكتب الحديثية دالة على ذم القول بالقدر والالتزام، فمن ثم اختلفوا في الجمع بين تينك الطائفتين من الأحاديث وفي تعيين المراد منها. ومما يستطرف في المقام أن الأشاعرة حملوا أحاديث الذم على القول بكون أفعال العباد بقدرته وعلى القول بالتفويض، والمعتزلة أولوها على ما تنطبق على مسلك الأشاعرة، وتبرأ كل منهما من أن يكون مصداقا للأخبار الدالة على الذم. كلما دخلت أمة لعنت أختها. وأكثر الأشاعرة حمل الأحاديث الدالة على وجوب الايمان والرضاء بالقضاء والقدر على أن المراد بها كون الكائنات حتى أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه وتعالى، بمعنى أنه خلقها وأوجدها معصية كانت تلك الأفعال أو طاعة، بل سمعت عن بعض البغاددة منهم أن إطلاق المعصية والطاعة على الأفعال مجاز وتوسع في الاستعمال وقد مر بطلان هذه المقالة بأبلغ وجه وآكد بيان. وستأتي أدلة أخرى قويمة سديدة قائمة على بطلان مسلكهم. ولله در آية الله الشريف السيد محمد الباقر الحجة الحائري قده حيث يقول: ما فعل العبد إليه استندا * إذ منه باختياره قد وجدا وقدرة العبد هي المؤثرة * في فعله فللعباد الخيرة (*)

ص 458

وغيرهم: من الأشاعرة وجميع طوائف الإسلام على وجوب الرضا بقضاء الله تعالى وقدره. ثم إن الأشاعرة قالوا قولا لزمهم منه خرق الاجماع والنصوص الدالة على وجوب الرضا بالقضا، وهو أن الله تعالى يفعل القبائح بأسرها، ولا مؤثر في الوجود غير الله تعالى من الطاعات والقبائح، فتكون القبائح من قضاء الله تعالى على العبد وقدره، والرضا بالقبيح حرام بالاجماع، فيجب أن لا يرضى بالقبيح، ولو كان من قضاء الله تعالى لزم إبطال إحدى المقدمتين وهي: إما عدم وجوب الرضا بقضائه تعالى وقدره، أو وجوب الرضا بالقبيح وكلاهما خلاف الاجماع، أما على قول الإمامية: من أن الله تعالى منزه عن الفعل القبيح (خ ل فعل القبيح) والفواحش وأنه لا يفعل إلا ما هو حكمة وعدل وصواب، ولا شك في وجوب الرضا بهذه الأشياء، لا جرم (1) كان الرضا بقضائه وقدره على قواعد الإمامية والمعتزلة واجبا، ولا يلزم منه خرق الاجماع في ترك الرضا بقضاء الله، ولا في الرضا بالقبائح إنتهى

(هامش)

ولم تكن في فعلها مجبورة * كما به قد قضت الضرورة فهل ترى المقعد مثل من قعد * أو من هوى من شاهق كمن صعد الخ (1) قال شيخنا العلامة الطريحي النجفي في المجمع (في كلمة جرم في باب ما أوله الجيم وآخره ميم) ما لفظه: قيل: لا جرم بمعنى لا شك، وعن الفراء: هي كلمة بمعنى لا بد ولا محالة فجرت على ذلك وكثرت حتى تحولت إلى معنى القسم صارت بمعنى حقا فلذلك يجاب عنها باللام كما يجاب عن القسم، ألا تريهم يقولون: لا جرم لآتينك ولأفعلن كذا. وقيل: جرم بمعنى كسب، وقيل بمعنى وجب وحق. قال في النهاية و(لا) رد لما قبلها من الكلام ثم يبتدئ بها كقوله تعالى: لا جرم أن لهم النار، أي ليس الأمر كما قالوا، ثم ابتدء فقال وجب لهم النار الخ. وأنت خبير بأن الأنسب أن يراد به في المتن (اللابدية) (*)

ص 459

قال الناصب خفضه الله أقول: قد سبق أن وجوب الرضا بقضاء الله تعالى مذهب الأشاعرة، وأما لزوم نسبة فعل القبائح إليه تعالى، فقد عرفت بطلانه فيما سبق، وأنه غير لازم، لأن خلق القبيح ليس فعله ولا قبيح بالنسبة إليه وأما قوله: فتكون القبائح من قضاء الله تعالى، فجوابه أن القبائح مقضيات لا قضاء والقضاء فعل الله تعالى، والقبيح هو المخلوق، ونختار من المقدمتين وجوب الرضا بقضاء الله تعالى وقدره ولا نرضى بالقبيح، والقبيح ليس هو القضاء بل هو المقضي كما عرفته، ولم يلزم منه خرق إجماع إنتهى . أقول نعم قد سبق ذلك مع ما تعقبناه من بيان أن خلق القبيح قبيح، وأنه لا معنى لعدم قبح القبيح عند صدوره عنه تعالى وبالنسبة إليه، وأن الفرق بين القضاء والمقضي مما يقضي التأمل على بطلانه، ونزيد على ذلك هيهنا ونقول: يجب الرضا بالمقضي أيضا، بل هو المراد مما اشتهر من وجوب الرضا بالقضاء، وذلك لأنه إذا اختار الله لعبده شيئا وأرضاه، فلا يختاره العبد ولا يرضاه، كان منافيا للعبودية، وفصل بعض المتأخرين هيهنا، وقال: اختيار الرب لعبده نوعان، أحدهما اختيار ديني شرعي، فالواجب على العبد أن لا يختار في هذا النوع غير ما اختاره له سيده، قال تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم (1) فاختيار العبد خلاف ذلك مناف لإيمانه وتسليمه ورضاه بالله ربا وبالاسلام دينا ومحمد صلى الله عليه وآله رسولا، النوع الثاني اختيار كوني قدري لا يسخطه الرب كالمصائب التي يبتلي عبده بها

(هامش)

(1) الأحزاب. الآية 36. (*)

ص 460

محنة وهذا لا يضره فراره منها إلى القدر الذي يرفعها عنه ويكشفها، وليس في ذلك منازعة للربوبية، وإن كان فيه منازعة للقدر بالقدر، فهذا تارة يكون واجبا، وتارة يكون مستحبا، وتارة يكون مباحا مستوي الطرفين، وتارة يكون حراما، وتارة يكون مكروها، وأما القدر الذي لا يحبه ولا يرضاه مثل قدر المعايب والذنوب فالعبد مأمور بسخطه، ومنهي عن الرضا به فتأمل. تكميل جميل إن قال قائل: ما معنى قولكم في القضاء والقدر؟ وهل أفعال العباد عندكم بقضاء الله تعالى وقدره، كما يقتضيه ما اشتهر بين أهل الملل أن الحوادث بقضاء الله أم لا؟ ومعنى الخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال حاكيا عن ربه: من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي فليتخذر باسوائي (1) وما روي عنه صلى الله عليه وآله أنه أوجب الايمان بالقدر خيره وشره (2) وأخبر أن الايمان لا يتم إلا به. قلنا: الواجب في هذا المسألة أولا أن نذكر معاني القضاء والقدر ثم نبين ما يصح أن يتعلق بأفعال العباد من ذلك وما لا يتعلق ونجيب نم الروايات الواردة في ذلك بما يلائم الحق أما القضاء فإنه قد جاء بمعنى الاعلام كقوله تعالى: وقضينا إليه ذلك الأمر (3) أي أعلمناه وجاء بمعنى الحكم والالزام كقوله تعالى: وقضى ربك إلا تعبدوا إلا إياه (4) أي حكم بذلك في التكليف على خلقه، وألزمهم به، وجاء بمعنى الخلق كقوله تعالى: فقضيهن سبع سماوات (5) أي خلقهن، وأما القدر فإنه قد جاء

(هامش)

(1) رواه في الاتحافات السنية ص 3 وفي كنز العمال (ج 1 ص 93 ط حيدر آباد دكن) حديث 483 و486 وفي الجامع الصغير (ج 2 ص 558) حديث 9027 وفي الجواهر السنية لصاحب الوسائل ص 66. (2) قد سبق ما يدل على هذا من كتب الفريقين قريبا وسيأتي في باب أفعال العباد و(3) الحج. الآية 66. (4) الاسراء. الآية 23. (5) فصلت. الآية 12. (*)

