|
الصفحة ( 165
)
المجالسُ السَّنيّة
في
مناقب ومصائب العترة النبويّة
تأليف :
المُجتهِد الأكبر السيّد محسن الأمين رضوان الله عليه الجزء الثّاني
الطّبعة الخامسة
1394هـ ـ 1974م
الصفحة ( 166
)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربِّ العالمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطّاهرين .
وبعد
: فهذا هو الجزء الثّاني من كتاب المجالس السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة
النبويّة , تأليف أفقر العباد إلى عفو ربّه الغني محسن ابن المرحوم
السيّد
عبد الكريم الأمين الحسيني العاملي , نزيل دمشق الشّام ، عفا الله تعالى عن
سيئاته وحشره مع محمّد وآله الطّاهرين صلوات الله عليهم .
وحيث قد
نفدت الطّبعة الأولى من هذا الجزء , فها نحن نُمثله للطبع ثانياً مع زيادات
في هذه الطّبعة ، وتغيير في التّرتيب إلى ما هو أحسن وأنسب , والله المسؤول
أنْ يكون عملنا هذا خالصاً لوجهه الكريم , وعليه نتوكل وبه نستعين .
* * *
الصفحة ( 167
)
المجلس السّادس والتّسعون
قال
الله تعالى في سورة الشّورى :
(
قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدّةَ فِي
الْقُرْبَى )(1) :
أي قُل لهم
يا محمّد , لا أسألكُم على تبليغ الرّسالة وتعليم الشّريعة أجراً
، إلاّ أنْ تودّوا قرابتي وعترتي
، وتحفظوني فيهم .
وعن ابن عباس قال : لمّا نزلت
:
(
قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدّةَ فِي
الْقُرْبَى ) , قال النّاس : يا رسول الله , مَنْ هؤلاء الذّين أمرنا الله
بمودّتهم ؟ قال :
(( عليّ وفاطمة وولدهما ))
.
قال علي
(عليه السّلام) :
(( فينا في آلِ حم آية لا يحفظ
مودّتنا إلاّ كُلّ مؤمن ))
.
ثُمّ قرأ هذه الآية .
وإلى هذا أشار الكُميت رحمه الله في قوله .
وجدنا لكمْ في آل حمَ آيةً تأوّلها منّا تقيٌ ومعربُ
وقال الأعسم رحمه الله :
لهفي لمَن ودّهم
أجر الرّسالة لمْ يروا سرى علم الشّحناء منشورا
وقال المؤلّف :
أنتمْ ولاة الورى حقّاً وحُبُكمْ فرضٌ أكيدٌ بنص الذّكر قد وجبا
وقال بعض الشّعراء :
أيـّها المؤمن الذي
طاب فرعاً وزكـا مـنه أصـلُهُ وتمسكْ
طبْ بدين النّبي نفساً وإنْ خفـ ـتَ من النّار في غدٍ أنْ تمسكْ فـاستجر مـن لـَظى بـعليٍٍّ وبـنـيهِ وبـالبتول تـمسكْ
خطب النّبي
(صلّى الله عليه وآله) يوماً فقال :
(( أيّها النّاس , إنّي خلّفتُ فيكم الثّقلين ؛ كتابَ
الله وعترتي أهل بيتي واُرومتي ، ومزاجَ مائي وثمرتي , لن يفترقا حتّى يَرِدا
عليّ
ــــــــــــــــــــــــ
(1)
سورة
الشّورى / 23 .
الصفحة ( 168
)
الحوض , وإنّي لا أسألُكم في ذلك إلاّ ما أمرني ربّي أنْ
أسألُكم المودّة في
القُربى , فانظروا أنْ لا تلقوني غداً على الحوض , وقد أبغضتم عترتي
وظلمتموهم ))
.
فليتك يا رسول الله
تنظر إلى آلك وعترتك الذين جعل الله ودّهُم أجر رسالتك ما جرى عليهم من
بعدك ؛ أمّا أخوك وابن عمِّك أمير المؤمنين (عليه السّلام) فقد نازعوه حقّه وحاربوه , وكانت
خاتمة عملهم أنْ قتلوه وهو يُصلّي في محرابه ؛ وأمّا بضعتُك الزّهراء (عليها
السّلام) فقد
خرجت من الدُنيا وهي ناحلة الجسم مُعصبة الرأس حزينة باكية ؛ وأمّا ولدك
الحسن (عليه السّلام) فقد جرّعوه الغصص ونازعوه حقّه كما نازعوا أباه من قبله وتتبّعوا
شيعته ومحبيه ، تارة يقتلونهم ، وتارة ينفونهم من الأرض ، وتارة ينهبون
أموالهم ويهدمون دورهم حتّى قتلوه مسموماً ومنعوا من دفنه عندك
.
