|
الصفحة ( 179
)
وحسبُك داءً أنْ تبيت ببطنةٍ وحولك أكبادٌ تحنّ إلى القدِّ
أأقنع من نفسي بأنْ يُقال أمير
المؤمنين ولا اُشاركهم في مكاره الدّهر ، أو أكون اُسوة لهم في جشوبة
العيش ؟ )) . واقتدى به في ذلك ولده الحسين (عليه السّلام)
, فقد
وجُد على ظهره يوم الطفّ أثر , فسُئل علي بن الحسين (عليه السّلام) عن ذلك , فقال :
(( هذا ممّا كان
يحمل الجراب على ظهره إلى بيوت الأرامل واليتامى )) . ووجد على ظهر
الحسين (عليه السّلام) يوم الطفّ أثر آخر , هو أوجع القلوب من هذا الأثر , وهو أثر حوافر الخيل
التي داست بحوافرها صدره الشّريف وظهره ؛ وذلك حين أمر ابن سعد عشرة فوارس
أنْ يدوسوا بحوافر خيولهم صدره وظهره ؛ تنفيذاً لما أمر به ابن زياد , وهم
يقولون :
نحن رضضنا الصّدر بعد الظّهرِ
بكلّ يعبوبٍ شديدِ الأسرِ
فقال ابن زياد : مَن أنتم ؟ قالوا : نحن الذين وطأنا بخيولنا جسد
الحسين حتّى
طحنّا جناجن صدره .
تطأ الصّواهلُ صدرَه وجبينَهُ والأرضُ ترجفُ خيفةً وتضعضعُ
المجلس الثّاني بعد المئة
لمّا تمكّن يوسف بمصر وأصاب النّاس ما أصابهم من القحط
, نزل بآل يعقوب ما
نزل بالنّاس , فقال يعقوب لبنيه : بلغني أنّه يُباع الطّعام بمصر , وأنّ صاحبه رجل
صالح فاذهبوا إليه فإنّه سيحسن إليكم إنْ شاء الله . فجهّزهم وأمسك عنده
بنيامين أخا يوسف لاُمّه , فساروا حتّى وردوا مصر , فدخلوا على يوسف فعرفهم
ولم يعرفوه ؛ لتغيّر لبسه وبُعد عهدهم منه ؛ لأنّه كان بين قذفهم له في الجُبّ
ودخولهم عليه أربعون
الصفحة ( 180
)
سنة ، فكلّمهم بالعبرانية
, فقال لهم : مَن أنتم ؟ فقالوا : نحن من أرض الشّام
, أصابنا الجهد فجئنا نمتار . فقال : لعلّكم جواسيس ؟ فقالوا : لا والله
, وإنّما نحن
إخوة بنو أب واحد , وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرّحمن , ولو تعلم
بأبينا لكرمنا عليك , فإنّه نبي الله وابن أنبيائه وأنّه لمحزون . قال وما
الذي أحزنه ؟ قالوا : كان له ابن ، كان أصغرنا سنّاً , خرج معنا إلى الصّيد فأكله
الذّئب . فقال يوسف : كُلّكم من أبٍ واُمٍّ ؟ قالوا : أبونا واحد واُمهاتنا شتّى
. قال : فما
حمل أباكم على أنْ حبس منكم واحداً ؟ قالوا : لأنّه أخو الذي هلك من اُمّه
؛
فأبونا يتسلّى به . قال :
فمَن يعلم أنّ قولُكم حقّ ؟ قالوا : إنّا ببلاد لا يعرفنا أحد . قال : فائتوني بأخيكم الذي من أبيكم وأنا
أرضى بذلك . قالوا : إنّ أبانا
يحزن على فراقه وسنُراوده عنه . قال : فدعوا عندي رهينة . فاقترعوا بينهم
فأصابت القرعة شمعون فتركوه عنده , وقال لفتيانه : إجعلوا بضاعتهم التي
جاؤوا
بها ثمن الطّعام في أوعيتهم ؛ وإنّما فعل ذلك إكراماً لهم ليرجعوا إليه
.
فلمّا دخلوا على يعقوب , قال : مالي لا أسمع فيكم صوت شمعون
؟ فقالوا : يا أبانا
جئناك من عند أعظم النّاس ملكاً , ولم يرَ النّاس مثله حَكماً وعلماً وخشوعاً
وسكينة ووقاراً , ولئن كان لك شبيه فإنّه يشبهك , ولقد أكرمنا كرامة لو أنّه
بعض أولاد يعقوب ما زاد على كرامته , ولكنّا أهلُ بيتٍ خُلقنا للبلاء , إنّه
اتهمنا وزعم أنّه لا يُصدّقنا حتّى ترسل معنا بنيامين , وأنّه ارتهن شمعون , وقال : ائتوني بأخيكم
( فَإِنْ
لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلاَ تَقْرَبُونِ
...
فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ
* قَالَ هَلْ ءَأَمَنُكُمْ عَلَيْهِ
الاّ كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى
أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ
الرّاحِمينَ . . .
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ
اللّهِ لَتَأْتُنّنِي بِهِ الاّ أنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمّا ءَاتَوْهُ
مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ )(1).
فأرسله معهم
وفعلوا كما قال ,
فلمّا دخلوا على يوسف , قالوا : هذا أخونا الّذي أمرتنا أنْ نأتيك به .
