المجالسّ السَّنيّة - الجزء الثّاني

 
 

الصفحة ( 210 )

سفيان ، وكان رئيس القوم , وكان المُشركون ثلاثة آلاف فيهم سبعمئة درع ومئتا فرس , والمُسلمون ألفاً وفيهم مئة درع والخيل فرسان , فرجع منهم ثلاثمئة من المُنافقين فبقوا سبعمئة , وكان الفتح في هذه الوقعة وانهزام المُشركين على يد أمير المؤمنين (عليه السّلام) كما في وقعة بدر , وقتل بسيفه صناديد المُشركين ورؤوس الضّلال ، وفرّج الله به الكرب عن وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .

وجعل المُشركون على ميمنتهم خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ، ولواؤهم مع بني عبد الدّار , وكان لواء النّبي (صلّى الله عليه وآله) مع علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ، فلمّا علم أنّ لواء المُشركين مع بني عبد الدّار , أعطى لِواءه رجلاً منهم يُسمّى مُصعب بن عُمير , فلمّا قُتل ردّه إلى علي (عليه السّلام) .

واستقبل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) المدينة وجعل اُحداً ظهره , وجعل وراءه الرّماة ، وكانوا خمسين رجلاً ، وأمر عليهم عبد الله بن جُبير , وقال له : (( اثبت مكانك إنْ كانت لنا أو علينا )) . ولبس (صلّى الله عليه وآله) درعين .

وقتل علي (عليه السّلام) أصحاب اللواء ، فيما رواه ابن الأثير عن أبي رافع , وكانوا سبعة ، منهم طلحة وكان يُسمّى كبش الكتيبة وابنه أبو سعيد وأخوه خالد وعبدٌ لهم يُسمّى صوباً أخذ اللواء لمّا قتل مواليه ، فَقتله علي (عليه السّلام) وانهزم المُشركون ودخل المسلمون عسكرهم ينهبون , فلمّا رأى ذلك بعض الرّماة , اقبلوا يُريدون النّهب وثبتت طائفة مع أميرهم , فنزلت : ( مِنكُم مَن يُرِيدُ الدّنْيَا وَمِنكُم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ )(1) .

فرأى خالد بن الوليد قلّة مَن بقي من الرّماة فحمل عليهم فقتلهم , وحمل على أصحاب النّبي (صلّى الله عليه وآله) من خلفهم , فلمّا رأى المُشركون خيلهم تُقاتل , حملوا على المُسلمين فهزموهم .

قال ابن الأثير : ورجع رجل من الصّحابة وجماعة من هزيمتهم بعد ثلاثة أيام , فقال لهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( لقد ذهبتم فيها عريضة )) .

وباشر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الحرب بنفسه ، وجُرح وسقط لوجهه وكُسِرَت رُباعيته : أي سنّه . وثبت معه علي (عليه السّلام) يذبّ عنه ويُقاتل بين يديه ، وكان رجوع النّاس من هزيمتهم إلى النّبي (صلّى الله عليه وآله) بثبات علي ومقامه ، وتوجّه العتاب من الله تعالى إلى عامّتهم ؛ لهزيمتهم سوى علي (عليه السّلام) , وذلك قوله تعالى : ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى‏ أَحَدٍ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلى‏ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا

ـــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران / 152 .

الصفحة ( 211 )

أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )(1) وقوله تعالى : ( إِنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنكُمْ يَوْمَ التّقَى الْجَمْعَانِ إِنّمَا اسْتَزَلّهُمُ الشّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ )(2) .

قال ابن الأثير : فأبصر النّبي (صلّى الله عليه وآله) جماعة من المُشركين , فقال لعلي : (( احمل عليهم )) . فحمل عليهم وفرّقهم وقتل فيهم ، ثُمّ رأى جماعة اُخرى فقال له : (( احمل عليهم )) . فحمل عليهم وفرّقهم وقتل فيهم .

هذه هي المواساة ولا تقصر عنها مواساة أبي الفضل العبّاس (عليه السّلام) يوم كربلاء لأخيه الحسين (عليه السّلام) , وكان صاحب لواء الحسين (عليه السّلام) كما كان أميرالمؤمنين (عليه السّلام) صاحب لواء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , فخرج العبّاس يطلب الماء وحمل على القوم , وهو يقول :

لا أرهب الموتَ إذا المـوتُ رقى  حتّى اُوارى في المصاليت لُقا

نفسي لسبط المُصطفى الطّهر وقا  إنّي أنا العبّاس أغـدو بالسّقا

ولا أخاف الشّر يوم المُلتقى

فضربه زيد بن ورقاء على يمينه فقطعها , فأخذ السّيف بشماله فضربه حكيم بن الطُفيل على شماله فقطعها , وضربه آخر بعمود من حديد فقتله , فبكى الحسين (عليه السّلام) لِقتله بُكاءً شديداً .

واذكر أبا الفضل هل تُنسى فضائلُهُ  في كربلا حيـن جدّ الأمـرُ والتبسا

وآسـى أخـاه وفـاداه بمُهجـتِهِ  وخاض في غمرات الموت مُنغمسـا

 

المجلس السّابع عشر بعد المئة

في الكامل لابن الأثير : لمّا كان يوم اُحد وانهزم المُسلمون بمخالفة الرّماة أمر

ـــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران / 153 .
(2) سورة آل عمران / 155 .

