|
الصفحة ( 194
)
جاؤوا برأسك يابنَ بنت محمّدٍ مُـتـرمّلا ً بـدمائهِ iiتـرميلا
وكـأنّما بك يابن بنت iiمحمّدٍ قـتلوا جهاراً عامدين iiرسولا
قـتلوك عطشاناً ولمّا iiيرقبوا فـي قـتلك التأويلَ iiوالتّنزيلا
ويـكبّرون بـأنْ قُتلت iiوإنّما قَـتلوا بـك التّكبيرَ والتّهليلا
المجلس التّاسع بعد المئة
روى الشّيخ رحمه الله في الأمالي بسنده , قال : كان
الله عزّ وجل قد منع نبيه بعمّه أبي طالب ، فما كان يخلص إليه من قومه أمر يسوؤه مدّة حياته , فلمّا
مات أبو طالب , نالت قُريش من رسول الله بغيتها وأصابته بعظيم من
الأذى , فقال : (( لأسرع ما وجدنا فقدك يا عم
, وصلتك رحم وجزيت خيراً يا عم )) .
ثُمّ ماتت خديجة بعد أبي طالب بشهر ، فاجتمع بذلك على رسول الله حزنان
حتّى عُرف ذلك فيه .
ثمّ انطلق ذوو الطّول والشّرف من قُريش إلى دار النّدوة
ليأتمروا في رسول الله , وأسرّوا ذلك بينهم , فقال العاص بن وائل
واُميّة بن خلف : نبني له بُنياناً نستودعه فيه فلا يخلص إليه أحد , ولا يزال
في رنق من العيش حتّى يذوق طعم المنون . فقال قائل : بئس الرّأي ما رأيتم
!
ولئن صنعتم ذلك ليسمعن هذا الحديث الحميم والمولى الحليف , ثُمّ لتأتين
المواسم والأشهر الحُرم بالأمن فلينتزعن من أيديكم . فقال عتبة وأبو
سُفيان : نُرحل بعيراً صعباً ونوثق محمّداً عليه ثُمّ نقصع البعير بأطراف الرّماح
فُيقطّعه إرباً إرباً . فقال صاحب رأيهم : أرأيتم إنْ خلص به البعير سالماً
إلى بعض الأفاريق , فأخذ بقلوبهم بسحره وبيانه وطلاقة لسانه ، فصبا القوم
إليه واستجابت القبائل له , فيسيرون إليكم بالكتائب والمقانب ؛ فلتهلكن كما
هلكت إياد ! فقال أبو جهل : لكنّي أرى لكم
الصفحة ( 195
)
رأياً سديداً ؛ وهو أنْ تعمدوا إلى قبائلكم العشر فتنتدبوا من كلّ قبيلة
رجلاً بحداً , ثُمّ تُسلّحوه حُساماً عضباً ، حتّى إذا غسق الليل أتوا ابن أبي كبشة
فقتلوه , فيذهب دمه في قبائل قريش ، فلا يستطيع بنو هاشم وبنو المطّلب مُناهضة قُريش فيرضون بالدّية . فقال صاحب رأيهم : أصبتَ يا أبا الحكم
, هذا هو
الرأي فلا تعدلوا به رأياً ، وكمّوا في ذلك أفواهكم . فخرجوا متفرّقين
، وهو قوله تعالى :
( وَإِذْ
يَمْكُرُ بِكَ الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ
يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ )(1) .
فدعا رسول الله عليّاً (عليه السّلام) وأخبره بذلك , وقال له : (( أوحى إليّ ربّي أنْ أهجر دار قومي وأنطلق
إلى غار ثور
تحت ليلتي ، وأنْ آمرك بالمبيت على مضجعي ؛ ليخفى بمبيتك عليهم أمري ،
فما أنت قائل ؟ )) . فقال علي (عليه السّلام) : (( أوَ تسلمن بمبيتي هُناك يا نبيّ الله
؟ )) . قال : (( نعم )) . فتبسّم علي
(عليه السّلام) ضاحكاً وأهوى إلى الأرض ساجداً شكراً لله ؛ لما بشّره بسلامته
. فلمّا
رفع رأسه قال له : (( امضِ فيما اُمرت ، ومُرني
بما شئت , وما توفيقي إلا بالله )) . قال :
((
فارقد على فراشي واشتمل ببردي الحضرمي )) . ثم ضمّه النّبي إلى صدره وبكى
وجداً به , وبكى علي (عليه السّلام) جزعاً لفراق رسول الله .
هذا رسول الله لمّا أراد مفارقة أخيه وابن عمّه علي بن
أبي طالب (عليه السّلام) , ضمّه إلى صدره وبكى وجداً به مع علمه
بسلامته , وبكى علي (عليه السّلام) جزعاً لفراق رسول الله .
ساعد الله قلب أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) حين استأذنه أخوه وصاحب لوائه أبو الفضل العباس بن
أمير المؤمنين في المبارزة ، وهو يعلم أنّه مقتول لا محالة , فبرز العباس
وهو يقول :
لا أرهبُ الموت إذا المـوت رقى
حتّى اُوارى في المصاليت لُقا
نفسي لسبط المُصطفى الطُهر وقا
إنّي أنا العبّاس أغـدو بالسّقا
ولا أخاف الشرّ يوم المُلتقى
ولم يزل يُقاتل حتّى قُتل بعد أنْ اُثخن بالجراح فلم
يستطع حراكاً , فبكى الحسين (عليه السّلام) لقتله بكاء شديداً .