فأكرمهم وأضافهم , وقال : ليجلس كلّ بني اُمّ على مائدة . فجلسوا وبقي بنيامين قائماً
وحده فبكى , فقال له يوسف : ما لك لا تجلس ؟ قال : إنّك قُلت ليجلس كلّ بني
اُمّ على
مائدة , وليس لي فيهم ابن اُم . قال يوسف : فما كان لك ابن اُم ؟ قال : بلى
. قال : فما
فعل ؟ قال : زعم هؤلاء أنّ الذّئب
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة
يوسف / 60 ـ 66 .
الصفحة ( 181
)
أكله
. قال : فما بلغ من حزنك عليه ؟ قال : ولد لي أحد عشر إبناً ، كُلُهم اشتققت
له إسماً من اسمه . فقال له يوسف : تعال فاجلس معي على مائدتي . فقال إخوته
:
لقد فضّل الله يوسف وأخاه حتّى أنّ الملك قد أجلسه معه على مائدته .
فلمّا
كان الليل جاؤوهم بالفرش , وقال : لينم كلّ أخوين منكم على فراش ، وبقي بنيامين
وحده , فقال يوسف : هذا ينام معي . فبات معه على فراشه وذكر له بنيامين
حزنه على يوسف , فقال له : أتحب أنْ أكون أخاك عوض أخيك الذّاهب ؟ فقال بنيامين
:
ومَن يجد أخاً مثلك , ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل ؟ فبكى يوسف وقام إليه
فعانقه , وقال : ( إِنّي
أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )(1) أي
: فلا تحزن
لشيء سلف منهم .
هذا يوسف بكى لمّا جمع الله شمله بأخيه بنيامين , وكان
المقام مقام فرح وسرور لا مقام حزن وبُكاء , لكن غلبت الرّقة من يوسف
(عليه السّلام) فتذكّر ما سلف من فراق أبيه وأخيه فبكى , ولا أحد أعزّ على المرء
بعد أبويه من الأخ لا سيّما إذا كان الأخ من أعاظم الرّجال , ولكن أين مقام
يوسف الصدّيق من مقام أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) حين وقف على أخيه أبي
الفضل العباس , فرآه مقطوع اليدين ، مطروحاً على وجه الأرض ، مرضوخ الجبين
، مشكوك العين بسهم ، مُقطّعاً بسيوف الأعداء ؟! فوقف عليه مُنحنياً وبكى بكاءً
شديداً , وجلس عند رأسه يبكي حتّى فاضت نفسه الزّكية .
ثمّ حمل على القوم فجعل
يضرب فيهم يميناً وشمالاً , فيفرّون من بين يديه كما تفرّ المعزى إذا شدّ
فيها الذّئب , وهو يقول :
(( أين تفرّون وقد قتلتم أخي ؟ أين تفرون وقد فتتم عَضدي
؟ ))
.
إنـّي لأذكـر للعبـّاسِ موقفَهُ
بكربلاءَ وهام القـوم تختـطـفُ
ولا أرى مشهـداً يوماً كمشهدهِ
مع الحسين عليه الفضلُ والشّرفُ
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
سورة
يوسف / 69
.
الصفحة ( 182
)
المجلس الثّالث بعد المئة
لمّا جاء إخوة يوسف بأخيهم بنيامين إلى يوسف , قال له يوسف
: أنا اُحب أنْ تكون عندي . فقال : لا يدعني إخوتي ؛ فإنّ أباهم قد أخذ عليهم عهد الله
وميثاقه أنْ يردّوني إليه . قال : فأنا أحتال بحيلة فلا تنكر إذا رأيت شيئاً
ولا تخبرهم .
( فَلَمّا
جَهّزَهُم بِجَهَازِهِمْ
) أي : أعطاهم ما
جاؤوا لطلبه من الميرة , أمر فجعل الصّاع في متاع
أخيه وكان من ذهب , وقيل من فضة . فلمّا ارتحلوا , بعث
إليهم وحبسهم , ثمّ أمر مُنادياً يُنادي : ( أَيّتُهَا
الْعِيرُ إِنّكُمْ لَسَارِقُونَ )
. فقال : أصحاب العير : ( ماذَا
تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ )
. وقال المُنادي : مَن جاء
بالصّاع فله حمل بعير من الطّعام ( وَأَنَا
بِهِ زَعِيمٌ )
: كفيل ضامن . فقال إخوة يوسف : ( تَاللّهِ
لَقَدْ عَلِمْتُم مّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنّا
سَارِقِينَ
) وكان حين دخلوا مصر وجدهم قد شدّوا أفواه دوابهم ؛ لئلا تأكل
من الزّرع ( قَالُوا
فَمَا جَزَاؤُهُ إنْ كُنتُم كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَن
وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ )
وكان جزاء السّارق عند آل يعقوب أنْ يُستخدم ويُسترق
(
فَبَدَأَ
بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمّ اسْتَخْرَجَهَا مِن
وِعَاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ
أَخَاهُ فِي دينِ الْمَلِكِ الاّ أنْ يَشَاءَ اللّهُ نَرْفَعُ
دَرَجَاتٍ مَن نّشَاءُ وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ * قَالُوا
إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لّهُ مِن قَبْلُ )(1)
.
وكانت سرقة يوسف أنّ عمّته كانت تحضنه بعد وفاة اُمّه وتحبه حُبّاً شديداً
, فلمّا
كبر أراد يعقوب أنْ يأخذه منها ـ وكانت أكبر ولد إسحاق وكانت عندها منطقة
إسحاق وكانوا يتوارثونها بالكبر ـ فاحتالت وشدّت المنطقة على وسط يوسف
وأدّعت أنّه سرقها , وكان من سنّتهم استرقاق السّارق ، فحبسته عندها بذلك السّبب
.