ص 461

بمعنى الكتاب والاخبار كما قال جل وعلا: إلا امرأته قدرناها من الغابرين (1) أي أخبرنا بذلك وكتبناها في اللوح، وجاء بمعنى وضع الأشياء في مواضعها من غير زيادة فيها ولا نقصان، كما قال تعالى وقدر فيها أقواتها (2)، وجاء بمعنى التبيين لمقادير الأشياء وتفاصيلها وأما أفعال العباد فيصح أن نقول فيها، إن الله تعالى قضى عليهم بها بمعنى أنه حكم بها وألزمها عباده وأوجبها، وهذا الالزام أمر وليس بإلجاء ولا جبر، وأنه سبحانه قدر أفعال العباد بمعنى أنه بين بها مقاديرها من حسنها وقبحها ومباحها وحظرها وفرضها ونفلها، وأما القول بأنه قضاها وقدرها بمعنى: أنه تعالى خلقها فغير صحيح لأنه لو خلق الطاعة والمعصية لسقط اللوم عن العاصي ولم يستحق الطائع ثوابا على عمله، وأما أفعال الله تعالى فنقول: إنها كلها بقدر، ونريد أنها لا تفاوت فيها، ولا خلل، وأنها كلها بموجب الحكمة ملتئمة، وعلى نسق الصواب منتظمة، وأما الخبر الأول إن كان صحيحا (3)، فمعنى القضاء فيه هو ما يبتلي ويمتحن به العبد من أمراضه و

(هامش)

(1) النمل. الآية 57. (2) فصلت. الآية 10. (3) إشارة إلى تضعيف عدة من كبراء المحدثين الأحاديث القدسية المشهورة سيما التي ترجمها أحمد بن متويه بأمر المأمون من السريانية أو العبرانية إلى العربية نعم قد ورد بعضها في الأخبار المروية عن موالينا الأئمة عليهم السلام بطرق معتبرة. وبالجملة وإني تتبعت الأحاديث القدسية في مظانها من كتب الفريقين فلم أجد الصحاح والموثقات بينها إلا أقل القليل، ولكن الذي يسهل الخطب أن لا جدوى مهمة مترتبة على صحتها إلا النادر. ثم إن في الأحاديث القدسية مسائل ومقالات منها بيان الفرق بينها وبين الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. (*)

ص 462

أسقامه وشدائده وآلامه، ولا ريب أن ذلك كله من قضاء الله تعالى الذي يجب على العباد الرضا به والصبر عليه، وهو ما يفعله الله تعالى بعبده لحكمته البالغة التي تقتضيه وعلمه المحيط بما يكون من المصالح لعبده فيه، ولا دخل للمعاصي في القضاء، لأنه سبحانه لا يقضي على العبد بالمعصية، لأنها من الباطل الذي يعاقب عليه، وقد قال عز من قائل والله يقضي بالحق (1) وأما الخبر الثاني الذي يدل على إيجاب الايمان بالقضاء والقدر خيره وشره، فالخير من القضاء والقدر هو ما مالت إليه الطباع والتذت به الحواس، والشر ضد ذلك، ويسمى شرا لما على النفس في تحمله من الشدة والمشقة كما أشرنا إليه سابقا، وهذا الذي أجمع المسلمون بأن الرضا به واجب، ولا يخفى أنه لو كان الظلم والفسق والكفر من قضاء الله تعالى وقدره لوجب الرضا به وتحتم ترك إنكاره، لكن لما رأينا العقلاء ينكرونه ولا يرضونه ويعيبون من رضي به ويذمونه، علمنا أنه ليس من قضائه وقدره، ومما يؤيد هذه المعاني ويؤسس

(هامش)

ومنها وجه تسميتها بالقدسية ومنها إن بعضها هل تعد من الكتب السماوية كمصحف إدريس وزبور داود وصحف شيث أم لا؟ إلى غير ذلك من المباحث. ثم إن من أحسن ما دون في نقل تلك المرويات، كتاب الجواهر السنية في الأحاديث القدسية، لشيخنا العلامة خاتم المحدثين الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي المتوفى سنة 1104 صاحب كتاب وسائل الشيعة، وكتاب الاتحافات السنية في الأحاديث القدسية للعلامة الشيخ محمد المدني الشافعي، وكتاب الجواهر المضيئة في الأحاديث القدسية للمحدث البحاثة السيد عبد الرسول الشافعي البرزنجي الكردي، إلى غير ذلك من الزبر والأسفار التي يقف عليها من جاس خلال الديار وخلا عن منادمة الأغيار، (1) غافر. الآية 20 (*)

ص 463

هذه المباني ما روي بالاسناد الصحيح (1) عن مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال حين قال له شيخ من أهل العراق: أخبرنا عن خروجنا إلى أهل الشام أبقضاء من الله وقدره؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: والذي فلق الحبة وبرئ النسمة ما وطئنا، موطئا، ولا هبطنا واديا، ولا علونا تلعة (2) إلا بقضاء الله وقدره، فقال الشيخ: أعند الله أحتسب عناي، ما أرى لي من الأجر شيئا، فقال له: أيها الشيخ عظم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيئ من حالاتكم مكرهين، ولا إليها مضطرين، فقال الشيخ: كيف؟ والقضا والقدر ساقانا، فقال: ويحك لعلك ظننت قضاء لازما وقدرا حتما، ولو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، والوعد والوعيد، والأمر والنهي، ولم تأت ملامة من الله لمذنب، ولا محمدة لمحسن، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسئ ولا المسئ أولى بالذم من المحسن، ذلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان، وشهود الزور وأهل العمى عن الثواب، وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها، إن الله تعالى أمر تخييرا، ونهي تحذيرا، وكلف يسيرا، ولم يعص مغلوبا، ولم يطع مكرها، ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثا، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار (3) فقال الشيخ: وما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلا بهما، قال: هو الأمر من الله والحكم، ثم تلا قوله تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه (4)، وقال العلامة القوشجي (5) ظاهر أن هذا الحديث لا يوافق شيئا

(هامش)

(1) نهج البلاغة ص 536 ط طهران القديم وفي بحار الأنوار (ج 3 ص 5 ط كمپانى). (2) التلعة: ما علا من الأرض والجمع: تلعات وتلاع وتلع. (3) كما في قوله تعالى في سورة ص 10 الآية 27. (4) الاسراء. الآية 23 (5) هو العلامة المحقق المولى علاء الدين علي بن محمد السمرقندي القوشجي من (*)

ص 464

من المعاني المذكورة فإيراده للتأييد محمل تأمل إنتهى ولا يخفى أن هذا الحديث منهاج الحق واليقين، وقد بين فيه ما هو الحق في مسألة أفعال العباد كمال التبيين، وما أورد عليه العلامة القوشجي، مندفع بأن أمر أمير المؤمنين عليه السلام بهذا السفر، إن كان على سبيل الوجوب، فالقضاء والقدر في الحديث بمعنى الايجاب، وذلك لأن أمره عليه السلام موافق لما أمر الله وهو واجب الاتباع، وإن كان على سبيل الاستحباب والأولوية، فهما بمعنى الاعلام إذا الأمر المفيد للأولوية يتضمنه، والأول أظهر، ويؤيده قوله عليه السلام: هو الأمر من الله، وقوله وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه، وحينئذ فقوله عليه السلام: لعلك ظننت قضاءا لازما الخ يفيد سلب الوجوب العقلي والاضطرار، كما يدل عليه ما تقدم عليه في الرواية وما تأخر صريحا فتدبر، وعند ذلك يندفع التأمل في التأييد، والحمد لله الذي أيدنا بهذا، والصلاة على محمد سيد الورى، وآله أعلام الهدى. قال المصنف رفع الله درجته

المطلب السابع في أن الله تعالى لا يعاقب (1) الغير على فعله تعالى

ذهبت

(هامش)

مشاهير المحققين في الفلسفة والعلوم الرياضية، تلمذ لدى العلامة القاضي زادة الرومي والسلطان الغ بيك بن شاهرخ بن الأمير تيمور الكوركاني توفي المترجم سنة 879 باسلامبول كما في الريحانة (ج 3 ص 325 ط طهران). وله تآليف رائقة وتصانيف فائقة منها وهو أشهرها شرح التجريد المعروف بالشرح الجديد، ومنها الرسالة الفارسية في علم الهيئة، ومنها كتاب عنقود الزواهر في نظم الجواهر في علم الصرف ومنها كتاب محبوب الحمائل في كشف المسائل في العلوم المتنوعة ومنها الحاشية على تفسير الكشاف وغيرها. (1) قال مولينا العلامة المجلسي قده في تعاليقه على شرح التجريد ما لفظه: (*)

ص 465

الإمامية والمعتزلة إلى أن الله تعالى لا يعذب العبد على فعل يفعله الله تعالى فيهم ولا يلومهم عليه، وقالت الأشاعرة إنه تعالى لا يعذب العبد على فعل العبد، بل يفعل الله فيه الكفر، ثم يعاقبه عليه، ويفعل فيه الشتم لله تعالى، والسب له تعالى ولأنبيائه ويعاقبهم على ذلك، ويخلق فيهم الاعراض عن الطاعات وعن ذكره تعالى وذكر أحوال المعاد، ثم يقول: فما لهم عن التذكرة معرضين (1) وهذا أشد أنواع الظلم وأبلغ أصناف الجور تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقد قال الله تعالى: وما ربك بظلام للعبيد (2) وما الله يريد ظلما للعباد (3) وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (4) ولا تزروا زرة وزر أخرى (5) وأي ظلم أعظم من أن يخلق في العبد شيئا، ويعاقبه عليه، بل يخلقه أسود، ثم يعذبه على سواده، ويخلقه طويلا، ثم يعاقبه على طوله، ويخلقه أكمه، ويعذبه على ذلك ولا يخلق له قدرة على الطيران إلى السماء، ثم يعذبه بأنواع العذاب على أنه لم يطر، فلينظر العاقل المنصف من نفسه التارك للهوى، هل يجوز له أن ينسب ربه عز وجل إلى

