251
الامام على ولاية العهد قد أُفرِِجَ عنهم وأُسندت لهم مسؤوليات يمارسونها من وراء الحجاب !
وهؤلاء وغيرهم كانوا على استعداد تام لاغتيال الامام في أية لحظة ! إنَّ قدراً ما كان يسوق الحوادث باتجاه مصير بدا لا مفرّ منه...
قدراً لا يمكن الفرار منه .
ودخل الريّان على الامام وقد اكتنفت وجهه سحب حزينة جلس قريباً من الامام وغمغم :
ـ لقد باعوك يا سيدي بثمن بخس !
ـ..
ـ هشام بن ابراهيم يا سيدي !! باعك للفضل والمأمون.. بدراهم معدودة .
وجاء صوت الامام :
ـ وبيوسف من قبل فعل مثل ذلك .
وتمتم بصوت حزين :
ـ « أو كالذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها » .
قال الريّان بعزم :
ـ فاسمع لي باغتياله !
252
والتفت الامام بقوّة :
ـ إيّاك أن تفعل ذلك يا ريان !! 136
ـ لقد جئت لتوديعك يا سيّدي... سأذهب الى العراق اقترب من الامام يملأ صدره من عبير النبوّات..
ونهض ليغادر المنزل فاذا به يسمع صوتاً :
ـ يا ريّان ارجع !
ـ!!!
ـ الم تحبّ أن أعطيك قميصاً ؟ ودراهم تصوغها خواتيم لبناتك ؟
ـ يا سيدي لقد عزمت على أن أسألك ذلك ولكن.. حزن فراقك أنساني ذلك !
ورفع الامام وسادة قريبة منه فإذا قميص أبيض بلون حمائم السلام ودراهم فضية مما سُك باسمه الكريم عددها ثلاثون .
ـ هي لك يا ريّان...
وعندما نهض الريّان مرّة أخرى :
ـ يا ريّان !
ـ نعم يا سيدي ؟!
ـ اتعلم أن الله بعث عيسى بن مريم قائماً بشريعته هو
253
دون السنّ التي يقوم فيها « أبو جعفر » على شريعتنا ؟ 137
وأدرك الريّان أنّ الامام ينعى نفسه ويبشّر باستمرار الرسالة وأنّ محمداً سينهض بالأمر صيباً .
من أجل هذا دمعت عيناه وهو يتمتم :
ـ « ( ذرّية بعضها من بعض ).. و( الله أعلم حيث يجعل رسالته
)
وطفا سؤال : لماذا قال الرضا ذلك لي ؟
ومضى الريّان ليجد جواب سؤاله بعد شهور في بغداد عندما يعمّ الحزن بيوت الشيعة في بغداد وتذرّ الفتنة رأسها في « بركة زلول » 138 !!
254
32
لم تكد القافلة الصغيرة تبلغ جبل الملح حتى إنتشر خبر قدوم حفيدة محمد في مدينة قم... كفراشة تبشّر بالربيع كان الخبر البهيج يطوف منازل المدينة الصغيرة .
اجتازت القافلة جبل الملح على بعد عشرين ميلاً من قم لتحط رحلها في خان القوافل حيث تقع غربه المرتفعات المشرفة أما في الشرق فقد بدت فلاة منبسطة تنتهي عند سلسلة جبلية صغيرة .
كانت فاطمة تنوء بجسمها ولكن إرادة لا تقهر تشعل في أعماقها تصميماً في الوصول الى الأرض الطيبة .
وسألت فاطمة بصوت خافت :
255
ـ كم بقي من الطريق ؟
واجابت فتاة كانت ترافقها :
ـ اميال معدودة يا سيدتي... وهذا الخان آخر محطّات الطريق !
واشتعلت في ذاكرتها الحوادث والأيام الماضية.. مشاهد قديمة وجديدة وكان آخرها المشهد الدامي على أبواب « ساوة » لقد شهدت مصرع الرجال الاوفياء.. احتراق الفراشات وسط اعصار فيه نار.. شهدت مصرع أخيها « هارون » اغارعليه الذئاب البشرية وهو يتناول رغيفة « لقمة » يقيم بها أوده استعداداً للجولة الأخيرة .
لكنها لم تر أخاها الفضل وجعفر !
وانبعث في قلبها أمل.. مثل ساقية تنثال مياهها على الضفاف.. مثل جدول عذب يهب رحيقه الفراشات والأزهار في طريقه..
خرجت جماهير « قم » تستقبل ابنة الرسالات الالهية ، النساء والرجال كانوا ينتظرون ابنة الكاظم ، وشقيقة الرضا ويتطلّعون الى الطريق.. طريق القوافل.. ستبزغ الشمس من الشمال !
256
واستند رجل اشعري 139 الى جدار قلعة قديمة يعود تاريخها الى « انوشيروان » .
وكان شيخ عربي سمع في شبابه أحاديث من الصادق.. أحاديث تشبه النبوءات يتطلّع الى الطريق وقد تراءت له مليئة بالبلّور..