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة الأنفال / 30
.
الصفحة ( 196
)
أحـقّ النّاس أنْ يُبكى iiعليه فتىً أبكى الحسين iiبكربلاء
أخـوه وابنُ والـده iiعليٍّ أبو الفضل المضرّج بالدّماءِ
ومـَن واساه لا يثنيه iiشيءٌ وجـاد له على عطشٍ iiبماءِ
ويشبه إيثار أمير المؤمنين (عليه السّلام) لرسول الله
بالحياة , إيثار ولده أبي الفضل العباس لأخيه الحسين (عليه السّلام)
يوم طفّ كربلاء حين فداه بروحه ووقاه بمهجته ؛ وذلك لمّا ركب الحسين
(عليه السّلام) المسناة يريد الفرات , وقد اشتدّ به العطش وبين يديه
أخوه العباس , فاحاط القوم بالعباس فاقتطعوه عن أخيه الحسين (عليه
السّلام) ,
فجعل العباس يُقاتلهم وحده حتّى قُتل .
واذكر أبا الفضل هل تنسى iiفضائلَه فـي كربلا حين جدّ الأمرُ iiوالتبسَا
وآسـى أخـاه وفـاداه iiبـمهجتهِ
وخاض في غمرات الموت منغمسَا
ففز أبا الفضل بالفضل العظيم بما أسـديته فـعليك الفضلُ قد iiحُبسَا
قـضيت حقّ الاخا والدّين iiمُبتذلاً لـلنفس فـي سقي أطفال له iiونِسَا
المجلس العاشر بعد المئة
في أمالي الشّيخ الطّوسي عليه الرّحمة , أنّه : لمّا أمر الله تعالى نبيّه
بالخروج من مكّة ليلة الغار وأنْ يبيت عليّاً على فراشه , أمر رسول الله أبا بكر وهنداً بن أبي هالة أنْ يقعدا له بمكان ذكره لهما في طريقه إلى
الغار ، ولبث رسول الله مع علي يوصيه ويأمره بالصّبر حتّى صلىّ العشاءين
, ثُمّ خرج رسول الله في فحمة العشاء الآخرة , ومضى حتّى أتى
إلى هند وأبي
بكر فنهضا معه حتّى وصلوا إلى الغار , ثُمّ رجع هند إلى مكّة لما أمره به
رسول الله ، ودخل رسول الله وصاحبه الغار , فلمّا غلق الليل أبوابه
وانقطع الأثر , أقبل القوم
الصفحة ( 197
)
على علي (عليه السّلام) يقذفونه بالحجارة ولا يشكّون
أنّه رسول الله ، حتّى إذا قرب الفجر هجموا عليه ـ وكانت دور مكّة
يومئذٍ لا أبواب لها ـ فلمّا بصر بهم علي (عليه السّلام) قد انتظوا
السّيوف وأقبلوا عليه بها ، وكان قد تقدّمهم خالد بن الوليد بن
المُغيرة , وثب علي (عليه السّلام) فهمز يده فجعل خالد يقمص قماص البكر
ويرغو رغاء الجمل , وأخذ سيف خالد وشدّ عليهم به فاجفلوا أمامه إجفال
النّعم إلى ظاهر الدّار , وبصروه فإذا هو علي (عليه السّلام) , فقالوا : إنّك لعلي ؟! قال :
(( أنا علي )) . قالوا : فإنّا
لم نردك , فما فعل صاحبك ؟ قال : (( لا عِلم لي
به )) .
فأذكت قريش عليه العيون ، وركبت
في طلبه الصّعب والذّلول , وأمهل علي صلوات الله عليه حتّى إذا أعتمّ من
الليلة القابلة , انطلق هو وهند بن أبي هالة حتّى دخلا على رسول الله في الغار , فأمر رسول الله هنداً أنْ يبتاع له ولصاحبه بعيرين , فقال
صاحبه : قد اعددت لي ولك يا نبيّ الله راحلتين . فقال :
(( إنّي لا آخذهما ولا
أحدهما إلاّ بالثّمن )) . قال : فما لك بذلك . فأمر عليّاً (عليه
السّلام) فأقبضه الثّمن
.
يقول راوي الحديث : سُئل ابن أبي رافع : أكان رسول الله يجد ما ينفقه
هكذا ؟ فقال : أين يذهب بك عن مال خديجة ! وأنّ رسول الله قال :
(( ما نفعني مال
قطّ مثل مال خديجة )) .
وكان يفكّ من مالها الغارم والأسير ، ويحمل العاجز
، ويُعطي في النّائبة ، ويعطي فقراء أصحابه إذ كان بمكّة ، ويحمل مَن أراد منهم
الهجرة .
وكانت قُريش إذا رحلت رحلتي الشّتاء والصّيف كانت طائفة من العير
لخديجة , وكانت أكثر قُريش مالاً , وكان ينفق منه ما شاء في حياتها
، وورثها هو وولدها بعد مماتها .
