21
    غمغم امبراطور الشرق :
    ـ ألا تحبّ أن ترى محمداً وعبد الله2 ؟
    ـ أجل يا أمير المؤمنين إني لأحب ذلك .
    قال الأصمعي ذلك وحاول النهوض .
    تمتم الرشيد :
    ـ مكانك يا أصمعي.. سيأتيان .
    إشارة خفيفة ، وانطلق حارس يدعوهما .
    راح الاصمعي بعد أن حضرا يدير الحديث بلباقة أديب يعرف كيف ينفذ الى نفوس الملوك والأمراء .
    تساءل الرشيد وقد ذهب شطر من الليل :
    ـ كيف رأيتهما .
    ـ ما رأيت مثلهما في ذكائهما وجودة ذهنهما ، أطال الله بقاءهما ، ورزق الأمة من رأفتهما .
    ضمّ الرشيد ولديه الى صدره ، وكتم في اعماقه عبرة حرّى وعاد الانتظار والترقّب ، ونهض الأمين ، والمأمون ، وهما يتفننان في أدب من يريد مغادرة مجلس ملوكي ويوحي لمن يراهما انهما يليقان بولاية العهد .
    تداعت مشاهدة قديمة في ذاكرة الاصمعي.. تذكر لقاءه


22
الأول بهارون منذ سنين بعيدة... كان الفضل البرمكي يومها رجل له نفوذ السلاطين ، ولكن يالدورة الزمان !
    ها هو هارون الذي مخر عباب اللذائذ يهيمن عليه قلق في مستقبل عرشه ، تطارده نبوءة رجل من أبناء محمد..
    سوف تتهدم القصور ويستحيل دجلة الى نهر من دم ، ها هو هارون يقف عاجزاً مستسلماً أمام قدر غامض..
    وتذكر الاصمعي تلك الليلة الرهيبة التي رأى فيها رأس جعفر البرمكي.. ما تزال صورة هارون المتحفزة كالوحش ترعبه.. كانت ليلة رهيبة.. الكلمات المترعة بالرعب تلهب كيانه :
    ـ الحق باهلك يا اصمعي !
    وخانته قدماه وهو يتقهقر منحيناً الى الباب ، ومشى من دون « برذونه » ، ولكنه عندما تذكر ذلك في منتصف الطريق رفض العودة ، فقد يلقى القبض عليه ويلحق بجعفر وعندها ادرك سرّ وقوف السندي بن شاهك ورجال شرطته عند جسر الرصافة ذلك الصباح الغائم .
    تصوّر في تلك الحقبة الهائجة أن بغداد ستثور ، فالبرامكة ليسوا حمقى عندما كانوا يبعثرون الأموال بمناسبة وغير مناسبة..


23
    وركن كل شيء عاد الى طبيعته ، واختفى رجال الشرطة من جسر الرصافة وكانت مياه دجلة تجري تتدافع امواجها كما كانت منذ مئات السنين.. حتى جثمان جعفر بشقيه والذي ظلّ عاماً كاملاً اختفى واضحت جثته رماداً تذوره الرياح.. رياح التاريخ (3) .
    ان هواجس هارون التي تقض مضجعه تتجسد في الخطر العلوي فهؤلاء المشرّدون منذ اكثر من قرن هم مشاريع للثورة.. في كل مكان تطأه أقدام علوي تشتعل الثورة ، ويتألق حلم الحرّية .
    غمغم الرشيد كمن يحدّث نفسه :
    ـ كيف بك يا أصمعي إذا ظهر تعاديهما وبدت البغضاء بينهما ، ووقع بأسهما بينهما حتى تفسك الدماء ، ويودّ كثير من الاحياء انهم كانوا موتى .
    أعادت الكلمات الغامضة الأصمعي الى نفسه وهتف مأخوذاً بما يسمع :
    ـ أهذه نبوءة منّجم يا أمير المؤمنين ؟!
    قال هارون وفي عينيه حزن ويأس :
    ـ بل نبوءة عن الاوصياء.. عن الانبياء !