لقد حوّلت الدموع في عينيه المرئيات الى بلور ولؤلؤ منثور ! دموع لا يعرف تفسيرها.. دموع فرح أم دموع حزن.. فرح باستقبال ابنة الرسالة.. أم حزن لأولاده الانبياء.. تتوزعهم مدن الأرض هنا وهناك كبحر غاضب ينثر الآلئ والأصداف.. أو كسماء تبعثر نجومها الفتية فوق الأرض !
وهتف رجل حديد البصر :
ـ إنها قافلة قادمة !
ولاح طيف في الأفق البعيد... وشيئاً فشيئاً تألفت صورة لسفن الصحراء.. تنساب كزوارق هادئة باتجاه الضفاف...
وهتفت فتاة مبتهجة :
ـ جاءت فاطمة !
وخشعت القلوب لاسم مضيء لسيدة النساء فاطمة الزهراء.. وهاي ابنتها قادمة تحمل اسمها وقبساً مضيئاً من
257
روحها... وملامح من صورتها المشرقة.. وذكرى لها لكأن الزهراء البتول تقدّمها الى فتيات قم مثالاً ونموذجاً.. مثالاً في الطهر ونموذجاً في الاستقامة .
وبادر الرجل الأشعري ليأخذ بزمام ناقة فاطمة ، ليقودها الى منزله.. ودخلت فاطمة المدينة الصغيرة ولتدخل بوابة جديدة من التاريخ.. لتستحيل الى صدفة تنطوي على لؤلؤة هي درّة من درر الوجود الانساني..
واجتازت الناقة مزارع للخضار لتعبر بعدها النهر المالح وقد نهضت بيوت طينية متواضعة ، تجسد معاناة أهلها من قسوة الطبيعة والجفاف ، وتعسّف الحكام في أخذ الضرائب..
وعندما حطّت فاطمة رحلها في بيت الرجل الكريم تقاطرت فتيات قم للتبرك بخدمتها.. فتيات صغيرات بعثتهن امهاتهن أو آباؤهن لينهلن الطهر والعفاف والعلم من أهل بيت آتاهم الله العلم وطهرهم تطهيرا .
وشاعت الحياة في المنزل ، وتفجّرت ينابيع القرآن والصلاة.. ووصايا الانبياء..
وتألقت سورة مريم.. مريم العذراء البتول... مباركة هي فاطمة ابنة موسى طاهرة هي شقيقة الرضا...
258
واستحالت زاوية في حجرة متوسطة الى محراب ومصلّى.. وبالرغم من عنف الرياح الخريفية في أخريات تشرين فقد كانت كلمات فاطمة تبشر بالربيع القادم من الأفق البعيد البعيد... لقد سمعت عن أبيها قوله :
ـ رجل من أهل قم يدعو الناس الى الحق ، يجتمع معه قوم كزبر الحديد ، لا تزلّهم الرياح العواصف 140 ...
وفيما كانت الرياح الخريف تعصف بعنف ، والعالم يموج بالفتن والمؤامرات ، و« مرو » غارقة في الدسائس ، وبغداد في فوضى... جلست فاطمة في محرابها... في سكينة وطمأنينة.. وكانت روحها المتوهجة بإيمان لانهائي تسطع من عينين نجلاوين... كحورية قدمت من سماوات بعيدة .
جلست فاطمة تحدّث أهل الأرض قبل أن تعود الى أرض الوطن..
هكذا بدت فاطمة بوجهها المضيء يلفّه خمار وردي ، ورداء أبيض بلون حمائم السلام..
وفيما كانت « عُليّة » 141 عمّة خليفة « مرو » واخت خليفة « بغداد » تصدح بالغناء.. وبغداد اللعوب لاهية.. بغداد التي نصب ابن شكلة خليفة.. وحتى لا يكون الرضا خليفة !
259
جلست فاطمة في المحراب تحدّث :
ـ سمعت فاطمة بنت جعفر الصادق قالت :
سمعت فاطمة بنت محمد الباقر قالت :
سمعت فاطمة بنت علي السجّاد قالت :
سمعت فاطمة بنت الحسين قالت :
سمعت زينب بنت علي قالت :
سمعت فاطمة بنت رسول الله قالت :
سمعت رسول الله يقول : « ألا من مات على حبّ آل محمد مات شهيداً » 142 .
وكانت الكلمات المقدّسة تستحيل الى بذور في الأرض الطيبة التي ستكون « مأوى الفاطميين » 143 .
وفي ليالي ربيع الثاني ، وفيما كانت الخريف يلملم أيامه القليلة ويثير برياحه الحنين في قلوب الغرباء... كانت مواقد الشتاء تتوهج استعداداً لليالي البرد الطويل... ودعوات من القلوب المفعمة بحب النبي وآله تصّاعد الى السماء أن لا ترحل فاطمة.. أن تبقى هذه الروح الملائكية بينهم.. ولكن الروح عندما يشتدّ سطوعها يعجز الجسد الآدمي عن حملها فتعود الى السماء.. وقد ازاحت عنها اردية الطين وتراكمات التراب..
260
وهكذا كانت فاطمة تستعد للرحيل.. تستعدّ لغادرة الأرض المترعة بالويلات..
لم يبق من عمرها الربيعي سوى أيام معدودة.. كشمعة في أخريات ليل طويل.. كقنديل يرسل آخر حلقات ضوئه الشفاف... كشمس... كقمر.. كنجمة قبيل الغروب .