(هامش)

الحق أنه لا يجوز أن يعاقب الله تعالى الناس على فعله كالشيب والشباب والطول والقصر ولا يلومهم على صنعه فيهم، وإنما يعاقبهم على أفعالهم القبيحة، والأشاعرة يلزمهم الالتزام بعقابه تعالى الناس على ما لم يفعلوه، بل على فعله فيهم تعالى عن ذلك علوا كبيرا، والأدلة السمعية والشواهد العقلية دالة على بطلان ما ذهبوا إليه. (1) إشارة إلى قوله تعالى في سورة المدثر. الآية 49 (2) صورة فصلت. الآية 46 (3) غافر. الآية 31 (4) هود. الآية 101 والنحل. الآية 118 والزخرف. الآية 76 (5) الأنعام. الآية 164. والاسراء. الآية 15: وفاطر. الآية 18. والزمر الآية 7 والنجم. الآية 38. (*)

ص 466

هذه الأفعال؟ مع أن الواحد منا لو قيل له: إنك تحبس عبدك وتعذبه على عدم خروجه في حوائجك، لقابل بالتكذيب وتبرأ عن هذا الفعل، فكيف يجوز أن ينسب إلى ربه ما يتنزه هو عنه؟ إنتهى . قال الناصب خفضه الله أقول: مذهب الأشاعرة أن لا خالق غير الله تعالى، كما نص في كتابه العزيز: الله خالق كل شيئ (1) وهو يعذب العبد على فعل العبد، لأن العبد هو المباشر والكاسب (2) لفعله وإن كان خلقه من الله تعالى، والخلق غير الفعل والمباشرة، ثم إنه لو عذب عباده بأنواع العذاب من غير صدور الذنب عنهم، يجوز له ذلك، وليس هذا من باب الظلم والجور، لأن الظلم هو التصرف في حق الغير، ومن تصرف في حقه بأي وجه من وجوه التصرف، لا يقال: إنه ظلم (3) فالعباد كلهم ملك الله

(هامش)

(1) الزمر. الآية 62 (2) قد مر سابقا أن الالتزام بالكسب الذي اخترعته أرباب القول بالجبر مما لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا تدفع به التوالي الفاسدة المترتبة على ذلك المبنى. (3) تحقيق المقام يقتضي تحصيل المعرفة بالمراتب المتحققة بين الباري جلت عظمته وبين عباده، فنقول إن هناك أربع مراتب. المرتبة الأولى مرتبة الملكية الحقيقية المطلقة التامة له تعالى على عباده. والعباد في هذه المرتبة بذواتها مملوكة له تعالى، والمملوكية له تعالى عين ذواتها وليست ذواتها إلا أنها له، فإن ذات الوجود الامكاني ليس إلا التعلق بالواجب تعالى وإنه له، لأن إن له ذاتا ثبت له أنه له تعالى وإلا لزم استغنائه في ذاته عن الواجب تعالى، ولا دخل في ذاته أمر غير كونه لله تعالى وإلا لزم استغنائه في بعض ذاته عنه. ومقتضى هذه المرتبة جواز تصرفه تعالى فيهم بما شاء من تعذيب غيره فإنه ليس بأعظم من اعدامه رأسا وليس هو بعد إلا قطع علقته تعالى عنه ولا يحكم شيئ من العقول بكون قطع علقته عن غيره ظلما له وتعديا عليه. (*)

ص 467

(هامش)

المرتبة الثانية مرتبة الملكية الاعتبارية أعني المالية. وهي جهة اعتبارية تعرض للأشياء بعد تذوت ذاتها وتحصل ما يقوم بها من أعراضها، وبالجملة بعد تكون ما كان لها من الحقيقة بحسب الذات والأعراض والأحوال في الخارج. والمالك للعبد بهذه الملكية لا يجوز له عقلا إلا استعماله فيما يقدر عليه من الأعمال، وتعذيبه من غير صدور ذنب منه ظلم في حقه وتعد عليه. وقد نزل الله تعالى نفسه بمقتضى رحمته الواسعة منزلة هذه الموالى الاعتبارية، كأنه تعالى أعتقهم عن الرقية الذاتية التي يستحيل انسلابها عنهم ولم يبق له إلا الملكية الاعتبارية الحاصل نظيرها لبعض العباد على بعضهم، وهذا كرم عظيم لا يدرك أمده إدراك المدركين. ومقتضى هذه المرتبة أنه لا يجوز له تعالى تعذيب العباد إلا عقوبة لهم على كسب السيئة والاقتحام في المعصية، وكان تعذيبهم من غير ارتكاب سيئة ظلما لهم وتعديا عليهم، ولذلك قال تعالى: ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون (الجاثية 22) وقال تعالى: ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون (الأنعام 160) وقد كثر ذلك ذلك في القرآن الكريم في نحو من أربعين آية قد سبق عدها منا في التعاليق السابقة عند التعرض لآيات الجبر والتفويض فراجع. المرتبة الثالثة مرتبة معاملة الأحرار. وهو جلت عظمته ساق عباده في هذه المرتبة مساق الأحرار، فلم يطالبهم إلا الشكر على ما أعطاهم من النعم. والمطالبة بشكر النعم حق ثابت على الأحرار وليس للعبودية مدخل في ثبوته ومع ذلك لم يطالب منهم إلا الشكر اليسير والثناء القليل بما لا يقابل إلا نعمة حقيرة من نعمائه العظيمة وآلائه الواسعة التي أسبغها عليهم ظاهرة وباطنة بما لا يبلغها العد والاحصاء، قال زين العابدين سيد الساجدين علي بن الحسين عليهما آلاف التحية والثناء في دعاء له ع: آلائك جمة ضعف لساني عن إحصائها ونعمائك كثيرة قصر فهمي عن إدراكها فضلا عن استقصائها فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إياك يفتقر إلى شكر، فكلما قلت لك الحمد وجب علي لذلك أن أقول لك الحمد. المرتبة الرابعة مرتبة الغمض عن النعم والمعاملة معهم معاملة من استعمل حرافي عمل منه أو أعمال ابتداء من غير استحقاقها منه سابقا، فإنه يلزمه ضمانه وإثابته بما يقابله من الجزاء، دون ما إذا استعمل عبدا له، فإنه لا يلزم له على مولاه مثوبة بإزاء عمله، (*)

ص 468

(هامش)

ودون ما إذا استعمل حرا في عمل يستحقه في قبال ما آتاه من العطايا والنعم. وقد أجرى الله تعالى نفسه على هذه المنزلة فجعل لعباده حقا عليه أن يثيبهم على طاعتهم ويجزيهم بأضعافها من الاحسان، فقال تعالى: فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون (السباء 37) وقال تعالى: فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا (النساء 124) هذه المراتب المتحصلة بينه تعالى وبين عباده قد جعلها لهم من رحمته الواسعة، إن الله بالناس لرؤف رحيم. وأما ما توجه عنه تعالى من التكليف إلى العباد فقد جعل فيه شئونا من رحمته. وهي أربعة الأول إنه تعالى قد جعل فائدة التكليف عائدة إلى العباد، وليس يعود إليه تعالى نفع من طاعة العباد، وليس تكليفه لهم على نسق تكليف الموالي واستعمالهم عبيدهم لاستيفاء النفع منهم وإن كان التكليف منهم في مورد خاليا عن نفع عائد كان ذلك لأجل الالتذاذ بالاستعلاء وإظهار سلطة وسلطنة عليهم، تعالى عن ذلك كله علوا كبيرا وإلا فهو تعالى لو كان قد أراد من التكليف شيئا من ذلك لمنع عباده عن أن يتجرؤوا عليه بالظلم والمعصية. الثاني إنه تعالى يعين من أراد الطاعة من عباده عليها، قال تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا (العنكبوت 69)، وقال تعالى، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيهديهم ربهم بإيمانهم (يونس 9). وقال تعالى: ويزيد الذين اهتدوا هدى (مريم 79). وقال تعالى: والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقويهم (محمد 17). الثالث إنه تعالى فتح عليهم باب التوبة وجعل الندم هدما للسيئات وفوزا لرضوان الله قال تعالى هو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات (الشورى 25). وقال تعالى: أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم (المائدة 79). الرابع قد جعل تعالى شأنه لمن ارتحل عن نشأة التكليف حاملا على ظهره ثقلا من الذنوب لم يجعل لنفسه طريقا إلى المغفرة بالإنابة والتوبة شفاعة الشافعين، أعدها لمغفرة عباده حيث لم يشملهم المغفرة لعدم بقاء قابلية لهم بأنفسهم لشمولها، فيشملهم المغفرة بطفيل وجود الشافعين. وحقيقة الشفاعة على ما يستفاد من الأخبار جعل الشفيع الذنب الصادر من المشفوع منتسبا إلى نفسه ليغفره المولى لما كان له عند المولى من (*)