وأمّا
ولدك الحسين (عليه السّلام) فقد دعاه أهل الكوفة لينصروه ، ثمّ خذلوه وحاربوه بأمر يزيد وابن زياد حتّى قتلوه
، ومن شرب الماء منعوه , وبجرد الخيل داسوا جسمه ورضّوه ، وعلى
سنان الرّمح رفعوا رأسه وحملوه , وأصبحَ جميع أهل بيتك يا رسول الله , الذّين
أكدت الوصاية بهم ، مقهورين ، مغصوبة حقوقهم
مقتولين ، مُشردين عن أوطانِهم .
تـركوهم شـتّى مـصا ئـبهمْ وأجـمعهم فظيعهْ فـمـغيّبٌ كـالبدرِ تـر تقبُ الورى شوقاً طلوعهْ ومـكـابدٌ لـلـسمّ قـد سُـقيتْ حـشاشته نقيعهْ ومُـضـرّجٌ بـالسّيفِ آ ثـر عزّه وأبى خضوعهْ فقضى كما اشتهت الحميـ ـة تـشكر الهيجا صنيعهْ ومُـصـفّدٌ لـلـه سـلـّ ـم أمـر ما قاسى جميعهْ وسـبـيةٌ بـاتت بـأفـ ـعـى الهمّ مهجتها لسيعهْ
سُلبت ومـا سُلبت محا مـد عِـزّها الغُرّ البديعهْ
وتركوهم يا رسول الله شتّى مصارعهم :
بعضٌ بطيبـة مدفـونٌ وبعضُهـمُ بكربلاءَ وبعـضٌ بالغـريينِ
وأرضُ طوسٍ وسامرا وقد ضَمنتْ بغدادُ بدرين حلاّ وسط
قبرينِ
الصفحة ( 169
)
ولله درّ القائل :
حُفَرٌ بطيبـة والغـري وكربلا
وبطوس والـزّورا وسامراءِ
ما جئتهمْ في حاجة إلاّ انقضتْ وتبدّل الضّـراءُ بـالسّـرّاءِ
وقال دعبل الخُراعي رحمه الله تعالى :
قـبورٌ بـكوفانٍ وأُخـرى بطيبة وأُخـرى بـفخٍ نـالها صـلواتي قبورٌ بجنبِ النّهر من أرض كربلا مـُعـرّسهُمْ فـيها بـشطِّ فُـراتِ تـُوفّوا عُـطاشى بالفُراتِ فليتني تـوفيت فـيهم قَـبل حين وفاتي
وقـبـرٌ بـبغداد لـنفسٍ زكـيّةٍ تـَضمّنها الـرّحمنُ في الغُرفاتِ
المؤلّف
:
لئِن تَكُن أصبَحـت شتّـى قبورهمُ
فكلّها في سواد القلـب مجموعُ
كمْ حاولت طمسها الأعـداءُ جاهدةً
وقدرها فوق هام النّجمِ مرفوعُ
المجلس السّابع والتّسعون
كان نوح (عليه السّلام) أوّل اُولي العزم من الرُسل , وهم خمسة
: نوح وإبراهيم
وموسى وعيسى ومحمّد . ومعنى اُولي العزم : اُولو القّوة ؛ لأنّهم أمروا باظهار
دعوتهم وأعلانها للناس كافّة , قال الله تعالى :
(
فَاصْبِرْ
كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرّسُلِ )(1) .
وروى المسعودي في كتاب إثبات
الوصية , أنّ نوح لبث في قومه
يدعوهم إلى الله فلا يزيدهم دعاؤه إلاّ فراراً منه وطغياناً , وأوحى الله
إلى نوحٍ أنْ أحمل في السّفينة
(
مِن
كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ
) : أي من كُلّ جنس من الحيوانات زوجين ذكراً واُنثى .