24
    وأدرك الأصمعي إن هارون يؤمن بكل ما يقوله موسى بن جعفر الصادق .
    أطرق هارون يفكر ، وكمن يحاول تغيير مسار الأقدار.. رفع رأسه وأشار الى حارس قريب :
    ـ عليّ بالعباسي!
    انطوى وقت ما عندما رأى الفضل بن الربيع الذي بنى مجده على أحلام زبيدة وتدمير البرامكة .
    قال الرشيد قبل أن يستقر في جلسته :
    ـ أنت تعرف محمداً وعبد الله ، عبد الله أكبر وفيه حزم المنصور ودهاؤه ، ولكن محمداً منهمك في ملذّاته منصرف الى ملاهيه ، فان تولّى الخلافة ضاعت البلاد وتبدّد ما بينته من الأمجاد .
    قال الفضل وهو يعرف كيف يستحوذ على عقل هارون :
    ـ يا أمير المؤمنين ، ان هذا أمر خطير،.. الزلّة فيه لا تغتفر وللكلام فيه مكان غير هذا .
    نهض الاصمعي ، ليجلس في زاوية بعيدة من زوايا القصر المنيف ، فيما ظلّ الرجلان يخططان لمستقبل الايام .
    قال الفضل :
    ـ لا تنسى يا سيدي أن أمّه عربية هاشمية.. ان زبيدة لا


25
تنافسها امرأة في المجد.. ولقد تولّى السفاح الخلافة قبل أخيه المنصور وهو اصغر منه لأن أمّه عربية وأم المنصور امرأة من البربر .
    ان أهل بغداد وقادة الجيوش والعرب لا يعدلون بالأمين أحداً .
    ـ والمأمون ؟‍‍‍‌‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‌‍‍!
    ـ لتكن خلافته بعد أخيه .
    ـ ان الأمين سوف يفكّر في اقصائه وتوليه العهد لغيره.. لقد رأى بعينيه كيف ننقض العهود .
    لا أظن ذلك يا سيدي فالعهد مودع في جوف الكعبة ولن يجرؤ أحد على نقض ما يؤسسه الرشيد .
    سكت هارون على مضض ، وحانت منه التفاته فرأى نور الفجر (4) يخترق ظلمة الفضاء... وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح .


26
3
    ومضى التاريخ يشعل الحوادث ، مات الرشيد بعد ربع قرن من الحياة اللاهية ، حياة حافلة بكل لذائذ الدنيا الفاتنة ، ومات الفضل البرمكي في السجن ، مات الرشيد ودفن في طوس ، قبل أن، يخمد ثورة اشتعل أوارها في خراسان .
    المأمون في خراسان يترقب ما تتمخض عنه الأيام.. الأمين يعتلي العرش الخلافة ، ويبدأ بتحريض من الفضل بن الربيع وزبيدة ومن نفسة الأمّارة بالسوء تنفيذ خططه في إقصاء أخيه من ولاية العهد.. ويعلن تنصيب ابنه موسى ويمنحه لقب « الناطق بالحق » !
    ويردّ المأمون بالغاء العملة التي تحمل اسم الأمين ،


27
ويرفض دعوات متكررة للحضور في بغداد .
    مئات العمّال ينهمكون ببناء ميادين للصيد حول القصور الخلافة في بغداد ، وعمال السفن يبدأون صنع سفن الخليفة الجديد... سفن تشبه سفن الأحلام .
    ومياه البحر المتوسط تحمل سفناً اسلامية متوجهه لاسترداد جزيرة « قبرص » .
    سيوف الاسلام في الاندلس تسترد « طرطوشة » من « لويس » ، ومعارك ضارية على الحدود ، وجفاف يبشر بقحط شديد .
    ثورة في « حمص » ضد الأمين ، ثورات في « افريقية » ضد « الاغالبة » والعيون التي تحلم بالحريّة تبحث عن علوي مشرّد يفجّر فوهّة البركان القادم .
    كل شيء يتزلزل تحت الأقدام... لم يكن هناك من شيء ثابت منذ رحيل السلام .
    العقول تسقط صريعة تحت بروق المطامع وجال من الشيعة ينفون وفاة الامام موسى ، ويرفضون إمامة ابنه علي يغتالون الحقيقة من أجل حطام رخيص دراهم معدودة .
    وعلي بن موسى يعلن امامته لوقف حالة التداعي ويربك


28
خطط « الواقفية » (5) في تصفية مذهب أهل البيت عليهم السلام .
    ها هو التاريخ يشعل الحوادث هنا وهناك..
    وقد انفجر الصراع بين الأخوين الأمين والمأمون .
    الأمين يحرّك جيشاً جرّاراً لاحتلال خراسان ، فيردّ المأمون باعداد جيش تحت قيادة « طاهر بن الحسين » ، فتدور ملحمة رهيبة جنوب طهران ويهزم جيش الأمين .
    وفيما كانت الحرب تدور رحاها ، اشتعلت ثورة في « دمشق » بقيادة « السفياني » مستنصراً بقبائل اليمانية .
    جيش آخر يغادر « بغداد » تحت قيادة « الانباري » يصطدم بقوات المأمون في همدان... وينتصر المأمون مرّة أخرى فيعلن خلافته رسمياً .
    أصبح مصير بغداد على كفّ عفريت ، الجيوش الخراسانية تزحف باتجاه بغداد تتساقط المدن ، كتفاحات في موسم قطاف .
    جيوش الامين تتراجع الى بغداد للدفاع عن عاصمة الرشيد .
    مئة الف أو يزيدون من اللصوص والمحتالين يتطوّعون ويشتركون في عملية الدفاع عن المدينة المهدّدة .


29
    وطلائع من قوات طاهر بن الحسين تصل بغداد وتأخذ مواقعها .
    المجانيق تبدأ قصفها المدينة المحاصرة وتدك مواقع المدافعين ، بغداد بين نارين نار في الشمال ونار في الجنوب ، ودجلة يجري غير مكترث بما يجري ، ونسائم أيلول تبشّر بشتاء قارص ، والرياح تجري بغير ما تشتهي « حرّاقات » (6) الأمين .
    أرخى المساء ستائره على بغداد ، وقذائف المجانيق تشتعل في سماء المدينة المحاصرة كشهب العذاب .
    الأمين في قصره على ضفاف دجلة ، وألحان موسيقية تنساب كمياه دجلة ، كانت القذائف الملتهبة تسقط قريباً ، وتفرّ بعض فتيات القصر مذعورات ، وكانت زبيدة تراقب قلقة ابنها الذي سينطفئ .
    سقطت قذيفة مشتعلة ، وتطايرت الشظايا لتسدل الستار على آخر حفل ملوكي للأمين .
    نهض الخليفة المهزوم ليواجه قدره ، لقد فرّ وزيره الفضل بن ربيع وتركه وحيداً .
    سوف تسقط بغداد في يد « ابن مراجل » وسينعم بلذائذ لا


30
نهاية لها .
    أمر الخليفة بنقل اسرته الى قلعة المنصورة ، وكانت حلقة الحصار تشتد .
    وفي غمرة الليل البهيم اشتعلت النار في قصور الخلافة قصور بناها المنصور والمهدي ، والرشيد ، تلتهما النار... الأمين ينظر من فوق « المنصورة » الى الحرائق ، فتحترق معها أحلامها .
    ابن الرشيد تموج في أعماقه رغبات مجنونة ، وحملته ذاكرته الى مشاهد من حياة أبيه اللاهية ، وما روته له زبيدة من أقاصيص هارون ، وحكاياته ، وها هي المجانيق تحرق كل شيء أحلامه وآماله ورغباته التي لا تنتهي و... حياته وهو بعد لم يبلغ الثلاثين .
    وفي لحظة يأس مرير ، وفيما كان قادته يفرّون تحت جنح الظلام كتب الأمين الى « هرثمة » قائد القوّات الشمالية :
    يسأله التوسط لدى أخيه ، مقابل التنازل عن الخلافة .
    وجاء الجواب : لقد « بلغ السيل الزبى » ، و« شغل الحلي أهله أن يعارُ » مع ذلك فاني مجتهد في الاصلاح وسآخذ لك عهداً ، وثيقاً يحفظ لك حياتك ولكن توجه اليّ ليلاً لنتباحث في