ص 469

تعالى، وله التصرف فيهم كيف يشاء، ألا ترى إلى قول عيسى عليه السلام حيث حكى الله تعالى عنه، إن تعذبهم فإنهم عبادك، جعل العبودية سبب مصححا للتعذيب (1) والمراد أنهم ملكك، ولك أن تتصرف فيهم كيف شئت، فلا ظلم بالنسبة إليه تعالى كيفما يتصرف في عباده، هذا هو مذهب الحق الأبلج، وما سواه بدعة وضلالة كما ستراه وتعلمه بعد هذا في مبحث خلق الأعمال إن شاء الله تعالى، وما ذكره من خلق الأسود وتعذيبه بالسواد، فهذا من باب طاماته، وكذا ما ذكره من الأمثلة، فإن هذه الأشياء أعراض خلقت، ولا يتعلق به ثواب وعقاب، والأفعال المخلوقة ليست مثل هذه الأعراض لأن العبد في الأفعال كاسب ومباشر، والثواب والعقاب بواسطة المباشرة كما ستعرف إنتهى .

(هامش)

القرب والمنزلة، فسبحانه ما أرحمه وأرأفه على عباده حيث لم يبق من سبل النجاة وطرق الفوز إلى الرحمة والرضوان إلا وقد هيئها لهم والحمد لله رب العالمين. (1) الآية في سورة المائدة، وما قبلها قوله تعالى: إذ قال الله يا عيسى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إلى قوله تعالى: فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيئ شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم. فعلم أن المراد تعذيب الذين اتخذوا عيسى وأمه إلهين، فالمعنى أن تعذبهم على أنهم اتخذوا عيسى وأمه إلهين فإنه حقيق لك وإن كان العبد لا يجوز تعذيبه على سيئاته لغير مولاه، وأما أنت فحقيق لك أن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم ما ارتكبوه من الذنب المذكور فأنت حقيق أيضا بذلك فإنك أنت العزيز الحكيم. فتبين أن مفاد الآية جعل العبودية سببا مصححا للتعذيب من حيث إنه لا يجوز لغير المولى تعذيب العبد على سيئاته، لا إن مجرد العبودية سبب مصحح للتعذيب ولو من غير صدور سيئة عن العبد. (*)

ص 470

أقول: لا نسلم أنه تعالى في الآية المذكورة جعل مجرد العبودية سببا للتعذيب، إذ الظاهر أن الإضافة في عبادك للعهد، ولهذا لم يقل عباد لك، أو عبدك فافهم، فالمراد أنهم عبادك الذين عرفتهم عاصين مكذبين لرسلك منكرين لأنبيائك، وقد دل على عصيانهم وشركهم صدر الآية حيث خاطب الله تعالى فيه عيسى بن مريم عليه السلام بقوله: وإذ قال الله يا عيسى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق (1) إلى آخر الآية، وأما ما ذكره: من أن الأمثلة المذكورة من خلق السواد والطول ونحوهما أعراض خلقت، ولا يتعلق به ثواب وعقاب، والأفعال المخلوقة ليست من هذه الأعراض الخ فحقيق بالأعراض وذلك لأن التمثيل إنما هو بالنظر إلى اتصاف الأعراض المذكورة بمحلية العبد لها، ولا ريب في مشاركة الأفعال لها في هذا الوصف، فلا يظهر الفرق بين الأمرين في جعل المحل بالنسبة إلى أحدهما موجبا لترتب الثواب والعقاب دون الآخر، وأما المباشرة فإن أريد به أيضا معنى المحلية كما يشعر به ظاهر كلام المصنف بمعنى أن العبد يصير محلا لمباشرة العصيان والاتصاف به، فلا يحصل الفرق أيضا، وإن أراد به صدور فعل المعصية مثلا عن العبد، فقد وقع الاعتراف بأن العبد فاعل لبعض أفعاله، فثبت مذهب أهل العدل إذ لا قائل بالفصل فافهم. قال المصنف رفع الله درجته

المطلب الثامن في امتناع تكليف ما لا يطاق

قالت الإمامية إن الله تعالى يستحيل عليه من حيث الحكمة تكليف (خ ل أن يكلف) العبد بما لا قدرة له عليه

(هامش)

(1) المائدة: الآية 116. (*)

ص 471

ولا طاقة له به، وأن يطلب منه فعل ما يعجز عنه ويمتنع منه، فلا يجوز له أن يكلف الزمن الطيران إلى السماء، ولا الجمع بين الضدين، ولا بكونه في المشرق حال كونه في المغرب، ولا إحياء الموتى، ولا إعادة آدم ونوح، ولا إعادة أمس الماضي، ولا إدخال جبل قاف (1) في خرم (2) إلا برة، ولا شرب ماء دجلة في جرعة واحدة ولا إنزال الشمس والقمر إلى الأرض، إلى غير ذلك من المحالات الممتنعة لذاتها، وذهبت الأشاعرة إلى أن الله تعالى لم يكلف العبد إلا ما لا يطاق، ولا يتمكن من فعله، فخالفوا المعقول الدال على قبح ذلك، وهو أنه تعالى لا يفعل القبيح، والمنقول وهو المتواتر من الكتاب العزيز، قال الله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها (3) وما ربك بظلام للعبيد (4) لا ظلم اليوم (5) ولا يظلم ربك

(هامش)

(1) قال صفي الدين البغدادي في مراصد الاطلاع (ج 3 ص 1059 طبع مصر) ما لفظه (قاف) بلفظ أحد الحروف المعجمة، قيل هو الجبل المحيط بالأرض، وقال شيخنا العلامة الطريحي النجفي في مجمع البحرين: قوله تعالى (ق) هو جبل محيط بالدنيا من وراء يأجوج ومأجوج، وقال العلامة الزبيدي في (ج 6 من تاج العروس طبع مصر ص 228) ما لفظه مازجا بعبارة القاموس: وجاء في بعض التفاسير إن (ق) جبل محيط بالأرض، قال الله تعالى: (ق) والقرآن المجيد) كما في العباب والصحاح، وقال شيخنا: إن اسم الجبل المحيط (قاف) علم مجرد عن الألف واللام، وقد وهم المصنف الجوهري بمثله في (سلع) الذي هو جبل بالمدينة وقال إنه علم لا تدخله اللام وكأنه نسي هذه القاعدة التي أصلها. إلى آخر ما أفاد. وأورد ابن منظور (في لسان العرب ص 293 ج 9 طبع بيروت) ما نقلناه عن التاج. (2) خرمه خرما: ثلمه، ثقبه، خرم الخرزة: فصمها، خرم الأنف: شق وترته، خرم الإبرة كسر ثقبها. (3) البقرة. الآية 286. (4) فصلت. الآية 46. (5) غافر. الآية 17. (*)

ص 472

أحدا (1)، والظلم هو الاضرار بغير المستحق وأي إضرار أعظم من هذا، مع أنه غير مستحق، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا إنتهى . قال الناصب خفضه الله أقول: مذهب الأشاعرة أن تكليف ما لا يطاق جائز، والمراد من هذا الجواز الامكان الذاتي، وهم متفقون أن التكليف بما لا يطاق لم يقع قط في الشريعة بحكم الاستقراء، ولقوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، والدليل على جوازه أنه تعالى لا يجب (2) عليه شيئ فيجوز له التكليف بأي وجه أراد، وإن كان العلم العادي أفادنا عدم وقوعه، وأيضا لا يقبح من الله شيئ، إذ يفعل (3) ما يشاء ويحكم ما يريد، ومذهب المعتزلة عدم جواز التكليف بما لا يطاق لأنه قبيح عقلا بما ذكره

(هامش)