(
وَأَهْلَكَ
إِلاّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) : وهي امرأته
. ( ومَن آمن )(2) بك من غير أهلك .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الأحقاف / 35 .
(2)
سورة هود / 40 .
الصفحة ( 170
)
( وَمَا
آمَنَ مَعَهُ الاّ قَلِيلٌ ) . قيل كانوا ثمانين , وقيل ثمانية وسبعين , وقيل
ثمانية , وقيل سبعة من رجال ونساء , وفيهم أبناؤه الثّلاثة سام وحام ويافث
، وثلاث زوجات لهم .
(
وَنَادَى
نوحٌ ابْنَهُ )
كنعان ( وكان في معزلٍ ) عن السّفينة
(
يَا بُنَيّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تُكُن مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ
سَآوِي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُني مِنَ الْمَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ
الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ الاّ مَن رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا
الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ
. . .
وَنَادَى نُوحٌ رَبّهُ فَقَالَ رَبّ إِنّ ابْنِي مِنْ
أَهْلِي وَإِنّ وَعْدَكَ الْحَقّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ
يَانُوحُ إِنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ )
الذّين وعدتك بنجاتهم ؛ لكونه على غير دينك (
إِنّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ )(1) : أي صاحب عمل غير صالح .
قال أبو فراس :
كانت مودّةُ سلمانٍ
لهمْ رحماً
ولم يكُن بين نوحٍ وابنه رحمُ
وشرف مقام النّبوة يوجب تنزيه نساء الأنبياء عن الزِّنا
, فيجوز في زوجة
النّبي أنْ تكون كافرة كزوجة نوح وزوجة لوط , ولا يجوز أنْ تكون زانية . وأمّا
قوله تعالى : ( ضَرَبَ
اللّهُ مَثَلاً لِلّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ
كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا )(2) . فخيانة امرأة نوح أنّها كانت تنسبه
إلى الجنون , وخيانة امرأة لوط أنّها كانت تدّل على أضيافه .
وبقي نوح ومن
معه في السّفينة سبعة أيام واستوت على الجودي في اليوم السّابع , وأغرق
الله كُلّ حيٍّ غير نوح وأصحاب السّفينة ؛ ولذلك سُمّي نوح (عليه
السّلام) آدم الثّاني
. ولولا أنْ رفع الله أنواع العذاب في الدّنيا عن الاُمّة المحمّديّة كرامة
لرسوله محمّد , لما كانت اُمّة نوح (عليه السّلام) أحقّ بالعذاب منها بما
فعلته بعترة رسول الله ؛ من تسليطه عليها يزيد شارب الخمور ، والمُعلن
بالُكفر والفجور ، واللاعب بالقرود والفهود , فأخاف ريحانة رسول الله و
أحد سِبطيه حتّى اضطرّه إلى الخروج من حرم رسول الله إلى حرم الله
خائفاً يترقّب , ومن حرم الله ـ الذي يأمن فيه كُلّ خائفٍ حتّى الطّير والوحش
ـ وأنزله الدّعي بن الدّعي عُبيد الله بن زياد بأمر يزيد مع عياله وأطفاله
بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء , ومنعه من ماء الفُرات المُباح ، [
الذي ] يشربه
البر والفاجر ، وتتمرّغ فيه خنازير السّواد وكلابه ، وآل بيت رسول الله
عُطاشى ظمايا
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة هود / 42
ـ 46 .
(2) سورة
التّحريم / 9 .
الصفحة ( 171
)
لا يُسمح لهم منه بقطرة واحدة , وسبط رسول الله وريحانته يتلظّى عطشاً
، ويطلب شربة من الماء فيُجاب : يا حُسين , أما تنظر إلى ماء الفُرات كأنّه
بطون الحيّات ؟ والله
، لا تذوق منه قطرة حتّى تذوق الموت عطشاً ! هذا واُمّة جدّه
رسول الله ما بين خاذل ومُحارب له ومساعد عليه , غير فئة قليلة لا
تتجاوز النّيف والسّبعين إنساناً , ولم يكفهم ذلك حتّى داسوا جسده الشّريف
بحوافر الخيل , وداروا برأسه ورؤوس أصحابه في البُلدان , وحملوا نساءه
وأطفاله على أقتاب الجِمال كالسّبي المجلوب ! أفلا تستحق هذه الاُمّة بفعلها
هذا أنْ ينزل بها من العذاب أكثر ممّا نزل بقوم نوح ؟ بلى والله .
