31
الأمر » 7 .
    حل المساء تلك الليلة من اُخريات « المحرّم » ونسائم أيلول الباردة تحمل رائحة النخيل الذي يحف دجلة كأهداب حورية .
    ارتدى خليفة ثياباً بيضاء وارتدى فوقها طيلساناً اسود اللون لإضفاء الصفة الرسمية كملك عباسي .
    وشهدت النخيل موكباً صغيراً فيه شبّان وفتيات يتجهون نحو « الحرّاقة الأسد » في مرساها بدجلة .
    لقد فضل الأمين ركوب زورقه الملكي ، فربما يكون له هيبة الليث وحصّة الأسد .
    وبدأ أسد البحر يشق أمواج دجلة صوب الشمال ، وأشار الى جارية أن تغنيه أبيات « أبي نؤاس » التي دشن بها زورقه العجيب ، وراحت الكلمات الشاعرة تتناثر فوق ضفاف دجلة :
سخر الله للأميـن مطاي فاذا ما ركابه سـرن بـرّاً عجب الناس إذ رأوك عليه ذات ظفر ونسر وجناحين لـم تسخـر لصاحب المحراب سار في الماء راكبـاً ليث غاب كيفف لو أبصروك فوق العقاب تشـق العبـاب بعـد العبـاب 8
    اشتعلت في اعماقه رغبة في أن يعانق غلامه الاثير 9 ،


32
ولكنه ترك ذلك لحين عودته .
    توقفت المجانيق عن قصفها وساد الهدوء تلك الليلة المتوتّرة وخامر زبيدة شعور بان المحادثات قد اسفرت عن نتائج طيبة ، ولكن قلقاً مدمّراً يعصف بقلبها ، ان قلب الأم لا يخطئ !
    كان الأسد النهري ما يزال يشق طريقه وسط الأمواج المتدافعة صوب البصرة ، فجأة من قلب الليل والمياه المتدافعة اندفعت اشباح مخيفة كالتي يرويها البحارة القادمون من المحيط الهندي... حدث كل شيء بسرعة فقد اهتز المركب الاسطوري ووجد الخليفة الشاب نفسه في قبضة عمالقة أولي بأس شديد .
    انبعث صرخات مذعورة من الفتيات ، والقي القبض على الخليفة الذي شدّ وثاقه بغلظة ؛ واستدار الزورق منقلباً باتجاه الجنوب الى حيث تربض قوّات طاهر بن الحسين وتترقب لحظة الاقتحام بشهوة من يريد استباحة آلاف الجواري الحسان .
    وفي لحظة يأس القى الخليفة العابث نفسه وسط أمواج دجلة لتبتلعه المياه ، ولكن عمالقة الانس انتشلوه ، حتى لا تنسج حوله الاساطير .


33
    وفي غمرة تلك الليلة العاصفة سقط رأس الخليفة العباسي السادس ليصلب على برج بغداد 10 .


34
4
    ليس هناك ما هو اكثر مرارة من أن يشهد الانسان لحظات الانهيار.. انهيار الاشياء.. اهتزاز ثوابت الزمن..
    كل شيء بات يهتز.. وخفت صوت الانسان لتنبري عشرات الاصوات الغامضة.. الاصوات الي تستمد قوّتها من غرائز كامنة في النفس البشرية في اللحظة التي يسقط فيها العقل أمام بريق الاطماع .
    الدنيا دوّامة يدور بأهلها ، إِعصار فيه نار... في ذلك الزمن الردئ حيث يهتز كل شيء تحت وقع سنابك خيل مجنونة ، وقف الرجل الذي ناهز الخمسين من عمره... عيناه تسافران في سماء لا انتهاء لها ، وكفّاه ممدودتان الى حيث


