291
الى الحسن بن سهل.. ذيّلها بخطبته لـ « بوران » حسناء فارس الصغيرة 170 ...
    وفي نفس اليوم انطلق حصان يسابق الريح يحمل رسالة الخليفة ورؤوساً أربعة لم يعد يخشاها أحد لأنها لن تتكلّم الى الأبد.. ولن تفصح عن أسماء بعض من تقرر اغتيالهم !!
    واقام المأمون مجلس عزاء على روح وزيره القتيل وتلبّس وجهه القاسي بحزن كذب .
    كثير من الذين حضروا كان ينظرون بطرف خفي الى القاتل كيف يتباكى على ضحيته..
    الطريق الى بغداد مليئة بالضحايا وفي كل مرّة تنسج العنكبوت خيوط بيت واهن.. هو أوهن البيوت..
    ولم تمض سوى أيام حتى كانت قوافل المأمون تجتاز الأودية القاحلة في طريقها الى طوس .


292
37
    أطل العام الهجري الجديد وقد مضى قرنان وثلاثة أعوام على هجرة آخر الانبياء... وأشرقت شمس تموز.. تتدفق نوراً ودفئاً.. فتغمر أرض خراسان المليئة بالصحاري والفلوات والملح والرمال..
    وكان قصر « حميد بن قحطبة » يتألق تحت الاضواء وسط حديقة واسعة وقد نهضت أشجار الرّمان تشكل سياجاً في الجانب الشرقي .
    أصبح الامام ذلك اليوم صائماً كعادته في الفاتح من محرّم الحرام وقد غمرت وجهه الأسمر سحابة من حزن كربلائي..


293
    وكانت أعماقه تتأجج بمشاهد عاشورائية ، ورثتها الذاكرة منذ اللحظة التي هوى بها الحسين ظامئاً على شطآن الفرات بين « النواويس » و« كربلاء »..
    وقال الامام لصاحبه وهو يحاوره وكان رجلاً أشعرياً قميّاً :
    ـ يا سعد 171 عندكم لنا قبر ؟
    أجاب الأشعري :
    ـ جعلت فداك.. قبر فاطمة بنت موسى ؟
    قال الامام وقد تجمعت في عينيه غيوم ممطرة :
    ـ نعم .. من زارها عارفا بحقّها فله الجنّة.. عن أبي عن جدّي قال : « ان لله حرماً وهو مكّة ، وإن للرسول حرماً وهو المدينة ، وإن لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة ، وإن لنا حرماً وهو بلدة قم ، وستدفن بها امرأة من أولادي تسمى فاطمة فمن زارها وجبت له الجنّة » 172 .
    ستنهض في تلك البقعة المباركة قباب ومنائر وتتألق مآذن ومساجد يذكر فيها اسم الله وحده..
    كانت الحجرة التي يقطنها الامام تفضي الى حجرة واسعة اتخذها المأمون مقرّاً له..


294
    وجاء المأمون ، فنهض الامام استقبالاً له واستأذن سعد فغادر المكان قال المأمون وقد استقرّ به المكان :
    ـ يا أبا الحسن.. اليوم جمعة 173 فاكتب لي خطبة أقرأها على الناس في الصلاة .
    ـ أفعل ذلك يا أمير المؤمنين .
    ـ سوف أرسل لك ابن بشير 174 بعد ساعة .
    قال المأمون ذلك ونهض.. فنهض له الامام .
    وشرع الامام يكتب له خطبة فيها موعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد :
    ـ « .. الحمد لله الذي لا من شيء كان.. ولا على صنع شيء استعان ، ولا من شيء خلق.. بل قال له : كن فيكون .
    وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له.. الجليل عن منابذة الأنداد.. ومكابدة الأضداد.. واتخاذ الصواحب والأولاد... وأشهد أن محمداً عبده المصطفى ، وأمينه المجتبى.. أرسله بالقرآن المفصّل ، ووحيه الموصّل ، وفرقانه المحصّل.. فبشر بثوابه وحذّر من عقابه.. صلّى الله عليه وآله..
    أوصيكم عباد الله بتقوى الله.. الذي يعلم سرّكم وجهركم.. ويعلم ما تكتمون فإن الله لم يترككم سدى ولم يخلقكم