فـلأيهمْ تنعى الملائكُ مَن لهُ عـقدُ الآلـه ولاءهم وولاءهَا ألآدم تـنعى وأيـنَ خليفةُ الرّ حـمنِ آدمُ كـي يُقيم عزاءهَا أم هـل إلى نوحٍ وأين نبيهُ نـوحٌ فيسعد نوحها وبكاءهَا ولقد ثوى بثراك والسّبب الذي عصم السّفينةَ مغرقاً أعداءهَا
المجلس الثّامن والتّسعون
قال الله تعالى
: (
وَإِذْ
جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنّاسِ وَأَمْناً وَاتّخِذُوا مِنْ
مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى وَعَهِدْنَا إلى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ أنْ طَهّرَا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ
وَالرّكّعِ السّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا
بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم
بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً
ثُمّ أَضْطَرّهُ إلى عَذَابِ النّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ
الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبّنَا تَقَبّلْ مِنّا إِنّكَ أَنْتَ
السّمِيعُ الْعَلِيمُ
)(1)
.
فبنى
إبراهيم (عليه السّلام) البيت ونقل إسماعيل (عليه السّلام) الحجر من ذي طوى , فقال إبراهيم
(عليه السّلام) لمّا فَرِغَ من بناء البيت : ( رَبّ
اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً )
.
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة البّقرة
/ 125 ـ 127 .
الصفحة ( 172
)
روي عن الامام الصّادق (عليه السّلام) : (( مَن دخل الحرم مستجيراً به فهو آمن من سخط الله
عزّ وجل
، ومَن دخله من الوحش والطّير كان آمناً من أنْ يُهاج أو يؤذى حتّى يخرج من
الحرم ؛ وذلك قوله تعالى :
وَإِذْ
جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنّاسِ وَأَمْناً
)) . بأنْ حكم أنّ
مَن عاذ به والتجأ إليه لا يخاف على نفسه ما دام فيه . وكان العرب لا
يتعرّضون لمن فيه فهو آمن على نفسه وماله , وإنْ كانوا يخطفون النّاس من حوله
،
وكان قبل الإسلام يرى الرّجل قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرض له .
ألا قاتل الله بني اُميّة فإنّهم ما راعوا حُرمة الله , فأخافوا سبط رسول
الله وريحانته الحسين وهو في الحرم ؛ وذلك لمّا أنفذ يزيد عمرو بن
سعيد بن العاص من المدينة إلى مكّة في عسكرٍ عظيم , وولاه أمر الموسم وأمره
على الحاج كلهم , وأوصاه بقبض الحسين (عليه السّلام) سرّاً وإنْ لم يتمكن منه يقتله
غيلة . ثُمّ إنّ يزيد دسّ له مع الحاج في تلك السّنة ثلاثين رَجُلاً من شياطين
بني اُميّة , وأمرهم بقتل الحسين (عليه السّلام) على أيّ حال اتّفق , فلمّا علم
الحسين (عليه السّلام) بذلك , عزم على التّوجه إلى العِراق ، وكان قد أحرم بالحجّ , فطاف بالبيت وسعى
بين الصّفى والمروة وقصّر من شعره وأحلّ من إحرام الحجّ وجعلها عُمرة مُفردة
؛ لأنّه لم يتمكّن من إتمام الحجّ مخافة أنْ يُقبض عليه , وجاءهُ محمّد بن
الحنفيّة في الليلة التّي أراد الحسين (عليه السّلام) الخروج في صبيحتها عن مكّة , فقال
له : يا أخي ، إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك , وقد خفت أنْ يكون
حالك كحال مَن مضى , فإنْ رأيت أنْ تُقيم فإنّك أعزّ مَن بالحرم وأمنعه . فقال
: (( يا
أخي ، قد خفتُ أنْ يغتالني يزيد بن مُعاوية في الحرم , فأكون الذي يُستباح به
حُرمة هذا البيت )) . فقال له ابن الحنفيّة : فإنْ خفت ذلك فصر إلى اليمن
أو بعض
نواحي البر ؛ فإنّك أمنع النّاس به ولا يقدر عليك أحد . فقال :
(( أنظر فيما قُلت )) .