قالوا : يا أيّها العزيز ، إنّ له أباً شيخاً كبيراً فَخُذ أحدنا مكانه
،
إنّا
نراك من المُحسنين . قال : معاذ الله أنْ نأخذ إلاّ مَن وجدنا متاعنا عنده
؛ إنّا
إذاً لظالمون .
فرجع إخوة يوسف إلى أبيهم فأخبروه بحبس بنيامين , فهاج ذلك
وجده بيوسف ؛ لأنّه كان يتسلّى به ( وَقَالَ
يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضّتْ عَينَاهُ مِنَ
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1)
سورة
يوسف / 70 ـ 77 .
الصفحة ( 183
)
الحزن ) والبُكاء
( فهو كظيم ) : مملوء من الهمّ والحزن , فقال له
أولاده : (
تَاللّهِ
تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ
الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنّمَا أَشْكُوا بَثّي وَحُزْنِي إلى
اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )
.
هذا يعقوب (عليه السّلام) ، وهو
نبيّ ابن نبي , قد بكى على فراق ولده يوسف وهو حيّ في دار الدّنيا حتّى
ابيضّت
عيناه وذهب بصره , وحتّى قيل له : (
تَاللّهِ
تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ
الْهَالِكِينَ ) .
ساعد الله قلب أبي عبد الله الحسين (عليه
السّلام) الذي نظر إلى
ولده وقرّة عينه علي الأكبر , شبيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في
خلقه وخُلقه , مُقطّعاً بالسّيوف إرباً إرباً .
وكان علي بن الحسين زين
العابدين (عليه السّلام) شديد الحزن والبُكاء على مصيبة أبيه الحسين (عليه
السّلام) , فقال له
بعض مواليه : يا سيّدي ، أما آن لحزنك أنْ ينقضي ولبكائك أنْ يقلّ ؟ فقال له :
(( ويحك
, إنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كان نبيّاً ابن نبيّ ، له أثنا عشر إبناً
، فغيّب
الله واحداً منهم فشاب رأسه من الحزن واحدودب ظهره من الغمّ وذهب بصره
من البُكاء ، وابنه حيٌّ في دار الدّنيا . وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل
بيتي صرعى مقتولين , فكيف ينقضي حزني ويقل بكائي ؟! )).
هذي المصائب لا ما كان من قدمٍ
لآل يعقوبَ من حـزنٍ ومـن كـربِ
أنّى يضـاهـي ابنَ طه أو يُماثله
في الحزن يعقوبُ في نسلٍ وفي عقبِ
المجلس الرّابع بعد المئة
كان هاشم بن عبد مُناف جدّ النّبي (صلّى الله عليه
وآله) جواداً
كريماً عظيماً في قومه ، وأسمه عمرو , وإنّما سُمّي هاشماً ؛ لأنّه أول من هشم الثّريد
وأطعمه النّاس , وفيه يقول الشّاعر :
يا أيّها الرّجلُ المحوّلُ iiرحلَهُ هـلاّ نـزلت بآل عبد iiمنافِ
الصفحة
(184)
هـبلتك اُمّك لو نزلت iiبحيّهمْ أمنوك من جوعٍ ومن iiأقرافِ
الـخالطون غـنيَّهم iiبفقيرهمْ والـقائلون هلُمّ iiللأضيافِ
عمرو العُلا هشم الثّريد لقومهِ ورجالُ مكّة مسنتونَ iiعجاف!
بـسطوا إليه الرّحلتين كليهما عند الشّتاء ورحلة iiالأصيافِ
وكان قد تزوج سلمى بنت عمرو من بني النجّار من أهل المدينة
, فلمّا حملت
بعبد المطّلب , سافر هاشم تاجراً إلى غزّة من بلاد الشّام واستخلف عنه أخاه
المطّلب , ومات هاشم في سفره ذلك ودُفن بغزّة , فولدت سلمى عبد المطّلب
، واسمه
شيبةُ الحمد , وإنّما سُمّي عبد المطّلب ؛ لأنّ عمّه المطّلب لمّا كبر
أراد أخذه إلى
مكّة , فامتنعت اُمّه وأخواله من تسليمه , فواعده مكاناً وأخذه خفية وأركبه
خلفه , فكان إذا سُئل عنه يقول : هذا عبدي ، فسُمّي عبد المطّلب .
ولمّا حضرت
هاشماً الوفاة , قال لعبيده : سنّدوني وائتوني بدواة وقُرطاس . فأتوه بما طلب
وجعل يكتب وأصابعه ترتعد , فقال : باسمك اللهمّ , هذا كتاب كتبه عبد ذليل جاءه
أمر مولاه بالرّحيل .
أمّا بعد , فإنّي كتبت إليكم هذا الكتاب وروحي بالموت
تجاذب ؛ لأنّه ما لأحد من الموت مهرب ، وإنّي قد انفذت إليكم أموالي
فتقاسموها بينكم بالسويّة , ولا تنسوا البعيدة عنكم التي أخذت نوركم وحوت
عزّكم سلمى ، واُوصيكم بولدي الذي منها . وقولوا لخلادة وصفية ورقية يبكين
عليّ ويندبنّني ندب الثّاكلات ، ثمّ بلّغوا سلمى عنّي السّلام , والسّلام عليكم
ورحمة الله وبركاته إلى يوم النّشور .
