مكتبة فاطمة الزهراء

فهرس الكتاب


والحجُّ تشييداً للدّين:

وبهذه العبارة القصيرة تكشف الزّهراء عن فلسفة الحج وأهدافه السامية ، فهو تشييد للرسالة وإقامة لصروحها الشامخة. ولا بدّ أن تحمل هذه العبارة الجليلة سرّاً كامناً خلفها ، إذ لماذا تعلن الصّدّيقة ( عليها السلام ) كون الحج تشييداً للدّين دون غيره من الفرائض ، بل لماذا أعطت الزهراء هذه الفريضة هذا المقام الرفيع دون غيرها من الفرائض الإسلاميّة ؟ فالحجُّ في حقيقته مؤتمر إسلامي كبير يضم ممثلين عن مختلف الشعوب الإسلامية على سطح هذا الكوكب الأرضي.
والإنسان المسلم الذي يحضر هذا المؤتمر الإسلامي السنوي المعقود عند أشرف بقعة في الأرض « الكعبة المشرّفة » يبذل المال ويبذل الوقت الوجهد ولكنّه سيعيش واقعاً إسلامياً ويحيا مناخاً إسلامياً يشعُّ بالوحدة وتسوده المساواة المطلقة والتقارب الروحي والتعارف والإخاء.
وحين يعيش الحجيج هذه الإشعاعات التي تنبثق من فريضة الحج فإنّما يعيشون الإسلام حقيقة واقعة بصورة مصغرة مرّة في كلّ عام ، فهم يعيشون الوحدة التي حمل الإسلام لواءها بكلّ أبعادها حيث يجتمعون في بقعة واحدة ويرددون نداءً واحداً ، ويحملون هدفاً واحداً ، هو رضوان الله تعالى ، وتسودهم المساواة بكلّ أبعادها أيضاً ، فتلغي الفوارق كما أراد لها الإسلام في واقع الحياة حيث يتحقق هذا الشّعار بالزيّ الواحد الذي يرتديه الأبيض والأسود ، العربيّ والأعجميّ ، الرجل والمرأة ، الكبير والصغير ، الغنيُّ والفقير ، الرئيس والمرؤوس ؛ فاللباس موحّد ، والهتاف موحّد ، والعمل واحد ، والفعّاليّات واحدة ؛ وهذه المراسيم تمثل المساواة التي رسم الإسلام حدودها بأعلى صورها وأنصع ألوانها ، ثم تتحقّق الاخوّة بأجلى مظاهرها ، فلا اغتياب ولا سباب ، بل ولا جدال ، وعلى هذا الأساس يتحقّق مفهوم الأُخوة ويتجسّد حقيقة ملموسة لا حديثاً او لفضاً مطلقاً.
وإلى جانب هذه الصُّورة المصغّرة للمجتمع الذي يعمل الإسلام على إرساء قواعده وتشييد معالمه ، ينشأ التّفاهم والتّعارف بين ممثّلي الشعوب الإسلامية ،


( 160 )


فيلتقي الفارسيُّ بالهنديّ والعربيّ بالتركيّ وغيرهم لكي يتعرّفوا على مشاكلهم ، فيهتدوا لعلاجها ، ويبحثوا في وسائل عزّتهم ، ويزيلوا ما يعيق نهضتهم من أشواك ، فيستفيد كلُّ شعب من أشقّائه ليسير العمل متناسقاً لبلوغ الغاية التي أرادها الله لهذه الأُمّة لتكون كما أراد الله لها « خير أُمّةٍ أُخرجت للنّاس » وحين تنكشف لنا الفوائد الجليلة التي شرع الحجّ من أجلها من تحقيق لواقع إسلامي مصغّر أو فهم للمشاكل المشتركة وغير المشتركة لدى الشعوب الإسلامية.
حين ينكشف لنا هذا المغزى الرّصين من تشريع الحجّ نكون قد فهمنا الدّافع الذي حمل الزهراء ( عليها السلام ) لتعدّ الحجّ تشييداً للدّين.
فهو ـ لعمر الحق ـ تشييد للدّين إذا جنى المسلمون ثماره التي شرعه الله سبحانه من أجلها. ولعلّنا وفقنا لعرضها قبل قليل.