فلمّا كان السّحر ارتحل الحسين (عليه السّلام) , فبلغ ذلك ابن
الحنفيّة فأخذ بزمام
ناقته ، وقد ركبها , فقال : يا أخي ، ألم تعدني النّظر فيما سألتُك ؟ قال :
(( بلى )) . قال :
فما حداك على الخروج عاجلاً ؟ قال : (( أتاني رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) بعد ما فارقتُك , فقال : يا حُسين اخرج ، فإنّ الله شاء
أنْ يراك قتيلاً ))
. فقال محمّد بن الحنفيّة : إنّا لله وإنّا
الصفحة ( 173
)
إليه راجعون , فما معنى حملُك هؤلاء النّسوة معك وأنت تخرج على مثل هذا
الحال ؟ فقال : (( إنّ الله شاء أنْ يراهُن سبايا ))
؛ ولذلك كتب
ابن عباس إلى يزيد
بعد قتل الحسين (عليه السّلام) : وما أنسَ من الأشياء فلست بناسٍ اطرداك حُسيناً من حرم
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى حرم الله , وتسييرك إليه الرّجال
لقتله في الحرم , فما زلت بذلك وعلى ذلك حتّى أشخصته من مكّة إلى العراق
,
فخرج خائفاً يترقّب , فزلزلت به خيلك ؛ عداوة منك لله ولرسوله ولأهل بيته
الّذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً .
وقد انجلى عن مكّة وهو ابنها وبه تشرّفت الحطيمُ وزمزمُ
لم يدرِ أيـن يريح بدن ركابهِ فكأنّما المـأوى عليه مُحرّمُ
وما اكتفى يزيد بهذا كُلّه , بل إنّه هتك حرمة الله تعالى في الحرم
, وهدم
الكعبة المشرّفة أيام حربه مع ابن الزّبير على يد الحُصين بن نمير , فنصب
على الكعبة العرادات والمجانيق , وفرض على أصحابه عشرة آلاف صخرة كُلّ يوم
يرمون بها الكعبة حتّى هدمها ؛ بغياً منه وعتوّاً على الله تعالى حتّى أخذه
الله أخذ عزيز مُقتدر .
ألا يـا بـن هندٍ لا سقى الله تربةً ثـويت بمثواها ولا اخضرّ عودُها أتـسلبُ أثـوابَ الـخلافة هـاشماً وتـطردُها عـنها وأنـت طريدُها وما أنْ أرى يشفي الجرى غير دولةٍ تُدين لها في الشّرق والغرب صيدُها
المجلس التّاسع والتّسعون
روي أنّه كان السّبب في ابتلاء الله يعقوب (عليه السّلام) بفراق ولده يوسف
(عليه السّلام) : أنّ يعقوب (عليه السّلام) ذبح كبشاً ، وأنّ سائلاً مؤمناً صوّاماً غريباً اجتاز على
الصفحة ( 174
)
بابه عشيّة جمعة , فاستطعمهم وهم يسمعون فلم يُصدّقوا قوله
, فلمّا يئس أنْ يُطعموه وغشيه الليل استرجع واستعبر وشكا جوعه إلى الله تعالى , وبات
طاوياً وبات يعقوب وآله بطاناً , فكان يعقوب ـ بعد ذلك ـ إذا أراد الغداء أمر
مُناديا فنادى : ألا مَن أراد الغداء من المساكين فليتغدّ مع يعقوب . وإذا كان
صائماً أمر منادياً فنادى ألا مَن كان صائماً فليفطر مع يعقوب .
ولمّا كان
مقام النّبوة أعلى المقامات عند الله تعالى , فقد يبتلي الله الأنبياء
بالشّدائد في الدّنيا ؛ لأجل تركهم للأولى ويعاتبهم على ذلك .
ولكن انظر لترى الفرق بين ما جرى ليعقوب وولده , وما جرى لأمير المؤمنين
علي وزوجته البضعة الزّهراء وولديه الحسنين (عليهم السّلام) حين تصدّقوا
بزادهم على المسكين واليتيم والأسير ، وطووا ثلاثة أيام صائمين .
روى صاحب الكشّاف في تفسير قوله تعالى
: (
يُوفُونَ بِالنّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرّهُ مُسْتَطِير *
وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِير *
إِنّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ
شُكُوراً )(1)
.