(1) الكهف. الآية 49. (2) لا يخفى أن مقتضى كون ذاته تعالى مستجمعة لجميع الصفات الكمالية التي منها العدل والحكمة وجوب ترك التكليف بما لا يطاق واستحالة التكليف به، وأنه تعالى مع قدرته الكاملة الشاملة على جميع الممكنات حيت القبائح لا يختار إيجاد القبيح لأنه تعالى لا يفعل خلاف العدل والحكمة، فقول الناصب: إنه تعالى لا يجب عليه شيئ، إن أراد منه نفي ما ذكرناه من الوجوب، فقد عرفت بطلان مقالته، وأنه مقتضى ذات الواجب تعالى المستجمعة لجميع صفات الكمال، وإن أراد منه معنى غير ما ذكرنا على حد ما يتوجه من الوجوب إلى العباد أعني الوجوب المستلزم لاستحقاق المؤاخذة، فلم يتفوه به من له أدنى مسكة من الناس. (3) التعليل بالآية الشريفة على مدعاه في غاية الفساد، فإن من الواضح أنه ليس مقتضى كونه تعالى يفعل ما يشاء أنه يشاء القبايح. وقد أجمع الأصوليون على أن القضية لا تتكفل لإثبات تحقق موضوعها. (*)

ص 473

هذا الرجل من أن المكلف للزمن الطيران إلى السماء وأمثاله يعد في العقل سفيها، وقد مر فيما مضى إبطال الحسن والقبح العقليين، ولا بد في هذا المقام من تحرير محل النزاع فنقول: إن ما لا يطاق على مراتب، أحدها أن يمتنع الفعل لعلم الله (1) بعدم وقوعه، أو تعلق إرادته أو إخباره بعدمه فإن مثله لا يتعلق به القدرة الحادثة مع الفعل (2) لا قبله، ولا يتعلق بالضدين بل لكل واحد منهما قدرة على حده يتعلق به حال وجوده عندنا، ومثل هذا الشيئ لما لم يتحقق أصلا فلا تكون له قدرة حادثة تتعلق به قطعا، والتكليف بهذا جائز، بل واقع إجماعا، وإلا لم يكن العاصي بكفره وفسقه مكلفا بالايمان، وترك الكبائر، بل لا يكون تارك المأمور به عاصيا أصلا وذلك معلوم بطلانه من الدين ضرورة الثاني: أن يمتنع

(هامش)

(1) الحكم بامتناع فعل العبد وانسلاب الاختيار عنه في فعله لعلم الله تعالى بعدم وقوعه في غاية الجهل والضلال. ومن أجهل ممن حكم بأنه إذا حصل لأحد العلم بأن زيدا يزني غدا وأخبر به إن علمه بذلك وإخباره عنه يوجب سلب الاختيار عن زيد في فعل الزنا وكونه مجبورا في ذلك لا يقدر على تركه. والوجه أن حقيقة العلم ليست إلا محض الكشف والحكاية، ومن البديهي أنه لا دخل للكاشف والحاكي في تحقق المنكشف والمحكى وعدمه. وقد ذكر بعض الأجلة أن مدخلية الكاشف في تحقيق المنكشف يستلزم الدور لكون الكشف في مرتبة متأخرة عن المنكشف، فلو كان له دخل في تحقيق المنكشف لتوقف تحققه على تحقق الكشف وهذا دور صريح. (2) لا يخفى عليك أن في كون القدرة على الفعل مقارنة له أو متقدمة عليه خلافا مشهورا بين الحكماء والمتكلمين، وذهب أكثر الأشاعرة إلى كونها مقارنة له والتحقيق كما عليه أكثر الإمامية والمعتزلة وبعض الأشاعرة كونها سابقة بالذات حادثة التعلق بالخارج الذي هو متعلق القدرة. ثم ليعلم أن في مبحث القدرة مسائل شتى قد أشرنا إلى بعضها في التعاليق السابقة فليراجع. (*)

ص 474

لنفس مفهومه كجمع الضدين وقلب الحقائق، وإعدام القديم، فقالت الأشاعرة في هذا القسم إن جواز التكليف به فرع تصوره، وهو مختلف فيه، فمنهم من قال: لا يتصور (1) الممتنع لذاته، ومنهم من قال: بإمكان تصوره، وبالجملة لا يجوز التكليف به أصلا، لأن المراد بهذا الجواز الامكان الذاتي، والتكليف بالممتنع طلب تحصيل ما لم يمكن بالذات

(هامش)

(1) وقوع الممتنع لذاته كاجتماع النقيضين واجتماع الضدين وغيرهما في حيز التصور مما يشهد به الحس والوجدان. كيف؟ ومن حكم بأن اجتماع الضدين محل فقد تصور مفهوم اجتماع الضدين لا محالة، فإن الحكم في القضية فرع تصور الموضوع والمحمول، ويمتنع الحكم بدون تصور موضوعه. ولعل منشأ هذا التوهم منهم اشتباه المفهوم بالمصداق فإن المستحيل من اجتماع النقيضين واجتماع الضدين وغيرهما من المستحيلات العقلية هو مصداق تلك الأمور دون مفهومها، وما يحصل عند النفس ويقع في حيز التصور هو مفاهيم الأمور، وأما مصاديقها فلا تتحقق إلا في حيز الخارج، وهي التي حكم العقل باستحالتها. فإن قلت: إن الحكم في قضية اجتماع النقيضين محال إنما هو مفهوم اجتماع النقيضين الحاضر عند النفس لما ثبت في محله من أنه لا يتعلق حكم النفس إلا بما حضر عندها من المفهوم. قلنا: الصور الذهنية مرا؟؟؟ للخارج، والمرآة لها جهتان، جهة الاستقلال وهي وجودها الثابت لها في نفسه في قبال المرئي، وجهة المرآتية وبهذا الاعتبار فهي فانية في المرئي والناظر فيها لا يرى إلا مرئيها، والموضوع في القضايا حيث يحكم بها النفس هي الصور الذهنية، فتحقق قولهم لا يتعلق حكم النفس إلا بما حضر عندها، لكن تعلق الحكم لتلك الصور ليس إلا من حيث الجهة الثانية أعني المرآتية، والنفس عندما تحكم عليها لا يرى إلا الخارج، ولا يحكم إلا على الخارج، فإذا حكم النفس بأن النار حارة فموضوع القضية عندها ليس إلا الصورة الذهنية من النار فإنها الحاضر عند النفس دون النار الخارجية، إلا أن وقوعها في حيز الحكم من جهة حكايتها عن الخارج وكونها مرآة له وفانية فيه ومتحدا معه اتحاد المرآة مع المرئي، وهذا حقيقة الوجود الذهني الذي حكموا بثبوته وأثبتوه للمهيات في قبال الوجود الخارجي. ومنشأ الحكم بثبوت الوجود (*)

ص 475

وهذا باطل الثالث: أن لا يتعلق به القدرة الحادثة عادة سواء امتنع تعلقها به لا لنفس مفهومه بأن لا يكون من جنس ما يتعلق به كخلق الأجسام، فإن القدرة الحادثة لا تتعلق بإيجاد الجواهر أصلا أم لا، بأن يكون من جنس ما يتعلق به، لكن يكون من نوع أو صنف لا يتعلق به كحمل الجبل والطيران إلى السماء وسائر المستحيلات العادية، فهذا هو محل النزاع، ونحن نقول: بجوازه لإمكانه الذاتي، والمعتزلة يمنعونه لقبحه

(هامش)

اللفظي والوجود الكتبي مع الوجود الذهني للمهيات في عداد الوجود الخارجي أيضا نحو اتحاد حاصل بين اللفظ والكتابة مع الخارج، لكن حصول الاتحاد بين اللفظ والخارج بتبع الاتحاد بين المفهوم والخارج الذي أشرنا إليه، وحصول الاتحاد بين الكتابة وبينه بتبع الاتحاد بين اللفظ وبينه. ومما ذكرناه يعلم أن الاتحاد الحاصل بين الصورة الحاصلة عند النفس مع الخارج لا ينفي تغايرهما فإن النفس إذا لاحظت في اللحاظ الثانوي ما حصل عنده من الصورة، لحكمت بتغايرها مع الخارج حقيقة فليس للوجود الذهني واقعية محفوظة ثابتة في كلا الحالين حتى يحكم بأن للمهيات وجودا في الذهن حقيقة كالوجود الثابت لها حقيقة في الخارج، ومن أمعن النظر فيما أقامها القائلون بالوجود الذهني من البراهين عليه تبين له أن الثابت بها ليس إلا الوجود الذهني الاتحادي الذي ذكرناه دون ما ادعوها من الوجود حقيقة فليتأمل. ولا يقتضي المقام أكثر مما ذكرنا من البسط في المقال وقد خرجت هذه الجمل في هذه التعليقة وما قبلها مجرى المجارات مع أبناء العصر حيث تراهم مشغوفين بكلمات الفلاسفة يحسنون الظن بها، بل ويرونها كالوحي المنزل وبالجملة فكلما تري من مثال هذه المقالات في تعاليق الكتاب فلا تظنن إنا ملتزمون بصحتها، والحق الحقيق بالقبول ما صدرت من منابع العلم والحكمة الإلهية والمشاكي النبوية، وأودعت في رواياتنا المدونة في كتب الأصحاب رضوان الله عليهم أجمعين، فهي التي لا تتبدل بتلاحق الأفكار ولا تصير لعبة الأنظار، اللهم أدم توفيقنا للاستنارة من تلك الأنوار، والتطيب بها تيك الأزهار آمين آمين. (*)