ثمّ لمّا مات , جهّزوه ودفنوه في غزّة
,
وفيه يقول الشّاعر :
وهاشمٌ في فلاةٍ وسط بلقعةٍ تسفي عليه الرّياح عند غزّات
ثمّ عزم عبيد هاشم وغُلمانه على الرّحيل بامواله , فلمّا
أشرفوا على يثرب
, بكوا بُكاء شديداً ونادوا : وا
هاشماه ! وا
عزّاه ! وخرج النّاس ،
وخرجت سلمى وأبوها
وعشيرتها , وإذا بخيل هاشم قد جزّوا نواصيها وشعورها ، وعبيد هاشم يبكون
, فلمّا سمعت سلمى بموت هاشم ، مزّقت أثوابها ولطمت خدّها , وقالت : وا
هاشماه
! مات
الصفحة ( 185
)
والله
،
لفقدك الكرم والعز ، وا
هاشماه ! يا نور عيني , مَن لولدك الذي لم تره
عيناك ؟! فضجّ النّاس بالبُكاء والنّحيب . ثمّ إنّ سلمى أخذت سيفاً من سيوف هاشم
وعطفت به على ركابه وعقرتها عن آخرها , وقالت لوصي هاشم : اقرأ المطّلب عنّي
السّلام وقُل له : إنّي على عهد أخيه , وأنّ الرّجال بعده عليّ حرام
.
هكذا فعلت
سلمى بعد موت بعلها هاشم , ويحقّ لها أنْ تفعل ذلك على موت من خرج من صُلبه
سيّد ولد آدم . أتدرون ما فعلت رباب زوجة أبي عبد الله الحسين
(عليه السّلام) بعد
رجوعها إلى المدينة ؟ فإنّها آلت على نفسها أنْ لا تستظلّ تحت سقف ، وعاشت بعد
الحسين (عليه السّلام) سنة , ثمّ ماتت كمداً وحُزناً على الحسين (عليه
السّلام) .
وخطبها الأشراف من
قريش , فقالت : والله ، لا كان لي حمو بعد رسول الله (صلّى الله عليه
وآله)
.
ولمّا اُدخلت مع النّساء على يزيد بن معاوية , ورأت الرّأس الشّريف بين يديه
, أخذت الرّأس ووضعته في حجرها وقبّلته , وقالت :
واحسينا فلا نسيتُ حسيناً أقصدتـه
أسنّـة الأعداءِ
غادروه بكربلاءَ صريعاً لا سقى الله جانبي كربلاءِ
وممّا قالته في رثاء الحسين (عليه السّلام) كما عن الأغاني :
إنّ الذي كان نوراً يُستضاءُ iiبهِ بـكربلاء قـتيلٌ غير iiمدفونِ
قد كنتَ لي جبلاً صعباً ألوذُ بهِ وكنتَ تصحبنا بالرّحمِ iiوالدينِ
مَن لليتامى ومَن للسائلين iiومَن يغني ويؤوي إليه كُلّ iiمسكينِ
والله لا أبتغي صهراً iiبصهركمُ حتّى
اُغيّب بين الرّمل iiوالطّينِِ
المجلس الخامس بعد المئة
لمّا بعث اللهُ تعالى نبيّه (صلّى الله عليه وآله) بالرّسالة
, وذلك يوم الاثنين في السّابع والعشرين من شهر رجب وكان عمره أربعين سنة , أنزل الله
تعالى عليه : (
وَأَنذِرْ
عَشِيرَتَكَ
الصفحة
( 186 )
الأَقْرَبِينَ )(1)
.
فجمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بني هاشم وهم نحو أربعين رجلاً
, ثمّ قال لهم : (( إنّي بُعثتُ إلى الأسود
والأبيض والأحمر , وأنّ الله عزّ وجل أمرني أنْ أنذر عشيرتي الأقربين ,
وأنّي لا أملك لكم من الله حظّاً إلاّ أنْ تقولوا لا إله إلاّ الله ))
. فقال له أبو لهب : لهذا دعوتنا ؟ ثمّ تفرّقوا عنه
,
فأنزل الله عليه : (
تَبّتْ
يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ )
إلى آخر السّورة .
ثمّ دعاهم دفعة
ثانية ، ثمّ قال لهم : (( أيكُم يكن أخي ووزيري ووصيي ووارثي وقاضي ديني
؟ )) . فقال أمير المؤمنين (عليه السّلام) , وهو أصغر القوم سنّاً
: (( أنا يا رسول الله )) . وفي رواية
أنّه قال : (( فمَن يُجيبني إلى هذا الأمر ويوازرني على القيام به
، يكُن أخي
ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي )) . فلم يجبه أحد منهم , فقام أمير
المؤمنين (عليه السّلام) وهو أصغرهم , وقال : (( أنا يا رسول الله
اُوازرك على هذا الأمر )) . فقال : (( اجلس )) حتّى قال ذلك ثلاثاً
, وفي كُلّ مرّة يقوم أمير المؤمنين (عليه السّلام) وهم
سكوت , فقال : (( اجلس , فأنت أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي ))
. فنهض
القوم وهم يقولون لإبي طالب مستهزئين , ليهنك اليوم أنْ دخلت في دين ابن أخيك فقد جعل
ابنك أميراً عليك !