الصفحة ( 212 )

رسول الله ، كسرت رباعية رسول الله السّفلى ، والرّباعية : هي السّن . وشقّت شفته وجُرح في وجنته ، ولمّا جُرح رسول الله , جعل الدّم يسيل على وجهه وهو يمسحه , ويقول : (( كيف يفلح قوم خضّبوا وجه نبيهم بالدّم وهو يدعوهم إلى الله )) .

وترّس أبو دجانة رسول الله بنفسه ـ يعني جعل نفسه كالتّرس له ـ فكان يقع النّبل في ظهره وهو منحن عليه ، كما ترّس سعيد بن عبد الله الحنفي الحسين (عليه السّلام) يوم عاشوراء , ووقف يقيه من النّبال بنفسه ، ما زال ولا تخطّى , فما زال يرمى بالنّبل حتّى سقط إلى الأرض وهو يقول : اللهمّ , العنهم لعن عاد وثمود . اللهمّ , أبلغ نبيك عنّي السّلام وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح , فإنّي أردت ثوابك في نصر ذرّيّة نبيك . ثُمّ قضى نحبه رضوان الله عليه , فوجد فيه ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السّيوف وطعن الرّماح .

وكذلك فعل عمرو بن قرظة الأنصاري , فإنّه كان لا يأتي إلى الحسين (عليه السّلام) سهم إلاّ اتّقاه بيديه ، ولا سيف إلاّ تلقّاه بمُهجته , فلم يكن يصل إلى الحسين (عليه السّلام) سوء حتّى اُثخن بالجراح , فالتفت إلى الحسين (عليه السّلام) وقال : يا بن رسول الله أوَفيت ؟ قال : (( نعم , أنت أمامي في الجنّة , فاقرأ رسول الله عنّي السّلام وأعلمه أنّي في الأثر )) . فقاتل حتّى قُتل رضوان الله عليه .

واقتدى بهما في ذلك حنظلة بن أسعد الشّبامي , فإنّه جاء فوقف بين يدي الحسين (عليه السّلام) يقيه السّهام والرّماح والسّيوف بوجهه ونحره , ثُمّ تقدّم فقاتل حتّى قُتل .

 وقاتل رسول الله يوم اُحد قتالاً شديداً , فرمى بالنّبل حتّى فني نبله ، وانكسرت سِيَة قوسه وانقطع وتره , ولما جُرح رسول الله , جعل علي (عليه السّلام) ينقل له الماء في درقته من المهراس ، والمهراس : اسم عينٍ باُحد . ويغسل الدّم فلم ينقطع , فأتت فاطمة (عليها السّلام) تُعانقه وتبكي .

فياليت عليّاً (عليه السّلام) لا غاب عن ولده الحسين (عليه السّلام) يوم كربلاء ؛ ليدفع عنه عسكر ابن سعد وينقل له الماء بدرقته من الفرات حين حال الأعداء بينه وبين الماء , كما نقل الماء بدرقته إلى رسول الله من المهراس .

وياليت فاطمة الزّهراء (عليه السّلام) التي بكت من جرح واحد أصاب أباها رسول الله , نظرت إلى ولدها وفلذة كبدها الحسين (عليه السّلام) حين


الصفحة ( 213 )

أصابه اثنان وسبعون جراحة ما بين رمية وطعنة وضربة , فكانت تُضمّد جراحاته كما ضمّدت جرح أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .

وما أدري ما كان يجري على فاطمة لو نظرت إلى الجرح الذي في صدر ولدها الحسين (عليه السّلام) ؟! وذلك حين رماه خولي بن يزيد بسهم مُحدّد مسموم له ثلاثُ شعب فوقع على صدره , فقال : (( بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله صلى الله عليه وآله )) . ثُمّ أخذ السّهم فأخرجه ، فانبعث الدّم كأنّه ميزاب .

أفـاطم لـو خِلت الحسينَ iiمُجدّلاً  وقـد مـات عطشاناً بشطِّ iiفُراتِ
إذاً لـلطمت الـخدّ فـاطمُ 
iiعندهُ  وأجريتِ دمعَ العينِ في iiالوجناتِ
أفاطم قومي يابنة الخير و اندُبي  نـجومَ سـماوات بـأرض 
iiفلاةِ

ولمّا رجع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى المدينة , استقبلته فاطمة (عليها السّلام) ومعها إناء فيه ماء فغسل وجهه(1) , ولحقه أمير المؤمنين (عليه السّلام) وقد خضب الدّم يده إلى كتفه ومعه ذو الفقار ، فناوله فاطمة (عليها السّلام) ، وقال لها : (( خُذي هذا السّيف فقد صدقني اليوم )) . وأنشأ يقول :

أفـاطمُ هـاك السّيفَ غيرَ ذميمِ  فـلـستُ بـرعـديدٍ ولا iiبـمليمِ
لعُمري لقد اعذرت في نصر أحمدٍ  وطـاعـةِ ربٍّ بـالعباد 
iiعـليمِ
أمـيطي دمـاءَ الـقوم عنه 
iiفإنّه  سـقى آل عـبد الدّار كأس iiحميم
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذه رواية المُفيد , وهي تدلّ على أنّ فاطمة (عليها السّلام) كانت باقية بالمدينة لم تخرج إلى اُحد , وهي الأقرب إلى الاعتبار . وما تقدّم من أنّها أتت وجعلت تُعانقه وتبكي وأحرقت حصيراً . . . إلى آخره , يدلّ على أنّها كانت باُحد ، وهي رواية ابن الأثير , ويجوز أنْ تكون خرجت إلى اُحد ثُمّ رجعت واستقبلت أباها حين رجوعه , والله أعلم .

