301
38
وتمرّ الأيام ومضى محرّم الحرام يحمل معه ذكرياته الحزينة وها هو صفر يكاد يلملم آخر لياليه ، وقد أطلّ الخريف يثير لواجع الحزن في قلوب الغرباء والحنين للديار والوطن..
نضج الرمّان وطالت أظفار ابن بشير حتى بات يستحي من الناس 180 .
وجلس المأمون في الصباح وحيداً.. كعنكبوت تنسج بيتاً كان يعمل.. فتح صرّة فيها مادّة بيضاء تشبه دقيق الذرة... وأمسك بأبرة تشبه سلكاً دقيقاً وراح يهيل عليها المادّة.. ثم يزرقها في حبّات عنب كان في إناء زجاجي... كانت عملية التزريق تتم بدقّة وحذر وفي جانب واحد من الاناء!... وقد عربد
302
الشيطان فوق الرأس المطأطئ للخطيئة..
وفي الضحى أرسل المأمون من يستدعي له الامام.. وكان المأمون ومن أجل أن يتظاهر بالقداسة يتوضأ.. وغلام يصبّ الماء على يده..
قال الامام :
ـ يا أمير المؤمنين لا تشرك بعبادة ربّك أحداً 181 .
فأسرّها المأمون في نفسه ولم يبدها له واكتفى بأن خاطب غلامه بقسوة :
ـ هات الابريق..
استكمل المأمون وضوءه وكان ينظر بطرف عينيه الى الامام الذي جلس على سجّادة فارسية مزينة بالنقوش..
كانت شمس الخريف تغمر أشجار الرمّان بالنور والدفء وبدت مساقط النور والظلال لوحة متناغمة الألوان .
قال المأمون وهو يناول الامام عنقود عنب :
ـ يا أبا الحسن ما رأيت عنباً أحسن من هذا ؟
أجاب الامام وقد أوجس خيفة :
ـ ربما كان عنباً أحسن منه في الجنّة .
ـ كل يا أبا الحسن !!
303
ـ لا أشتهي !
قال المأمون بغيظ مكتوم :
ـ إنّك لتحب العنب فما يمنعك ؟! أم أنّك تتهمني بشيء ؟!
قال ذلك وتناول حبّة لم تطالها زرقات الأبر المسمومة..
أدرك الامام أنه يقف وجهاً لوجه أمام النهاية.. إنّ إغتياله قرار لا رجعة منه.. أخذ عنقود الموت وتناول ثلاث حبّات.. ورمى بالعنقود ! ونهض..
نظر الى المأمون نظرات نفّاذة.. قال المأمون مرتبكاً :
ـ إلى أين ؟!
أجاب الامام بصوت فيه حزن الانبياء .
ـ الى حيث وجهتني...
وغادر الامام المكان عائداً الى حجرته.. وقد شعر بألم يشبه سكيناً تغوص ببطء وقسوة في كبده.. وأن روحه تنزف وقلبه الكبير قد بات عاجزاً عن تحمّل الحياة في عالم يعجّ بالشرور..
لزم الامام فراشه ذلك اليوم.. أمّا المأمون فقد فعل الشيء نفسه وتظاهر بالمرض 182 ثم يرسل غلامه الى الامام :
ـ إن أمير المؤمنين يقول هل يوصيني الرضا بشيء أو
304
ينصحني فيما أفعل ؟ أجاب الامام وهو يشير الى قلب الحقيقة :
ـ« قل له : يوصيك أن لا تعطي أحداً ما تندم عليه » 183 .
وكان المأمون يترقب.. يترقب صرخة.. مناحة.. ولكن لا شيء لعلّ ثلاث حبّات لا تكفي في اغتيال من لا تحبّه بغداد اللعوب.. ساءت حالة الامام ودهمته حمّى شديدة.. وانتشر نبأ العنب في أروقة القصر وخارجه.. وعمد المأمون الى التزام الفراش.. متمارضاً.. لكن الحمّى لم تدهمه وكان جسده كتلة من اللحم البارد لا مشاعر ، ولا عاطفة ، ولا رحمة في ذلك القلب الذي يشبه كتلة من الرصاص !
وانتابته هواجس... ماذا لو تحدّث الرضا عن مؤامرة اغتياله ؟ ماذا لو همس بذلك الى أصحابه وبعض قادة الجيش.. من الذين لمح في عيونهم وسلوكهم احتراماً وحبّاً له..
ودخل جاسوس من الذين يراقبون بيت الامام قائلاً له :
ـ إن هرثمة بن أعين قد جاء يعود الرضا 184 .
