11
أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ... » .
    « ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربّك لقضي بينهم وانّهم لفي شكّ منه مريب .. » .
    كانت الريح ما تزال تعصف ومحمد يرتّل بصوت شجي آيات القرآن ... حتى وصل الآية الاخيرة في صفحة اليسار :
    « سنريهم آياتنا في الآفاق وفي انفسهم حتى يتبيّن لهم أنه الحق أو لم يكف بربك انه على كل شيء شهيد .. » .
    قبل محمد المصحف بخشوع ووضعه في مكانه .
    دفء الفراش ، وزمهرير الرياح وهي تولول في ازّقة المدينة الصغيرة جعلته يستسلم الى الرقاد مبكّراً ..
    الثلوج ما تزال تهطل بغزارة لتغطي كلّ شيء ... الأزقة والشوارع والاشجار ... أصبحت المدينة أكواماً من القطن المندوف ولم يعد يُرى من معالمها شيء .
    لا يدرى محمد كم مضى من الوقت عندما هبّ من نومه.. وقد التمعت حبّات عرق فوق جبينه .. نظر الى ساعته الفضية القديمة كانت عقارب الزمن تشير الى الثانية بعد منتصف الليل.. ما يزال الصوت الذي سمعه في عالم الأطياف جليّاً في أعماقه :
    ـ قم ! واسرج قناديل المنائر ..


12
    نهض من فراشه.. وراح ينظر الى الثلج المتساقط بغزارة..
    وقد بدت مآذن الحرم صامتة تنتظر طلوع الفجر ..
    انتابه هاجس في أن ما رآه في نومه لا يعدو أن يكون اضغاث أحلام .. لهذا عاد الى فراشه الدافىء لينام..
    مرّة أخرى رأى في عالم الطيف ذات الفتاة وهي تأمر بالنهوض ... لم ير وجهها كانت تقف وراء ستائر بيضاء مغمورة بالنور .
    هبّ من فراشه كان الصوت يملأ اعماقه ، وقد نفض عنه كل أثرٍ للنعاس .
    ارتدى معطفه الصوفي وحمل معه القنديل متجهاً الى السلالم .
    انبعث الضوء من قلب المنائر.. كينابيع للنور.. وقد بدت من بعيد كما لو كانت فنارات في مرافئ تعصف بها الريح .
    عاد محمد الى حجرته ، وكان قد بقي على طلوع الفجر ثلاث ساعات شعر بانّ ذهنه المتيقظ يأبى النوم ، وقد هزّته الرؤيا واشعلت في أعماقه آلاف القناديل.. الفتاة التي رآها من خلف الستائر بيضاء المغمورة بالنور ، ما تزال تهمين على ذهنه ، ولأول مرّة في حياته اجتاحته مشاعر لا تقاوم في معرفة مزيد عن تلك العذراء التي ألقت برحلها في قم منذ ألف عام.. الكتب العتيقة المرصوفة فوق الرف بدت وكأنها تدعوه الى رحلة في عمق التاريخ وهكذا بدأ محمد رحلته لسبرأ غوار زمن سحيق فلعلّه يرى عن قرب عذراء قم .
    التاريخ ذاكرة الجنس البشري.. ذلك الشيخ الغارق في السنين


13
والحوادث يفرك جبينه المليء بالغضون ليضيء شمعة في هذا العصر أو ذاك ، وفي هذه النقطة من دنيا الله الواسعة أو تلك.. ترى ماذا يحكي عن تلك الفتاة التي جاءت الى قم على قدر؟!
    الرياح الباردة ما تزال تهبّ بشدّة ، والثلج ما يزال يهطل بغزارة وقد غفت المدينة الصغيرة.. وحدهم المسافرون في تلك الارض الغارقة في الليل والثلج ، يفتحون أعينهم بصعوبة لينقلوا خطاهم في معالم الطريق ... ومحمد جالس في حضرة الشيخ يصغي الى صمته المدويّ .


14


15
1
    مثلما هبّ موسى بن عمران في وجه الفرعون.. مثلما هبّ في وجه هامان وقارون ؛ هبّ موسى بن جعفر في وجه هارون.. هارون الذي قال جدّه من قبل : إنّما أنا سلطان الله في الارض... انه ظلّ السماء في الارض... انه مشيئة الله وإرادته...
    من أجل هذا نهض موسى بأمر الله ليقول لهارون لا.. جاء ليطالب بفدك.. فدك التي كانت يوماً ما بقعة صغيرة فوهبتها السماء الى فاطمة لتكون نحلة لها.. لتكون ارثاً.. ولتكون فيما بعد رمزاً للميراث الغتصب والحق المقهور.. رمزاً لكل الارض الاسلامية .
    من أجل هذا نهضت فاطمة بنت محمد... لتطلب حقها في


