271
وبغضه كفر » ؟
    ـ بلى !
    ـ فقسمة الجنة والنار إذن كانت على حبه وبغضه.. فهو قسيم الجنة والنار .
    وسكت المأمون ثم قال :
    ـ اشهد انك وارث علم الرسول..
    وعندما وصل الامام منزله.. جاءه عبد السلام مهنئاً :
    ـ يا بن رسول الله : ما أحسن ما أجبت به المأمون !!
    أجاب الذي عنده علم الكتاب :
    ـ يا أبا الصلت : إنّما كلمته من حيث هو... ولقد سمعت أبي يحدث عن آبائه عن علي انه قال : قال رسول عليه السلام : « يا علي أنت قسيم الجنة والنار يوم القيامة.. تقول للنار هذا لي وهذا لك.. » 150 .
    ـ يا سيدي فاني أسمع أسئلة لا أعرف لها جواباً !
    ـ سل يا عبد السلام !
    ـ لِمَ لم يسترجع علي فدكاً لما ولي الأمر ؟!
    ـ « لانّا أهل بيت إذا ولينا الله عز وجل لا يأخذ لنا حقوقنا ممن ظلمنا الا هو.. ونحن أولياء المؤمنين ، انما نحكم لهم


272
ونأخذ حقوقهم ممن يظلمهم ولا نأخذ لانفسنا.. » .
    ـ يا سيدي لماذا مال الناس عن علي الى غيره بعد وفاة النبي.. وهم يعرفون فضله ، وسابقته ، ومكانه من رسول الله ؟
    ـ انما مالوا عنه وقد عرفوا فضله لانه كان قتل من آبائهم وأجدادهم وأخوالهم وأعمامهم ، وإخوانهم وأقربائهم المعادين لله ولرسوله عدداً كثيراً ، فكان حقدهم عليه لذلك في قلوبهم ، فلم يحبّوا أن يتولّى عليهم ، ولم يكن في قلوبهم على غيره مثل ذلك ، لانه لم يكن لهم في الجهاد بين يدي رسول الله مثل ما كان لعلي ، فلذلك عدلوا عنه... ومالوا الى سواه .
    ـ لِم لم يجاهد أعداءه خمساً وعشرين سنة بعد رسول الله.. ثم جاهد في أيام خلافته ؟
    ـ لانه اقتدى برسول الله عليه السّلام بتركه جهاد المشركين بمكة بعد النبوّة ثلاث سنة ، وبالمدينة تسعة اشهر ، وذلك لقلّة أنصاره وفعل علي ذلك لقلة أنصاره » 151 .
    نسائم حزيران التي الهبتها الشمس ، تلوذ بظلال الأشجار ، وقد بدأ الناس يتخففون من الملابس الصوفية وبدأت الثياب البيضاء المنسوجة من الكتّان تظهر ابتهاجاً بالعيد الذي سيحلّ يومه الضاحك غداً..


273
    والناس يرتادون سوق المدينة الكبير للتبضّع ، وقد ازدحمت السوق بالفلاحين والقادمين من القرى المجاورة ، وكان الفقراء والبائسين أكثر الناس استبشاراً بالعيد.. والاطفال يرتدون ثياب العيد الملوّنة.. وأطلّت فرحة ريئة من العيون التي ترى العالم أخضر بلون الربيع..
    وفي طريقه الى المنزل.. كان يراقب بشفقة مواكب البشر وفي القلوب خلجات حب.. لحظات شوق.. امنيات خضراء.. ولوعات حزن.. وهكذا الحياة نهر يتدفق.. تتدافع أمواجه.. يجري الى غايته.. ولكن الكثيرين لا يعرفون الى أين ؟
    ان الحياة ستصبح كريمة لو عرف الناس الطريق المستقيم !
    وسُمع الامام يدندن بشعر رقيق وهو يلج المنزل :
لبست بالعفـة ثوب الغنـى لست الى النسناس مستأنسـاً إذا رأيت التيه من ذي الغنى ما ان تفاخرت علـى معدم وصرت أمشي شامخ الرأس لكننـي آنـس بـالنـاسِ تهت على التـائه باليـاسِ ولا تضعّفـت لا فـلاسِ 152
وهتف صاحبه وقد رأى سخاءه على الفقراء حتى لم يبق عنده درهم :