ص 476

العقلي مع أنا قائلون: بأنه لم يقع، وهذا مثل سائر ما تجوزه الأشاعرة من الأمور الممكنة كالرؤية وغيرها، والتجويز العقلي لا يستلزم الوقوع إنتهى أقول: فيه نظر من وجوه، أما أولا فلأن ما ذكره من أن المراد من جواز التكليف بما لا يطاق إمكانه الذاتي دون الوقوعي إنما هو مذهب بعض متأخري الأشاعرة الذين فروا عن الشناعات اللازمة لمذهب شيخهم، وأما مذهب شيخهم ومن تابعه من متقدمي أصحابه وهو الذي قصد المصنف أن يتكلم عليه هيهنا، فهو الامكان الوقوعي كما يدل عليه استدلالهم بالتكليف بإيمان أبي لهب (1) ونحوه، وقال الغزالي في المنخول: إن هذا المذهب لائق بمذهب شيخنا لازم له من وجهين آخرين، أحدهما: أن القدرة الحادثة عنده لا تأثير له في المقدور، فهو واقع باختراع الله تعالى فقد كلفنا فعل الغير، والآخر: أن القاعدة عنده غير قادر على القيام وهو مأمور بالقيام وقدرة القيام تقارن القيام إنتهى . فقول الناصب: وهم متفقون أن التكليف بما لا يطاق لم يقع قط في الشريعة بحكم الاستقراء الخ يكون كذبا وسنزيد ذلك وضوحا عن قرب إن شاء الله تعالى، وأما ثانيا فلأن ما ذكره في الدليل على الجواز من أنه لا يجب عليه تعالى شيئ مردود بما مر: من أن نفي الوجوب بالمعنى الذي ذكره أهل العدل مخالف للعقل والنقل

(هامش)

(1) هو أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب عم سيدنا ونبينا رسول الله صلى الله عليه وآله وزوجته أم جميل بنت حرب بن أمية بن عبد شمس، مات في السنة الثانية من الهجرة بعد غزوة بدر، وكان في مبادئ الإسلام معاضدا لرسول الله (ص)، ثم تغير حاله وصار من أشد المظاهرين عليه (ص) وذلك بإغواء أبي جهل وعقبة بن أبي معط إياه، وذكر بعض علماء الأنساب له عقبا متسلسلا. (*)

ص 477

كقوله تعالى كتب على نفسه الرحمة (1) وكذا الكلام في قولهم: لا يقبح من الله شيئ فإنه أيضا مردود بما مر مرارا، وأما ثالثا فلأن ما ذكره في بيان المرتبة الأولى من مراتب التكليف بما لا يطاق بقوله: والتكليف بهذا جائز، بل واقع إجماعا، وإلا لم يكن العاصي بكفره وفسقه مكلفا بالايمان وترك الكبائر الخ مما ذكره صاحب المواقف وحاصله على ما صرح به في شرح مختصر ابن الحاجب أنه لو لم يصح التكليف بالمحال لم يقع، وقد وقع لأن العاصي مأمور ويمتنع منه الفعل، لأن الله تعالى قد علم أنه لا يقع وخلاف معلومه محال، وإلا لزم جهله وقد أجيب عنه بوجهين مذكورين هناك أيضا، أحدهما: أن ما ذكرتم لا يمنع (2) إمكان الوقوع لجواز وقوعه من المكلف في الجملة، وإن امتنع بغيره من علم أو خبر أو غيرهما فهو استدلال على غير محل النزاع، وثانيهما: أن دليلكم هذا يبطل المجمع عليه، فيكون باطلا بيانه: أن ذلك يستدعي أن التكاليف كلها تكليف بالمستحيل، لوجوب (3) وجود الفعل أو عدمه لوجوب تعلق العلم بأحدهما وأيا ما كان تعين وامتنع الآخر، ولما ذهب إليه الأشعري من كون القدرة مع الفعل وكون الأعمال مخلوقة لله تعالى، فإنهما ظاهران في استلزامهما كلية لكون التكليفات مستحيلة إنتهى وقد أجاب عنه المصنف قدس سره أيضا في كتاب نهاية الوصول من وجوه تسعة فليطالع ثمة، وأما رابعا: فلأن ما ذكره في بيان المرتبة الثالثة تبعا لصاحب المواقف أن هذا هو محل النزاع مردود،

(هامش)

(1) الأنعام. الآية 12، (2) أي إمكان وقوع الفعل عن المكلف فهذا رد لقوله: ويمتنع منه الفعل. منه قدس سره (3) يعني ما تعلق العلم بوقوعه من وجود الفعل وعدمه معين للوقوع وامتنع نقيضه لئلا ينقلب علمه تعالى جهلا. منه قده . (*)

ص 478

باستلزامه لأن يكون كثيرا من أدلة الأشاعرة هيهنا غير منطبق على محل النزاع كما صرح به صاحب المواقف أيضا في آخر هذا التحرير، حيث قال: وبما قررناه من تحرير محل النزاع يعلم أن كثيرا من أدلة أصحابنا مثل ما قالوا في إيمان أبي لهب وكونه مأمورا بالجمع بين المتناقضين، نصب للدليل في غير محل النزاع إنتهى . ولا يذهب عليك أن صاحب المواقف إنما ارتكب تحرير محل النزاع على الوجه الذي لزم منه بطلان أكثر أدلة أصحابه للفرار عما هو أشنع من ذلك، وهو القول بجواز تكليف المحال لذاته، وهذا في الحقيقة حيلة منه للتفصي (1) عن تلك الشناعة وإلا فمحل النزاع عند أصحابه ليس مخصوصا بما ذكره في المرتبة الثالثة من المستحيلات العادية، قد أشار إلى هذا الشارح (2) قدس سره الشريف بقوله لقائل أن يقول: إن ما ذكره من أن جواز التكليف بالممتنع لذاته فرع تصوره وأن بعضا منا قالوا: بوقوع تصوره يشعر بأن هؤلاء يجوزونه أي يجوزون التكليف بالمحال لذاته، ويدل على ذلك كلام العلامة (3) الشيرازي في شرح مختصر

(هامش)

(1) ولما كان نصب الدليل في غير محل النزاع أقل شناعة من ابداع دعوى فاسدة احتمل العضدي تغير الدعوى كما ترى. منه قدس سره (2) المراد منه المحقق الشريف الجرجاني. (3) هو الشيخ قطب الدين أبو الثناء محمود بن مسعود بن مصلح الشيرازي الكازروني من تلامذة المحقق الطوسي وصدر الدين القونوي والكاتبي القزويني، له تصانيف نفيسة في العلوم العقلية والطب والأدب، منها شرح كليات القانون لابن سينا وترجمة تحرير اقليدس وحل مشكلات المجسطى وشرح مختصر الأصول لابن الحاجب والتحفة الشاهية ودرة التاج وشرح مفتاح السكاكي ونهاية الادراك في الهيئة وشرح حكمة الاشراق وغيرها، توفي 24 رمضان سنة 710 أو سنة 716 ببلدة تبريز ودفن بمقبرة كجيل بجنب قبر القاضي البيضاوي فراجع (ص 219 وص 247 ج 6 من (*)

ص 479

الأصول حيث قال: اعلم أن الأمة اختلفوا (1) في جواز التكليف بالممتنع، وهو إما أن يكون ممتنعا لذاته كالجمع بين الضدين وقلب الأجناس وإيجاد القديم وإعدامه ونحوه مما يمتنع تصورها، أو لغيره كجميع الممكنات لفقدان أسباب وجوداتها، أو بوجدان الموانع عنها، كإيمان من علم الله أنه لا يؤمن فإنه ممكن بحسب ذاته، ممتنع بحسب غيره، فإن كان الأول أي الممتنع لذاته فذهب شيخنا أبو الحسن الأشعري في أحد قوليه إلى جوازه، وهو مذهب أكثر أصحابه، واختلفوا في وقوعه، والقول الثاني امتناعه، وهو مذهب البصريين من المعتزلة وأكثر البغداديين وإن كان الثاني أي الممتنع لغيره فقد اتفق الكل على جوازه عقلا خلافا لبعض (2) الثنوية، وعلى وقوعه شرعا، وذهب المصنف إلى امتناع الأول، وهو المختار على ما مال إليه الغزالي إنتهى ثم الظاهر أن الأشعري أخذ جواز التكليف بما لا يطاق

(هامش)