( 161 )


والعدل تنسيقاً للقلوب:

ثم تنطلق الزهراء ( عليها السلام ) لتبيان الغاية التي شُرّع العدل من أجلها ، لماذا العدل في القضاء بين المتخاصمين ، ولماذا العدل بين الأجناس ، ولماذا العدل في الحكم ، ولماذا العدل بين الغنّي والفقير؟؟
تجيب الصّدّيقة الزّهراء ( عليها السلام ) فتقول : شُرّع ذلك لتنسيق القلوب . وجمع شتاتها وتأكيد إخائها وتحقيق صفائها وتوادّها وائتلافها ، ولكن إلى أيّ مدىً سيحقّق هذا العدل الذي جعله الإسلام ركناً من أركان بنائه التّشريعيّ الضّخم ـ التنسيق والصفاء ، في قلوب أبناء النّوع الإنساني ـ؟؟
جلجل نداء الإسلام في الآفاق معلناً إلغاء الفروق ، وإلغاء الطّبقات ، وإلغاء كلّ أنواع التّمايز بين أبناء الجنس البشريّ. ولأجل تحقيق هذه الشّعارات أعلن أحكاماً سياسيّة واحدة ، وأحكاماً جنائيّة واحدة واجتماعية واحدة يخضع لها كلُّ إنسان دون تمييز على أساس الطّبقة أو الجاه أو المال أو اللون أو الجنس أو القبيلة ، فإذا سَرَقَ أعلى الناس جاهاً أو أكثرهم مالاً أو أعزّهم قبيلةً ، فإنّ حكم قطع اليد ينطبق عليه كما ينطبق على أقلّ الناس حظاً من المال أو الجاه ، كما يقف إمامُ الأُمّة وقائدها للترافع أمام القضاء الإسلاميّ إلى جانب أمةٍ حبشيّة.
وقد تجلّى ذلك على لسان خاتم الرُّسل محمد ( صلى الله عليه وآله ) حيث يقول ـ موضّحاً حدود العدالة الإسلامية ـ : « لو سرقت فاطمةُ بنت محمد لقطعتُ يدها ».
وعلى ضوء هذا المفهوم الرّصين للعدل الإسلامي تحقّق أروع إخاء في تاريخ البشريّة بين شتّى الأجناس ومختلف الطّبقات ، حيث كان المجتمع الإسلامي يحتضن البدويّ الفقير إلى جانب المكيّ المتموّل ، ويحتضن الفارسيّ إلى جانب العربيّ ، ويحتضن الروميّ كما يحتضن الحبشيّ.
وحين تتحقّق العدالة بين المجموعة البشريّة ـ على هذا الأساس ـ تدرأ الأخطار التي تتصدّع المجتمعات بوقوعها ، وتختفي كلُّ اشباح الفرقة والعصيان والتصدُّع الإجتماعي والثّورات والتّكتُّلات الجانبية.
وما الثّورات العسكريّة والرّجات السياسيّة والإضطرابات الإجتماعيّة التي


( 162 )


ترزح المجتمعات تحت وطأتها اليوم ـ إلا حصيلةً لفقدان عنصر العدالة في الحضارات التي تنظم حياة الأفراد والمجتمعات ـ اليوم ـ.
وحين يملك عنصر العدل هذه الفاعليّة في خلق المجتمع المتراصّ المتوادد ، فقد انكشفت لنا الغاية التي من أجلها أعلنت الزّهراء ( عليها السلام ) كون العدل تنسيقاً للقلوب.
أجل ، إنّ العدل تنسيقٌ للقلوب ، لأنّه السبيل الأوحد الذي يجد الإنسان فيه كرامته وقيمته إزاء غيره من الناس. وحين يعلم الإنسان أنّ في الواقع قوّةً تتمثّل بعنصر العدل تحفظ له كيانه وحقوقه بين الآخرين ، كان حريّاً بهذا الإنسان أن ينحاز إلى هذا العدل الذي حفظ حقّه وقيمته دون أن يبحث في وسائل العصيان أو التمرُّد أو التكتُّل الجانبيّ ، لأنّ هذه الأمور لا تقوم في واقع الحياة الإنسانية ما لم يختفِ عنصر العدل في الواقع الإنساني مما يضطر الإنسان لنفض غبار الذُل والظُّلم بأساليب تختفي فيها لغة التفاهم والرّحمة ، الأمر الذي يفرّق الجماعات ويوهن الأُمم ويقوّض الدّول.