وروي أنّه جمعهم مرّة خمسة وأربعين رجلاً
وفيهم أبو لهب , فظنّ أبو لهب أنّه يُريد أنْ ينزع عمّا دعاهم إليه , فقام
إليه
فقال له : يا محمّد , هؤلاء عمومتك وبنو عمّك قد اجتمعوا فتكلّم ، واعلم أنّ قومك
ليست لهم بالعرب طاقة . فقام (صلّى الله عليه وآله) خطيباً فحمد الله
وأثنى عليه , ثمّ قال : (( إنّ الرّائد لا يكذب أهله , والله الذي لا
إله ألاّ هو
, أنّي رسول الله إليكم حقّاً خاصة وإلى النّاس عاُمّة . والله ,
لتموتنّ كما تنامون , ولتبعثن كما تستيقضون , ولتحاسبن كما تعلمون , ولتجزون بالإحسان
إحساناً ,
وبالسوء سوءاً , وأنّها الجنّة أبداً والنّار أبداً . إنّكم أوّل من اُنذرتم )) . فآمن
به قوم من عشيرته , وكان أوّل من آمن به علي بن ابي طالب (عليه
السّلام) .
بُعث رسول
الله (صلّى الله عليه وآله) يوم الاثنين , وأسلم علي (عليه السّلام) يوم الثّلاثاء
,
ثمّ أسلمت خديجة بنت خويلد اُمّ المؤمنين .
روى ابن عبد البر في الإستيعاب
بسنده عن عفيف الكندي قال : كنت أمرأً تاجراً ، فقدمت الحجّ فأتيت العبّاس
بن عبد المطّلب لأبتاع منه بعض التّجارة , وكان أمرأً تاجراً ، فوالله
،
إنّي
لَعنده بمنى إذ خرج رجل من خباء قريب منه , فنظر إلى الشّمس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
سورة
الشّعراء / 214 .
الصفحة ( 187
)
فلمّا رآها قد مالت قام يُصلّي , ثمّ خرجت امرأة من ذلك الخباء الذي خرج منه
ذلك الرّجل فقامت خلفه تُصلّي , ثمّ خرج غلام حين راهق الحلم من ذلك الخباء
فقام معه يُصلّي , فقلت للعباس : مَن هذا يا عباس ؟ قال هذا محمّد بن عبد الله بن
عبد المطّلب ابن أخي . قلت مَن هذه المرأة ؟ قال : امراته خديجة بنت خويلد
. قلت
: مَن هذا الفتى ؟ قال : علي بن ابي طالب (عليه السّلام) ابن عمّه . قلت : ما هذا الذي يصنع
؟
قال : يُصلّي , وهو يزعم أنّه نَبيّ , ولم يتبعه على أمره ألاّ امرأته وابن عمّه هذا
الغلام , وهو يزعم أنّه سيفتح على اُمّته كنوز كسرى وقيصر . قال : فكان عفيف
الكندي يقول ـ وقد أسلم بعد ذلك وحسُن اسلامه ـ : لو كان الله رزقني الإسلام
يومئذٍ كنت أكون ثانياً مع علي .
وما زال علي (عليه السّلام) مع كونه أوّل مَن آمن
برسول الله (صلّى الله عليه وآله) وصدّقه , مُلازماً له باذلاً في نصره
مُهجته , وبسيفه قامت دعائم الإسلام وهُدّت أركان الشّرك , وحسبُك أنّه
في يوم بدر قَتل نصف مَن قُتل من المُشركين ، وقتل الملائكة وسائر المُسلمين الباقي
, وثبت في يوم اُحد بعدما انهزم النّاس عن رسول الله (صلّى الله عليه
وآله) يذبّ عنه ويُقاتل بين
يديه بعدما قتل أصحاب اللواء كلّهم , وكُلمّا أقبل جماعة من المُشركين
إلى
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , يقول لعلي (عليه السّلام) :
(( احمل عليهم ))
. فيشدّ عليهم بسيفه ويُفرّقهم ويقتل فيهم ،
ونادى جبرائيل في ذلك اليوم : ( لا سيف إلاّ ذو الفقّار ولا فتى
إلاّ علي )
.
وبرز إلى عمرو بن عبد ودّ يوم الخندق فقتله بعدما جبُن عنه النّاس كلّهم
, والنّبي (صلّى الله عليه وآله) يدعوهم إلى مُبارزته ، وهم مُطرقون كأنّما على رؤوسهم الطّير , وفتح حصن
خيبر وقتل مرحباً وقلع الباب الذي عجز الجمّ الغفير عن قلعه ؛ ولذلك لمّا
قال يزيد لعلي بن الحسين (عليه السّلام) لمّا اُتي به إلى الشّام بعد قتل أبيه
الحسين (عليه السّلام) : يابن الحسين , أبوك قطع رحمي وجهل حقّي ونازعني سُلطاني فصنع الله به
ما قد رأيت . قال له علي بن الحسين (عليه السّلام) بعد كلام :
(( يابن معاوية وهند
وصخر , لقد كان جدّي علي بن ابي طالب في يوم بدر واُحد والأحزاب في يده
راية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وأبوك وجدّك في أيديهما رايات
الكُفّار )) . ثمّ قال علي بن الحسين (عليه السّلام) :
(( ويلك يا يزيد ! إنّك لو تدري ماذا صنعت
وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي , إذاً لهربت في الجبال
الصفحة
( 188 )
وافترشت الرّماد(1) ودعوت بالويل والثّبور
, أنْ يكون رأس أبي الحسين بن فاطمة
وعلي منصوباً على باب مدينتكم , وهو وديعة رسول الله (صلّى الله عليه
وآله)
فيكم ؟! )) .