طبقات الشافعية ط مصر) وهكذا (ص 307 ج 3 من ريحانة الأدب ط طهران). (1) قال المصنف رفع الله درجته في نهاية الوصول: اختلف الناس في ذلك فذهبت العدلية كافة إلى امتناعه، وقالت الأشاعرة كافة بجوازه، ثم اختلفوا في الوقوع، فذهب أبو الحسن الأشعري تارة إلى عدم وقوعه وتارة إلى وقوعه، وكلاهما قول أصحابه مع أنه يلزمه الوقوع، وقال بعضهم: المحال إن كان لذاته كالجمع بين الضدين وقلب الأجناس وإيجاد القديم واعدامه استحال التكليف به وإن كان لغيره جاز التكليف به واختاره الغزالي وهرب من مقالة شيخه أبي الحسن لما فيها من الشناعات ويلزمه الوقوع فيها على ما يأتي تقريره الخ منه قدس سره (2) قال الشهرستاني في كتاب الملل (ج 2 ص 72 ط مصر) ما لفظه: الثنوية هؤلاء أصحاب الاثنين الأزليين يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان بخلاف المجوس فإنهم قالوا بحدوث الظلام وذكروا سبب حدوثه، وهؤلاء قالوا بتساويهما في القدم واختلافهما في الجوهر والطبع والفعل والحيز والمكان والأجناس والأبدان والأرواح (إنتهى). (*)

ص 480

من القصة المذكورة بين العوام في مخاطبة إدريس عليه السلام (1) مع إبليس عليه اللعنة

(هامش)

(1) هو إدريس بن اليارد بن مهلائيل بن قينان بن انوش بن شيث بن آدم على نبينا وآله وعليه السلام، ولد بمصر وسموه (هرمس الهرامسة) وباليونانية (ارمس) بمعنى عطارد وعرب بهرمس، واسمه الأصلي (هنوخ) وعرب (اخنوخ) وسماه الله تعالى في كتابه إدريس لكثرة دراسته كما في أبجد العلوم ص 348 ط هند. وهو رجل آتاه الله النبوة والحكمة وأنزل عليه ثلاثين صحيفة وعلم النجوم وأفهمه عدد السنين والحساب وعلمه الألسنة المختلفة قال القطب في محبوب القلوب ما لفظه: وزعم جماعة من الأعلام أن جميع العلوم التي ظهرت قبل الطوفان إنما صدرت عن هرمس الأول الساكن بصعيد مصر الأعلى وهو الذي يسميه العبرانيون (اخنوخ) بن لاود بن مهلائيل، وهو إدريس النبي وقالوا: إنه أول من أنذر بالطوفان ورأى آفة سماوية يلحق الأرض من الماء فخاف ذهاب العلم ودرس الصنايع فبنى الأهرام في صعيد مصر الأعلى وضرب فيها جميع الصناعات والآلات ورقم فيها صفات العلوم حرصا منه على تخليدها لمن بعده وخيفة أن يذهب رسمها من العالم. وقال السويدي في السبائك ص 11 طبع بمبئى ما حاصله: إن إدريس هو أول من استخرج الحكمة وعلوم النجوم وعلوم الرياضيات والطبيعي والإلهي وأسرار الفلك، وسمي بالمثلث لأنه كان نبيا وحكيما وملكا، وهو أول من خط بالقلم وأول من جاهد في سبيل الله أرباب الفساد من بني آدم، وهو الذي رسم عمارة المدن وجمع طلاب العلم وقرر لهم قواعد السياسة وعمارة المدن، فأنشات كل فرقة من الأمم مدنا في أرضها إلى أن قال: ورفعه الله وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة وقصة رفعه مذكورة في التفاسير والتواريخ الخ. قال في الأبجد ص 348 ط هند ما حاصله: إن قبلة إدريس كانت جهة الجنوب على خط نصف النهار إلى أن قال: وهو أول من خاط الثياب وحكم بالنجوم وأنذر بالطوفان وأول من بنى الهياكل ومجد الله فيها وأول من نظر في الطب، وأول من ألف القصائد و ج 30 (*)

ص 481

كما أشار إليه الفناري (1) في بحث القدرة من شرح جمع الجوامع حيث قال: أما المستحيلات فلعدم قابليتها للوجود لم تصلح أن تكون محلا لتعلق الإرادة لا لنقص في القدرة، ولم يخالف في ذلك إلا ابن حزم (2) فقال في الملل والنحل: إن الله عز وجل قادر على أن يتخذ ولدا، إذ لو لم يقدر عليه لكان عاجزا، ورد ذلك بأن

(هامش)

الأشعار الخ. ثم اعلم أن أحمد بن متويه نقل الصحيفة المنسوبة إلى إدريس من السريانية إلى العربية بأمر المأمون العباسي. (1) هو الشيخ محمد بن حمزة بن محمد بن محمد شمس الدين الرومي الحنفي المشتهر بفناري صاحب التآليف الكثيرة في فنون العلم، توفي سنة 839 او 840، ومن تصانيفه الفوائد الفنارية في المنطق، وشرح جمع الجوامع في الأصول لتاج الدين عبد الوهاب السبكي، وفصول البداية في أصول الشرايع في علم أصول الفقه، وعويصات الأفكار في اختبار أولي الأبصار في العلوم العقلية، وتفسير سورة الفاتحة، ومصباح الأنس بين المعقول والمشهود في شرح مفتاح غيب الجمع والوجود، والمفتاح لصدر الدين القونوي، وكتاب أنموذج العلوم، وكتاب تلخيص الفصول وترصيص الأصول وغيرها، فراجع (ص 187 من الفوائد البهية) لأبي الحسنات الهندي ط مصر و(ص 213 من شذرات الذهب ط مصر) و(ص 229 ج 3 من ريحانة الأدب ط طهران) (2) هو الشيخ أبو محمد علي بن محمد بن حزم القرطبي الأندلسي الظاهري مذهبا الأموي نسبا، كان من أعاجيب عصره في أكثر العلوم وله كتب شهيرة، منها الفصل في الملل والأهواء والنحل، وكتاب مداواة النفوس في الأخلاق، وكتاب المحلى في فقه الظاهرية، وكتاب جمهرة الأنساب، وكتاب الاحكام لأصول الأحكام وكتاب إظهار تبديل اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل وبيان تناقض ما بأيديهم من ذلك مما لا يحتمل التأويل. (*)

ص 482

اتخاذه الولد محال لا يدخل تحت القدرة، وعدم القدرة على الشيئ قد يكون لقصورها عنه، وقد يكون لعدم قبوله لتأثيرها فيه، لعدم إمكانه لوجوب أو امتناع، والعجز هو الأول دون الثاني وذكر الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني (1) أن أول من أخذ منه ذلك إدريس عليه السلام حيث جاءه إبليس في صورة انسان وهو يخيط ويقول في كل دخلة وخرجة سبحان الله والحمد لله، فجاءه بقشرة فقال: الله تعالى يقدر أن يجعل الدنيا في هذه القشرة فقال: الله قادر أن يجعل الدنيا في سم هذه الإبرة ونخس بالإبرة إحدى عينيه، فصار أعور، وهذا وإن لم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وآله، فقد اشتهر وظهر ظهورا لا ينكر قال: وقد أخذ الأشعري من جواب إدريس عليه السلام أجوبة في مسائل كثيرة من هذا الجنس إنتهى كلامه وكفى بذلك شناعة وفضيحة لهم ولمذهبهم وقدوتهم في مذهبهم؟ وبهذا الذي نقل عن الاسفرايني في شأن شيخه الأشعري يظهر صدق ما ذكره الحكيم شمس الدين الشهرزوري (2) في تاريخ الحكماء عند ذكر ترجمة فخر الدين الرازي وتعييره وتوبيخه له في متابعته للأشعري حيث قال: وأعجب أحوال هذا الرجل أنه صنف في الحكمة كتبا كثيرة توهم أنه من

(هامش)

(1) هو أبو إسحق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم ركن الدين الاسفرائني من مشاهير علماء القوم في الفقه والحديث والكلام، وكان من أصحاب الشيخ أبي الحسن الأشعري وشريك البحث والدرس مع ابني فورك والباقلاني، ومن تآليفه كتاب الجامع في أصول الدين وكتاب نور العين في مشهد الحسين عليه السلام، توفي يوم عاشورا سنة 417 أو 418 ببلدة نيسابور ونقل نعشه إلى اسفرائين فراجع في ترجمة حاله إلى (ص 117 جزء 3 من طبقات الشافعية ط مصر). وريحانة الأدب (ج أول ص 69 ط طهران) ثم إن كتاب نور العين قد طبع مرات ولكن ليس مما يعتمد عليه في متفرداته (2) قد سبقت ترجمته وتاريخ حياته، وكتابه (تاريخ الحكماء) من الكتب المعتبرة في تراجم الفلاسفة والأطباء، وسمعت أن بعض الأفاضل كتب له تذييلا نافعا وآخر لخصه (*)

ص 483

الحكماء المبرزين الذين وصلوا إلى غايات المراتب ونهايات المطالب ولم يبلغ مرتبة أقلهم، ثم يرجع وينصر مذهب أبي الحسن الأشعري الذي لا يعرف أي طرفيه أطول؟ (1) لأنه كان خاليا عن الحكمتين (2) البحثية والذوقية لا يعرف أن يرتب حدا ولا أن يقيم برهانا، بل هو شيخ مسكين متحير في مذاهبه الجاهلية التي يخبط فيها خبط عشواء إنتهى .