( 163 )


وطاعتنا نظاماً للملّة وإمامتنا أماناً من الفرقة:

وهنا تُبرز الزهراء ( عليها السلام ) مفهوماً إسلاميّاً ، ما اختلفت الاُمّة الإسلامية في شيء كاختلافها فيه ، ذلك : هو المفهوم السياسيّ الإسلاميُّ الذي يبتني على أساسه الكيان الدُّولي والإداريّ لهذه الأمّة.
ومع الإيجاز الذي سلكته الزّهراء ( عليها السلام ) في تبيان معالم الرسالة الإسلامية ، إلاّ أنّها قد أبرزت هذا المفهوم بجانبيه : التشريعيّ والتطبيقيّ ، لأنّ المفهوم السياسيّ ـ كما هو معلوم ـ يمتلك السُّلطة التي تموّنه بالتّشريع والأحكام التي تستند الدولة عليها في فعالياتها ، كما أنّ المفهوم السياسيّ أيضاً يمتلك إلى جانب ذلك القوّة الفاعليّة التي تتولّى مهمّة التنفيذ لعنصر التشريع.
وقد عبّرت الزهراء ( عليها السلام ) عن العنصر الأول ـ عنصر التّشريع ـ بالفقرة الأولى من عبارتها : « وطاعتنا نظاماً للملّة ».
حيث أعلنت : أنّ طاعة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ سيحفظ الشّرع المقدس من كلّ اختلاف أو تصدُّع ، وسيسير على نسقٍ واحد ، بعيداً عن الآراء والظنون المرتجلة التي تبعد الشرع عن حقيقته.
وهنا تبرز عظمة الزهراء ( عليها السلام ) حتى في حديثها المسترسل حيث تقول : « وطاعتنا » فهي لم تقل : محبّتنا أو مودّتنا أو حبُّنا ، وإنّما أعطت هذا المفهوم جانبه الثابت غير الخاضع للجدل والتأويل ، إذ أنّها لو استعملت لفظة : الموّدة أو المحبّة ، لأمكن صرف اللفظ هذا إلى غير معناه ، لقيل ـ مثلاً ـ محبة أهل البيت واجبة ولكن لا يعني عدم جواز اتّباع غيرهم والخضوع له سياسياً أو إداريّاً. والزهراء حين تعلن أنّ طاعة أهل البيت على الصّعيد التّشريعيّ أمر فرضه الله سبحانه كما فرض الإيمان والصلاة ـ إنّما تقرّر بذلك حقيقة منطقيّة ثابتة نطق الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) بها وأكدّتها عشرات المواقف بشهادة كبّار الصحابة والتابعين.
وقد اتخذ ذلك الطّابع الإلزامي الصّارم على لسان الرسول القائد يوم أعلن أمام الاُلوف المحتشدة ـ وبعد عودته من حجّة الوداع ـ إمامة عليًّ ( عليه السلام ) بقوله : « من كنتُ مولاه ، فهذا عليٌّ مولاه ... ».


( 164 )