16
فدك .
    ما اصغر فدكاً فوق الارض.. وفي الجغرافيا.. وما أوسعها في خارطة التاريخ ؟‍‍‍‍‍!
    اهتزت المدينة من اقصاها الى اقصاها فقد جاء موسى يطلب ميراث جدّته البتول... جاء يسترد فدكاً بحدودها العجيبة : من عدن الى سمرقند الى أفريقا الى سيف البحر مما يلي الجزر وارمينيا...
    اشتعل هارون حقداً.. ان موسى يهدد عرشه.. كنوزه.. وقصوره سلطانه ودولته...
    وقفت فاطمة بسنيها الستّ تترقب عودة أبيها الذي خرج عند الفجر ولم يعد.. ليست فاطمة وحدها كانت تنتظر عودة الرجل الأسمر الذي يحمل في وجهه طيوف النبوّات.. بل المدينة بأسرها كانت تترقب ما يريد هارون من موسى..
    كانت تنتظر الى شقيقها علي وقد بدا وجهه سماءً تنوء بغيوم حزينة.. أدركت فاطمة أن أباها سيغيب ولعلّه لن يعود.. ربّما لن تراه ولن تسمع صوته الدافئ.. شعرت فاطمة بالبرد.. بالخوف يملأ أعماقها.. امتلأت عيناها بالدموع حزناً..
    ان موجات الحزن أعمق تأثيراً من هزّات الفرح.. إنّها


17
تحفر أماكنها عميقاً في الذاكرة.. ولا شيء أخلد في دنيا الطفولة البريئة من مشاهد اليتم..
    لقد فقدت فاطمة امها قبل أن تعى ما حولها من الدنيا وها هي تشهد العاصفة.. عاصفة القدر عندما تنتزع الأيدي الغليظة أباها الرحيم من أهله وبنيه ، لتثقله بالقيود والأغلال..
    نظرت فاطمة الى أخيها.. خُيّل اليها أنها ترى سماءً مثقلة بالغيوم... الله وحده الذي يعرف اغوار الحبّ الذي تتدفق ينابيعه الصافية في قلب فاطمة.. فاطمة التي شهدت بأمّ عينيها عاصفة الزمن المرير..
    لقد بدأ زمن الشتات.. زمن التشرّد.. زمن تصبح تهمة الزندقة فيه أهون بكثير من أن يقال هذا من أبناء علي.. من أحفاد محمد...
    هارون يخشى موسى.. يخشى كلماته... إنّها صدى لكلمات محمد... لخطب علي .
    وقفت فاطمة تودّع من بعيد قافلة أخذت طريق البصرة ـ وقد خفق قلبها الى قبّة تحفّها سيوف ورماح.. ان قلبها لا يخطئ..
    غابت القافلة في الأفق البعيد.. وكانت السماء ما انفكّت


18
تمطر على هون .
    عادت فاطمة مع شقيقها علي.. عادت تجرجر نفسها وخطاها الى منزل بدا في ذلك الصباح الغائم خيمة مزقتها رياح الزمهرير.. لقد رحل الاب.. انهار عمود الخيمة.. رحل السلام.. وربما دون عودة نظرت فاطمة الى السماء المثقلة بالغيوم.. والمطر.. انبسجت دموع طفولية من عينيها.. دموع تشبه مطراً حزيناً راحت تتساقط بصمت .
    يالوعة اليتم في قلوب اليتامى.. ويا لقسوة الزمهرير ، زمهرير الخوف... الخوف من المجهول..
    عندما يرحل الأب تصبح الدنيا برداً وصعيقاً.. تصبح بلا شمس.. بلا دفء ولا نور .


19
2
    ومضى التاريخ يشعل الحوادث هنا وهناك في دنيا الناس .
    وتمرّ الايام متتابعة كأمواج نهر تتدافع باتجاه نقطة ما .
    وفي بغداد عاصمة الشرق ، تربّع هارون ، يقود أزمّة الأيّام... يحاول دفع الأيام في اتجاه الذي يريد ، ويأبى التاريخ . جلس هارون يفكّر ويدبّر ، وبدت آثار الارهاق على وجهه المكدود لكأنه يصارع قدراً لا مفرّ عنه .
    ولو قدّر للمرء أن يجوس خلال القصر تلك الليلة لرأى كيف يسعى الانسان بكل ما أوتي من قدرة الى تغيير مسار التاريخ .


20
    ها هو الرشيد تجتاحه موجة من الأرق المدمّر ، الأرق الذي لا يمكن مواجهته برحلة في مياه دجلة ولا ارتياد قصور برامكة وعبّ كؤوس اللذة.. لقد اندثر البرامكة الى الأبد ، ولم يعد الرشيد يستمتع بالليالي الحمراء فقد غزا جسده مرض لا يُعرف دواؤه ! واستولى عليه هاجس الخوف على ملكه العريض الممتد من سمرقند الى حدود أفريقيا ؛ وما برحت الغيوم المسافرة تهطل في تلك الاراضي المترامية لتتدفق بعد حين ذهباً وفضاً ؛ وهارون غارق حتى هامة رأسه في بحر من اللذائذ فكأنه عاد الذي أراد أن يبني جنته في الأرض !
    ولكن ما باله هذه الليلة مكدّر الخاطر ، تعصف في رأسه آلاف الهواجس كخنازير وحشية ؟!
    اشار الى حارس يقف كتمثال :
    ـ عليّ بالاصمعي !
    وما أسرع أ، جاء فجلس قريباً منه ، وأدرك الاصمعي أن هارون يصارع هواجس في أعماقه.. هواجس لا نهاية لها !
    وطال الانتظار ، لشدّ ما يتغير الكائن البشري... أين دماء العافية التي كانت تموج في وجهه ، لقد غادره ذلك الألق الوردي وحلّت مكانه صفرة رجل حيث الخطى نحو رمسه .