عن ابن عباس رضي الله
عنه : أنّ الحسن والحسين (عليهما السّلام) مرضا فعادهما رسول الله في ناس معه ,
فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك . فنذر عليٌ وفاطمة وفضّة جارية
لهُما , إنْ برءا ممّا بهما أنْ يصوموا ثلاثة أيام . فشفيا وما معهم شيء
, فاستقرض علي (عليه السّلام) من شمعون الخيبري ثلاثة أصوع من شعير , فطحنت فاطمة
(سلام الله عليها) صاعاً
واختبزت خمسة أقراص على عددهم , فوضعوها بين أيديهم ليفطروا , فوقف عليهم
سائل فقال : السّلام عليكم أهل بيت محمّد , مسكين من مساكين المُسلمين ، أطعموني
أطعمكم الله من موائد الجّنة . فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلاّ الماء ، وأصبحوا
صياماً ، فلمّا أمسوا ووضعوا الطّعام بين أيديهم , وقف عليهم يتيم فآثروه
, ووقف عليهم أسير في الثّالثة ففعلوا مثل ذلك .
فليت أمير المؤمنين والزّهراء (عليهما السّلام) اللَذين
تصدّقا بقوتهما وقوت ولديهما على المسكين واليتيم والأسير , لا غابا عن
يتامى ولدهما الحسين (عليه السّلام) يوم
كربلاء وقد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة
الإِنسان / 7 ـ 9 .
الصفحة ( 175
)
باتوا ليلة الحادي عشر من المُحرّم وهم جياعى عُطاشى , بلا مُحامٍ ولا كفيل
غير زينب والعليل .
ليت الاُولى اطعموا المسكين قوتَهمُ وتالييه وهم في غـاية السّغبِ
يـرون بالطّـف أبناءً لهم أُسرتْ يستصرخون من الآباء كلّ أبي
المجلس المئة
قال الله تعالى : (
إِذْ
قَالَ يُوسُفُ لاَِبِيهِ يَا أبَتِ إِنّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً
وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَابُنَيّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا
لَكَ كَيْداً إِنّ الشّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّ مُبِينٌ
. . .
لَقَدْ
كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا
لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبّ إلى أَبِينَا مِنّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ
إِنّ أَبَانَا لَفي ضَلالٍ مبِينٍ )(1)
.
روي : أنّه لمّا ولد يوسف أحبّه يعقوب حُبّاً
شديداً , فلمّا رأى إخوة يوسف محبّة أبيهم له وإقباله عليه حسدوه ، ثُمّ
إنّ يوسف
رأى في منامه أحد عشر كوكباً والشّمس والقمر تسجد له , فقصّها على أبيه
,
فقال له أبوه : ( يَا بُنَيّ
لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً
)(2) . فسمعت
امرأة يعقوب ذلك , فلمّا أقبل أولاد يعقوب , أخبرتهم بالرؤيا فازدادوا حسداً
,
وقالوا : ما عني بالشّمس غير أبينا ولا بالقمر غيرك ولا بالكواكب غيرنا
, إنّ ابن راحيل يريد أنْ يتملّك علينا . فتآمروا بينهم أنْ يفرّقوا بينه وبين
أبيه
, وقالوا : ( اقْتُلُوا
يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً )
: أي في أرض بعيدة عن أبيه فلا يهتدي إليه ( يَخْلُ
لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ
) : تنصرف محبته لكم ويحنّ عليكم
(
وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ
مِنْهُمْ )
: وهو يهوذا
، وكان أفضلهم وأعقلهم : (
لاَ
تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبّ )
: أي
في قعر البئر
( يَلْتَقِطْهُ
بَعْضُ السّيّارَةِ )
: يأخذه بعض مارّة الطّريق
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة
يوسف
/ 4 ـ 8
.
(2)
سورة يوسف / 5
.