ومهما يحاول بعض الكُتّاب والباحثين في صرف لفظ هذا الحديث عن معناهُ الحقيقيّ ، فإنّهم غير قادرين مهما أُوتوا من قوّة استدلاليّة على إبراز مفهوم غير مفهوم الطّاعة والإنقياد أو يزيغون عن الحق.
وآخر ما اجتمعت عليه كلمة هؤلاء الباحثين هو القول بأنّ الحديث أراد مجرّد المحبّة والعطف لا غير. ولكنّنا ـ مع استغرابنا لهذه التآويل ـ نقول : إنّ الله سبحانه وتعالى قد جعل المؤمنين إخوة ، وقد جعلهم نفساً واحدة كقوله تعالى : « إنّما المؤمنون إخوة » « ولا تلمزوا أنفسكم ... ».
فاذا كان الله سبحانه قد قرّر هذا المفهوم التشريعيّ الثابت في خلق الأُمّة المتحابّة المتراصّة ، فما معنى استيقاف الرسول ( صلى الله عليه وآله ) لتلك الجموع الإسلاميّة الغفيرة في غدير خم ليقول لها : من كنت محبوباً عنده فليحبّ عليّاً(1).
ألم يكن هذا القول عبثاً ما دام القرآن والرّسول قد قرّرا سابقاً مبدأ الأُخوة الذي يؤلّف مفهوماً أوسع من المحبّة ، بل إنّ مبدأ الأُخوة إذا تمكن في النفوس البشريّة ، منحها أعظم تيّار عاطفيًّ من المحبّة والوداد.
وثّمة نقطة أُخرى يجدر أن نشير إليها ، تلك : هي أنّ الرسول القائد ( صلى الله عليه وآله ) قد أعلن وجوب طاعة أهل البيت ( عليهم السلام ) وعدم التمذهب بمذهب غيرهم في مئات المواقف وقد رواها الخاص والعام ـ وفي طليعتها قوله ( صلى الله عليه وآله ) : « إني تركتُ فيكم : ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي ، كتاب الله حبل ممدودٌ من السّماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما ... ». وقوله ( صلى الله عليه وآله ) : « ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ... ».
وحين يعلن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ذلك ، فإنه يعلنه بدافع الحرص على المصلحة الإسلاميّة العليا لكي تبقى هذه الأُمّة « خير أُمّة أُخرجت للناس » وهذا ما دفع الزهراء لتلعن بأنّ طاعة أهل البيت « نظاماً للملّة ».
أجل ، إنّها حفظ للشريعة ، وتنسيق لأحكامها ، وصون لها من الظُّنون والتخمينات والآراء والتّمذهب على حسابها ، أجل لو قُدّر لهذه الأُمّة أن تسلك
____________
(1) المراجعات | شرف الدّين.


( 165 )


درب أهل البيت ( عليهم السلام ) في معرفة أحكامها واستلهام معرفتها ، لما وجدنا للتّمذهب سبيلاً ، ولا للإختلاف في الفتيا والأحكام مجالاً في قاموس حياتنا ، ـ ولكنّها ـ ويا للأسف الشّديد ـ جناية الأجداد قد جنى ثمراتها الأحفاد.
ثم تكشف الزهراء ( عليها السلام ) الشّطر الثّاني من المفهوم السّياسي في الإسلام ، فتقول :

« وإمامتنا أماناً من الفرقة ».

وإذا كانت الزهراء قد قصدت الجانب التشريعي من المسألة الإدارية لشؤون الأُمّة في العبارة الأُولى « وطاعتنا نظاماً للملّة » ، فإنّها ترسم الآن ـ الشقّ الثاني من الموضوع ـ ذاته ـ ، فتعلن كون إمامة أهل البيت ( عليهم السلام ) وقيادتهم لهذه الأُمّة مفروضاً من الله سبحانه كسائر الواجبات ، ولكنّ علّة هذا الفرض الجديد تتجلّى في تخليص الأُمّة من شبح التّمزق والتخرب والإنقسامات المصلحيّة ، لأنّ إقصاء أهل البيت ( عليهم السلام ) وهم معدن الحكمة وخريجو مدرسة الوحي ـ عن مركزهم القياديّ يجعل من الممكن قيام صراع سياسيّ على الحكم والإدارة ، لأنّ سائر الناس ـ بعد أهل البيت ـ يرون أنفسهم جميعاً أهلاً لقيادة الأُمّة. أمّا إذا تولّى أهل البيت هذا المقام الرّفيع فإنّ أحداً من الناس غير قادر على بلوغ مقامهم الذي بوّأهم الله سبحانه فيه من معرفة تامة لمعالم الشّريعة الإسلامية أو من عصمة نفسيّة تحفظهم من كلّ شطط أو خطأ في أحكامهم وقراراتهم ومن كلّ إثم في سلوكهم وفعالياتهم وإذا كان لأهل البيت ( عليهم السلام ) هذا المقام الرفيع في الأُمّة الإسلامية ، أصبح بمقدورهم أن يقودوا الأُمّة الإسلاميّة الى شاطىء السّعادة الذي هيّأهُ الله سبحانه لهذه الأُمّة الكريمة ، وإذن فإن الزهراء ( عليها السلام ) وهي غرس النبوّة ـ قد ضربت على الوتر الحسّاس من المسألة حين تعلن : أنّ إمامة أهل البيت ( عليهم السلام ) ابتعاد عن الفرقة والإختلاف على الصعيد السياسي والإجتماعي.


