261
33
    غيوم « كانون » تتحشد في السماء ، رسمت خلجاناً وشواطئ وبحريات زرقاء وربىً وتلالاً من قطن... وأصبح المشهد السماوي أخاذاً...
    وأوت فاطمة الى المحراب.. جسمها النحيل ينوء بحمل الروح المتوهجة بالرحيل.. المبهورة بالسفر الى عوالم زاخرة بالنور.. بالمحبّة.. والسلام...
    تريد أن تتخفف من عناصر الأرض.. الأرض المثقلة بالدماء... المنقوعة بالدموع.. تريد الرحيل الى عالم آخر لانكد فيه ولاعناء... إن قوّة ما تشدّها الى الأعالي..
    وهوّمت عيناها.. لتفتحان على عالم لا يراه الانسان الا


262
بعد أن يغمض عينيه...
    كانت ترتدي حلّة بيضاء بلون الثلوج في القمم.. بلون حمائم السلام..
    كانت تحلّق في الأعالي... ورأت نفسها تلج عالماً أخضر.. كل ما فيه بلون الربيع.. وحوريات الجنّة يخطرن بين الأشجار الخالدة.. ورأت نهفسها تطوف في عالم شفاف ملوّن.. عالم يزخر بأجنحة الملائكة... مثنى وثلاث ورباع...
    ورأت فتاةً ترفل بحلل من استبرق وسندس ، تطوف حولها الحوريات... ووجدت نفسها تهفو اليها وتهتف.. آه... يا أمي ! خذيني إليك !
    وراحت تبكي في حضن مفعم برائحة جنّات الفردوس..
    وانتبهت فاطمة وكانت قطرات الدموع ما تزال عالقة في الأهداب.. وتمتمت :
    ـ آه يا أمي ! خذيني اليك..
    وكانت السماء قد شرعت تنث مطراً ناعماً هادئاً كدموع فاطمة وهي تبكي بصمت..
    وفاحت رائحة الأرض المرشوشة بمياه سماوية طاهرة


263
وكانت فاطمة تذوي كشمعة في قلب الظلمات.. ظلمات الأرض المتكاثفة في ليالي أُخريات الخريف..
    وأدركت نسوة في المدينة أن فاطمة على وشك الرحيل..لقد وهن صوتها وهي تخاطب فتاة في عمرها .
    ـ أودّ لو أغتسل يا أخيّة .
    وهبّت فتاة في العشرين وقد انبعث في قلبها أمل بشفاء فاطمة..
    اغتسلت فاطمة.. تطهرتّ من أدران الأرض.. وارتدت ثوباً جديداً مضمحاً برائحة الكافور..
    وأضاءت ابتسامة ملائكية وجهها كانت تريد أن تكون لحظات الرحيل.. لحظات حبّ لفتيات قم.. هذه المدينة الطيبة.. ولتبقى ذكرى عزيزة...
    كل من في المنزل أحسّ أن هذه الحجرة الصغيرة ستشهد لحظة الرحيل..
    رحيل الروح الطاهرة.. انطفاء الشموع.. ورحيل النجوم.. ومغيب شمس أضاءت مدينة قم سبعة عشر يوماً 144 .
    وأوت فاطمة الى فراشها.. تلك الليلة ، يشعُّ من عينيها


264
الرضا.. وبدتا كنافذتين تطلّان على عالم مفعم بالمحبّة.. بالطمأنينة.. والسلام..
    وظنّت فتاة كانت ترافقها في رحلتها من المدينة.. أنّ دماء العافية تعود من جديد.. وأن السمّ 145 الذي ديف لها في ساوة قد تبدّدث آثاره..
    وبعد مطلع الفجر.. جاء رجال ونساء وأطفال.. جاءوا لعيادة عذراء قم.. ولكن فاطمة كانت قد رحلت بعيداً.. رحلت الى الأعالي الى عوالم مفعمة بالسلام..
    لم يجدوا سوى نعشاً ودموعاً كأمطار الخريف ليلة أمس..
    وبكى الرجل الأشعري.. كان يبكي الربيع الراحل.. وفتاة تودّع العالم وحيدة.. لا أب.. ولا أم.. ولا أخ.. الى جانبها...
    انه القدر يعصف بأبناء فاطمة الزهراء... تتوزعهم أصقاع الأرض وأرجاء الوطن الاسلامي المقهور..
    في صباح الثاني عشر من ربيع الثاني لم تشرق الشمس ظلّت وراء الغيوم التي كانت تسحّ ما تسح من دموعها الثقال.. لكأن السماء تبكي...
    وتمّت مراسم تجهيز النعش في صمت وحزن ، وكان


265
فصل الخريف يهيج عواطف الحنين في النفوس..
    وبدا رحيل فاطمة في ذلك الصباح الغائم رمزاً لغياب كل الأشياء الملوّنة.. واغتراب الشمس .
    وسار موكب مهيب ، وبدا النعش الابيض حمامة شهيدة..
    السماء ما تزال تنثُّ مطراً ناعماً ، وقد ظهرت الشمس من وراء الغيوم المتكاثفة باهتة منطفئة.. وبساتين الرمّان تنفض ما تبقى من أوراقها الصفراء المثقلة بنداوة المطر.. ومرّ سربٌ من الطيور المهاجرة ، وارتفع خيط من الدخان من وسط مزرعة صغيرة للخضار ، وشمّ المشيعون رائحة حطب..
    الموكب الذي تؤلف الفتيات والأمهات القسم الاعظم منه يتجه « بابلان » على ضفاف النهر من المكان الذي عبرت منه الفتاة المدينة..
    فاحت رائحة الارض النديّة حيث حط النعش.. وظهرت مشكلة لم يحسب لها حساب من قبل.. ترى من ينزلها الى مرقدها ؟!
    وتذكر بعضهم الرجل الصالح : « قادر ».. كان شيخاً طيّباً