الصفحة ( 214 )

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( خُذيه يا فاطمة , فقد أدّى بعلك ما عليه , وقد قَتل الله بسيفهِ صناديد قُريش )) .

كأنّي بفاطمة (عليها السّلام) لمّا أعطاها أمير المؤمنين (عليه السّلام) سيفه ذا الفقار ، وهو مُخضّب بالدّماء ، تناولته وجعلت تغسل الدّماء عنه , وهي فرحة مسرورة حين رأت ابن عمّها قد أقبل سالماً ظافراً منصوراً على أعدائه ، يحملُ اللواء بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والجيش من خلفه وقد قتل الله بسيفه صناديد المُشركين , ولكن أين رجوع أمير المؤمنين(عليه السّلام) من حرب اُحد إلى المدينة بتلك الحالة وخطابه لفاطمة (عليها السّلام) , من رجوع ولده الحسين (عليه السّلام) يوم كربلاء من حرب الأعداء إلى الخيمة وقد خضب الدّم سيفه ويده ، وخطابه لزينب بنت فاطمة (عليهما السّلام) ؟! وذلك لمّا قُتلت أنصاره وأهل بيته ، وبقي وحيداً فريداً لا ناصر له ولا مُعين , فجعل ينادي : (( هل من ذابٍّ يذبُّ عن حرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؟ هل من مُوحّدٍ يخاف الله فينا ؟ هل من مُغيث يرجو الله في إغاثتنا ؟ )) . ثُمّ تقدّم إلى باب الخيمة , وقال لاُخته زينب : (( ناوليني ولدي الصّغير )) . فناولته ابنه عبد الله ، فأومى إليه ليُقبّله , فرماه حرملة بن كاهل بسهمٍ فوقع في نحره فذبحه , فقال (عليه السّلام) لزينب : (( خُذيه )) .

وفاطمة (عليها السّلام) وإنْ قُتل يوم اُحد عمُّ أبيها حمزة بن عبد المطّلب , لكن هوّن عليها مصاب حمزة سلامة أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وبعلها علي ؛ أمّا زينب (عليها السّلام) فقد شاهدت قتل أخيها الحسين (عليه السّلام) وباقي إخوتها إلى تمام سبعة عشر رجلاً من أهل بيتها , ما بين كهول وشبّان ما لهم على وجه الأرض شبيه , ولم يبقَ عندها غير العليل زين العابدين (عليه السّلام) أسير ابن سعد وابن مرجانة وابن هند .

مُصيبةٌ بكتْ السّبعُ الشّداد لها  دماً ورزءٌ عظيمٌ غير محتملِ

 

المجلس الثّامن عشر بعد المئة 

لمّا كان يوم اُحد ، دعا جبير بن مطعم غلامه وحشي بن حرب , وكان حبشيّاً


الصفحة ( 215 )

يقذف بالحربة قلّما يخطئ , فقال له : اخرج مع النّاس ، فإنْ قَتلت عمّ محمّد ـ يعني حمزة ـ بعمّي طعيمة بن عدي ، فأنت عتيق .

وكانت هند جعلت لوحشي جعلاً على أنْ يقتل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، أو أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، أو حمزة , فقال : أمّا محمّد فلا حيلة لي فيه ؛ لأنّ أصحابه يطيفون به ؛ وأمّا علي فإنّه إذا قاتل كان أحذر من الذّئب ؛ وأمّا حمزة فإنّي أطمع فيه ؛ لأنّه إذا غضب لم يبصر بين يديه . وكانت هند كُلّما مرّت بوحشي أو مرّ بها , قالتّ له : اشف واشتف .

قال وحشي : إنّي والله , لأنظر إلى حمزة وهو يهدّ النّاس بسيفه ، ما يلقى شيئاً يمرّ به إلاّ قتله . قال : فهززت حربتي ودفعتها عليه ، فوقعت في أسفل بطنه حتّى خرجت من بين رجليه , وأقبل نحوي فغُلب فوقع ، فأمهلته حتّى مات فأخذت حربتي ثُمّ تنحّيت إلى العسكر .

 قال ابن الأثير : ووقعت هند وصواحباتها على القتلى يُمثّلن بهم , واتّخذت هند من آذان الرّجال وآنافهم خلاخل وقلائد , وأعطت خلاخلها وقلائدها وحشيّاً , وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أنْ تسيغها فلفظتها , وجدعت أنفه واُذنيه ومثّلت به .

ووجد حمزة ببطن الوادي قد بُقر بطنه عن كبده ومُثّل به , فحين رآه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , لم يرَ منظراً كان أوجع لقلبه منه , فقال : (( لولا أنْ تحزن صفيّة ـ وهي اُخت حمزة ـ أو تكون سنّة بعدي , لتركته حتّى يكون في أجواف السّباع وحواصل الطّير , ولئن أظهرني الله على قُريش , لاُمثّلن بثلاثين رَجُلاً منهم )) . وقال المُسلمون : لنُمثّلن بهم مثلة لم يُمثّلها أحد من العرب . فأنزل الله في ذلك : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ )(1) . فعفا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وصبر ونهى عن المُثلة ولو بالكلب العقور .

ألا قاتل الله أهل الكوفة ؛ فإنّه لم يكفهم قتل أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) بن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتّى مثّلوا به وبأصحابه ؛ قطعوا الرّؤوس وشالوها على رؤوس الرّماح من بلد إلى بلد , وداسوا بحوافر خيلهم جسد الحسين (عليه السّلام) حتّى هشّمت الخيل أضلاعه ، وطحنت جناجن صدره .

لم يكفِ أعداهُ مَثْلُ القتلِ فابتَدرتْ  تُجري على جسمهِ الجُردَ المحاضيرا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النّحَل / 126 .

الصفحة ( 216 )

وأقبلت صفيّة بنت عبد المطّلب اُخت حمزة , فأمر النّبي (صلّى الله عليه وآله) ابنها الزّبير أنْ يردّها ؛ لئلا ترى ما بأخيها حمزة .

 بأبي صاحب الشّفقة والرّأفة ! ما أحب أنْ تنظر صفيّة إلى أخيها حمزة وهو مقتول وقد مُثّل به ؛ خوفاً أنْ يشتّد حزنها وبكاؤها ؛ لأنّها امرأة ، ومن شأن النّساء الجزع ورقّة القلب , وأهل الكوفة مرّوا ببنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على مصرع الحسين (عليه السّلام) وأصحابه , فلمّا نظر النّسوة إلى القتلى وهم جثث بلا رؤوس , صحن وضربن وجوههن , وجعلت زينب تُنادي : يا محمّداه ! هذا حسين مرملٌ بالدّماء ، مُقطّع الأعضاء ، وبناتك سبايا . فأبكت كُلّ عدو وصديق .

لـو انّ رسـولَ الله يبعث iiنظرةً  لـردّت إلى إنسان عينِ iiمُؤرقِ
وهـان عـليه يـومُ حمزةَ 
iiعمّه  بـيوم حُسينٍ وهو أعظم ما iiلقي
ونال شجىً من زينبٍ لم ينله 
iiمن  صـفيّة إذ جـادت بدمعٍ iiمرقرقِ
فكمْ بين مَن للخدر عادت مصونةً  ومـَن سيّروها في السّبايا 
iiالجلّق

وأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بدفن الشّهداء ، فكان كُلمّا اُتي إليه بشهيد جعل حمزة معه وصلى عليهما . وفي رواية : إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خصّه بسبعين تكبيرة .

فياليت رسول الله كان حاضراً يوم استشهد ولده الحسين (عليه السّلام) وأصحابه , فيُصلي عليه وعلى أصحابه ويأمر بدفنهم حتّى لا يبقوا ثلاثة أيام بلا دفن , وهم مطروحون على الرّمضاء مجزّرون كالاضاحي , جثث بلا رؤوس حتّى جاء بنو أسد وصلّوا عليهم ودفنوهم .

مجرّدين على الرّمضاء قد لبسوا  من المهـابة أبـراداً لهـا قشبا

مُضرّجين بمحمرّ النّجـيـع بنى  نبل العدى والقنا من فوقهم قببا

ولمّا رجع رسول الله إلى المدينة , مرّ بدارٍ من دور الأنصار ، فسمع البكاء والنّوائح , فذرفت عيناه بالبكاء وقال : (( لكن حمزة لا بواكي له )) .

فرجع سعد بن معاذ إلى دار بني عبد الأشهل فأمر نساءهم أنْ يذهبن فيبكين على حمزة , ويُقال : إنّ أهل


الصفحة ( 217 )

المدينة إلى اليوم إذا أرادوا البكاء على ميت بدؤوا بحمزة .

يُستفاد من هذا رجحان البُكاء على الشّهداء , لا سيّما شهيد كربلاء أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) الذّي لو كان رسول الله حيّاً لكان هو المُعزّى به والباكي عليه , وقد قال الحسين (عليه السّلام) : (( أنا قتيل العبرة ، لا يذكرني مؤمن إلاّ استعبر )) .

تبكيك عيني لا لأجل مثوبةٍ  لكنّما عيني لأجلك باكيـةْ

تبتلُّ منكـم كربلا بدمٍ ولا  تبتلُّ منّي بالدّموع الجارية

ولمّا رجع رسول الله إلى المدينة لقيته حمنة ابنة جحش , وكان قد قُتل زوجها وأخوها وخالها مع رسول الله , فنُعي لها أخاها عبد الله فاسترجعت واستغفرت له , ثُمّ نُعي لها خالها حمزة بن عبد المطّلب فاستغفرت له , ثُمّ نُعى لها زوجها مصعب بن عمير , فولولت وصاحت ، فقال : (( إنّ زوج المرأة منها لبمكان )) .

 إذاً لا لوم على الرباب ، زوجة أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) ، التّي لم تستظل بعده بسقف إلى أنْ ماتت بعد سنة حزناً وكمداً عليه .

فخذ لك منّي عهد صدق شهوده الـ  ـملائـك والله الشّهيـد حسيبُ

بأنّـيَ بعـد البيـن لا آلف الكـرى  ولا السّن منّي إنْ ضحكت شنيبُ

  

المجلس التّاسع عشر بعد المئة

لمّا كانت وقعة الخندق ـ وتُسمّى وقعة الأحزاب ؛ لتحزّب القبائل فيها على حرب رسول الله ـ أقبلت قُريش وقائدها أبو سفيان ، وأقبلت كنانة وأهل تهامة


الصفحة ( 218 )

وغطفان ومن تبعها من أهل نجد , واتفق المشركون مع اليهود وجاؤوا ، كما قال تعالى : ( إِذْ جَآءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ مّا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ الاّ غُرُوراً ) إلى قوله : ( وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً )(1) .

فتوجّه اللوم والتّقريع والعتاب إلى النّاس ولم ينجُ منه إلاّ علي بن أبي طالب (عليه السّلام) , فأشار سلمان الفارسي بحفر خندق حول المدينة فحُفر , وعمل فيه رسول الله بيده فكان يحفر وعلي ينقل التّراب , وفرغ رسول الله من حفر الخندق قبل مجيء قريش بثلاثة أيام , وأقبلت الأحزاب وكانوا عشرة آلاف ، فهال المسلمين أمرهم , ونزلوا بجانب الخندق ، وكان المسلمون ثلاثة آلاف .

قال الواقدي وغيره : وخرج عمرو بن عبد ود ومعه جماعة ، شاهراً نفسه معلماً مدلاً بشجاعته وبأسه , وقد كان شهد وقعة بدر وجرح ونجا هارباً على قدميه , فلمّا رأوا الخندق , قالوا : إنّ هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها , ونظنّها من الفارسي الذي معه ، يعنون سلمان .

ثُمّ أتوا إلى مكان ضيّق من الخندق فضربوا خيلهم واقتحموه , ورسول الله جالس وأصحابه قيام على رأسه , فتقدم عمرو ودعا إلى البراز , فقال رسول الله : (( مَن لعمرو وأضمن له على الله الجنّة ؟ )) . فقام علي (عليه السّلام) فقال : (( أنا له يا رسول الله )) . قال : (( اجلس )) . حتّى قالها ثلاث , وفي كُلّ مرّة يقوم علي (عليه السّلام) والقوم ناكسوا رؤوسهم كأنّ على رؤوسهم الطّير , فقال عمرو : أيّها النّاس ، إنّكم تزعمون أنّ قتلاكم في الجنّة وقتلانا في النّار , أفما يحب أحدكم أنْ يقدم على الجنّة أو يقدم عدواً له إلى النّار ؟ فلم يقم إليه أحد إلاّ علي (عليه السّلام) , فقال له النّبي : (( يا علي , هذا عمرو بن عبد ود ، فارس يليل )) : وهو اسم وادٍ كانت له فيه وقعة مشهورة . فقال : (( وأنا علي بن أبي طالب )) .

فجعل عمرو يجول بفرسه مقبلاً ومدبراً , وجاءت عظماء الأحزاب فوقفت من وراء الخندق ومدّت أعناقها تنظر , فلمّا رأى عمرو أنّ أحداً لا يجيبه , قال :

ولـقد بـُححت من النّدا  ء بجمعكمْ هل من مبارزْ

ــــــــــــــــــــ
(1) سورة الأحزاب / 10 ـ 25 .

الصفحة ( 219 )

ووقـفت مُذ جبُن المشيـ  ـعُ موقف القرن المناجزْ
إنـّي كـذلك لـم 
iiأزلْ  مـتسرعاً نحو الهزاهزْ
إنّ الشّجاعة في الفتى  والجودَ من خيَر 
iiالغرائزْ

فقام علي (عليه السّلام) وقال : (( يا رسول الله , ائذن لي في مبارزته )) . فأذن له ثُمّ قال : (( إدن منّي يا علي )) . فدنا منه ، فنزع عمامته وعمّمه بها ودفع إليه سيفه ذا الفقار , وقال : (( اللهمَّ , احفظه من بين يديه ومن خلفه , وعن يمينه وعن شماله , ومن فوقه و من تحته )) . ومازال رافعاً يديه ورأسه نحو السّماء داعياً ربّه , قائلاً : (( اللهمَّ , إنّك أخذت منّي عبيدة يوم بدر ، وحمزة يوم اُحد ، فاحفظ عليَّ اليوم عليّاً . رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ )) . وقال : (( برز الإيمان كلُّه إلى الشّرك كلِّه )) .

فمرّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) يهرول في مشيه , وهو يقول مجيباً لعمرو :

لا تـعـجلنَّ فـقـدْ iiأتــا  ك مجيبُ صوتك غير عاجزْ
ذو نــيّـةٍ 
iiوبـصـيـرةٍ  يـرجو بـذاك نـجاة iiفائزْ
إنّــي لآمــلُ أنْ 
iiاُقـيـ  ـم عـليك نـائحةَ الـجنائزْ
مـن ضـربةٍ فـوهاءَ 
iiيبـ  ـقـى ذكـرها عند iiالهزاهز

فقال له عمرو : مَن أنت ؟ قال : (( أنا علي بن أبي طالب )) . قال : إنّ أباك كان لي نديماً وصديقاً وأنا أكره أنْ اقتلك . قال علي (عليه السّلام) : (( ولكنني اُحب أنْ أقتلك ما دمت آبياً للحقّ )) . فقال عمرو : يابن أخي , إنّي لأكره أنْ أقتل الرّجل الكريم مثلك , فارجع وراءك خير لك .

قال ابن أبي الحديد : كان شيخنا أبو الخير يقول : والله , ما أمره بالرّجوع ابقاءً عليه بل خوفاً منه ؛ فقد عرف قتلاه ببدر واُحد وعلم أنّه إنْ ناهضه قتله , فاستحيا أنْ يظهر الفشل , فأظهر الإبقاء والرّعاء وأنّه لكاذب .

وفي رواية أنّه قال : ما خاف ابن عمّك حين بعثك إليّ أنْ أختطفك برمحي فاتركك شائلاً بين السّماء والأرض ، لا حيّاً ولا ميتاً ؟ فقال له علي (عليه السّلام) : (( قد علم ابن عمّي إنّك إنْ قتلتني


الصفحة ( 220 )

فأنا في الجنّة وأنت في النّار , وإنْ قتلتك فأنت في النّار وأنا في الجنّة )) . فقال عمرو : وكلتاهما لك تلك , إذاً قسمة ضيزى . فقال علي (عليه السّلام) : (( دع هذا يا عمرو , إنّك كنت تقول لا يعرض عليّ أحدٌ ثلاث خصال إلاّ أجبته ولو إلى واحدة , وأنا أعرض عليك ثلاث خصال )) . قال : هات . قال : (( الاُولى : أنْ تشهد أنْ لا إله إلا الله وأنّ محمّداً رسول الله صلى الله عليه وآله )) . قال : نحِّ عن هذا , وما الثّانية ؟ قال : (( أنْ تردّ هذا الجيش عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , فإنْ يك صادقاً فأنتم أعلى به عيناً , وإنْ يك كاذباً كفاكم النّاس أمره )) . قال : إذاً تتحدّث نساء قريش أنّي جبنت وخذلت قوماً رأسوني عليهم , وما الثّالثة ؟ قال : (( أنْ تنزل إليّ فأنت راكب وأنا راجل )) . فنزل عن فرسه وعقره , وقال : هذه خصلة ما ظننت أنّ أحداً من العرب يسومني عليها .

ثُمّ تجاولا فثارت لهما غبرة وارتهما عن العيون ، إلى أنْ سمع النّاس التّكبير عالياً من تحت الغبرة فعلموا أنّ عليّاً قتله , وأنجلت الغبرة فإذا أمير المؤمنين (عليه السّلام) قد قتله ، وهو ينشد :

أنا عليٌ وابنُ عبد المطلبْ  الموتُ خيرٌ للفتى من الهربْ

وفرّ أصحابه فعبروا الخندق إلاّ رجلاً منهم يُسمى نوفلاً لحقه علي (عليه السّلام) فقتله في الخندق , ثُمّ وضع الرّأس بين يدي النّبي (صلّى الله عليه وآله) , فقال رسول الله : (( اليوم نغزوهم ولا يغزوننا )) . وقال (صلّى الله عليه وآله) : (( ضربة علي يوم الخندق تعدل عمل الثّقلين إلى يوم القيامة )) . وانهزم المشركون بقتل عمرو وكفى الله المؤمنين القتال بعلي (عليه السّلام) .

قال أبو بكر بن عياش : لقد ضرب علي (عليه السّلام) ضربة ما كان في الإسلام أيمن منها : يعني ضربة عمرو بن عبد ود . ولقد ضُرب (عليه السّلام) ضربة ما كان في الإسلام أشأم منها : يعني ضربة ابن ملجم لعنه الله . فضربة علي يوم الخندق قد أعزّت الإسلام وأرست قواعد الدّين , وردّت الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً , وكفى الله بها المؤمنين القتال . وضربة ابن ملجم رأس علي (عليه السّلام) , أذلّت الإسلام وهدّمت قواعد الدّين ، ومهدّت مُلك بني اُميّة الذين جرعوا آل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الغصص , ودسّوا السّم إلى الحسن بن علي (عليه السّلام) حتّى تقيّأ كبده في الطّست قطعة قطعة , وجهّزوا


الصفحة ( 221 )

الجيوش لقتال الحسين (عليه السّلام) حتّى قُتل غريباً عطشان ظامياً وحيداً فريداً بأرض كرب وبلاء .

وجرّعـتْ السّبـطـيـن بعد أبيهما  كؤوسَ شجى أفصحن عن كامن النّصبِ

وأظمتْ على الماء الحسينَ وأوردتْ  دماءَ وريـديـه سيـوفُ بنـي حـربِ

 

المجلس العشرون بعد المئة 

لمّا قتل علي (عليه السّلام) عمرو بن عبد ود يوم الخندق , أقبل نحو رسول الله ووجهه يتهلل , فقال له عمر بن الخطاب : هلا سلبته درعه , فإنّه ليس في العرب درع مثلها ؟ فقال أمير المؤمنين : (( إنّي استحييت أنْ أكشف سوأة ابن عمّي )) .

 قاتل الله أهل الكوفة فإنّهم لم يستحوا من الله ورسوله وأهل بيته يوم كربلاء , فسلبوا الحسين (عليه السّلام) درعه وثيابه , وتركوه مجرّداً على وجه الصّعيد !