295
عبثا...
    الحذر.. الحذر عباد الله.. فقد حذّركم الله نفسه ، فلا تعرضوا للندم.. واستجلاب النقم.. والمصير الى عذاب جهنم... ان عذابها كان غراما.. إنّها ساءت مستقرّاً ومقاماً..
    لا تطفى ، وعيون لا ترقى... ونفوس لا تموت ولا تحيا..
    في السلاسل والاغلال ، والمثلات والأنكال.. « كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.. إنّ الله كان عزيزاً حكيماً.. »
    « نارٌ أحاط بها سرادقها ».. فلا يُسمع لهم نداء.. ولا يُجاب لهم دعاء ولا يُرحم لهم بكاء..
    ففرّوا عباد الله الى الله بهذه الانفس الفانية.. في الصيحة المتوالية في الايام الخالية.. من قبل أن ينزل بكم الموت.. فيغضبكم أنفسكم ويفجعكم بمهجكم.. ويحول بينكم وبين الرجعة..
    هيهات حضرت آجالكم.. وختمت أعمالكم.. وجفّت أقلامكم.. فلا للرجعة من سبيل.. ولا الى الاقامة من وصول.. عصمنا الله وايّاكم ، بما عصم به أولياءه الأبرار.. وأرشدنا واياكم لما أرشد له عباده الأخيار.. » 175 .


296
    استدعى المأمون ابن بشير وكان يستظل تحت شجرة كالبتوس باسقة ، وما امتثل أمامه في حالة من الاستعداد والطاعة العمياء .
    قال المأمون بعد أن ركز في عينيه النظر لحظات :
    ـ أرني كفّين..
    وفوجئ ابن بشير فقدّم كفّيه مبسوطتين وعلامات سؤال واستفهام تموج في عينيه القلقتين .
    ضغط المأمون على الحروف وهو يقول له :
    أطل أظفارك.. ولا تقلّمها 176 .
    وفوجئ « منصور » بهذا الأمر الغريب ، ولكنه هتف :
    ـ سمعاً وطاعة يا أمير المؤمنين .
    ـ والآن اذهب الى الرضا فانه سيسلّمك رقعه فيه خطبة الجمعة فوافيني بها في المسجد..
    كانت الجموع تصطف وقد زالت الشمس وشرع المأمون يقرأ خطبة الجمعة..
    لم يستطع المأمون إخفاء تأثره بالكلمات الشفافة المؤثرة تنساب الى القلب.. الله المطلق مصدر الوجود ونبع الحياة المتدفق.. الله القدرة المطلقة.. الواحد الأحد.. وهذه كلمته


297
الخالدة في القرآن جاء بها رسوله محمد النبي..
    إنّ الله لم يخلق الانسانية عبثاً هناك غائية يتحرك خلالها البشر.. نحو مصير يحدّده الانسان في مساره.. ليس هناك في الدنيا ما يستأهل أن يبيع الانسان فيها نفسه للشيطان إنّ جهنم بالمرصاد.. ودقات القلب خطى الانسان نحو الموت مصير الانسان الحتم.. وحدهم الأبرار والأخيار هم الفائزون يوم لا ينفع مال ولا بنون..
    وخشعت القلوب.. ودمعت العيون.. حتى المأمون ارتجف قلبه وأخذته قشعريرة.. وانتابته هواجس أربكته وهو يستعد للصلاة..
    ولكنه عندما دخل حجرته وقد قضيت الصلاة ووقعت عيناه على صندوق من خشب الأبنوس.. وعلى كأس فيه بقية نبيذ من ليلة أمس نسي كل شيء.. ولم يعد يفكّر الا بعرشه ومملكته.. والعودة الى بغداد.. بغداد التي أضحت حلمه الوحيد.. وراح يستعيد ذكرياته هناك.. الموسيقى الصادحة على ضفاف النهر.. واغنيات « الموصلي » 177 والليالي العابثة..
    جنحت الشمس للمغيب.. وأرسلت آخر اشعتها الذهبية فوق الربى البعيدة.. وشيئاً فشيئاً تكاثفت الظلمة لتهب الاشياء