35
تتجه القلوب في اللحظات التي توشك فيها الأمواج أن تحطّم سفينة تائهة... كلمات هادئة متضرعة متوسلة الى الله :
    ـ « يا من دلّني على نفسه ، وذلك قلبي بتصديقه... أسألك الأمن والايمان في الدنيا وفي الآخرة » 11 .
    دخلت فاطمة.. جلست قرب شقيقها تستشعر الطمأنينة في عالم يموج بالرعب ، تتشرب الخير ، في عالم يعج بالشرور...
    يتألق في عينيها حزن مرير.. حزن يمتد الى ربع قرن هو كل حياتها المفعمة بالحزن .
    ما تزال تتذكر منذ عشرين سنة اللحظات التي أخذوا فيها أباها الطيّب الى بغداد... لم تره منذ ذلك الوقت ، هل تنسى اللحظة التي فارقت أمها الحياة كانت ليلة شتائية أيضاً.. ليلة قارسة البرد لم تجد فيها دفءً الا قرب شقيقها علي..
    وها هو علي في قلب الاعصار.. تماماً في المنطقة الساكنة.. في النقطة المركزية حيث تنعدم الحركة الاعصارية .
    وكانت فاطمة التي لم تجد كفئاً لها منذ أمد بعيد.. ترنو الى الانسان الذي تشعر بحضرته انها أكثر قرباً من الملكوت.. ملكوت السماوات البعيدة .


36
    ففي حضرته تشعر فاطمة بتجاوز حدود الذات ، لتستحم روحها في بحيرة من ذلك النور الذي يسطع في القلوب .
    لكأن آلاف القناديل تسرج في اعماقها .
    هكذا تعيش فاطمة لحظات قرب شقيقها الوحيد .
    البركان الذي انفجر بمكّة تصل هزّاته مدينة الرسول.. لقد ثار محمد بن جعفر 12 وقمعت الثورة في مهدها ، وها هي خيول المأمون الخليفة السابع تتجه الى المدينة للانتقام من العلويين .
    « الجلودي » 13 الرجل الغليظ القلب يقود جنوده لنهب دور الطالبيين في المدينة الخائفة .
    الخيول الغازية تدخل المدينة وهدفها نهب بيوت الطالبيين ومصادرة كل ما يملكون ، وفي رأس الجلودي الغليظ أوامر شخصية من الخليفة العباسي السابع تقضي بسلب النساء الحلل والحلي فلا يدع لهن الا ثوباً واحداً ترتديه .
    وعم الرعب ... كل شيء يهتز ، الخيول الغازية لاتعرف المقدسات ، والجودي يمضي في تنفيذ مهمته .
    نهض علي لمواجهة الرعب القادم ، جمع النسوة في


37
حجرة واحدة ، وقف لمواجهة السلّابين .
    قلب فاطمة وهو القلب الوحيد الذي وسع كل ما يموج في تلك الحجرة من آلام..
    وان ذاكرتها مشحونة بكل الملاحم الخالدة ، بكل ذلك التاريخ المثقل بالحزن.. بكل اللحظات المريرة التي عانتها المرأة... آلام خديجة ، هجرة فاطمة ، وأحزان زينب .
    ما تزال العاصفة الهوجاء تصفر بغيظ تريد أن تجتث شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء .
    وسمعت فاطمة وهي مستغرقة في تداعيات الزمن الراحل حواراً عند باب الدار :
    قال صوت فيه غلظة الجلادين :
    ـ انني انفذ أمر الخليفة .
    اجاب صوت هادىء :
    ـ اذا كان هدفكم سلب النسوة فسأقوم نيابة عنكم بذلك .
    قال الصوت الغليظ :
    ـ ومن يضمن لي أنك تفعل ذلك.. ان أوامر الخليفة تقضي بسلب النساء حللهن وحليهن الا ثوباً واحداً .