ألا يابن هندٍ لا سقى الله تربةً
ثويت بمثواها ولا اخضرّ عودُها
أتسلبُ أثواب الخلافـة هاشماً وتطردُها عنهـا وأنـت طريدُها
المجلس السّادس بعد المئة
روى الكُليني في الكافي بسنده عن الامام الصّادق (عليه
السّلام) قال : بينا النّبي
(صلّى الله عليه وآله) في المسجد الحرام وعليه ثياب له جدد , ألقى المُشركون عليه
سِلا ناقة فملؤوا ثيابه بها ، فدخله من ذلك ما شاء الله ، فذهب إلى أبي طالب
فقال له : (( يا عم , كيف ترى حَسبي فيكم ؟ ))
. فقال له : وما ذاك يا بن أخي ؟ فأخبره
، فدعا أبو طالب حمزة وأخذ السّيف وقال لحمزة : خُذ السّلا . ثُمّ توجّه
إلى القوم
والنّبي (صلّى الله عليه وآله) معه , فأتى قريشاً وهم حول الكعبة ، فلمّا
رأوه عرفوا الشرّ في وجهه , ثُمّ قال لحمزة : أمر السّلا على سبالهم : أي
شواربهم . ففعل ذلك حتّى أتى على آخرهم , ثُمّ التفت أبو طالب إلى النّبي
(صلّى الله عليه وآله) , فقال : يابن أخي , هذا حُسبك فينا .
ولم يزل أبو طالب
مُحامياً عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وناصراً له ودافعاً عنه
أذّى قريش وجبابرتهم حتّى توفّاه الله ، وهو القائل للنبي (صلّى الله
عليه وآله) :
تالله لن يصلوا إليك بجمعهـمْ
حتّى اُوسّد في التّراب دفينا
ودعوتني وزعمت أنّك ناصحٌ
ولقد صدقت وكنت ثمّ أمينا
فأين كان أبو طالب وأخوه حمزة بن عبد المطّلب عن حفيدهما
الحسين بن علي
بن أبي طالب (عليه السّلام) حين تألّب عليه أحفاد اُولئك المُشركين ، فأزعجوه عن حرم جدّه
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى حرم الله ؟! وأزعجوه عن حرم الله
حتّى أحلّوه بالعراء في غير
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) وردت المفردة في مصادر اُخرى ( الرمال ) ، ولعلها
الأقرب ؛ تساوقاً مع المعنى ووحدة السياق ، وكذلك مفردتي ( أنْ يكون )
فقد وردتا ( أيكون ) وهو الأقرب أيضاً . ( معهد
الإمامين الحسنين )
.
الصفحة
( 189 )
حصن وعلى غير ماء , وحالوا بينه وبين ماء الفُرات , وأرادوا
أنْ يحولوا بينه
وبين رحله الذي فيه حرمه حتّى قال لهم : (( يا شيعة آل أبي سُفيان
, إنْ لم يكُن
لكُم دين ،
وكُنتم لا تخافون المعاد , فكونوا أحراراً في دنياكم هذه ، وارجعوا
إلى أحسابكم إنْ كنتم عرباً كما تزعمون )) .
وما كان وضع السّلا على ثياب رسول
الله بأوجع لقلب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
، وأبي طالب وحمزة من إجراء الخيل على
جسد ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتّى هشّمت الخيل بسناكبها أضلاعه
، وطحنت جنان
صدره .
أبــا حـسـنٍ إنّ الـذين iiنـماهُمُ أبـو طـالبٍ بـالطفّ ثاروا iiلطالبِ
تعاوتْ عليهم من بني حرب عصبةٌ لـثارات يوم الفتح حرّى iiالجوانبِ
فـسـاموهُمُ أمّــا الـحياة بـذلةٍ أو الـموت فاختاروا أعزّ iiالمراتبِ
فـها هُـمْ على البوغاء ميل iiرقابهمْ ولـمّا تـمل من ذلّة في iiالشّواغبِ
المجلس السّابع بعد المئة
لمّا بُعث النّبي
(صلّى الله عليه وآله)
بالرّسالة وصدع بما أمره الله تعالى
, اجتمعت قريش إلى
دار النّدوة وتعاقدوا بينهم على أنْ لا يُكلّموا بني هاشم وبني المطّلب ولا
يُبايعوهم ، أو يُسلّموا إليهم رسول الله
(صلّى الله عليه وآله)
ليقتلوه . وكتبوا في ذلك صحيفة
وعلّقوها في جوف الكعبة , وأخرجوا بني هاشم من بيوتهم حتّى نزلوا شعب أبي
طالب ،
ووضعوا عليهم الحرس . فدخل الشِّعب مؤمن بني هاشم وبني
المطّلب
وكافرهم عدا أبي لهب وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب ، فبقوا في
الشِّعب ثلاث سنين حتّى قامت جماعة من قريش ونقضت الصّحيفة , وسلّط الله
الأرضة على الصّحيفة فأكلتها ولم يبقَ منها إلاّ : باسمك اللهمّ . فكان رسول
الله ، وهم بالشّعب ، إذا أخذ مضجعه ونامت العيون , جاءه أبو طالب فأنهضه
عن مضجعه
الصفحة ( 190
)