( 166 )


والجهاد عزّاً للإسلام وذلاً لأهل الكفر والنّفاق:

والجهاد عمليّة تحريريّة : يتولاّها المعسكر الإسلامي لتخليص الإنسانيّة من السّيطرة الجاهليّة بشتّى أنواعها ومستوياتها.
وهذه العمليّة التحريريّة تجري في أعلى المستويات ، حيث تعبّأ فيها قوى الإيمان المادية والفكرية والرُّوحية لإنجاح هذه العمليّة . وغالبا ما يبرز فيها عنصر القوّة العسكريّة لإحراز النّصر وتحقيق العمليّة التحريرية الكبرى ، وإحراز النّصر ـ هذا ـ ليس نصرا لمعسكر الإيمان ـ فحسب ـ بل هو في الحقيقة نصرٌ لمن يعيش تحت السّيطرة الجاهليّة من أبناء النوع الإنساني.
والجهاد الى جانب معطياته التبشيرية والتوسّعية لعدد الواقفين تحت راية الله تعالى ، الجهاد إلى جانب هذه المعطيات ، فرض عبادي تتولاّه الأُمة الإسلامية ، استجابةً لنداء الإسلام المفروض عليها ، لا يجوز ان تتقاعد عنه بأيّ حال من الأحوال ـ اللهم إلاّ إذا أصيبت بوهن فكريًّ تصبح معه غير قادرة على فهم فريضة الجهاد وحدودها ومتطلّباتها فحينئذٍ ـ والعياذ بالله ـ تتجاهل أو تجهل هذا الفرض المقدّس فتنسحب عن مسؤولياتها في التأريخ البشريّ.
وربّما تتعرّض لغزو جاهليّ أهوج يفقدها حتى اصالتها وطابعها ـ كما هي عليه اليوم ـ.
والزهراء ( عليها السلام ) حين تعكس لنا صورةً حيّة عن فريضة الجهاد ، إنّما تعكسها لهذه المعطيات الكبيرة التي تهبها لتاريخ الأُمّة المجيدة. ولكن الزّهراء ( عليها السلام ) حين تستقرىء لنا الغاية التي شرع الجهاد من أجلها تضع أمام الأجيال نقطتين هامّتين تكشف عن طريقهما الحقيقة التي شرع الجهاد من أجلها بأقصر وأفضل السُّبل ، فهي مع شدّة إيجازها لكنّها قد كشفت حدود فلسفة الجهاد.
فالجهاد في نظر الزهراء يحقّق النّصر المؤزر للرسالة الإسلامية ـ أولاً ـ ويكسبها العزّة والظهور على كل المناهج الجاهلية المعوجّة ويهزم قوى الضّلال وينكس رايتها السوداء لتحلّ محلها راية التوحيد الناصعة التي تحتضنا القلوب وتتغنّى بها الافواه.