38
    قال الصوت الملائكي :
    ـ أقسم لك بانني سأفعل ذلك .
    نظر « الجلودي » الى الرجل العلوي رأى في عينيه إصراراً وثباتاً أين منه الجبل ، أدرك بأنه اذا اقتحم المنزل عنوة فانه سيدفع ثمن ذلك باهظاً ، قد يتفجر الوضع... انه لم يقبل في حياته انساناً يقف هادئاً في مواجهة سيوف متصلة ، رأى كثيراً من الرجال ينحون أمامه ، يطلّ من عيونهم رعب وخوف .
    أمّا الآن فانه يقف أمام انسان آخر.. انسان تطلّ عيناه على اعماق مغموره بالسلام !
    اشار الجلودي الى جنوده بالانسحاب ؛ والتفت الى الرجل الذي ناهز الخمسين قائلاً :
    ـ سأنتظر .
    دلف علي الى باحة الدار ثم الى حجرة في زاوية منه ، ونظر الى نسوة وفتيات .
    القلوب الصغيرة تخفق تصغي الى صهيل خيول مجنونة ادركت فاطمة ما يموج في قلب أخيها ... أن اصعب شيء على رجل أن يسلب امرأة حليّها.. أن ينتزع قرطيها وقلادتها


39
وأساور من يدها.. من أجل هذا تقدمت فاطمة لتحطّم تلك اللحظات المفعمة بالمرارة..
    انتزعت قرطيها وقلادتها وأخرجت كفيها من أساور من فضة وقدّمتها الى أخيها ، وسرعان ما انتقلت هذه الخطوة الى سائر النسوة فتجمعت في كفّي علي المبسوطتين ، الحلي والحلل فانطلق بها الى الذئاب المتربصة عند عتبة الباب .
    وهكذا مرّت العاصفة الصفراء ، تحسب نفسها قد اجتثت كل ما يقف في طريقها ، لم تعبأ بأوراد البنفسج المبثوث هنا وهناك من الأرض ، يبعث بشذاه في الفضاء الواسع دون أن يلتفت اليه أحد..
    وفي تلك الليلة الشتائية ، وفيما كان الجلودي يبتعد عن الدار جلست فاطمة تحدّث من اجتمعن حولها التماساً لدفء الكلمات المقدسة... قالت فاطمة :
    ـ حدّثتني فاطمة بنت جعفر بن محمد الصادق قالت :
    حدّثتني فاطمة بنت علي بن الحسين قالت :
    حدثتني فاطمة بنت الحسين بن علي قالت :
    حدثتني ام كلثوم عن أمها فاطمة بنت النبي عليه السلام قالت :
    « أنيستم قول رسول الله عليه و آله السلام يوم غدير خم : من كنت مولاه


40
فعلي مولاه... وقوله عليه السلام : انت مني بمنزلة هارون من موسى » 14 .
    والتفتت فاطمة الى فتاة صغيرة تتألق في عينيها النجلاوين أقمار ونجوم :
    اكتبي يا ابنة أخي . اكتبي حتى لا يضيع ميراث الانبياء .
    سكتت فاطمة كانت تدرك ان هذا الاعصار القادم من مرو يريد اجتثاث علي.. علي الذي ما يزال يقاوم عواصف الزمن... علي الذي يخفق حبّه في قلوب الأحرار والمقهورين .
    من أجل هذا قالت :
    ـ حدثتني فاطمة بنت جعفر الصادق قالت :
    حدثتني فاطمة بنت محمد الباقر قالت :
    حدثتني فاطمة بنت علي بن الحسين قالت :
    حدثتني فاطمة بنت الحسين قالت :
    حدثتني زينب بنت فاطمة قالت :
    حدثتني فاطمة بنت رسول الله قالت :
    سمعت رسول الله عليه السلام يقول :
    « لما أُسري بي الى السماء ، دخلت الجنة ، فاذا أنا بقصر من درّة بيضاء مجوّفة ، وعليها باب مكلّل بالدر والياقوت ، وعلى الباب ستر ، فرفعت رأسي ، فإذا مكتوب على الباب : لا إله