266
يعرفه الناس بالصلاح وهتف الرجل الأشعري :
    ابعثوا وراءه...
    وفيما كانت السماء تنث مطرها الطاهر ورائحة التراب المعطور تصّاعد وتملأ الفضاء.. ظهر من جانب « الرملة » فارسان ملثمان... قفزا من فوق حصانيهما وتقدما الى نعش وسط دهشة المشيعين... هل كانا بعض إخواتها.. الفضل وجعفر.. القاسم ؟!
    تقدم أحدهما لينزل في القبر... وحمل الآخر النعش ليضعه فوق كفّي الذي نزل.. كان نعشاً خفيفاً.. طاهراً.. يشف عنه شذى الروح الطاهرة..
    مباركة هي فاطمة.. مباركة هي الفتاة العذراء التي هبّت لنجدة أخيها فاغتالها الزمان والقدر.. وطاهرة هي عذراء قم...
    وفاحت رائحة التراب المضمخ بالمطر الناعم وهو ينثال حيث رقدت الفتاة الطاهرة الى يوم البعث...
    وارتفعت كومة تراب طيّب شبرين.. وتحلّقت أمّهات وفتيات... وكانت العذارى يمسسن التراب المضمخ برائحه


267
جنّات الفردوس بمناديل بيضاء لتكون مباركة طاهرة... والأمهات يذرفن دموعاً صامتة كمطر خريفي...
    وامتطى الفارسان الملثمان فرسيهما ليتجها صوب الرملة.. ولختفيا في الأفق الغائم كما ظهرا أول مرّة !!


268
34
    مرو تستعد لعيد الاضحى واليوم يوم عرفة ، وكان الامام يستعد للذهاب الى مسجد المدينة ، وكانت مياه الحوض التي غمرتها شمس حزيران بالدفء تنثال فوق الوجه الأسمر وكانت كفّه التي يتألق فيها خاتم عليه نقش بخط عربي جميل : « العزة لله » 146 تغطس في الماء الرائق .
    نظر الامام الى صاحبه وكان رجلاً يروي الأحاديث :
    ـ يا عبد السلام 147 ! الايمان قول وعمل .
    ـ أجل يا سيّدي .
    ـ يا عبد السلام تكلّم... أرى في عينيك سؤالاً .
    ـ يا بن رسول الله ما شيء يحكيه الناس عنكم ؟!


269
    ـ ما هو يا عبد السلام ؟
    ـ يقولون : انكم تدعون أن الناس عبيد لكم !!
    وظهرت سحابة حزن فوق الوجه الاسمر وهو يتجه بكيانه الى السماء وقطرات الماء تتساقط كدموع :
    ـ اللهم فاطر السموات والأرض... عالم الغيب والشهادة... أنت تشهد بأني لم أقل ذلك قط ولا سمعت أحداً من آبائي قاله..
    وأنت العالم بما لنا من المظالم عند هذه الأمة.. وإنّ هذه منها..
    والتفت الرجل الاسمر الى صاحبه :
    ـ يا عبد السلام إذا كان الناس كلهم عبيدنا على ما يقولون ، فعلى من نبيعهم ؟
    يا عبد السلام ! أمنكر أنت لما أوجب الله عز وجل لنا من الولاية كما ينكره غيرك 148 ؟؟
    وعندما خرجا ألفيا عند الباب فقراء المدينة ينتظرون.. وحارس فظ يدفعهم بقسوة.. وكانت العيون التي أطفأها الجوع والقلوب الكسيرة تنتظر بأمل..


270
    وظهر الرجل الأسمر كغيمة تحمل بركات السماء... مزنة تبشر بالخصب والنماء..
    وراحت صرار الدراهم تملأ الأكف المعروقة.. فتشرق العيون بالفرح.. ورآه ذو الرئاستين وهو ينثر الصرار كالمطر فقال مبهوراً :
    ـ إنَّ هذا لمغرم !!
    فالتفت الامام إليه مجسّداً الرؤية الانسانية ! حيث تظهر الحقيقة .
    ـ بل هو المغنم.. لا تعدّن مغرماً ما اتبعت به أجراً وكرماً » 149 .
    ولمّا قضيت الصلاة وانتشر الناس... قال المأمون للامام وهو يحاوره :
    ـ يا أبا الحسن أخبرني عن جدّك أمير المؤمنين.. كيف يكون قسيم الجنّة والنار ؟ وبأيّ معنى ؟ فقد كثر فكري في ذلك .
    وجاء جواب الامام من حيث لم يحتسب السائل :
    ـ يا أمير المؤمنين : ألم ترو عن أبيك.. عن آبائه عن عبد الله بن عباس إنّه قال : سمعت رسول الله عليه السلام يقول : « حب علي إيمان