فتنة
« الأحداث في عهد عثمان »
    الملل والنحل : ان أقاربه قد ركبوا نهابر فركبته وجاروا فجير عليه ، ووقعت اختلافات كثيرة وأخذوا عليه أحداثا كلها محالة على بني أمية : منها ردة الحكم بن أمية الى المدينة بعد أن طرده النبي عليه السلام وكان يسمى طريد رسول الله وبعد أن تشفع إلى ابي بكر وعمر أيام خلافتهما فما أجابا الى ذلك ، ونغاه عمر من مقامه باليمن اربعين فرسخا . ومنها : نفيه أبا ذرّ إلى الربذة . وتزويجه مروان بن الحكم بنته وتسليمه خُمس غنائم افريقيّة له وقد بلغت مأتي الف دينار . ومنها : ايواؤه عبدالله بن سعد بن أبي سرح بعد أن أهدر النبي عليه السلام دمه . وتوليته عبدالله بن عامر البصرة حتى أحدث فيها ما أحدث . الى غير ذلك مما نقموا عليه . وكان امراء جنوده معاوية بن أبي سفيان عامل الشام ، وسعد بن أبي وقاص عامل الكوفة ، وبعده الوليد بن عقبة ، وعبدالله بن عامر عامل البصرة ، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح عامل مصر ، وكلهم خذلوه ورفضوه حتى أتى قدره عليه (1) .
    الفائق : عثمان أرسلت اليه أم سلمة يا بُني ما لي أرى رعيتك عنك مزوّرين وعن جنابك نافرين ، لا تُعفّ سبيلا كان رسول الله « ص » لحبها ، ولا تقدح بزند كان أكباها ، توخّ حيث توخّى صاحباك ، فإنهما ثكما الأمر ثكما ولم يظلماه (2) .
    قال الزمخشري : ازورّ عنه اذا عدل وأعرض . والتعفية : الطمس . ولحبها : نفى
1 ـ الملل والنحل ج 1 ص 18 .
2 ـ الفائق ج 1 ص 549 .



277
عنها كل لبس وكشف كل عماية . وأكباها : عطلها من القدح بها . ثكمتُ الطريق لزمته . ولم يظلماه : لم ينقصاه ولا زادا عليه .
    ويروى أيضا : ان سعدا وعمارا أرسلا إلى عثمان أن ائتنا فإنا نريد أن نذاكرك أشيا أحدثتها ، فأرسل اليهما : ميعادكم يوم كذا حتى أتشزن ثم اجتمعوا للميعاد ، فقالوا : ننقم عليك ضربك عمارا ، فقال : تناوله رسولي من غير امري ، فهذه يدي لعمار فليصطبر ، وذكروا بعد ذلك اشياء نقموها ، فأجابهم وانصرفوا راضين ، فأصابوا كتابا منه الى عامله أن خذ فلانا وفلانا وفلانا فضرّب أعناقهم ، فرجعوا فبدؤوا بعلي عليه السلام فجاؤوا به معهم فقالوا : هذا كتابك ؟ فقال عثمان : والله ما كتبت ولا أمرت ، قالوا : فمن تضنّ ؟ قال أظن كاتبي ، وأظن به يا فلان (1) .
    قال الزمخشري : التشزن هو الاستعداد . فهذه يدي لعمار : يريد الإنقياد والصبر : القصاص .
    تاريخ الطبري : فدخل عليّ بن أبي طالب على عثمان ، فقال : الناس ورائي وقد كلموني فيك والله ما أدري ما أقول لك وما أعرف شيئا تجهله ولا أدلك على امر لا تعرفه ، أنك لتعلم ما نعلم ما سبقناك الى شيء فنُخبرك عنه ... وان شر الناس عند الله امام جائر ضل وضُل به فأمات سنذة معلومة وأحيا بدعة متروكة ، وإني سمعت رسول الله « ص » يقول : يؤتى يوم القيامة بالامام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في جهنم فيدور في جهنم كما تدور الرحى ثم يرتطم في غمرة جهنم ، وإني أحذّرك الله وأحذّرك سطوته ونقماته فإن عذابه شديد اليم ... قال علي « ع » : سأخبرك ان عمر بن الخطاب كان كل من ولّى فإنما يطأ على صماخة ان بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى الغاية ، وأنت لا تفعل ضعفت ورفقت على أقربائك ، قال عثمان : هم أقرباؤك أيضا ! فقال عليّ : لعمرى أن رحمهم مني لقريبة ولكنّ الفضل في غيرهم . قال عثمان : هل تعلم أن عمر ولى معاوية خلافته كلها فقد وليته ! فقال علي : أنشدك الله هل تعلم أنّ
1 ـ الفائق ج 1 ص 656 .


278
معاوية كان أخوف من عمر من يرفا غلام عمر منه ؟ قال : نعم . قال عليّ : فإن معاوية يقتطع الأمور دونك وأنت تعلمها فيقول للناس : هذا أمر عثمان فيبلغك ولا تُغير على معاوية (1) .
    أقول : يظهر من هذه الكلمات ن أمر عثمان قد شاع بين الناس ، وهم بين ناصح وشاتم ومبارز ، ولا يُرى من علي « ع » إلا أنه كان من الناصحين له والمدافعين عنه والناهين عن قتاله ، ومع هذا ترى جماعة من الشاتمين والمبارزين والمحركين ينسبون اليه القتل ويتّهمونه به ، وأكثر المخالفين في الجمل وصفين من هؤلاء الأفراد .
    ويروى الطبري : فقالت عائشة : يا ابن عباس أنشُدَك الله فإنك قد أعطيت لسانا إزعيلا أن تخذل عن هذا الرجل وأن تُشكك فيه الناس ، فقد بانت لهم بصائرهم وانهجت ورفعت لهم المنار وتحلّبوا من البلدان لأمر قدجم (2) .
    البدء والتاريخ : ان الناس نقموا عليه أشياء فمن ذلك كلفه بأقاربه كما قاله عمر ، فآوى الحكم بن أبي العاص طريد رسول الله « ص » وكان سيّره الى بطن وج ولأنه كان يُفشي سرّ رسول الله ويُطلع الناس عليه . ومنها أنه أقطع الحارث بن الحكم مهرقته موضع شرقي المدينة ، وكان النبي « ص » لما قدم الى المدينة ووصل الى ذلك الموضع ضرب برجله وقال : هذا مُصلانا ومُستمطرنا ومخرجنا لأضحانا وفطرنا فلا تنقضوها ولا تأخذوا عليها كِرى ، لعن الله من نقض من بعض سوقنا شيئا . ومنها انه أقطع مروان بن الحكم فدك قرية صدقة رسول الله « ص » ، وأعطاه خُمس الغنائم من اقريقيّة . ومنها أنه أعطى عبدالله بن خالد بن أسيد أربعمائة الف درهم وأعطى الحكم بن أبي العاص مائة الف درهم . ومنها ان عبيدالله بن عمر قتل الهرمزان بأبيه عمر وقتل ابنين لأبي لؤلؤة فلم يُقدِه . ومنها أنه عزل عمال عمر وولى بني أمية وانتزع عمرو بن العاص عن مصر واستعمل عليها عبدالله بن سعد بن أبي سرح ، وانتزع سعد بن أبي وقاص
1 ـ تاريخ الطري ج 5 ص 33 .
2 ـ تاريخ الطبري ج 5 ص 140 .



279
عن الكوفة واستعمل الفاسق الوليد وبن العقبة بن أبي معيط وهو أخوه لأمه ، فوقع في الخمر فشربها ، ويصلي الصلاة لغير وقتها ، فصلى بالناس يوما الفجر أربعا ، وهو ثَمِل !! فلما انصرف قال : أزيدكم فإني نشيط فشغب الناس وحصبوه ، فلما شكاه الناس عزله واستعمل عليهم شرا منه سعيد بن العاص ، فقدم رجل عظيم الكبر شديد العجب ، وهو أول من وضع العُشور على الجُسور والقناطر . ومنها أن ابن أبي سرح قتل سبعمائة رجل بدم رجل واحد فأمر بعزله ولم يُنكر عليه . ومنها أنه جعل الحروف كلها حرفا واحدا وأكره الناس على مصحفه . ومنها أنه سيّر عام بن عبد قيس من البصرة الى الشام لتنزهه عن اعماله . وسيّر اباذر الغفاري الى الربذة ، وذلك أن معاوية شكاه أنه يطعن عليه فدعاه واستعتبه ولم يُعتب فسيره الى الربذة وبها مات . ومنها أنه تزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية فاعطاها مائة الف من بيت المال وأخذ سفطا فيه حلى فأعطاه بعض نسائه ، واستسلف من بيت المال خمسة آلاف درهم ، وكان اشترط عليه عند البيعة أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله وبسيرة الشيخين فسار بها ستّ سنين ثم تغيّر كما ذكر ... فتكلم الناس في ذلك وأظهروا الطعن ، فخطب عثمان وقال : هذا مال الله أعطيه من أشاء وأمنعه من أشاء فأرغم الله أنف من رغم أنفه !! فقام عمار بن ياسر فقال : أنا أول من رغم أنفه من ذلك . فقال له عثمان : لقد اجترأت عليّ يا ابن سمية فوثب بنو امية على عمار فضربوه حتى غُشي عليه ، فقال : ما هذا بأول ما اوذيت في الله . وضرب عبدالله بن مسعود في مخالفته قرائته (1) .
    أقول : يكفي واحد من هذه الأحداث في انصراف الناس عنه ومخالفتهم له ونقضهم بيعته ، فكيف بهذه الأعمال المختلفة والأحداث الكثيرة ، التي يتبرّأ منها كل مسلم حرّ .
    فاذا كان امير المسلمين يعمل بهذه الأعمال الجائرة فإلى أين ينتهي جريان
1 ـ البدء والتاريخ ج5 ص 199 .


280
أمور الملة وكيف تكون عواقب أمورهم ؟ ولا يبعد أن يقال : أن الحكومة الاموية والجنايات الواقعة في تلك الدولة ، نتيجة هذه الأحداث ! .

« تجري الناس عليه »
    فأول نتيجة أنتجت هذه الأحداث اختلاف الملة الاسلامية ونقضهم بيعة عثمان وقيامهم على خلافه .
    عقد الفريد : لما أنكر الناس على عثمان ما أنكروا من تأمير الأحداث من اهل بيته على الجُلة الأكابر من أصحاب محمد « ص » قالوا لعبدالرحمن بن عوف : هذا عملك واختيارك لامة محمد ! قال : لم أظن هذا به . ودخل على عثمان فقال له : إني إنما قدّمتك على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر وقد خالفتها . فقال : عمر كان يقطع قرابته في الله وأنا أصل قرابتي في الله ! فقال له : لله عليّ أن لا أكلمك ابدا . فمات عبدالرحمن وهو لا يكلم عثمان (1) .
    أقول : هذا أول من وافق خلافة عثمان وحكم بها ، وهو يقول : إنما قدمتك لتسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر .
    وقد سبق في فصل فتنة أمر الشورى ان عبدالرحمن قال له : عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده قال عثمان : نعم . فبايعه .
    فاتلزم عثمان وتعهد في الله أن يعمل بالكتاب والسنة وسيرة الخليفتين ، وأنت ترى هذه الأحداث المخالفة التي لا تطابق قرآنا ولا سنة .
    والعجب من قوله وأنا أصل قرابتي في الله ـ وهذا الكلام منه في غاية البعد ، وأنه نظير من يُنفق من مال مغصوب ويدّعي أنه من المنفقين المحسنين .
    عقد الفريد : ثم فك محمد الكتاب بمحضر منهم ، فاذا فيه : اذا جاءك محمد وفلان وفلان فاحتل لقتلهم وأبطل كتابهم وقِرّ على عملك حتى يأتيك رأيي ،
1 ـ عقد الفريد ج 4 ص 308 .


281
واحتبس من جاء يتظلم منك ليأتيك في ذلك رأيي ان شاء الله ز فلما قرؤوا الكتاب بخواتيم القوم الذين أرسلوا معه ودفعوا الكتاب إلى رجل منهم ، وقدموا المدينة فجمعوا عليا وطلحة والزبير وسعدا ومن كان من اصحاب رسول الله « ص » ، ثم فكّوا الكتاب بمحضرمنهم وأخبروهم بقصة الغلام ، وأقرؤوهم الكتاب فلم يبق أحد في المدينة إلا حنق على عثمان ، وازداد من كان منهم غاضبا لابن مسعود وأبي ذر وعمار بن ياسر غضبا وحنقا ، وقام أصحاب النبي « ص » فلحقوا منازلهم ، ما منهم أحد إلا وهو مغتم بما قرؤوا في الكتاب وحاصر الناس عثمان ، واجلب عليه محمد بن أبي بكر بني تيم وغيرهم وأعانه طلحة بن عبيدالله على ذلك وكانت عائشة تُقرّضه كثيرا ، فلما رأى ذلك عليّ بعث الى طلحة والزبير وسعد وعمار ونفر من أصحاب رسول الله « ص » كلهم بدريّ ، ثم دخل على عثمان ومعه الكتاب والغلام والبعير ... وسألوه أن يدفع اليهم مروان ، فأبى ، وكان مروان عنده في الدار ، فخرج اصحاب محمد « ص » من عنده غضابا ، وشكوا في أمر عثمان ... الخ (1) .
    الطبقات : عن جابر ان المصريين لما أقبلوا من مصر يريدون عثمان ونزلوا بذي خُشب ، دعا عثمان محمد بن مسلمة فقال : إذهب اليهم فارددهم عني وأعطهم الرضى وأخبرهم إني فاعل بالامور التي طلبوا ونازع عن كذا بالامور التي تكلموا فيها ... فأتاهم محمد بن مسلمة فقال : ان اميرالمؤمنين يقول : كذا ويقول : كذا ، وأخبرهم بقوله فلم يزل بهم حتى رجعوا ، فلما كانوا بالبويب رأوا جملا عليه ميسم الصدقة فأخذوه فاذا غلام لعثمان فأخذوا متاعه ففتشوه فوجدوا فيه قصبة من رصاص فيها كتاب في جوف الادارة في الماء الى عبدالله بن سعد أن افعل بفلان كذا وبفلان كذا من القوم الذين شرعوا في عثمان ، فرجع القوم ثانية حتى نزلوا بذي خُشب ، فأرسل علثمان الى محمد بن مسلمة : اخرج فارددهم عنّي ، فقال : لا أفعل ، قال : فقدموا فحصروا عثمان (2) .
1 ـ عقد الفريد ج 4 ص 289 .
2 ـ الطبقات ج 3 ص 65 .



282
    ويروى أيضا : عن سفيان ، قال أنكر عثمان أن يكون كتب الكتاب أو أرسل ذلك الرسول ، وقال فعل ذلك دوني .
    تاريخ الطبري : ثم رجع الوفد ـ المصريون ـ راضين ، فبيناهم في الطريق اذا هم براكب يتعرض لهم ثم يفارقهم ثم يرجع اليهم ثم يفارقهم ويشيئهم ، قال : قالوا له : مالك ان لك لأمر ما شأنك ؟ قال : فقال : أنا رسول أميرالمؤمنين الى عامله بمصر ففتّشوه فاذاهم بالكتاب على لسان عثمان عليه خاتمه الى عامله أن يصلّبهم أو يقتّلهم أو يَقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ! قال : فأقبلوا حتى قدموا المدينة ، قال : فأتوا عليا فقالوا : ألم تر الى عدو الله أنه كتب فينا بكذا وكذا ، وأن الله قد أحل دمه ، قم معنا اليه ، قال : والله لا أقوم معكم (1) .
    ويروى : ثم أنن عليا جاء عثمان بعد انصراف المصريين فقال له : تكلم كلاما يسمعه الناس ويشهدون عليه ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والانابة ، فإن البلاد قد تمخّضت عليك فلا آمن ركبا آخرين يقدمون من الكوفة فتقول : يا عليّ اركب اليهم ! ولا أقدر أن أركب اليهم ولا أسمع عذرا ، ويقدم ركب آخرون من البصرة فتقول : يا عليّ اركب اليهم فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك واستخففت بحقك ! قال : فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها وأعطى الناس من نفسه التوبة ، فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس فوالله ما عاب من عاب منكم شيئا أجهله وما جئت شيئا إلا وأنا أعرفه ، ولكني منّتني نفسي وكذبتني وضل عني رشدي ، ولقد سمعت رسول الله « ص » يقول : من زلّ فليتب ومن أخطأ فليتب ولا يتمادى في الهلكة ، ان من تمادى في الجور كان أبعد من الطريق ، فأنا أول من اتّعطظ استغفر الله مما فعلت وأتوب اليه ، فمثلي نزع وتاب ، فاذا نزلت فليأتني اشرافكم وليُروني رأيهم ، فوالله لئن ردني الحق عبدال لأستننّ لسنة العبد ... فلما نزل عثمان وجد في منزله مروان وسعيدا ونفرا من بني أمية ولم يكونوا شهدو الخطبة ،
1 ـ تاريخ الطبري ج 5 ص 107 .