عريانُ يكسوه الصّعيدُ ملابساً  أفديه مسلوبَ الرّداء مسربلا

* * *

متوسّداً حرّ الصّعيد مجرّداً  يُكسى بثوب جلالةٍ وبهاءِ

ولمّا نُعي عمرو بن عبد ود إلى اُخته , قالت : مَن ذا الذي اجترأ عليه ؟ فقالوا : علي بن أبي طالب . فقالت : لا رقأت دمعتي أنْ هرقتها عليه ؛ قتل الأبطال وبارز الأقران وكانت منيّته على يد كفو كريم من قومه , ما سمعت بأفخر من هذا يابن عامر . ثُمّ أنشأت تقول :


الصفحة ( 222 )

لـو كان قاتلَ عمرو غيرُ iiقاتلهِ  لـكنت أبـكي عـليه آخر iiالأبدِ
لـكنّ قـاتله مَـن لا يُـعاب بهِ  مـَن كان يُدعى أبوه بيضةَ 
iiالبلدِ
من هاشمٍ في ذراها وهي صاعدةٌ  إلى السّماء تميت النّاس 
iiبالحسدِ
قـومٌ أبى الله إلاّ أنْ يكون 
iiلهمْ  كـرامةُ الـدّين والـدّنيا بلا iiلددِ

وقالتّ أيضاً في قتل أخيها وذكر علي بن أبي طالب (عليه السّلام) :

أسدان في ضيق المجال تصاولا  وكـلاهما كـفوٌ كـريمٌ بـاسلُ
فـتخالسا مـهجَ النّفوس كلاهما  وسـطَ الـمجال مخاتلٌ 
iiومقاتلُ
وكـلاهما حضر القراعَ 
iiحفيظةً  لـم يـثنه عن ذاك شغلٌ شاغلُ
فـاذهبْ عليٌ فما ظفرت بمثلهِ  قـولٌ سـديدٌ لـيس فيه تحاملُ
والثّأرُ عـندي يا عليُّ 
iiفليتني  أدركـتُهُ والـعقلُ مـنّيَ iiكاملُ
ذلّـت قـريشٌ بعد مقتل 
iiفارسٍ  فـالذّل مـُهلكها وخزيٌ iiشاملُ

ولا تلام اُخت عمرو إذا لم تبكي على أخيها إذا كان القاتل مثل علي بن أبي طالب (عليه السّلام) , كما لا تُلام زينب بنت أمير المؤمنين (عليه السّلام) إذا بكت على أخيها مدى الليالي والأيام إذا كان القاتل مثل شمر بن ذي الجوشن .

قُلْ للمقادير قد أبدعتِ حادثةً  غريبةَ الشّكل ما كانت ولم تكنِ

أمثلَ شمـرٍ أذلّ الله جبهتـَهُ  يلقى حُسيناً بذاك المُلتقى الخشنِ

 

المجلس الواحد والعشرون بعد المئة

لمّا كانت غزاة بني قريظة ـ وهم قوم من اليهود كان بينهم وبين المسلمين مهادنة ـ


الصفحة ( 223 )

واتفق يوم الخندق جماعة من يهود بني النّضير مع قريش على حرب النّبي , وجاء منهم حيي بن أخطب إلى كعب بن أسد ـ سيّد بني قريظة ـ فطلب منه نقض العهد مع النّبي ومعاونته على حربه فأبى , فلم يزل به حتّى رضي فجاء نعيم بن مسعود إلى النّبي , فقال : إنّي أسلمت ولم يعلم بي قومي فمرني بما شئت . قال : (( خذّل عنّا , فإنّ الحرب خدعة )) .

فجاء إلى بني قريظة وكانوا ندماءه في الجاهلية , فقال : قد عرفتم حبّي لكم . قالوا : لست عندنا بمتّهم . قال : قد ظاهرتم قريشاً على حرب محمّد ولستم مثلهم ، أنتم أهل هذه البلاد وهم غرباء , فإنْ غلبهم محمّد , لحقوا ببلادهم وتركوكم , فلا تقاتلوا معهم حتّى يعطوكم رهينة . ثُمّ جاء إلى قريش وقال : بلغني أنّ بني قريظة ندموا وبعثوا إلى محمّد ، هل يرضيك أنْ نأخذ من قريش رجالاً وندفعهم إليك فتضرب أعناقهم ؟ فإنْ طلبت قريظة رهناً فلا تعطوها . فلمّا طلبت قريظة منهم الرّهن , قالوا : صدق نعيم . وأجابوهم : لا ندفع إليكم رجلاً واحداً . فقالت قريظة : الذي قاله نعيم حقٌّ .

فلمّا دخل النّبي المدينة بعد الخندق , نزل عليه جبرائيل وقال له : إنّ الملائكة لم تضع السّلاح ، والله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة .

فأمر , فنودي : أنْ لا يُصلّي أحدٌ العصر إلاّ في بني قريظة . وقدم عليٌّ (عليه السّلام) برايته في ثلاثين رجلاً وتلاحق به النّاس , فلمّا رأوه جعلوا يقولون : جاءكم قاتل عمرو ! أقبل إليكم قاتل عمرو ! وألقى الله الرّعب في قلوبهم , وحاصرهم النّبي خمساً وعشرين ليلة , فطلبوا النّزول على حكم سعد بن معاذ ، وكان سعد جاءه سهم يوم الخندق فقطع أكحله : وهو عرق مخصوص إذا قطع لا يمكن أنْ يعيش صاحبه . فدعا الله تعالى أنْ لا يميته حتّى يقرّ عينه من بني قريظة فانقطع الدّم , فحكم فيهم بقتل الرّجال وسبي الذّراري والنّساء وقسمة الأموال . فقال النّبي : (( لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات )) . ثُمّ خرج منه الدّم حتّى مات . فقتلوا بالمدينة وكانوا تسعمئة ، وكان منهم حيي بن أخطب ؛ فلمّا رأى أنّ أميرالمؤمنين (عليه السّلام) قاتله قال : قتلة شريفة بيد شريف .