298
غلاله من الغموض والرهبة..
    وأوى الامام الى محرابه وقد غمرته حالة من السكينة فيما صفق المأمون بكفيه منادياً على حارس وقف كالتمثال قريباً :
    ـ ليحضر ابن بشير .
    فتح المأمون الصندوق الخشبي المزيّن بالنقوش والألوان واستخرج قطعة من جلد غزال مربعة الشكل ولم تكن سوى رقعة الشطرنج.. وخرجت من الصندوق فيلة وجنود وقلاع وأفراس... وراح المأمون يدندن طرباً وقد هبّت نسائم ليلية من النافذة المطلّة على حديقة غنّاء :
أرض مربعة حمراء من أدم تذاكرا الحرب فاحتالا لها شبهاً هذا يغير على هذا وذاك على فانظر الى الخيل قد جاشت بمعركة ما بين ألفين موصوفين بالكرم من غير أن يسيعا فيها بفسك دم هذا يغير وعين الحرب لم تنم في عسكرين بلا طبل ولا علم 178
    وصبّ له كأساً من النبيذ في « جام » ياقوت أحمر كان امبراطور الهند قد أهداه إليه 179 .
    ودخل ابن بشير ليهتف جذلاً :
    ـ البشرى يا أمير المؤمنين .


299
    ـ!!؟
    ـ خلع أهل بغداد ابن شكلة .
    ـ أعرف ذلك .
    ـ من أين يا سيّدي والبريد لم يصل طوس .
    نظر المأمون إليه وقد ارتسم ابتسامة ساخرة على شفتيه :
    ـ عرفت ذلك في « سرخس » يوم قتل الفضل...
    وسكت لحظات ثم قال ساخراً :
    ـ مسكين عمّي لا يحسن شيئاً غير الغناء ! بل هو أرق صوتاً من إسحاق الموصلي .
    تجرأ ابن بشير ولكنه قال متظاهراً بالجدّ :
    ـ وعمّتك عليّة يا أمير المؤمنين ؟
    ـ لا تتخابث علي !.. هيّا لتصفّ جنودك وخيلك فقد بدأت الحرب !
    زجّ المأمون وزيره وقد برقت عيناه.. وكان من الواضح ان المأمون لا يكترث له.. كان قد أعدّ خطّة جديدة لم يختبرها..
    وقع الوزير في مأزقٍ إذ وجد نفسه محاصراً بين أربعة بيادق... وراح المأمون يحرّك قلاعاً وجنوداً وفيلة.. وسقوط الوزير.. وهتف ابن بشير :


300
    ـ أصبحت بلا وزير يا سيدي !
    ليس مهمّا..
    كان المأمون واثقاً من النصر.. تحرّكت بيادقه طبقاً لخطّة ذكية ووجد ابن بشير نفسه عاجزاً تماماً.. لقد انتهت اللعبة وانتهت المعركة لصالح المأمون الذي أشار بيده جهة الشمال :
    ـ حتى لو انبعث صاحب هذا القبر فلن يستطيع أن يهزمني .
    قال ذلك وأشار الى نديمه :
    ـ انصرف ! ولا تنسَ وصيتي في أظفارك .
    ـ الى متى أفعل ذلك ؟!
    ـ الى أن ينضج الرمّان!.. أفهمت ؟
    انحنا الرجل بعد أن نهض وغادر المكان ، وقد أصبح رأسه مسرحاً للهواجس..
    وفي غمرة الليل سمع المأمون وهو يأوي الى فراشه صوتاً ينساب وعرف ذلك على الفور ؛ ان الرضا يتلو آيات من القرآن..