وأنام عليّاً في مضجعه , فقال علي ذات ليلة :
(( يا أبتي إنّي مقتول )) . فقال أبو
طالب :
إصبرن يا علي فالصّبر أحجى كـلُّ حـيٍّ مـصيره iiلشعوبِ
قـد بـذلناك والـبلاءُ عسيرٌ لـفداء الـنّجيب وابن النّجيبِ
لـفداء الأغرّ ذي الحسب iiالثّا قـبِ والـباع والفناء الرّحيبِ
إنْ رمتك المنون بالنّبل فاصبرْ فـمصيبٌ منها وغيرُ مصيبِ
كلُّ حـيٍّ وإن تطاول iiعُمراً آخـذٌ مـن سـهامها iiبنصيبِ
ولمّا حضرت أبا طالب الوفاة
, جمع بني أبيه وأحلافهم من قُريش ، ووصّاهم برسول
الله (صلّى الله عليه وآله) وأمرهم بنصرته والذّب عنه , وقال : إنّ ابن أخي
محمّداً نبيّ صادق , وأنشأ يقول :
اُوصي بنصر الأمين الخير iiمشهدهُ بـعدي عـليّاً وعـمَّ الخير iiعبّاسا
وحـمزةَ الأسـد المخشي صولتهُ وجـعفراً أن يـذوقوا قبله iiالباسا
وهـاشماً كُـلَّها اُوصي iiبنصرته أنْ يأخذوا دون حرب القوم إمراسا
كـونوا فـدى لكم اُمّي وما iiولدتْ مـن دون أحمد عند الرّوع iiأتراسا
بـكلِّ أبـيض مصقولٍ iiعوارضه تـخاله فـي سـواد الليل iiمقباسا
وكما حثّ أبو طالب ولده عليّاً (عليه السّلام) وحضّه على نصرة رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) , أوصى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ولديه
محمّداً وعوناً
وحضّهما على نصرة الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ؛ وذلك أنّه لمّا خرج
الحسين (عليه السّلام) من مكّة إلى كربلاء , ألحقه عبد الله بن جعفر بإبنيه
محمّد وعون وكتب
له على أيديهما كتاباً بالرّجوع , ويقول له : إنّي مشفق عليك من الوجه الذي
توجّهت له أنْ يكون فيه هلاكُك واستئصال أهل بيتك , وإنْ هلكت اليوم طفئ نور
الأرض فإنّك علم المهتدين ورجاء المؤمنين , فلا تعجل بالمسير فإنّي في
إثر كتابي ، والسّلام .
وصار عبد الله إلى عمرو بن سعيد أمير المدينة , فسأله
أنْ يكتب للحُسين (عليه السّلام) أماناً ويُمنّيه البر والصّلة ، فكتب له وانفذه مع أخيه يحيى
بن سعيد ، فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر بعد نفوذ ابنيه ، وجهدا
الصفحة ( 191
)
به في الرّجوع , فقال : (( إنّي رأيت رسول الله في المنام وأمرني بما أنا
ماضٍ له )) . فقالا له : فما تلك الرّؤيا ؟ قال :
(( ما حدّثت بها أحداً حتّى ألقى ربّي
عز وجل )) . فلمّا أيس منه عبد الله بن جعفر , أمر إبنيه عوناً ومحمّداً بلزومه
والمسير معه والجهاد دونه , ورجع هو إلى مكّة .
ولمّا كان يوم عاشوراء , خرج محمّد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب , وهو يقول :
أشكو إلى الله من العدوانِ
قتالَ قومٍ في الرّدى عميانِ
قد تركـوا معالـمَ القُرآنِ
ومحكم التّنـزيل والتّبيـانِ
وأظهروا الكُفر مع الطّغيان
ثُمّ قاتل حتّى قتل عشرة أنفس ، فحمل عليه عامر بن نهشل التّميمي فقتله
, وخرج أخوه عون بن عبد الله بن جعفر (عليه السّلام) ، واُمّه زينب بنت أمير المؤمنين
(عليه السّلام) , وهو يقول :
إنْ تنكروني فأنا ابنُ جعفرِ شهيدِ صدقٍ في الجنان أزهرِ
يطير فيها بجناح أخضـرِ كفى بهذا شرفاً فـي المحشرِ
ثُمّ قاتل حتّى قتل ـ على رواية ابن شهر آشوب ـ ثلاثة فوارس وثمانية عشر راجلاً ,
فحمل عليه عبد الله بن قطبة الطّائي فقتله .
ولمّا رجع أهل البيت إلى
المدينة , دخل بعض موالي عبد الله بن جعفر فنعى إليه ابنيه ، فاسترجع وجعل
النّاس يعزّونه , فقال مولى له يسمّى أبو اللسلاس : هذا ما لقينا من
الحسين
!
فحذفه عبد الله بن جعفر بنعله , ثُمّ قال : يابن اللخناء , أللحُسين تقول هذا
؟! والله ، لو شهدته لأحببت أنْ لا اُفارقه حتّى اُقتل معه . والله , إنّه لممّا يسخي
نفسي عنهما ويهوّن عليّ المصائب بهما , أنّهما اُصيبا مع أخي وابن عمّي
مواسيين له صابرين معه.
ثُمّ أقبل على جُلسائه فقال : الحمد لله ، عزّ عليّ
مصرع الحسين (عليه السّلام) ، أنْ لا أكن آسيت حُسيناً بيدي فقد آساه ولداي .