274
    ـ أنت والله خير الناس !!
    والتفت الامام اليه :
    ـ لا تحلف ! خير منّي من كان أتقى الله عز وجل ، وأطوع له.. والله ما نسخت هذه الآية : ( وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم ) 153 .
    وعندما حان وقت الغداء جلس الامام ينتظر حضور الجميع حتى إذا حضر السائس والبواب ، وجلس عبيد أتراك وأفارقه ، رفع الامام كفّيه الى السماء :
    ـ اللهم شكراً على ما رزقتنا.. حمداً على ما وهبتنا .
    والتفت الى الحضور وقد اشرقت ابتسامه تشبه اشراقة عيد الأضحى :
    ـ كلوا بسم الله !
    وهمس رجل في أذن الامام :
    ـ فداك يا ابن رسول الله.. لو عزلت لهؤلاء مائدة .
    وانطفأت الابتسامة في وجهه :
    ـ ولمَ أفعل ذلك ؟!.. إنّ الربّ تبارك وتعالى واحد ، والأم واحدة ، والجزاء بالأعمال 154 ...
    وقال بصوت يسمعه الجميع ليكون اعلاناً إنسانياً :


275
    ـ حلفت بالعتق.. ولا أحلف بالعتق الا اعتقت رقبةً ، واعتقت بعدها جميع ما أملك.. ان كنت أرى نفسي خيراً من هذا..
    وأشار الى فتى أفريقي يجلس في طرف المائدة :
    ـ اذا كان ذلك بقرابة من رسول الله... الا أن يكون لي عمل صالح فأكون أفضل به منه 155 .
    والتفت الى جميع عبيده قائلاً :
    ـ أنتم بعد هذه الساعة أحراراً .
    وهمس ياسر في نفسه وقد تفجّرت في قلبه ينابيع الحبّ لهذا الرجل السماوي :
    ـ لقد أعتقت ألف مملوك 156 ... فما أسماك يا بن النبي ؟!!
    تهب الرغيف للفقراء.. والحريّة للعبيد.. والخير للجميع .


276
35
    في منتصف ليلة العيد استيقظ سكان مرو وربّما القرى القريبة والمدن على هزّات أرضية خفيفة.. استمرت لدقائق متواصلة.. ارتجفت الأشجار.. والبيوت ، وارتجفت الانسان الذي جر نفسه لا شعورياً يهرع الى العراء وينظر الى السماء .
    وتمتم رجل مؤمن وهو يتأمل السماء المرصعة بالنجوم ، وقد اشتدّ بريق النجوم :
    ـ الحمد لله الذي من خشيته ترعد السماء وسكانها ، وترجف الارض وعمّارها وتموج البحار ومن يسبح في غمراتها 157 .
    واشرقت شمس العيد ساطعة تغمر التلال والروابي


277
بأنوارها.. وانتشر الناس بعد صلاة العيد كلّ حسب غايته من لهو وزيارة الأقارب والترحم على الموتى في المقابر .
    كانت فرق الجيش ما تزال تتجه الى نقطة في الجنوب الغربي من « مرو » التي بدأت تستعد لخلع ثوب العواصم .
    وشهد منزل الفضل لقاءات مشبوهة في الظلام وكان الذين يرتادون منزله يحرصون على اتخاذ جانب السرّية البالغة ، أمّا هشام بن إبراهيم فقد اصبح وكأنه أحد أعضاء اسرة ذي الرئاستين وكان يدخل ويخرج دون إذن...
    وفي تلك الليلة وفيما كانت الدوريات المسلّحة تطوف أزقة « مرو » وشوارعها.. جلس الفضل وهشام وبينهما صندوق ثمين مطعم بالجواهر يحوي وثائق رسمية هامّة..
    وكان هشام يعيد وربما للمرّة الألف قراءة كتاب زوّره باسم ولي عهد.. ويطالع المقدّمة التي لفقها مما يحفظ من أحاديث الامام وخطبه..
    أما الفضل فقد كان يطالع نص الكتاب المزور الذي يشيد بجهوده وخدماته للدولة هو وأخيه الحسن..
    ولا أحد يدري فيما إذا كان الكتاب قد زوّر للاستفادة منه