ثُمّ إنّه (صلّى الله عليه وآله) وصّى عليّاً بحفظ ذمته وأداء أمانته , وكانت قُريش تدعو محمّداً في الجاهلية الأمين ,
وكانت تودعه أموالها ، وكذلك مَن يقدم مكّة من العرب في الموسم ، وجاءته
النّبوة والأمر كذلك , فأمر عليّاً (عليه السّلام) أنْ يقيم منادياً بالأبطح غدوة وعشية
: (( ألا مَن كان له قِبل محمّد أمانة فليأت ؛ لتؤدّى إليه أمانته
)) . وأمره أنْ يبتاع
رواحل له وللفواطم ومَن أراد الهجرة معه من بني هاشم , وقال له :
(( إذا قضيت
ما أمرتك فكن على إهبة الهجرة
الصفحة ( 198
)
إلى الله ورسوله , وانتظر قدوم كتابي إليك ولا تلبث بعده
)) .
وانطلق رسول
الله إلى المدينة بعد أنْ بقي في الغار ثلاثة أيام , وقال علي (عليه
السّلام) يذكر ذلك :
وقيتُ بنفسي خير مَن وطئ iiالحصا ومَن طاف بالبيت العتيق iiوبالحجرِ
محمّدَ لـمّا خـاف أنْ يمكروا به فـوقّاه ربـي ذو الجلال من iiالمكرِ
وبـتّ اُراعـيهم مـتى iiينشرونني وقد وطنتْ نفسي على القتلِ والأسرِ
وبـات رسـولُ الله في الغار iiآمناً هُـناك وفـي حفظ الإله وفي سترِ
أقـام ثـلاثاً ثُـمّ زمّـتْ iiقـلائصٌ قـلائصُ يفرين الحصا أينما يفري
ذكّرني هجوم قُريش على علي (عليه
السّلام) بمكّة حين أباته ابن عمّه رسول الله على
فراشه , هجوم أصحاب ابن زياد على مسلم بن عقيل بالكوفة حين أرسله ابن عمّه
الحسين (عليه السّلام) ليأخذ له البيعة على أهلها , لكن هجوم قريش انتهى بخيبتهم
وانتصار علي (عليه السّلام) عليهم وطردهم عن الدّار وسلامة رسول الله , وهجوم
أصحاب ابن زياد انتهى بأخذ مسلم أسيراً وقتله , فإنّهم لمّا اقتحموا عليه
الدّار , شدّ عليهم يضربهم بسيفه حتّى أخرجهم من الدّار , ثُمّ عادوا عليه فشدّ
عليهم كذلك فاخرجهم مراراً وقتل منهم , وضربه بكر بن حمران على فمه فقطع
شفته العُليا وأسرع السّيف في السُفلى وفصلت لها ثنيتاه , وضربه مُسلم في
رأسه ضربة مُنكرة وثناه باُخرى على حبل العاتق كادت تطلع إلى جوفه , فلمّا
رأوا ذلك , أشرفوا عليه من فوق البيت وأخذوا يرمونه بالحجارة ويلهبون
النّار في القصب ويرمونها عليه , فخرج عليهم مُصلطاً سيفه في السّكة , وتكاثروا
عليه بعد أنْ اُثخن بالجراح , فطعنه رجل من خلفه فخرّ إلى الأرض , فاُخذ أسيراً
واُدخل على ابن زياد , فقال : اصعدوا به فوق القصر واضربوا عُنقه , ثُمّ اتبعوه
جسده ، ففعل به ذلك .
فإنْ كُنت ما تدرين ما الموت فانظري
إلى هانئٍ في السّوق وابن عقيلِ
إلى بطـلٍ قـد هشّـم السّيفُ وجهَهُ
وآخر يهوي من طمـار قتـيلِ
الصفحة ( 199
)
المجلس الحادي عشر بعد المئة
في أمالي الشّيخ الطّوسي عليه الرّحمة , أنّه : لمّا هاجر النّبي إلى المدينة ,
نزل في بني عمرو بن عوف بقبا , فأراه صاحبه على دخول المدينة , فقال :
(( ما أنا
بداخلها حتّى يقدم ابن عمّي وابنتي )) : يعني عليّاً وفاطمة
(عليهما السّلام)
. ثُمّ
كتب رسول الله إلى علي (عليه السّلام) مع أبي واقد الليثي يأمره بالمسير إليه
,
فلمّا أتاه الكتاب , تهيّأ للخروج وأمر مَن كان معه من ضُعفاء المؤمنين
أنْ يتسلّلوا ليلاً إلى ذي طوى .
وخرج علي (عليه السّلام) بالفواطم
،
وهنّ : فاطمة بنت رسول
الله (صلّى الله عليه وآله)
، واُمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم ، وفاطمة بنت الزّبير بن عبد
المطّلب . وتبعهم أيمن بن اُمّ أيمن مولى رسول الله وأبو واقد الذي جاء بالكتاب ,
فجعل أبو واقد يسوق بالرّواحل سوقاً حثيثاً , فقال علي (عليه السّلام) :
(( إرفق بالنّسوة يا
أبا واقد ؛ إنهنّ من الضّعائف ))
. قال : إنّي أخاف أنْ يدركنا الطّلب
. فقال علي (عليه السّلام) : (( أربع عليك ))
: أي لا تخف .
ثُمّ جعل علي (عليه السّلام) يسوق بهنّ سوقاً رفيقاً , وهو يرتجز
ويقول :
ليس إلاّ الله فارفع ظنّكَا يكفيك ربُّ النّاس ما
أهمّكَا
ما رضي أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنْ يسوق أبو واقد بالفواطم سوقاً عنيفاً
؛ لأنهنّ
من الضّعفاء , فياليت أمير المؤمنين (عليه السّلام) لا غاب عن بنات الفواطم يوم حُملن من
كربلاء إلى ابن زياد بالكوفة , ومن الكوفة إلى يزيد بالشّام على أقتاب
الجمال , كأنّهن من سبايا التُرك أو الدّيلم , وليس معهُنّ من ولاتهنّ وليّ
، ولا من
حماتهنّ حمي غير العليل زين العابدين (عليه السّلام) ، وقد أمر به ابن زياد فغلّ بغلٍّ إلى
عُنقه حتّى اُدخلوا على يزيد وهم مقرّنون في الحبال ، وزين العابدين (عليه
السّلام) مغلول ! فلمّا وقفوا بين يديه على
الصفحة ( 200 )
تلك الحال , قال له علي بن الحسين (عليه السّلام) :
(( أنشدك الله يا يزيد , ما ظنُّك برسول
الله لو رآنا على هذه الصّفة ؟ )) . فلم يبق َ في القوم أحد إلاّ
وبكى , فأمر يزيد بالحبال فقُطعت ، وأمر بفكّ الغلّ عن زين العابدين
(عليه السّلام) .
يُسار بها عُنفاً بلا رفـق محرمِ
بها غير مغلولٍ يحـنّ على صعـبِ
ويحضرُها الطّاغي بناديه شامتاً
بما نال أهلَ البيت من فادح الخطبِ
وسار علي (عليه السّلام) , فلمّا قارب ( ضجنان )(1)
, أدركه الطّلب ؛ وهم ثمانية فرسان ملثّمون ومعهم مولى لحرب بن اُميّة
اسمه جناح . فقال علي (عليه السّلام) لأيمن وأبي واقد :
(( أنيخا
الإبل واعقلاها )) . وتقدّم فأنزل النّسوة
،
ودنا القوم
فاستقبلهم علي (عليه السّلام)
مُنتضياً سيفه , فقالوا : ظننت أنّك ـ يا غدّار ـ ناجٍ بالنّسوة ؟ ارجع لا أبا لك . قال
: (( فإنْ لم أفعل ؟ )) . قالوا : لترجعن راغماً
أو لنرجعن بأكثرك شعراً ( أي برأسك )
،
وأهون بك من هالك .
ودنا الفوارس من المطايا ليثوروها ، فحال علي (عليه
السّلام) بينهم وبينها , فأهوى له جناح بسيفه فراغ علي (عليه السّلام) عن ضربته
،
وضربه على عاتقه
فقتله , وشدّ على أصحابه ـ وهو على قدميه
ـ شدّة ضيغم , وهو يرتجز ويقول :
خلّوا سبيلَ الجاهد المُجاهدِ
آليتُ لا أعبدُ غيرَ الواحدِ
فتفرّق القوم عنه وقالوا : احبس نفسك عنّا يابن أبي طالب
. قال : (( فإنّي منطلق
إلى أخي وابن عمّي رسول الله , فمَن سرّه أنْ أفري لحمه واُريق دمه فليدنُ
منّي )) . ثُمّ أقبل على أيمن وأبي واقد , وقال :
(( إطلقا مطاياكما )) .
ثُمّ سار ظافراً قاهراً حتّى نزل (
ضجنان ) فلبث بها يومه وليلته , ولحق به نفر من المُستضعفين من
المؤمنين ، فيهم اُم أيمن مولاة رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) .
وبات ليلته تلك هو
والفواطم ، طوراً يصلّون
ــــــــــــــــــــ
(1) مكان بين مكّة والمدينة .
الصفحة ( 201 )
وطوراً يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم حتّى طلع الفجر
، فصلّى بهم
صلاة الفجر , ثُمّ سار لا يفتر عن ذكر الله هو ومَن معه حتّى قدموا المدينة .
ذكّرني دخول علي (عليه السّلام) المدينة مع الفواطم
ظافراً قاهراً لم يُصب بسوء , دخول ولده زين العابدين (عليه السّلام)
المدينة مع بنات الفواطم ، لكن شتّان ما بين الدّخولين , فأمير
المؤمنين (عليه السّلام) قد دخل المدينة ظافراً منصوراً على أعدائه ,
وولده زين العابدين (عليه السّلام) دخل المدينة بنساء أهل بيته بعد
رجوعه من كربلاء , وقد قُتل أبوه الحسين (عليه السّلام) وقُتلت جميع
أنصاره وأهل بيته (عليهم السّلام) ، وذُبحت أطفاله وسُبيت عياله , فدخل
(عليه السّلام) إلى المدينة فرآها موحشة باكية ، ووجد ديار أهله
خالية تنعى أهلها وتندُب سُكانها .
مررتُ على أبيات آل محمّدٍ فلم
أرها أمثـالها يـوم حلّـتِ
فلا يُبعـد الله الدّيار وأهلهـا
وإنْ اصبحت منهُم برغم تخلّت
المجلس الثّاني عشر بعد المئة
لمّا هاجر النّبي من مكّة إلى المدينة
، هو وصاحبه ومولى صاحبه عامر بن
فهيرة ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي , مرّوا على خيمة اُمّ معبد
الخزاعية ، ثُمّ جاء زوجها أبو معبد , فقالت له : مرّ بنا رجل مُبارك من حاله
كذا وكذا . قال : صفيه لي يا اُمّ معبد . قالت : رأيت رجلاً طاهر الوضاءة(1)
، أبلج الوجه(2)
، حسن
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) ظاهر الحسن .
(2) طلق الوجه .
الصفحة
( 202 )
الخلق , لم تعبه ثُجله(1)
ولم تزر به صقله(2)
، وسيماً(3)
قسيماً(4)
, في عينيه دعـج(5)
وفي أشفاره وطف(6)
وفي عُنقه صطع(7)
وفي صوته صحل(8)
وفي لحيته كثاثة(9)
, أزج(10)
أقرن(11) ،
أحور(12)
أكحل(13) ,
إذا صَمُت فعليه الوِقار وإنْ تكلّم سما وعلاه البهاء(14)
, أجمل النّاس وأبهاه من بعيد وأحسنه وأجمله من قريب , حلو المنطق فصل(15) لا
نزر و لا هذر(16)
، كأنّ منطقه خرزات نظم يتحدّرن ربعة ، لا ييأس من طول ولا تقحمه(17)
عين من قصـر ، غصن بين غصنين ، فهو أنضر(18)
الثّلاثة منظراً وأحسنهم قدّاً , له رُفقاء يحفّون به إنْ قال أنصتوا
لقوله ، وإنْ أمر تبادروا إلى أمره , محفود(19)
محشود(20)
لا عابس ولا مفند(21)
.
قال أبو معبد : هو ـ والله ـ صاحب قُريش الذي ذُكر لنا من أمره بمكّة
ما ذُكر , ولقد هممت بأنْ أصحبه ولأفعلنّ إنْ وجدت إلى ذلك سبيلاً .
وقيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) : كيف لم يصف أحد النّبي كما وصفته اُمّ معبد ؟ فقال :
(( لأنّ النّساء يصفن الرّجال
بأهوائهن ، فيُجدن في صفاتهن )) .
وكان
أشبه النّاس برسول الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الثُّلجة : بضم الثّاء عظم البطن .
(2) لم تعبه دقّة ونحول .
(3) حسن الوجه .
(4) اُعطي كُلّ شيء منه قسمه من الحسن .
(5) سواد مع سعة .
(6) كثرة شعر أشفار العين .
(7) طول .
(8) بحوحة .
(9) كثرة الشّعر .
(10) دقيق الحاجبين : طويلهما .
(11) مقرون الحاجبين : متصل احدهما بالآخر .
(12) الحَوَر : اشتداد بياض العين , وسواد سوادها .
(13) يعلو جفون عينيه سواد مثل الكحل .
(14) الحسن والجمال .
(15) يفصل بين الحقِّ والباطل .
(16) لا قليل ولا كثير .
(17) تحتقره .
(18) أجمل .
(19) مخدوم .
(20) يتبعه حشد لخدمته .
(21) لا يجرأ أحد على تخطئته وتنفيد رأيه .
الصفحة
( 203 )
ولده الحسين وعلي بن الحسين الأكبر , وكانت الزّهراء
(عليها السّلام) تقول
للحُسين (عليه السّلام) وهي ترقصه :
أنتَ شبيهٌ بأبيْ لستَ شبيهاً بِعليْ
وترقص الحسن (عليه السّلام) وتقول :
إشبه أباك يا حسنْ واخلع عن الحقّ الرّسنْ
واعبد إلهاً ذا مننْ ولا تـوالِ ذا الإحـنْ
ولذلك لمّا حضر رأس الحسين (عليه السّلام) بين يدي ابن زياد , فجعل ينظر
إليه ويبتسم
، وكان في يده قضيب ، فجعل يضرب به ثنياه , ويقول : إنّه كان حسن الثّغر . وكان
عنده أنس بن مالك ، فبكى أنس وقال : كان أشبههم برسول الله .
ولمّا برز علي
الأكبر يوم كربلاء , نظر إليه الحسين (عليه السّلام) نظرة آيس منه وأرخى عينيه فبكى
,
ثُمّ رفع سبابتيه نحو السّماء , وقال : (( اللهمّ كُن أنت الشّهيد عليهم
, فقد برز
إليهم غلام أشبه النّاس خلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك , وكُنّا إذا اشتقنا
إلى
نبيك نظرنا إليه )) .
ألا لعن الله أهل الكوفة ، فما رقّت قلوبهم لشبيه رسول
الله علي الأكبر حتّى قطّعوه بأسيافهم ، ووقف عليه الحسين (عليه
السّلام) وقال
:
(( قَتل
الله قوماً قتلوك يا بُني , ما أجرأهم على الرّحمن وعلى انتهاك حُرمة الرّسول
! على الدّنيا بعدك العفا )) :
يا كوكباً ما كان أقصرَ عمرُهُ
وكذا تكون كواكبُ الأسحارِ
جاورتُ أعـدائي وجاور ربَّهُ شتّان بين جـواره وجواري
المجلس الثّالث عشر بعد المئة
لمّا كانت غزوة بدر , وهي أوّل غزوات رسول الله وأشدّهما نكاية في
الصفحة
( 204 )
المشركين , وبها أذلّ الله جبابرة قُريش ، وبها تمهدت
قواعد الدّين وثبت أساس الإسلام ، كان علي (عليه السّلام) قُطب رُحاها وليث وغاها , وكان عمره يومئذ خمساً
وعشرين أو سبعاً وعشرين سنة , وكان المُشركون فيها نحواً من ألف ومعهم
مئتا فرس يقودونها ، والمسلمون ثلاثمئة وثلاثة عشر أو أزيد بقليل ومعهم
ثمانون بعيراً وفرس واحد للمقداد , فأوّل مَن برز من المُشركين عتبة بن ربيعة
، وكان رئيس القوم ، وأخوه شيبة وابنه الوليد بن عُتبة , فدعوا إلى المُبارزة
، فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار , فقالوا لهم : ارجعوا فما لنا بكم من حاجة
. ثُمّ
نادوا : يا محمّد , اخرج إلينا أكفّاءنا من قومنا . فقال النّبي :
(( يا بني هاشم ,
قوموا فقاتلوا بحقّكم الذي بعث الله به نبيكم )) . فقام حمزة بن عبد
المطّلب وعلي بن أبي طالب وعُبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب بن عبد مُناف , فبرزوا
وهم مُقنّعون في الحديد فلم يعرفهم عتبة , فسألهم : مَن أنتم ؟ فانتسبوا له
, فقال : أكفاء كرام . فبارز حمزة عُتبة فقتله , وبارز عليّ ـ وكان أصغر القوم سنّاً
ـ الوليد فقتله , وبارز عُبيدة ـ وكان أسنّ القوم ـ شيبة فجرحه ، وضربه شيبة على
ساقه فقطعها , وكرّ حمزة وعلي على شيبة فقتلاه واحتملا عُبيدة , ولمّا جيء
بعُبيدة ، وإنّ مُخّ ساقه ليسيل , قال : يا رسول الله , ألست شهيداً ؟ قال :
(( بلى )) . قال :
أما والله , لو كان أبو طالب حيّاً لعلم أنّي أحقّ بقوله :
كذبتمْ وبيتِ الله نُخلي محمّداً
ولمّا نطاعنْ دونه ونناضلِ
وننصره حتّى نُصرّع حـولهُ ونذهل عن أبنائنا والحلائلِ
وحُمل عُبيدة من مكانه فمات بالصّفراء . وجميع مَن قُتل
في هذه الوقعة من المُشركين سبعون رجلاً ، واُسر منهم نحو من سبعين
رجلاً , قَتل المسلمون النّصف وقَتل علي (عليه السّلام) ـ باتّفاق الرّواة ـ منهم خمسة وثلاثين بقدر النّصف , وقيل
ستّة
وثلاثين ، أكثر من النّصف بواحد ، فعدّوا معهم عيسى بن عثمان , وشرك في قتل
شيبة .
وكان فيمَن قتله علي (عليه السّلام) العاص بن سعيد بن العاص بن
اُميّة ، قتله
مبارزة بعد أنْ أحجم عنه غيره , وطعيمة بن عدي ، وكان من رؤوس أهل الضّلال
، ونوفل بن خويلد ، وكان
الصفحة
( 205 )
من شياطين قريش وأشدّ النّاس عداوة لرسول الله ، وحنظلة بن
أبي سفيان
,
وقُتل في هذه الوقعة أبو جهل عدو رسول الله الألد .
وقد زرعت هذه
الوقعة الأضغان في قلب يزيد بن مُعاوية بقتل جدّ أبيه عتبة وأخيه شيبة
وخال أبيه الوليد وأخيه حنظلة حتّى أظهرها حين جيء إليه برأس الحسين
(عليه السّلام) , فجعل يقول :
لـيت أشـياخي ببدرٍ iiشهدوا جزعَ الخزرج من وقع الأسلْ
لأهـلّـوا واسـتهلّوا فـرحاً ثُـمّ قـالوا يـا يزيد لا iiتشلْ
قـدْ قـتلنا القَرَمَ من iiساداتهمْ وعـدلـناه بـبدرٍ فـاعتدلْ
لـعبت هـاشمُ بـالمُلك iiفلا خـبرٌ جـاء ولا وحيٌ iiنزلْ
لـستُ من خندفَ إنْ لمْ iiانتقمْ مـن بـني أحمدَ ما كان فعلْ
فقامت زينب بنت علي (عليه السّلام) وخطبت خطبتها العظيمة المشهورة
, وقالت من جملتها : وتهتف بأشياخك زعمت أنّك تُناديهم ، فلتردن وشيكاً موردهم
, ولتودّن
أنّك شللت
وبكمت ولم تكن قُلت ما قُلت وفعلت ما فعلت ! ثُمّ قالت : اللهمّ , خُذ
لنا بحقّنا ، وانتقم ممّن ظلمنا ، واحلُل غضبك بمَن سفك دماءنا وقتل حُماتنا .
ثـاراتُ بـدرٍ اُدركـتْ في كربلا
لبني اُميّة من بنـي الزّهراءِ
وهذا ابنُ هندٍ من بني الطّهر فاطمٍ
بثارات بدرٍ أصبحَ اليوم يثأرِ
المجلس الرّابع عشر بعد المئة
كان رجل يُسمّى أبا العاص بن الرّبيع ، وكان من رجال مكّة المعدودين مالاً
الصفحة
( 206 )
وأمانة وتجارة , وكان ابن اُخت خديجة اُمّ المؤمنين ،
وزوّجه النّبي ابنته زينب قبل النّبوة , وولد له منها بنت اسمها اُمامة
، وهي التي أوصت الزّهراء (عليها السّلام) أميرَ المؤمنين (عليه
السّلام) أنْ يتزوج بها بعدها , فقالت في جملة ما أوصته به :
(( وأنْ
تتزوج بعدي بابنة اُختي اُمامة ؛ فإنّها تكون لولدي مثلي )) .
فتزوج بها أمير المؤمنين (عليه السّلام) بعد وفاة الزّهراء (عليها السّلام) , فلمّا أكرم الله رسوله بالنّبوة , آمنت به خديجة وبناته ومنهنّ زينب ، وبقي أبو العاص مشركاً , وكان
الإسلام قد فرّق بينه وبين زينب إلاّ أنّ رسول الله كان لا يقدر وهو
بمكّة أنْ يُفرّق بينهما , فلمّا دعا النّبي قومه إلى الإسلام , باعدوه
وقالوا : إنّكم قد فرغتم محمّداً من همّه ؛ أخذتم عنه بناته فردّوهن عليه يشتغل
بهن . فقالوا لأبي العاص : فارق بنت محمّد ونحن نزوّجك أي امرأة شئت من قُريش
.
فقال : لا اُفارقها وما اُحب أنّ لي بها امرأة من قُريش .
فكان رسول الله إذا ذكره يُثني عليه خيراً في صهره , فلمّا هاجر رسول الله إلى المدينة
,
بقيت زينب بنت رسول الله بمكّة مع أبي العاص , فلمّا سارت قُريش إلى بدر
, سار أبو العاص معهم فأُسر , فلمّا بعثت أهل مكّة في فداء اُساراهم , بعثت زينب
بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في فداء زوجها أبي العاص بمال ,
وكان فيما بعثت به قلادة كانت خديجة اُمّها ادخلتها بها على أبي العاص
ليلة زفافها عليه , فلمّا رأى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قلادة
ابنته زينب ، رقّ لها رقّة شديدة , وقال للمُسلمين :
(( إنْ رأيتم أنْ تطلقوا لها
أسيرها وتردّوا عليها ما بعثت به من الفداء , فافعلوا )) . فقالوا
: نعم يا رسول
الله , نفديك بأنفسنا وأموالنا . فَردّوا عليها ما بعثت به وأطلقوا لها
أبا
العاص بغير فداء .
أقول : إذا كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لمّا
نظر إلى قلادة ابنته زينب , رقّ لها رقّة شديدة , وهي لم تُسلب منها ولم تؤخذ
قهراً ، بل أرسلتها طوعاً لفداء زوجها الذي هو أسير عند أبيها رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) وقد خرج لمحاربته , فما كان يجري على رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) لو نظر إلى قلادة ابنته زينب بنت علي وفاطمة
(عليهم السّلام)
، وقلادة ابنته وبضعته فاطمة الزّهراء (عليها السّلام) ،
وقلائد سائر بناته بين يدي عمر بن
سعد ويزيد وابن زياد ؟! وذلك لمّا قُتل الحسين (عليه السّلام) وأقبل القوم على نهب بيوت
آل الرّسول (صلّى الله عليه وآله) ،
واقتحموا
الصفحة
( 207 )
على النّساء يسلبونهن ّ
؛ ولذلك لمّا وعد يزيد علي بن
الحسين (عليه السّلام) أنْ يقضي له
ثلاث حاجات ، كانت إحدى الحاجات أنْ يردّ عليهم ما اُخذ منهم . فقال يزيد :
أنا
اُعوّضكم عنه أضعاف قيمته . فقال (عليه السّلام) : (( أمّا مالك فلا نريده
، وهو موفّر عليك
, وإنّما طلبت ما اُخذ منّا ؛ لأنّ فيه مغزل فاطمة بنت محمّد (صلّى الله
عليه وآله)
،
ومقنعتها وقلادتها ))
. فأمر بردِّ ذلك .
سُلبتْ وما سُلبتْ محا مدُ عزِّها الغُرّ
البديعة
وهل كانت زينب تعدل عند رسول الله (صلّى الله عليه
وآله) وعند
المسلمين اُختها فاطمة الزّهراء سيّدة نساء العالمين (عليها السّلام) ؟ وهل كان أبو العاص
يعدل أمير المؤمنين (عليه السّلام) ؟ لا والله .
فَعلتمْ بأبناء النّبيِّ ورهطهِ أفاعيلَ
أدناها الخيانةُ والغدرُ
المجلس الخامس عشر بعد المئة
لمّا أطلق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أبا العاص , زوج ابنته زينب
الذي اُسر يوم بدر , شرط عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
أنْ يبعث
إليه زينب إلى المدينة , فلمّا خرج أبو العاص إلى مكّة , بعث رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) زيد بن حارثة ورجلاً من الأنصار , فقال :
(( كونا بمكان
كذا حتّى تمرّ بكما زينب
،
فتأتياني بها ))
.
وقدم أبو العاص إلى مكّة فأرسلها مع
أخيه كنانة بن الرّبيع ، وأركبها في هودج وخرج بها نهاراً , فقالت قريش
: لا
تخرج ابنة محمّد من بيننا على تلك الحال . فخرجوا في طلبها حتّى أدركوها
بذي طوى , فروّعها هبار بن الأسود بالرّمح وهي في الهودج وكانت حاملاً
, فلمّا
رجعت أسقطت , ولمّا رأى كنانة القوم قد أقبلوا , برك ونثل كنانته وأخذ منها
سهماً ووضعه في قوسه , وقال : والله , لا يدنو منها رجل إلاّ وضعت فيه سهماً
. فجاء رؤساء قُريش وفيهم
الصفحة
( 208 )
أبو سُفيان , فقالوا : إنّك لم تصب ، خرجت بها علانية وقد عرفت مصيبتنا ببدر
فيظنّ النّاس إذا خرجت بها جهاراً إنّ ذلك عن ذلّ ووهن أصابنا , ولكن ارجع
،
فإذا هدأت الأصوات وتحدّث النّاس بردّها ،
فاخرج بها سرّاً . فرجع كنانة
،
ثُمّ خرج
بها ليلاً حتّى سلّمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه . فقدما بها على رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) , فأهدر دم هبار لمّا بلغه ذلك , فلمّا كان يوم فتح
مكّة , أتاه هبار مُسلماً , فقبل إسلامه وعفا عنه .
بأبي أنت واُمّي يا رسول
الله
! أهدرت دم هبار ؛ لأنّه روّع ابنتك زينب حتّى أسقطت , فما كنت صانعاً لو
نظرت إلى مَن روّع بناتك يوم كربلاء بعد قتل ولدك الحسين (عليه
السّلام)
حين هجم القوم
على خيام بناتك وعيالاتك ،
وانتهبوا ما فيها وأضرموا فيها النّار ؟!
قال
حميد بن مُسلم : رأيت امرأة من بكر بن وائل كانت مع زوجها في أصحاب عُمر بن
سعد , فلمّا رأت القوم قد اقتحموا على نساء الحسين (عليه السّلام) في فسطاطهن وهم
يسلبونهن , أخذت سيفاً وأقبلت نحو الفسطاط , وقالت : يا آل بكر بن وائل
, أتُسلب
بنات رسول الله ؟! لا حكم إلا لله ، يا لثارات رسول الله ! فاخذها زوجها وردّها
إلى رحله .
وحـائراتٍ أطـار القومُ iiأعينَها رُعباً غداة عليها خدرها iiهجموا
كانتْ بحيث عليها قومُها ضربتْ سـرادقاً أرضه من عزمهم iiحرمُ
فغودرتْ بين أيدي القوم iiحاسرةً تُسبى وليس لها مَن فيه iiتعتصمُ
وأقام أبو العاص بمكّة على شركه ، وزينب عند أبيها
(صلّى الله عليه وآله)
, فخرج أبو العاص قبل فتح مكّة بيسير تاجراً إلى الشّام بمال له
ولقُريش , فلمّا رجع لقيته سريّة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأخذوا
ما معه وهرب , فجاءت السريّة بما أخذت منه إلى رسول الله ، وخرج أبو
العاص حتّى دخل ليلاً على زينب في طلب ماله , فاستجار بها فأجارته ، فلمّا كبّر
رسول الله في صلاة الصبح , صرخت زينب من صفة النّساء : أيّها النّاس
, قد
أجرت أبا العاص بن الرّبيع . فلمّا فرغ النّبي (صلّى الله عليه وآله) من
الصّلاة , دخل
الصفحة
( 209 )
عليها وقال لها : (( اكرمي مثواه واحسني قراه
)) . ثُمّ قال للسريّة الذين أصابوا
مال أبي العاص : (( إنّ هذا الرجل منّا بحيث علمتهم
, فإنْ تُحسنوا وتردّوا عليه
الذي له , فإنّا نحب ذلك , وإنْ أبيتم فهو فيء الله الذي أفاءه عليكم
, وأنتم أحقّ به )) . فقالوا : بل نردّه . فردّوه عليه ثُمّ ذهب إلى مكّة فردّ إلى النّاس
أموالهم ثُمّ أسلم ورجع إلى المدينة ، فردّ النّبي (صلّى الله عليه
وآله) عليه زينب
.
قال أبو العاص : كنت مستأسراً مع رهط من الأنصار
، جزاهم الله
خيراً , فكانوا يؤثرونني بالخبز ويأكلون التمر , والخبزعندهم قليل ، حتّى
إنّ
الرّجل لتقع في يده الكسرة فيدفعها إليّ . وقال الوليد بن المغيرة : كانوا
يركبوننا ويمشون .
وهذه سُنّة الإسلام في الأسير ؛ من إكرامه والرّفق به
وإنْ كان كافراً . ألا قاتل الله عُبيد الله بن زياد فإنّه لم يرفق
باسارى كربلاء ولم يكرمهم , وهم عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
وسادات المُسلمين ، وأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم
تطهيراً , فأمر بزين العابدين (عليه السّلام) إمام أهل البيت ووارث علوم رسول الله
(صلّى الله عليه وآله)
, فَغلّ بغلّ إلى عنقه وبعثه كذلك مع عمّاته وأخواته إلى يزيد بالشّام .
ليـس هـذا لـرسول اللهِ يا اُمّة الطُّغيان والبغي جزا
جزروا جزرَ الأضاحي نسلَهُ ثُمّ ساقوا
أهله سَوق الإما
المجلس السّادس عشر بعد المئة
لمّا كانت وقعة اُحد , جاءت قُريش ومَن طاعها من القبائل
, وخرجوا معهم بالنّساء
يضربن بالطّبول والدّفوف ويُحرّضن على الحرب , فيهن هند زوجة أبي
|
|