281
وتوكّلت في كل أموري عليك.. وأنا عبدك وابن عبديك..
    فأخبأني اللهم في سترك عن شرار خلقك.. واعصمني من كل أذى وسوء بمنّك..
    واكفني شرّ كل ذي شرّ بقدرتك..
    لا إله الا إنت يا أرحم الراحمين ويا إله العالمين 161 .
    أصبحت مرو خاوية على عروشها ، وكان صغار التجار وأصحاب الدكاكين أكثر الناس فجيعة ، أما الفقراء والبائسين فقد كانوا يذرفون الدموع بصمت..
    القافلة تمضي قدماً في منخفضات أشبه بالمراعي.. تتقدمها فرق القوات المسلّحة المجهّزة تجهيزاً عالياً معزّزة بكتائب كانت تقاتل في أطراف كابل قبل أن تصدر اليها أوامر غامضة من ذي الرئاستين بإيقاف عملياتها الحربية والعودة الى مرو على جناح السرعة !
    وكان المأمون يراقب بقلق الوضع الذي لم يعد يحتمل الكثير من الانتظار..
    لم تكن القافلة قد وصلت البحيرة الصغيرة عندما جنحت الشمس نحو المغيب وقد بدت لوحة سماوية أخاذة..
    كان منظر الغروب سخيّاً بالوانه الشفافة.. الوان تشبه


282
البرتقال ، وجمر المواقد الشتائية تكللها زرقة صافية..
    وحطّت القافلة رحالها ليلتقط المسافرون أنفاسهم ، وكان رغاء الجمال وصهيل الخيل يكسر صمت الغروب وسكينة الفلاة المنبسطة حتى الأفق .
    كان المأمون يسعى أن يكون ودوداً وهو يتحدث الى الامام :
    ـ يا أبا الحسن ألا تنشدني أحسن ما رويته في الحلم ؟
    وابتسم الامام وهو يقول :
إن كـان دونـي مـن بليـت بجهلـه وإن كـان مثلي في محلّي من النهـى وان كنت أدنى منه في الفضل والحجى أبيتُ لنفسـي أن أقابـل بالجهل هربت لحلمي كي أجلُّ عن المثلِ عرفت له حـق التقدّم والفضـل
    ـ أحسنت يا أبا الحسن!!.. من قائله ؟
    ـ بعض فتياننا .
    ـ انشدني أحسن ما رويته في السكوت عن الجاهل ؟
إني ليهجرني الصديق تجنّباً وأراه إن عاتبتـه أغريتـه وإذا ابـتليت بـجاهل متحلّم أوليته مني السكوت وربمـا فأريـه أنّ لهـجرة أسـبابـا فأرى له تـرك العتاب عـتابا يجد المحال من الأمور صوابا كان السكوت عن الجواب جوابا


283
    وانتشى المأمون طرباً للمعاني الأخاذة تنساب في شعر رقيق :
    ـ أحسنت ! أحسنت.. ما أحسن هذا ؟!! من قاله ؟!
    وأجاب الامام بأدبه العظيم :
    ـ بعض فتياننا .
    ـ انشدني احسن ما رويته في استجلاب العدوّ حتى يكون صديقاً !
    فأنشده الامام ووجهه يتألق نوراً سماوياً :
وذي غـلّة سـالمتـه فـقهرته ومـن لا يـدافع سيئات عـدوّه ولم أرَ في الأشياء أسرع ملهكاً فأوقرتـه منـّي لعـفو التحمّل بإحسانه لم يأخذ الطول من علِ لغمر 162 قديم من وداد معجّل
    ـ ما أحسن هذا ؟! من قاله ؟
    ـ بعض فتياننا .
    ـ أنشدني أحسن ما رويته في كتمان السرّ :
    قال الامام وهو ينظر باتجاه الافق الغربي ، وقد تكاثفت ظلمة الغروب :
وإنـي لأنسـى السرّ كي لا أذيعه مخافة أن يجـري بـبالي ذكـره فيوشك من لم يفش سرّاً وجال في فيامن رأى سرّاً يصان بأن ينسى فينبذه قلبـي الى ملتوى الحشـا خواطره أن لا يطيق له حبسـا 163


284
    ـ أحسنت يا أبا الحسن ما أحسن ما تروي من الشعر ؟!
    المشهد السماوي تغمره ظلمة الغروب المتكاثفة ، وقد انبثقت في الافق الشمالي كبراعم فضيّة.. وكان أذان العشاء ينساب كجدول سماوي يتدفق من جناب عدن..


285
36
    اجتازت قطعات الجيش البحيرة في منطقة تكثر فيها التفرعات النهرية قبل أن تصل مستنقعات ومسطحات مائية تستمد مياهها من نهر « تجن » ومن مواسم المطر.. وكان الهواء رطباً بسبب حدّة الشمس التي ألهبت مسطحات المياه طيلة النهار وبدت وجوه البغض أكثر ضيقاً ، والنفوس أكثر انسحاباً الى الأعماق.. ، وكانت اللقاءات العابرة في المعابر تثير بعض المخاوف فقد رأى الفضل هرثمة ، وتقابل الجلودي مع الامام وجهاً لوجه ، ولمح المأمون الفضل ساهماً وكان هرثمة يحرص على أن يكون قريباً من الامام..
    امّا محمد بن جعفر فقد كان مستغرقاً في هواجس تبدو


286
بلا نهاية خاصة عندما وجد الفضل يحاول التودّد إليه 164 وفي ذلك الجوّ المشحون ، كان وجه الامام الوحيد الذي يعبّر عن حالة من السلام بين وجوه تموج بالقلق..
    لم تبق سوى أميال معدودة الى « سرخس » التي اختارها القدر بداية لحياة الفضل.. وها هو يعود اليها.. يسوقه قدر غامض !
    وصل المأمون وأركان دولته مدينة سرخس ، ولم ينم تلك الليلة برغم من تعبه الشديد.. سيكون الغد يوماً فاصلاً..
    في منتصف الليل وفيما كان قمر ذي الحجة آخذاً بالأفول استدعى المأمون خاله 165 ونسجت العنكبوت بيتها..
    كان الامام في منزله المخصص لاستراحته عندما سلّمه أحد حرس المأمون رسالة جاء فيها :
    ـ « أرى أن نذهب الى الحمام غداً.. أنا وأنت والفضل .
    وسجّل الامام اعتذاره بعدم استطاعته الذهاب الى الحمّام غداً .
    لم تمرّ سوى دقائق حتى عاد الحارس وأعاد اليه الرسالة وكتب الامام في ذيل الرسالة موقفه القاطع :


287
    ـ لست بداخلٍ غداً الحمام.. فإني رأيت رسول الله في المنام في هذه الليلة يقول لي : يا علي لا تدخل الحمام غداً.. فلا أرى لك يا أمير المؤمنين ، ولا للفضل أن تدخلا الحمام غداً 166 .
    وفي المساء كان غالب مع أربعة رجال ملثمين آخذين سمتهم الى منزل يقع بالقرب من حمام المدينة وقبل أن ينفلق عمود الفجر.. دخل خمسة رجال مسلحين الحمام ليأخذوا أماكنهم مترقبين دخول فريستهم..
    كان الحمام مقفراً تماماً بناءً على أوامر من الخليفة الذي قرّر ارتياد الحمام غداً ودخل الفضل ومعه خادمه الذي مكث في حجرة استبدال الثياب..
    قاد صاحب الحمام على توجس وخيفة الضحية الى مكان قريب من حوض يتصاعد منه بخار كثيف كضباب يوم شتائي.. سرت قشعريرة في جسد الفضل وعزا ذلك الى برودة الرخام..
    ألقى صاحب الحمّام نظرة فيها قدر من الاشفاق على رجل سيكون بعد لحظات جثّة هامدة..
    كانت هناك عشرة عيون تتلصص من خلل البخار المتصاعد .


288
    فجأة برقت أربعة سيوف وظهر خمسة رجال غلاظ.. وكان غالب ينظر بشماتة الى الفضل الذي جحظت عيناه فزعاً..
    ودوّت صيحات الاستغاثة في فضاء الحمام ، وكانت الجدران الصخرية تمتص صرخاته.. وتخطفته السيوف وتدفقت دماؤه لتصبغ بلاط الحمام النديّ بلون قان..
    وهوى في الحوض وقد بحلقت عيناه في البخار المتصاعد لكأنه ينظر الى طموحاته تستحيل بخاراً سرعان ما تتلاشى وتذوب..
    تمّ كل شيء بسرعة واختفى الرجال في ظلمة الفجر..
    وفرّ الخادم مرعوباً لا يلوي على شيء.. واقفر الحمام الا من جثة عائمة في حوض تتصاعد منه ابخرة المياه الساخنة .
    ما إن اشرقت الشمس حتى كانت سرخس تموج بأهلها وظهر المأمون عصبياً أو تظاهر بذلك ، وكان يرسل تهديداته ويتوعد الجناة بالموت الأحمر .
    وسادت حالة الطوارئ المدينة ، وكانت أصابع الاتهام في اغتيال الفضل تتجه الى المأمون ، وظهرت حركة تمرّد في القوات الموالية للوزير القتيل..


289
واندفع الجنود الغاضبون الى القصر ، وبادر الحرس الى غلق الأبواب وكانت الشرطة قد ألقت القبض على الرجال الأربعة الذي سيقوا الى القصر لمحاكمتهم..
    وصرخ المأمون بعصبية :
    ـ من الذي دفعتكم الى ذلك ؟
    وأدرك المرتزقة أنهم قد وقعوا في فخ العنكبوت فصاح أحدهم وكان اسمه « بزرگمهر » 167 .
    ـ أنت أمرتنا بقتله !
    وصاح المأمون بمكر :
    ـ ها أنتم تعترفون بجنايتكم.. وامّا ادعائكم باني أمرتكم بذلك فدعوى ليس لها بيّنة 168 ..
    والتفت الى الحرس وأمرهم بتنفيذ حكم الاعدام فوراً وتساقطت أربعة رؤوس ليسدل الستار على المزيد من الأسرار الى قد تتضمن أسماء بعض الاشخاص المقرر اغتيالهم في الحمام وفي ظلمة الفجر...
    كانت جموع الجنود المشاغبين تحاصر القصر ويهدّد بإحراق القصر..
    واندفع بعضهم الى باب القصر الرئيسي لاضرام النار...


290
    واستنجد المأمون بالامام لتهدئة الموقف ، وإعادة السيوف المجنونة الى أغمادها..
    وما حدث لا يمكن تفسيره بنحو ما ! فقد ظهر الامام من شرفة القصر وجهاً لوجه أمام عشرات الغاضبين المسلحين بالسهام والسيوف والحراب..
    ظهر الامام هادئاً مطمئناً.. وكان وجهه الذي تغمره السكينة والايمان مفاجئاً تماماً في ذلك الجوّ المتفجّر..
    وشيئاً فشيئاً حفتت صيحات الجنود.. كنار تخمد تحت وابل مطر غزير.. إن تيّاراً من الصفاء والنقاوة قد وجد طريقه الى هؤلاء الذين كانوا منذ لحظات يدعون بالويل والثبور..
    ومن الواضح ان الامام قد اقتحم على قلوب الثائرين قلوبهم بتيار غامض من العاطفة..
    ورفع علي الرضا كفّه السمراء مشيراً اليهم أن انصرفوا وكانت المفاجأة انهم قد استجابوا 169 لذلك دون تردد .
    هل أثار الحادث مخاوف المأمون ؟ هل عزا ذلك الى قدرة الامام وتأثيره الروحي الذي لا يقاوم ؟ لا أحد يدري ماذا حصل ؛ ولكن المأمون كان شغولاً بتسطير برقية عزاء رقيقة !