(هامش)

(1) هذا مثل قبيح يضرب في حق من لا يميز بين الزين والشين، وقد سبق شرح المراد منه بمدلوليه المطابقي والالتزامي. (2) المراد بهما الحكمة المشائية والاشراقية وليعلم أنه اختلفت طرق الحكماء، فمنهم من رام إدراك المطالب بالبحث والنظر، وهم الباحثون والمشائيون والاستدلاليون، وقدوتهم أرسطو، وذهب إلى أن هذا الطريق أنفع للتعلم وأوفى بجملة المطالب. ومنهم من سلك طريق تصفية النفس بالرياضة حتى وصلوا إلى أمور ذوقية ادعوها بالكشف والعيان بحيث تجل عن أن توصف باللسان. ومنهم من ابتدء بالبحث والنظر وانتهى إلى التجريد وتصفية النفس فجمع بين الفضيلتين وينسب هذا إلى سقراط والسهروردي والبيهقي. ثم اعلم أن من النظر رتبة تناظر طريق التصفية ويقرب حدها من حدها وهو طريق الذوق ويسمونه الحكمة الذوقية. وممن يعد قدوة في هذا الشأن الشيخ السهروردي، وكتابه حكمة الاشراق يحكي عن هذا المعنى، وكذا الفناري الرومي، والشيخ صدر الدين القونوي، والمولى جلال الدين الدواني وغيرهم. ثم إن علم الحكمة عرف بتعاريف، فمنها إنه العلم بأحوال أعيان الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية ومنها إنه علم يبحث فيه عن حقائق الأشياء (*)

ص 484

(هامش)

على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية ومنها التشبه بالآلة علما وعملا وغيرها مما يقف عليها الباحث في كتب الفلسفة، وقسموا الحكمة على أقسام باعتبارات شتى من النظرية والعملية وغيرها ثم اعلم أن للقوم كلمات في حق هذا العلم وآداب تعلمه وتعليمه والتحرير فيه قال قطب الدين الأشكوري في محبوب القلوب ما لفظه: من أراد صيد طيور مطالب الحكمة المتعالية الحقة بلا مصاحبة كلاب الشكوك والأوهام فعليه بتربية صقور قواه العقلانية على آداب شريعة خير الأنام والتخلق بأخلاق أصحاب الوحي والإلهام عليهم السلام لتحصل له ملكة الطيران في فضاء مصائد كلمات الأوائل من الأعلام حتى اصطادوا طيور مأكولات اللحوم من المعارف الحقة اللذيذة ليغذي بها نفسه المجردة بعد المفارقة من دار الكربة والآلام، وإلا مثله كمثل آخذ الصيود من أفواه الكلاب للأدام، فهو كآكل الميتة أو المستظل بظل الذباب في اليوم الصائف، فهذا كالمستيقظ المحترق أطرافه بنار الخيبة، إلى أخر ما قال وأطرى وقال قبيله ما لفظه: وفي كلامه عليه السلام (يعني مولينا أمير المؤمنين ع): إن كلام الحكماء إذا كان صوابا كان دواء، وإذا كان خطاء كان داء وذلك لقوة اعتقاد الخلق فيهم وشدة قبولهم لما يقولونه، فإن كان حقا كان دواء من الجهل، وإن كان باطلا وجب للخلق علاج داء الجهل إنتهى قال العارف الرومي في المثنوي: كاف كفر اينجا بحق المعرفة * دوست تر دارم ز فاء فلسفة زانكه اين علم لزج چون ره زند * بيشتر بر مردم آگه زند هذا ما اقتضته الصروف والظروف بمقالة أوردناها حسب ميول أبناء العصر وأما الحكمة الحقة هي التي أخذت من معادن العلم وخزنة الوحي الذين من تمسك بذيلهم فقد نجى اللهم اجعلنا من التابعين لهم ومن المعرضين عن كل وليجة دونهم وكل مطاع سواهم وإياك إياك أيها القارئ الكريم بما أبرزتها الفلاسفة مزبرجة، فلا تغتر بما أودعوها في زبرهم ولا تحسن الظن بكلماتهم حتى تنجو من المهالك عصمنا الله وإياك، (*)

ص 485

قال المصنف رفع الله درجته

المطلب التاسع في أن إرادة النبي موافقة لإرادة الله تعالى

ذهبت الإمامية إلى أن النبي، يريد ما يريده الله تعالى، ويكره ما يكرهه، وأنه لا يخالفه في الإرادة والكراهة وذهبت الأشاعرة إلى خلاف ذلك، فإن النبي يريد ما يكرهه الله، ويكره ما يريده لأن الله يريد من الكافر الكفر، ومن العاصي المعاصي، ومن الفاسق الفسوق، ومن الفاجر الفجور، والنبي صلى الله عليه وآله أراد منهم الطاعات، فخالفوا بين مراد الله تعالى وبين مراد النبي وأن الله كره من الفاسق الطاعة، ومن الكافر الايمان، والنبز أراد هما منهما، فخالفوا بين كراهة الله وكراهة نبيه، نعوذ بالله من مذهب يؤدي إلى القول: بأن مراد النبي يخالف مراد الله وأن الله لا يريد من الطاعات ما يريده أنبياؤه، بل يريد ما أرادته الشياطين من المعاصي وأنواع الفواحش والفساد إنتهى قال الناصب خفضه الله أقول: الإرادة قد تقال ويراد بها الرضا والاستحسان، ويقابلها السخط والكراهية، وقد يراد بها الصفة المرجحة، والتقدير قبل الخلق، وبهذا المعنى لا يقابلها الكراهية فالإرادة إذا أريد بها الرضا والاستحسان، فلا شك أن مذهب الأشاعرة أن كل ما هو مرضي لله تعالى فهو مرضي لرسوله، وكل ما هو مكروه عند الله مكروه عند رسوله، وأما قوله: ذهبت الأشاعرة إلى خلاف ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وآله يريد ما يكرهه الله، ويكره ما يريده لأن الله تعالى يريد من الكافر الكفر، ومن العاصي العصيان، والنبي أراد منهما الطاعات، فإن أراد بهذه الإرادة والكراهية الرضا والسخط، فقد بينا أنه لم يقع بين إرادة الله تعالى وإرادة رسوله مخالفة قط (1)

(هامش)

(1) الملخص إن الله تعالى قد يقدر ما لا يرضى به فلا يرضى به النبي وقد يرضى بما لم يقدره فهو المرضي أيضا له وليس هيهنا مخالفة أصلا. من الفضل بن روزبهان. (*)

ص 486

وإن أراد أن الله يقدر الكفر للكافر والنبي يريد منه الطاعة بمعنى الرضا والاستحسان فهذا صحيح لأن الله تعالى أيضا يستحسن منه الطاعة ويريدها بمعنى أنه يقدرها والحاصل أنه يخلط المعنيين ويعترض، وكثيرا ما يفعل في هذا الكتاب أمثال هذا، والله يعلم المصلح من المفسد إنتهى أقول قد جمع الناصب في هذا الفصل جميع مقدماته الفاسدة التي ذكرها سابقا متفرقة من أن الإرادة غير الرضا، وأن الإرادة بمعنى التقدير، وبنى عليها ترديده المردود، وكذا الحال فيما ذكره في الحاشية: من أن الملخص أن الله تعالى قد يقدر ما لا يرضى به فلا يرضى به النبي، وقد يرضى بما لم يقدره فهو المرضي أيضا، وليس هيهنا مخالفة أصلا إنتهى والحاصل أنه إن أراد بتقدير ما لا يرضى به خلق ما لا يرضى به فهو مردود بما مر، وإن أراد به إرادة ما لا يرضى به فهو مدفوع بما سبق: من أن الإرادة مستلزمة للرضا، وأن الاعلام والتبيين والكتابة فهو مسلم، لكن لا يجديه فيما هو بصدده كما لا يخفى. قد تم الجزء الأول من كتاب إحقاق الحق وإزهاق الباطل مع بذل الوسع والطاقة في التصحيح والتعليق وتعيين المصادر وإجادة الطبع ويليه الجزء الثاني أوله في أفعال العباد الاختيارية وأنها صادرة عنهم. تم تصحيحه بالدقة التامة بيد العبد (السيد إبراهيم الميانجي) عفى عنه في اليوم الثالث من شهر ذي حجة الحرام سنة 1376 هجرية على هاجرها آلاف الثناء والتحية

 

الصفحة السابقة

شرح إحقاق الحق (ج1)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب