41
الا الله محمد رسول الله ، علي وليّ القوم ، وإذا مكتوب على الستر : بخ بخ من مثل شيعة علي ؟!
    فدخلته فاذا أنا بقصر من عقيق أحمر مجوّف وعليه باب من فضة مكلّل بالزبرجد الأخضر ، واذا على الباب ستر ، فرفعت رأسي فاذا مكتوب على الباب : محمد رسول الله ، علي وصيّ المصطفى ، واذا على الستر مكتوب : بشّر شيعة علي بطيب المولد .
    فدخلته فإذا بقصر من زمرّد أخضر مجوّف لم أر أحسن منه وعليه باب من ياقوتة حمراء مكلّلة باللؤلؤ وعلى الباب ستر فرفعت رأسي فاذا هي مكتوب على الستر : شيعة علي هم الفائزون .
    فقلت يا حبيبي جبريل ! لمن هذا ؟!
    فقال : يا محمد لابن عمك ووصيّك علي بن أبي طالب..
    يحشر الناس كلهم يوم القيامة حفاة عراة ، الا شيعة علي ، ويدعى الناس بأسماء امهاتهم الا شيعة علي فانهم يدعون بأسماء آبائهم .
    فقلت يا حبيبي جبريل : وكيف ذاك ؟
    قال : لانهم أحبّوا علياً فطاب مولدهم 15 .
    وانبثق شلال من حبّ الهي يملأ القلوب بهجة والنفوس


42
شفافية .. ان الدنيا ستصبح جحيماً لا يطاق اذا اختفى ذلك الأمل الحقيقي بغد أفضل.. غدٍ آخر ملئ بالنور والربيع .


43
5
    جلس « الفضل بن سهل » 16 مسترخياً بين الارائك الوثيرة مستمتعاً بدفء شمس خريفية ، ويحتسى على مهل وتلذذ عصير الرّمان بعد تلك الرحلة الممتعة في مراعي « مرو » مرو التي غدت عاصمة الدولة المترامية الأطراف .
    وفي كل مرّة يتناول فيها عصير الرمّان يشعر بحيوية شاب في الثلاثين بالرغم من اطلالته على الستين .
    أوقد خادم تركي النار في الموقد لاشاعة الدفء ، فنسائم الخريف تبشّر بشتاء قارس .
    راح الفضل يحدّق في ألسنة النار ، وداخله شعور بالرهبة والخضوع !


44
    أعاده صوت الحارس الى نفسه :
    ـ إنّ أمير المؤمنين ينتظر .
    نهض بسرعة لا يريد أن يتأخر ، فالمأمون ينوي الذهاب الى الحمام على التقاليد الفارسية ، وقد تقرّر أن يتخلّى المأمون اليوم عن الزيّ الأسود مستبدلاً اياه بالأخضر وسيكون لهذه الخطوة صداها ليس في مرو بل في البلاد من أقصاها الى أقصاها ؛ وقد يبقى صداها في التاريخ أيضاً !
    شعر بالغرور وهو يلقي نظرة على صفّين من الحرس وقفوا كالتماثيل ، سوف يضرب ضربته بهؤلاء الذين لا يعرفون سوى الطاعة.. السمع والطاعة . ان الفشل البرمكي لن يتكرر هذه المرّة... مرو ليست بغداد .
    والفضل بن يحيى 17 ليس كالفضل بن سهل...
    في الطريق كان يفكر في المناسبة التي يمكنه أن يثير فيها الحديث عن فكرة المعتزلة في خلق القرآن 18 التي بدأت افكارها تهبّ شرقاً وغرباً .
    إن الهاء الأمّة بمعارك فكرية يسهل في السيطرة عليها واقتيادها .
    غادر المأمون الحمام في موكب مهيب ، وبدا بزيّه


45
الاخضر ملكاً فارسياً جليلاً ، واحتفت الجماهير حوله تتطلع .
    كان الفضل يتطّلع الى الخليفة السابع كما يتطلّع الصائع الى قلاده ذهبية صاغها قبل قليل ، أو نحات الى تمثال ربّما سيُبعد غداً !
    كل شيء يمضي على ما يرام ان طائر السعد قد حطّ على كتفه سوف تسقط الدولة كلّها في قبضته كتفاحة ناضجة .
    وفي تلك الليلة وقد مضى شطر من الليل جلس المأمون مجلسه المسائي مع وزيره ذي الرئاستين .
    أحضر خادم صندوقاً من خشب الاپنوس ، يحوي بيادق مصنوعة من عاج فيلة هندية .
    كان المأمون يراقب الخادم وهو يصفّ الجنود والقلاع والفيلة وقد انتصب الملكان والوزيران استعداداً للمواجهة .
    وبدا واضحاً منذ البداية أن الفضل كان يجنب الوزير المواجهة المباشرة ، وكان يكتفي بتحريك بيادقة من فيلة وقلاع والجنود .
    سعى المأمون أن تبدو لهجته عادية عندما قال :
    ـ هل من أخبار جديدة .


46
    قال الفضل متصنّعاً ابتسامه :
    ـ ليس هناك الا الخير يا أمير المؤمنين.. لقد استوقت لك الخلافة.. كل شيء يمضي على ما يرام .
    رمق المأمون بطرف عينيه :
    ـ أنت لا تنظر الا الى بغداد .
    ـ إذا دانت لك بغداد يا سيدي دانت لك الدنيا .
    ـ أنا لا أخشى بني العباس.. كل ما أخشاه هم أبناء علي .
    ـ لقد أخمد الرشيد أنفاسهم.. وبالأمس رأيت محمد بن جعفر كيف يخلع نفسه ذليلاً في مكة ويعترف لك بالفضل .
    ـ والمدينة ؟!
    ـ ليس فيها أحد !
    ـ وعلي بن موسى ؟!
    ـ لم اسمعه يتحدّث بشأن يخيفنا.. إنّه ساكت .
    قال المأمون وهو يحرّك وزيره :
    ـ ان سكوته يرعبني !
    ـ لا أفهم ما تقول !
    ـ أنت لا تدري من هو !.. ما زلت اتذكّر كيف هبّ الرشيد


47
لإستقبل أبيه.. لقد اعترف لي بأنه أحق بالخلافة والملك منّا .
    ـ ولكن هذا لا يعرف أحد !
    ـ كثيرون يعرفون ذلك نحن وهم وكثير من الناس.. حتى هؤلاء المعتزلة الذي تطريهم... يتقربون يوماً بعد يوم من القول بأفضلية علي بن أبي طالب وحقّه وهذا يعني الكثير .
    انتهت اللعبة كالعادة لا غالب ولا مغلوب ، تثاءب المأمون ونهض الفضل مستأذناً ، خمد بريق عينيه ، لكأن شيئاً يتهاوى في أعماقه إن هذا الشاب الذي أعدّه سُلماً لمجده يفاجئه هذه الليلة بعقل جبّار ودهاء أين منه دهاء أبيه الرشيد وجدّه المنصور؟!


48
6
    لم ينم المأمون تلك الليلة ، كان يفكّر.. يفكّر في أولئك المشرّدين من ابناء علي وفاطمة ، كل رجل منهم يحمل مشروعاً للثورة ، لكأنهم شظايا ملتهبة ، تتناثر من بركان خفي.. بركان يشبه قلب يتفجّر بعواطف لا نهاية لها..
    ما يزال يتذكر ثورة « ابن طباطبا » 19 ، التي كادت تطوي بساط العباسيين الى الأبد .
    هتف المأمون من أعماق نفسه :
    ـ النار تحت الرماد!! ما ذا أفعل.. يا للقدر.. يالقدر السابع من « ولد العباس »!.


49
    من يرى المأمون تلك الليلة وهو يطلّ من خلال النافذة على حدائق القصر يحسبه شبحاً من أشباح الليل.. كان يفرغ كأساً من النبيذ في أعماقه ، وقد سرى دبيب خدر كقوافل من النمل لا نهاية لها...
    تمتم كأنه يحدّث نفسه ، ولعلّه كان يخاطب شخصاً يتخيّله :
    ـ هؤلاء الحمقى لا يفهمون ما أفعله.. يظنون بغداد كل الدنيا لا يعرفون ماذا يجري في المدينة ومكّة والبصرة والكوفة وفي خراسان !!
    لا أحد يعرف ماذا يموج في قلب المأمون... ذلك الشاب الذي وجد نفسه بالرغم من كثرة جيوشه وحيداً ، لقد خسر الفوز بثقة العرب بعد مقتل الأمين ، فالناس لا يغفرون لقاتل الأخ فكيف اذا كان المقتول ابن زبيدة العربية العباسية ؟!
    كان يعاني هواجس مدمّرة ، فالبرغم من مصرع الأمين ولكن أحداً لا يعترف به خليفة ، بغداد ما تزال غاضبة والكوفة ترنو الى ثائر علوي آخر والمدينة ومكة والبصرة مترددة والشام يترقّب .
    لقد اهتز الحق العباسي في الحكم وارتفعت همسات


50
تدعو الى أهل البيت... في ظلّهم تتحقق عزّة الاسلام والعرب .
    لم تبق سوى خراسان أملاً ، فهذا النسب الضعيف من أمّه قد ينفع في وقوف خراسان الى جانبه..
    خراسان مخزن الرجال الاشدّاء .
    ولكنّ هؤلاء الفرس ذائبين في حبّ آل بيت الرسول ، وقد بدأوا يدركون أكثر فأكثرهم من هم آل الرسول ؟ ولد العباس عم النبي بفضائحهم ؛ أم أبناء علي وفاطمة ابنة النبي عليه السلام ؟
    ما تزال ذاكرة الأبناء عن الأجداد تحمل صوراً مشرقة عن رحمة علي وعدله.. عن انسانيته.. وهاهم أولاده يحملون تراثه الانساني.. أفكاره نبله وشجاعته .
    وما تزال دعوة « الرضا من آل محمد » تلوّن أحلام المقهورين في كلِّ شبر من الأرض الاسلامية .
    فحبّ علي وابنائه أضحى عاطفة اسلامية ، حتى زبيدة كانت تتعاطف معهم فاقسم الرشيد أن يطلقها 20 !
    نهض متهجاً الى خزانة خاصة لا يفتحها غيره ولا يعرف ما فيها أحد سواه.. أخرج دواة وقرطاساً ليكتب.. لايدري أحد لمن يكتب ؟!