283
فلما جلس قال مروان : يا أميرالمؤمنين أتكلم أم أصمت ؟ فقالت نائلة ابنة الفرافصة امرأة عثمان الكلبية : لا بل أصمت ! فإنهم والله قاتلوه ومؤتّموه، انه قد قال مقالة لا ينبغي له أن ينزع عنها ، فأقبل عليها مروان فقال : ما أنت وذاك فوالله لقد مات ابوك وما يحسن يتوضأ ، فقالت له : مهلا يا مروان عن ذكر الآباء تخبر عن أبي وهو غائب تكذب عليه وان اباك لا يستطيع ان يدفع عنه ، أما والله لولا أنه عمه وأنه يناله غمّه أخبرتك عنه ما لن أكذب عليه ، قال : فأعرض عنها مروان .
    ثم قال : يا أميرالمؤمنين أتكلم أم أصمت ؟ قال : بل تكلم ! فقال مروان : بأبي أنت وأمي والله لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع منيع فكنت أول من رضي بها وأعان عليها ولكنك قلت ما قلت ... والله لإقامة على خطيئة تستغفر الله منها أجمل من توبة تخوف عليها وأنك إن شئت تقرّبت بالتوبة ولم تقرر بالخطيئة ، وقد اجتمع إليك على الباب مثل الجبال من الناس ، فقال عثمان : فاخرج اليهم فكلمهم فإني استحيي أن أكلمهم ، قال : فخرج مروان الى الباب والناس يركب بعضهم بعضا ، فقال : ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم قد جئتم لنهب شاهت الوجوه كل انسان آخذ بأذن صاحبه إلا من أريد ، جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا اخرجوا عنا أما والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم منا أمر لا يسركم ولا تُحمدوا غِبّ رأيكم ، ارجعوا الى منازلكم فإنا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا ، قال : فرجع الناس وخرج بعضهم حتى أتى عليا فأخبره الخبر ، فجاء علي عليه السلام مغضبا حتى دخل على عثمان فقال : أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحرّفك عن دينك وعن عقلك مثل جمل الظعينة يُقاد حيث يُسار به ، والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه ، وأيم الله إني لأراه سيوردك ثم لا يُصدرك ، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك ، أذهبت شرفك وغُلبت على امرك ! فلما خرج عليّ دخلت عليه نائلة ابنة الفرافصة امرأته قالت : أتكلم أو أسكت ؟ فقال : تكلمي . فقالت : قد سمعت قول عليّ لك وأنه ليس يعاودك ، وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء . قال :


284
فما أصنع ؟ قالت : تتقي الله وحده لا شريك له وتتبع سنّة صاحبيك من قبلك ، فإنك متى أطعت مروان قتلك ، ومروان ليس له عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبة ، وإنما تركت الناس لمكان مروان ، فأرسِل إلى عليّ فاستصلحه فإن له قرابة منك وهو لا يعصى . قال : فأرسل عثمان الى عليّ فأبى أن يأتيه ، وقال : قد أعلمته إني لست بعائد . قال : فبلغ مروان مقالة نائلة فيه ، قال : فجاء إلى عثمان فجلس بين يديه فقال : أتكلم أو أسكت ؟ فقال : تكلم ، فقال : إن بنت الفرافصة ، فقال عثمان : لا تذكرنّها بحرف فأسوا لك وجهك فهي والله أنصح لي منك ، قال : فكفّ مروان (1) .
    ويروى : سمعت عبدالرحمن بن الأسود يذكر مروان بن الحكم قال : قبّح الله مروان ، خرج عثمان إلى الناس فأعطاهم الرضا وبكى على المنبر وبكى الناس حتى نظرت الى لحية عثمان مخضلّة من الدموع وهو يقول : اللهم إني أتوب إليك ... ودخل بيته ودخل عليه مروان فلم يزل يفتله في الذروة والغارب حتى فتله عن رأيه وأزاله عما كان يريد ، فلقد مكث عثمان ثلاثة أيام ما خرج استحياءا من الناس ، وخرج مروان الى الناس فقال : شاهت الوجوه إلا من أريد ... قال : فأقبل عليّ عليٌّ فقال : أحضرت خطبة عثمان ؟ قلت : نعم . قال : أفحضرت مقالة مروان للناس ؟ قلت : نعم . قال عليّ : عياذ الله يا للمسلمين إني ان قعدت في بيتي قال لي : تركتني وقرابتي وحقي ، وإني ان تكلمت فجاء ما يريد يلعب به مروان فصار سيقة له يسوقه حيث شاء بعد كبر السن وصحبة رسول الله « ص » (2) .
    أقول : في هذه الكلمات المنقولة من الطبري موارد للنظر :
    1 ـ اذا هم براكب ، فاذاهم بالكتاب : هذا الراكب ، وهذا الكتاب : أما أن كانا بأمر الخليفة ، أو بدون اطلاع منه ، والثاني أشد محذورا وأكثر اشكالا ، فكيف يليق بالإمارة من كان اختياره في أيدي آخرين ، يأمرون وينهون
! ـ تاريخ الطبري ج 5 ص 111 .
2 ـ تاريخ الطبري ج 5 ص 112 .