ممّا يهوّن القتل على النّفس أنْ يكون القاتل رجلاً شريفاً ؛ فلذلك قال حيي بن أخطب : قتلة شريفة بيد شريف . وكما أنّه يزيد في المصيبة , أنْ


الصفحة ( 224 )

يكون القاتلَ للرجل العظيم الشّريف رجلٌ حقير خسيس , كشمر بن ذي الجوشن الضّباني قاتل مولانا الحسين (عليه السّلام) .

وإنّي أرى الأيام شتّى صروفها  وأعظمُها تحكيمُ عبدٍ بسيّدِ

وقال حيي بن أخطب لعلي (عليه السّلام) لمّا أراد قتله : لا تسلبني حلّتي . قال : (( هي أهون عليَّ من ذلك )) .

كان القتيل يحافظ كثيراً على أنْ لا تسلب منه ثيابه بعد قتله ؛ ولذلك لمّا أيقن مولانا الحسين (عليه السّلام) بالقتل , طلب ثوباً عتيقاً لا يرغب فيه أحد ، فخرّقه ولبسه تحت ثيابه ؛ لئلا يُجرّد منه . فلمّا قُتل (عليه السّلام) , جرّدوه منه وتركوه عرياناً على وجه الصّعيد .

لله ملقىً على الرّمضاء غصّ بهِ  فـمُّ الرّدى بعد أقدامٍ iiوتشميرِ
تـحنو عليه الرّبى ظلا ً
iiوتسترُهُ  عـن النّواظير أذيالُ iiالأعاصيرِ
تهابه الوحشُ أنْ تدنو لمصرعِهِ  وقـد أقـام ثـلاثاً غيرَ 
iiمقبورِ

 

المجلس الثّاني والعشرون بعد المئة  

لمّا كانت وقعة خيبر ، بعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) رجلاً من المهاجرين , ثُمّ رجع منهزماً يؤنّب مَن معه ويؤنبونه . فلمّا كان الغد , أعطاها رجلاً آخر , فسار بها غير بعيد ثُمّ رجع يُجبّن أصحابه ويُجبنونه , فغضب النّبي وقال : (( لأعطينّ الرّاية غداً رجلاً يحبّ اللهَ ورسولَه ويُحبّه اللهُ ورسولُه , كرّاراً غيرَ فرّارٍ يأخذها بحقّها , لا يرجع حتّى يفتح الله على يديه )) .

فتطاولت إليها الأعناق , فلمّا أصبح قال : (( ادعوا لي عليّاً )) . فجاء علي بن أبي طالب .


الصفحة ( 225 )

وقال ساُعطي الرّايةَ اليوم صارماً  كـميّاً مـحباً لـلرسول iiمـواليا
يـُحـبُّ إلـهي والإلـهُ 
iiيـُحبّهُ  بـه يـفتح الله الحصونَ iiالأوابيا
فـأصفى بـها دون الـبريةِ كلّها  عـليّاً وسـمّاه الـوزير 
iiالمؤاخيا

ثُمّ أعطاه الرّاية ، فخرج علي (عليه السّلام) يُهرول بها هرولة حتّى ركزها في أصل الحصن , فخرج إليه مرحب في عامّة اليهود , وهو يرتجز ويقول :

قد علمت خيبرُ أنّي مرحبُ  شاكي السّلاح بطلٌ مجرّبُ

أطعن أحياناً وحيناً أضربُ  إذا الليـوث أقبلـت تلتهبُ

فأجابه أمير المؤمنين (عليه السّلام) يقول :

 أنا الـذي سمّتنـي اُمـّي حيـدرهْ  كليثِ غابـاتٍ شديدٍ قسورهْ

على الأعادي مثلُ ريحٍ صرصرهْ  أكيلكم بالسّيف كيل السّندرهْ

أضرب بالسّيف رقاب الكفرهْ

فاختلفا ضربتين فضربه علي (عليه السّلام) فخرّ صريعاً ، وانهزمت اليهود ودخلوا الحصن وأغلقوا الباب , فجاء أمير المؤمنين (عليه السّلام) فاجتذب الباب حتّى قلعه فألقاه إلى ورائه ، ثُمّ جعله جسراً على الخندق حتّى عبر عليه النّاس ، ثُمّ دحا به أذرعاً من الأرض .

وقال ابن الأثير : فلمّا دنا علي (عليه السّلام) من الحصن , خرج إليه أهله فقاتلهم ، فضربه يهودي فطرح ترسه من يده , فتناول علي (عليه السّلام) باباً كان عند الحصن فتترّس به عن نفسه , فلم يزل يُقاتل حتّى فتح الله على يده ثُمّ ألقاه من يده .

قال أبو رافع مولى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : فلقد رأيتني في سبعة نفر أنا ثامنهم نجهد أنْ نقلب ذلك الباب فما نقلبه .

وأسر أميرالمؤمنين (عليه السّلام) صفية بنت حيي بن أخطب وامرأة معها , وأرسلهما مع بلال إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فمرّ بهما بلال على قتلى اليهود , فلمّا رأتهم التي

 
الصفحة السابقةالفهرسالصفحة اللاحقة

 

طباعة الصفحةبحث