الصفحة ( 176
)
المُسافرين (
إِنْ
كُنتُمْ فَاعِلِينَ )
. وأخذ عليهم العهود أنّهم لا يقتلونه , فأجمعوا عند ذلك أنْ يدخلوا على
يعقوب ويُكلّموه في إرسال يوسف معهم إلى البرية
: ( قَالُوا
يَا أَبَانَا مَالَكَ لاَ تَأْمَنّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنّا لَهُ
لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدَاً )
إلى الصّحراء
( يَرْتَعْ
وَيَلْعَبْ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنّي لَيَحْزُنُنِي
أنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أنْ يَأْكُلَهُ الذّئْبُ وَأَنتُمْ
عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذّئْبُ وَنَحْنُ
عُصْبَةٌ )
: جماعة
( إِنّا
إِذاً لَخَاسِرُونَ
)(ا)
. فاطمأنّ يعقوب
إليهم
، فأرسله
معهم فأخرجوه وهم يكرمونه
. فلمّا وصلوا إلى الصّحراء أظهروا له العداوة
, وجعل يضربه بعض إخوته فيستغيث بالآخر فيضربه , فضربوه حتّى كادوا يقتلونه
، وجعل يصيح : يا أبتاه يا يعقوب ! لو تعلم ما يُصنع بابنك بنو الإماء . فقال
لهم يهوذا : أليس قد أعطيتموني موثقاً أنْ لا تقتلوه ؟ فانطلقوا به إلى الجُبّ
, ( فَلَمّا
ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبّ )
: أدنوه من رأس الجُبّ ،
فقالوا له : انزع قميصك . فبكى وقال : يا إخوتي لا تجردوني . فسلّ واحدٌ منهم
عليه السّكين
، وقال : لئن لم تنزعه لأقتُلنّك . فنزعه , فجعلوا يدلونه في البئر
وهو يتعلّق بشفير البئر , فربطوا يديه وهو يقول : يا إخوتاه لا تفعلوا
! ردّوا
عليّ قميصي أتوارى به في الجُبّ
. فيقولون :
ادعُ الشّمس والقمر والأحد عشر
كوكباً تؤنسك . فدلّوه في الجُبّ , فلمّا بلغ نصفه
، ألقوه إرادة أنْ يموت
.
وكان في
البئر ماء فسقط فيه , ثمّ آوى إلى صخرة فقام عليها ، فنادوه ، فظنّ
أنّهم رحموه فأجابهم , فأرادوا أنْ يرضخوه بالحجارة , فمنعهم يهوذا
،
( وأوحينا إليه لَتُنَبّئَنّهُم
بِأَمْرِهِمْ هذَا
) : لتخبرنّهم بفعلهم بعد هذا الوقت
، وهو قوله :
( هَلْ عَلِمْتُم مّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ )
؟ ( وَهُمْ
لاَ يَشْعُرُونَ )
إنّك يوسف .(
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ
) : عادوا إلى
أبيهم عشاء يبكون ، فلمّا سمع بكاءهم فزع وقال : ما بالكم ؟
( قَالُوا
يَا أَبَانَا إِنّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ )
: نتراكض ونترامى بالسّهام لنعرف
أيُّنا
السّابق ( وَتَرَكْنَا
يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ
لَنَا )
: بمصدق لنا
( وَلَوْ
كُنّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَميِصهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ
أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا
تَصِفُونَ )(2)
. قيل
: إنّهم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على
قميصه ولم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
سورة يوسف / 9 ـ 14 .
(2)
سورة يوسف / 15 ـ 18 .
الصفحة ( 177
)
يُمزّقوه , ولم يخطر ببالهم أنّ الذّئب إذا أكل إنساناً مزّق ثوبه
.
فقال لهم
:
أروني القميص . فلمّا رأى القميص صحيحاً , قال : يا
بَنيَّ
، والله , ما عهدت كاليوم
ذئباً أحلم من هذا , أكل ابني ولم يُمزّق ثوبه ! ثمّ بكى بُكاءً طويلاً
, ثمّ أخذ
القميص يُقبّله ويشمّه .