285
ويصلبون ويقتلون ويكتبون ويفعلون ما يشاؤون .
    2 ـ ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والانابة ، أستغفر الله مما فعلت وأتوب اليه : قد أمره علي « ع » بالانابة والاستغفار من أعماله وهو أظهر على المنبر التوبة والاستغفار ، فيعترف بمعاصيه ويُثبت أنه كان مذنبا خاطئا .
    3 ـ فلا آمن ركبا آخرين يَقدمون من الكوفة ، ركب آخرون من البصرة : يظهر أن المسلمين الساكنين في مصر والكوفة والبصرة وحواليها وهي من أعظم البلاد الاسلامية يومئذ كانوا غير راضين عن الحكومة وأعمالها وعمّالها .
    4 ـ والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه ، وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء ، قبّح الله مروان ، يلعب به مروان : هذه الجملات دالة على غاية ضعف مقام مروان عند الناس ، ومع ذلك فله تأثير عميق في أفكار عثمان وأعماله ، يلعب به ويسوقه حيث يشاء بعد كبر السن وصحبة رسول الله « ص » .
    5 ـ يستكشف من هذه الجملات المنقولة أن عثمان غير مأمون ولا معصوم من الخطأ والزلل والذنب والعصيان ، بل هو معترف بها حيث يقول : بل منّتني نفسي وكذبتني وضلّ عني رشدي فأنا أول من اتّعظ . ومع ذلك فهو مغلوب على أمره من مروان وأقرانه ، يلعب به مروان وأمثاله من بني أمية ، فكيف يصلح من شأنه كذلك أن يكون خليفة لله ولرسوله في دينه ، وكيف يجب بل كيف يجوز للمسلمين أن يتبغوه ويسلكو طريقه .
    الطبقات : فلم يزل مروان مع ابن عمه عثمان ، وكان كاتبا له وأمر له عثمان بأموال وكان يتأوّل في ذلك صلة قرابته ، وكان الناس ينقمون على عثمان تقريبه مروان وطاعته له ، ويرون أن كثيرا مما ينسب الى عثمان لم يأمر به وان ذلك عن رأي مروان دون عثمان (1) .
    البدء والتاريخ : ولما أعطى عثمان القوم ما أرادوا ، قال مروان بن الحكم لحمران بن أبان كاتب عثمان فكان خاتم عثمان مع مروان بن الحكم : ان هذا
1 ـ الطبقات ج 5 ص 36 .


286
الشيخ قد وهن وخرف ، وقم فاكتب الى ابن أبي سرح أن يضرب أعناق من ألبّ على عثمان ، ففعلا وبعث الكتاب مع غلام لعثمان يقال له مدس على ناقة من نوقه ، فمر بالقوم (1) .
    اقول : يستفاد من الروايتين أمور :
    1 ـ أن مروان كان كاتبه ، وكان خاتمه عنده .
    2 ـ أمر له بأموال وكان يتأول في ذلك صلة قرابته .
    3 ـ كان الناس ينقمون على عثمان تقريبه مروان وطاعته له .
    4 ـ كان مروان يقول في غيابه أنه قد وهن وخرف .
    5 ـ كان لمروان اختيار تام في التصرف في الأمو الحكم في المملكة والنصب والعزل وغيرها .
1 ـ البدء والتاريخ ج 5 ص 204 .