278
حال وقوع انقلاب عسكري يطيح بالمأمون أو أنه زوّر لتوزيعه في الاقاليم لتعزيز نفوذ ذي الرئاستين الذي أصبح الحاكم الفعلي للدولة.. وربّما للاحتفاظ به إذا قرر الفضل البقاء في خراسان وعدم عودة الى بغداد ؟!
    وغمغم الفضل وعيناه تبرقان كأفعى منتفخة بالسم :
    ـ لن يشك أحد في الكتاب .
    وعلّق هشام :
    ـ إنّ الرضا نفسه لن يساوره أدنى شكّ في مقدمة الكتاب.. لقد جمعته من أحاديث وخطبه !
    وتساءل الفضل وهو يطوي الكتاب بعناية فائقة ويلفّه بمنديل حريري .
    ـ كم صحبته ؟
    ـ من ؟!
    ـ أعني الرضا !
    أجاب ساخراً :
    ـ سنوات .
    ورمقة الفضل بنظرة فيها استصغار :
    ـ فما الذي دفعك الى أن تخذله ؟


279
    ـ ماذا تقصد ؟!
    ـ أريد أن أعرف قصتك معه.. ما الذي حصل لكي تغيّر رأيك فيه .
    أجاب الذي في قلبه مرض :
    ـ دعني من هذا.. متى كان آباؤه يجلسون على الكراسي ؟ حتى يبايع لهم بولاية العهد ، كما فعل هذا ؟! 158
    أعاد الفضل الكتاب الى الصندوق وتثاءب وهو ينظر بطرف خفي الى عميله وجاسوسه الذي اشتراه بثمن بخس .
    ونهض « الإسخريوطي » 159 ، بينما ظلّ ذو الرئاستين ساهراً على ضوء قنديل فضي.. يفكر ويدبّر.. فالطريق الى بغداد طويلة.. محفوظة بالاخطار.. مليئة بالمغامرات.. إن المأمون داهية بني العباس ماهر في لعبة الشطرنج وها هو يحرّك فيلة وقلاعاً وجنوداً لا يراها...
    بالأمس أطلق سراح هرثمة بن أعين.. لماذا ؟! لا يعرف حتى الآن ! كيف يستصرف اذن.. وشعر الفضل أن رأسه قد أصبح حلبة تتسابق فيها خيل مجنونة وذئاب فأطفأ القنديل.. ونام...


280
    كان غبش الفجر رمادياً عندما غادر الامام منزله.. لقد أزفت ساعة الرحيل.. حيث بلغت الاستعدادات ذروتها، وانتظمت قافلة طويلة تحمل دواوين الدولة وصناديق الخزانة العامّة ، وكانت بعض العيون تبرق كعيون الافاعي وتشيع الرهبة حتى لا يبقى من شك في أن لأصحابها مأموريات ومهمّات سرّية..
    جواسيس يرتدون بزّات مختلفة بعضهم يراقب الامام من بعيد وآخرون يراقبون الفضل حتى المأمون كانت هناك عيون خفيّة تراقب عن كثب وترصد حركاته واجتماعاته..
    هبّت نسائم الفجر النديّة ، وقد استوى الامام فوق راحلته متجهاً ببصره الى الأفق البعيد... البعيد... والكلمات المقدسة تتفتح على شفتيه كبراعيم ربيعية :
    ـ يا من لا شبيه له.. ولا مثال .
    أنت الله لا إله الا أنت..
    ولا خالق الا أنت..
    تفني المخلوقين.. وتبقى..
    أنت حلمت عمّن عصاك وفي المغفرة رضاك.. 160
    وانسابت الراحلة على مهل :
    ـ استسلمت يا مولاي لك.. وأسلمت نفسي إليك .