وفي عون ومحمّد
يقول سُليمان بن قتّة العدوي :
الصفحة ( 192
)
عـينُ جـودي بعبرةٍ iiوعويلِ وانـدُبي إنْ بكيتِ آلَ iiالرّسولِ
ستّةٌ كـلُّهم لـصُلبِ iiعـليٍّ قـد اُصـيبوا وسـبعةٌ iiلعقيلِ
وانـدُبي إنْ ندبتِ عوناً iiأخاهُمْ لـيس فـيما يـنوبُهمُ iiبخَذُولِ
فـلَعمري لقد اُصيبَ ذوو القُرْ بَى فبكِّي على المُصابِ الطّويلِ
وسَـمِيِّ الـنَّبيِّ غُـودرَ iiفيهمْ قـد عََـلَوه بـصارمٍ مصقولِ
فـإذا مـا بكيتِ عيني iiفجُودي بـدموعٍ تـسيلُ كـلَّ iiمـسيلِ
المجلس الثّامن بعد المئة
لمّا اشتدت قُريش في أذى رسول الله (صلّى الله
عليه وآله)
وأصحابه الذين آمنوا به بمكّة قبل
الهجرة , أمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
أصحابه أنْ يخرجوا إلى الحبشة ،
وأمر جعفر بن
أبي طالب أنْ يخرج معهم . فخرج جعفر ومعه سبعون رجلاً من المُسلمين حتّى
ركبوا البحر , فلمّا بلغ قُريشاً خروجُهم , بعثوا عمرو بن العاص وعُمارة بن
الوليد إلى النّجاشي ليردّهم إليهم . وقال عمرو بن العاص للنّجاشي : أيّها
الملك , إنّ قوماً منّا خالفونا في ديننا وسبّوا آلهتنا ،
وصاروا إليك ، فردّهم
إلينا .
فبعث النّجاشي إلى جعفر [ واصحابه ]
فجاؤوا , فقال : يا جعفر ، ما يقول هؤلاء
؟ فقال جعفر : أيّها الملك ، وما يقولون
؟ قال : يسألون أنْ أردّكم إليهم . قال :
أيّها الملك ,
سلهم أعبيدٌ نحن لهم أم أحرار ؟ فقال عمرو : لا , بل أحرار كرام . قال : فسلهم
،
ألهم علينا ديون يُطالبوننا بها ؟ فقال : لا , ما لنا عليكم ديون . قال : فلكم في
أعناقنا دماء تطالبوننا بها ؟ فقال عمرو : لا . فقال : فما تريدون منّا
؟ آذيتمونا
فخرجنا من بلادكم . فقال عمرو بن العاص : أيّها الملك , خالفونا في ديننا
وسبّوا آلهتنا ،
وأفسدوا شبابنا وفرّقوا جماعتنا ، فردّهم إلينا لنجمع أمرنا
. فقال جعفر : نعم أيّها الملك خالفناهم ؛ بعث الله فينا نبيّاً أمرنا بخلع
الأنداد ،
وترك
الصفحة ( 193
)
الإستسقام بالأزلام , وأمرنا بالصّلاة والزّكاة , وحرّم الظّلم والجور وسفك
الدّماء بغير حقّها ،
والزّنا والرّبا ،
والميتة والدّم ولحم الخنزير , وأمرنا
بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القُربى ، ونهى عن الفحشاء والمُنكر والبغي . فقال النّجاشي
: بهذا بعث الله عيسى بن مريم . ثُمّ
قال النّجاشي : يا جعفر ، هل تحفظ
ممّا أنزل الله على نبيّك شيئاً ؟ قال : نعم . فقرأ عليه سورة مريم حتّى بلغ إلى
قوله تعالى : (
وَهُزّي
إِلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً *
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرّي عَيْناً )(1) . فلمّا سمع النّجاشي بهذا , بكى بُكاءً شديداً
وقال : هذا والله
،
هو
الحقّ .
فقال عمرو بن العاص : أيّها الملك , إنّ هذا مُخالف لنا فردّهم
إلينا . فرفع
النّجاشي يده وضرب بها وجه عمرو , ثُمّ قال : اسكت ، والله
،
لئن ذكرته بسوء
لأفقدنّك نفسك . فقام عمرو بن العاص من عنده والدّماء تسيل على وجهه , وهو
يقول : إنْ كان هذا كما تقول أيّها الملك فإنّا لا نتعرّض لهم .
أقول : ليتها
كانت القاضية
؛ فإنّ عمراً هو الذي دبّر حرب صفّين وأفسد الأمر على أمير
المؤمنين (عليه السّلام) , وهو الذي أشار برفع المصاحف حيلةً ومكراً ، وكان يوم رفع
المصاحف على رؤوس الرّماح يوماً عظيماً على أمير المؤمنين (عليه
السّلام) , وأعظم منه
على أمير المؤمنين يوم رفع رأس ولده الحسين (عليه السّلام) ورؤوس أصحابه على رؤوس
الرّماح بكربلاء , تُهدى من كربلاء إلى الكوفة ، ومن الكوفة إلى الشّام .
يقول
سهل بن سعد : بينا أنا واقف بباب السّاعات إذا بالرّايات يتلو بعضها بعضاً
, وإذا نحن بفارس بيده لواء منزوع السّنان ، عليه رأس من أشبه النّاس وجهاً
برسول الله , فإذا من ورائه نسوة على جمال بغير وطاء , فدنوت من أولهنّ
فقُلت : يا جارية , مَن أنت ؟ فقالت : أنا سُكينة بنت الحسين (عليه
السّلام) . فقُلت لها
: ألك حاجة
إليّ ، فأنا سهل بن سعد ، ممّن رأى جدك وسمعت حديثه ؟ قالت : يا سهل , قُل لصاحب هذا
الرّأس أنْ يُقدّم الرّأس أمامنا حتّى يشتغل النّاس بالنّظر إليه ، ولا ينظروا
إلى حرم رسول الله .
قال سهل : فدنوت من صاحب الرّأس فقلت له : هل لك أنْ تقضي حاجتي وتأخذ منّي أربعمئة دينار ؟ قال : ما هي ؟ قُلت : تُقدّم الرّأس
أمام
الحرم . ففعل ذلك ودفعت ُ إليه ما وعدته .
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة
مريم / 25 ـ 26 .
|
|