( 167 )


وإلى جانب هذه النقطة الإيجابيّة يتحقق مكسب آخر ، ولكنّه ذو وجهين حيث يتمخّض عن الجهاد إذلال المعسكر الجاهليّ وتوهين مكائده ـ خارج الديار الإسلامية ـ كما يتمخّض عن هذا الجهاد المقدّس صفعة شديدة لأهل النّفاق الذين يؤلّفون حزباً لتظاهر مطاياه باعتناق المبدأ الإسلامي ، ولكنّهم يخفون التحزُّب لغيره من الحضارات الجاهليّة ، وهم يتربّصون بالمسلمين الدّوائر وقد يتّصلون بأسيادهم في المعسكر اللا إسلامي ، معلنين أنّهم معهم ، وسيكونون أداةً تخريبية في داخل المعسكر الإسلاميّ ، ولكنّ هذه الفئة القلقة تقف على شرفة لترى نتائج المعركة بين الإيمان والضّلال ، وما أن تعلن الأنباء انتصار معسكر الإيمان العتيد على خصومه إلا وظهرت سيماء الذّلة والمسكنة على أهل النفاق وخابت آمالهم وتمنّياتهم وخسروا الوعود التي وعدهم ساداتهم بها ، كلُّ ذلك بفضل المسؤولية العظيمة التي يتحمل الجهاد تبعاتها في إذلال أعداء الإسلام ومعسكره العتيد.
وهذه الميزة التي يتجلّى بها الجهاد هي التي أملت على الزّهراء ( عليها السلام ) لتكشف النقاب عن الغاية التي شرع من أجلها ، فهو ـ على حدّ تعبيرها ـ قد جعله الله عزاً للإسلام ، وذلاً لأهل الكفر والنّفاق.

والصّبر معونة على استيجاب الأجر:

وتكشف لنا الزهراء ( عليها السلام ) حقيقة كبرى تتجسّد على يديها كلّ الآمال ، وكلُّ الأهداف التي رسمتها الرسالة الإسلامية لهذا الإنسان تلك الحقيقة هي : الإرادة والإقدام على تحقيق متطلّبات الشرع ، فبغير الإرادة والصّبر في العمل لا يمكن لإنسان أن يحقّق مطالب الرسالة الإسلامية . إذاً ، فالصّبر ـ في منطق الرسالة ـ : الجسر المعقود بين الواقع النّظريّ للشّريعة والواقع العملي لها ، حيث تتجسّد الأفكار على يديه واقعاً محسوساً يبرز في فكر الفرد وسلوكه وكافة ألوان نشاطه ، وقد يصبح الأمر من القضايا البديهيّة المسلم بها إذا قلنا : أنّ الصبر المرادف للإقدام ومواصلة العمل والإستمرار في بذل الجهد من أجل تطبيق معالم الشّريعة الإسلامية قد جعله الإسلام على لسان دستوره الخالد ركناً أساسيّاً من أركان المجتمع الذي يقف تحت راية التّوحيد المقدّسة كما جاء ذلك في قوله


( 168 )


سبحانه : « والعصر إنّ الانسان لفي خسر الاّ الذين آمنوا وعملوا الصّالحات وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصّبر ... ».
والصبر ـ في منطق الحضارة الإسلامية ـ يلتزم جانبين في حياة المجتمع المسلم والفرد المسلم ، فهو صبر على الطاعة ، وصبر على المعصية.
ولما كان الإسلام أساساً لا ينهض إلاّ على هذين المفهومين الكبيرين في تحديد معالم تشريعه ، إذاً ، فقد أصبح للصّبر ـ بشطريه الإيجابي والسلبيّ من واقع الشّريعة الإسلامية ـ عظيم الأثر في تحقيق أهداف الرسالة كعامل مساعد أو كعنصر يدخل في إطار كلّ الفعّاليّات التي ينهض الفرد أو المجتمع المسلم بأعبائها.
وحين يملك الصّبر هذا المقام الرّفيع في التّشريع الإسلامي ، فقد أصبحنا أكثر إحاطة بالغاية التي دفعت الزهراء ( عليها السلام ) لتعطي هذا المفهوم : هذا الجانب الكبير من الإهتمام ، حيث ضربت على الوتر الحسّاس من المسألة بإعلانها : أنّ الصّبر معونة على استيجاب الأجر ، أجل فهو عنصر مساعد فعّال يجعل المرء المسلم أكثر قدرة على كسب الأجر والرّضوان.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصلحة للعامّة:

الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عمليّة كبيرة تحمل فاعليّة ضخمة في إصلاح كلّ الإنحرافات ـ التي يتعرّض لها المجتمع الإسلامي ـ عن معين الرّسالة الإلهية.
وهو على هذا التقدير عمليّة علاجيّة تنمحي على أساسها كلُّ الآثار المرضية التي تصيب جسم الأُمة الإسلامية بمرور الأزمان ، لأنّ الأمّة الإسلامية ليست بدعاً من الأمر ، فهي أُمّة كبقية الأُمم : ترتفع وتنخفض تنهض وتهجع ، تتحرّك وتسكت ، ولمّا كانت هذه الأُمّة : هي « الأُمّة الوسط » التي أرادها الله سبحانه أن تكون شاهدة على النّاس متميزة عن غيرها من الأُمم ، تحمل هويّة السماء وتتلمذ على الوحي لتتخرّج أجيالها ، وهي تحمل شارة « خير أُمّة أُخرجت للنّاس ».
حين يكون لهذه الأُمّة الإسلامية هذا النصيب الأوفر ، الذي خصّها الله سبحانه فيه ، فلا بدّ أن يمنحها ـ بلطفه ـ منهجاً تعود على أساسه إلى عزّتها ، إن ادلهمّت بها الخطوب واجتمعت عليها المحن ، وفعلاً قد امتدّت يد الرّحمة إلى هذه الأُمّة فأتحفتها بمنهج الأمر بمالعروف والنّهي عن المنكر ، لتتّخذ منه قاعدةً


( 169 )


عمليّة ضخمة ـ يبتني على أساسه مجدها وكرامتها كلّما تكالبت عليها أُمم الجاهليّة لتزحزحها عن مقامها الذي يوّأها الله فيه.
وبعد أن دلّها الله تعالى على طريق سؤددها لم يترك أمر سلوكه من قبل الأُمة اختياريّاً ، وإنّما منحه الصّفة الإلزامية. والصّفة الإلزامية أعلى الدّرجات للتكليف في التّشريع الإسلامي.
ولكن هذه السّمة الإلزامية أُعطيت الصفة الكفائية. وعلى هذا الأساس أصبح الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واجباً كفائياً. إن قام به شخص أو جماعة من الناس سقطت مسؤوليته عن الجماعات الإسلامية الأُخرى ، والقيام بمسؤولية الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ـ هنا ـ يتطلب تحقيق المطالب التي شرع من أجلها ، فليس المراد بالأمر والمعروف أن يقوم به شخص أو جماعة من الأُمة الإسلامية ، وبمجرّد قيامهم بالعمل ودون تحقيقهم لمتطلّباته ، يسقط الواجب عن الأمة بحال ، إذ ليس المراد هذا ، وإنّما يتحقّق سقوط المسؤولية عن الأُمة الإسلامية بتحقيق هذا الشخص أو هذه الفئة كل مستلزمات الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر : من إلغاء للمنكر وإقامة للمعروف.
فلو ظهرت لدى بعض أفراد الأُمة الإسلامية عادة ممارسة الميسر ، وقام جماعة من المسلمين في إنكار هذا المنكر بالسبل التي رسمها الإسلام : من حكمة وموعظة أو نحوها ، فإن استطاع هؤلاء أن يأخذوا على أيدي هؤلاء المنحرفين ، ويمنعوهم عن التمادي في هذا المنكر ، سقطت مسؤولية الأمر بالمعروف وإنكار المنكر عن الأُمة كلها.
أما لو فشل المخلصون الذي تصدّروا لمهمة الأمر بالمعروف ، في تحقيق هذا الجانب الإصلاحي ، وجب على الأُمة الإسلامية ـ برمّتها ـ أن تتولّى هذه المهمّة حتى يتحقّق الإصلاح أو تسقط المسؤولية عن الأُمة بعد قيامها بالمهمّة ، وعدم استطاعتها لاستفحال المنكر مثلاً ، أو لوجود ظروف تمنع إنكاره(1) وحينئذٍ ينطبق عليها تعليم السماء القائل « لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها »(2).
____________
(1) الفكر الإسلامي | محمّد محمّد اسماعيل عبده.
(2) آخر آية من سورة البقرة.