هذا يعقوب مع أنّه نبيّ
ابن أنبياء ، بكى لمّا رأى
قميص ولده حتّى غُشي عليه
، وهو لم يتحقق موته
. ساعد الله قلب أبي عبد الله
الحسين (عليه السّلام) الذي رأى ولده عليّاً الأكبر , شبيه رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) بخلقه وخُلقه , مُقطّعاً بالسّيوف , مُجرّحاً بالرّماح والسّهام , نادى
: (( قتل
الله قوماً قتلوك يا بُني , ما أجرأهم على الرّحمن وعلى انتهاك حُرمة الرّسول
! على الدّنيا بعدك العفا ))
:
كنتَ السّوادَ لناظري
فعليك يبكي النّاظرُ
مَن شاءِ بعدَك فليمُتْ
فعليك كنتُ اُحاذرُ
المجلس الواحد بعد المئة
لمّا أذن الله تعالى بخروج يوسف (عليه السّلام) من السّجن , رأى الملك رؤيا هالته
؛ وذلك
أنّه رأى ( سَبْعَ
بَقَرَاتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنّ سَبْعٌ ) بقرات
( عجاف ) : مهازيل ، فدخلت السّمان
في بطون المهازيل , ورأى
(
َسَبْعَ
سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ ) قد انعقد حَبّها
, ( و ) سبعاًَ ( أُخَرَ يابسَاتٍ ) فالتوت اليابسات على الخضر حتّى غلبت عليها
. فقصّ الملك رؤياه على
قومه ، فأشكل عليهم تعبيرها , وتذكّر الذي كان على شراب الملك رؤياه الّتي
رآها في السّجن وعبّرها له يوسف , فأخبرهم بها وطلب أنْ يرسلوه إلى يوسف
, فأرسلوه فسأله عن الرؤيا , فقال : أمّا البقرات السّبع العِجاف والسّنابل السّبع
اليابسات ، فالسّنون المُجدبة ؛ وأمّا السّبع السّمان والسّنابل السّبع الخضر
، فإنّهن ّ سبع
الصفحة ( 178
)
سنين مخصبات . فرجع الرّجل إلى الملك فأخبره بما قال يوسف
, (
وَقَالَ
الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي )
: أجعله خالصاً لنفسي فأرجع إليه في تدبير
مملكتي . فلمّا أخرجوه من السّجن , كتب على بابه : هذا قبر الأحياء وبيت
الأحزان , وتجربة الأصدقاء وشماتة الأعداء .
ثمّ إنّ يوسف اغتسل ولبس ثيابه
وقصد الملك , فلمّا دخل عليه وكلّمه , عرف الملك فضله وأمانته وعقله ,
(
قَالَ
إِنّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ )
:
ذو مكانة وقدر عظيم ( أمين )
: مأمون ثقة . فقال الملك : فما ترى من رؤياي أيّها الصدّيق ؟ فقال : أرى
أنْ تزرع زرعاً كثيراً في السّنين المخصبة , وتخزن الطّعام بقصبه وسنبله ؛
لئلا يفسد , وليكون قصبه وسنبله علفاً للدواب , فتدفع إلى كلّ إنسان حصّته
وتترك الباقي . فقال الملك : سل حاجتك .
( قَالَ
اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ
) : يعني على الأنابير التي فيها الطّعام (
إِنّي
حَفِيظٌ عَلِيمٌ )
: كاتب حاسب . فأقبل يوسف على جمع الطّعام فكبسه في الخزائن , فلمّا مضت
السّنون المُخصبة وأقبلت المُجدبة , أقبل يوسف على بيع الطّعام , فباعهم في
السّنة الأولى بالدّنانير والدّراهم حتّى لم يبقَ معهم شيء منها , ثمّ في السّنة
الثّانية بالحُليّ والجواهر ، ثمّ في السّنة الثّالثة بالدّواب والمواشي
, ثمّ في
السّنة الرّابعة بالعبيد والإماء , ثمّ في السّنة الخامسة بالدّور والعِقار
, ثمّ في السّنة السّادسة بالمزارع والأنهار , ثمّ في السّنة السّابعة برقابهم حتّى
استرقّهم جميعاً . وكان الملك قد فوّض إليه أمر المُلك , فقال للملك : كيف رأيت
صنع الله بي فيما خوّلني
، فما ترى ؟ قال : الرأي رأيك . قال : إنّي اُشهد الله
واُشهدك أنّي اعتقتهم عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم .
وكان لا يبيع لأحدهم أكثر من حمل بعير ؛ عدلاً بين
النّاس , وكان لا يمتلي شبعاً من الطّعام في تلك الأيام المجدبة , فقيل له
: تجوع وبيدك خزائن الأرض ؟ فقال : أخاف أنْ أشبع فأنسى الجياع , وهذا نظير
قول أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) :
|