صاح بعصبية :
ـ وماذا تفعل هنا أيها الأحمق ؟! اذهب واصغ لما يقولون !
ـ لقد فعلت ذلك ولكني لم التقط حتى كلمة واحدة..
305
فالرضا يتحدّث بصوت واهن.. وهرثمة مطرق برأسه.. ولعلّه كان يذرف الدموع .
ـ اذهب واحضر ابن بشير .
ـ سمعاً وطاعة يا سيّدي .
وجاء إبن بشير وقد بدا عليه التوجّس.. وقال مبادراً :
ـ يا أمير المؤمنين ! نضج الرمّان .
ـ أعرف ذلك.. افتح ذلك الصندوق وآتني بالمزور المختوم..
واحضر ابن بشير منديلاً أصفر اللون.. قال المأمون :
ـ فضّ الختم ! وادخل يديك وقلب الدواء الذي فيه...
وكان ابن بشير يفعل كل ما يؤمر ولا يسأل... ورأى فيه ما يشبه طحين الذرة البيضاء... وظلّ يقلّب كفيه داخل الطحين الأبيض العجيب حتى امتلأت أظفاره... نهض المأمون وأعاد المزور الى مكانه.. ثم التفت الى غلامه :
ـ والآن هيّا لنعود الرضا فإنه محموم !
ـ؟!!
ـ ما لك تنظر كالأبله ؟!
وتظاهر بالاجهاد وهو يخطو خارج حجرته متجهاً الى باب تؤدي الى حجرة الامام..
306
وحاول الامام النهوض أدباً ، فأشار اليه المأمون بالتزام الفراش ، وجلس قريباً من وسادته.. وغادر هرثمة بعد أن حيّا المأمون.. ساد صمت مهيب كسره الخليفة بقوله :
ـ إنّك محموم يا أبا الحسن.. والصواب أن تمصّ رمّاناً أو تشرب ماءه !
قال الامام بصوت واهن :
ـ ما بي إليه حاجة .
ـ لابدّ من ذلك.. أقسم بحقّي عليك ! وصاح على خادم في الباب :
ـ اقطف لنا رمّانة !
وجاء الخادم برمّانة الموت..
قال المأمون مخاطباً ابن بشير الذي ما يزال مشدوهاً بما يجري :
ـ تقدّم فقشرها وفتّها !
هنا لك أدرك العبد دوره القذر في اغتيال الحقيقة . مدّ كفّه التي تشبه مخالب ذئب وتناول الرمّانة وأحضر الخادم كأساً من البلور..
307
وراحت المخالب البشرية تفتت حبّات الرمان في الكأس البلوري.. وذرّات بيضاء تتساقط كسمّ الأفاعي حتّى اذا امتلأ الكأس أخذه المأمون بشماله ، وأمسك بملعقة الموت فملأها حبّات رمّان مداف بالسم..
كان الامام يتمتم بآيات القرآن ، ثم تناول ملعقة ثم أخرى وملعقى ثالثة وقدّم المأمون ملعقة رابعة... فقال الامام وهو ينظر الى رجل يحمل سيماء قابيل :
ـ حسبك.. قد بلغت مرادك..
قال ذلك وأدار وجهه نحو شرفة تطلّ على أشجار الرمّان وقد غمرتها أنوار شمس خريفية باهتة 185 ..
ونهض المأمون وقد انبعثت في نشوة تشبه فرحة حفار القبور لدى قدوم جنائز الاطفال !
وكان الامام يواجه مصيره بشجاعة.. وقد بدت الاشياء بلا ظلال في عالم غائم والزمن نهراً صغيراً يدندن بصوت رقيق مخترقاً شجيرات الرمّان.. واجتاحت موجة من القلق الذين تخفق قلوبهم بحب الرجل المدني الذي تخطّى الخمسين 186 بعام..
وتحلّقت النفوس المحزونة حول انسان يواجه نهايته..
308
وقد انبسجت في العيون دموع.. دموع مضخمة بالذكريات.. بالوفاء.. بالغضب.. بالوداع...
وكان الامام قد بدا في لحظات فريدة من الاتحاد مع الوجود والكون الحقيقية الوحيد..
وهتف « ياسر » في أعماقه المتفجّرة غضباً :
ـ اللعنة على ذئب بني العباس.. اللعنة على هذا الذئب الذي يرتدي فراء الثعالب !
شمس الخريف تجنح نحو المغيب ، والروح العظيم تسطع.. تتأهب للرحيل.. والامام يردد على وهن كلمات السماء 187 .. كلمات جاء بها جبريل الى الأرض :
ـ ( قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل الى مضاجعهم ) .
وفتح الامام عينيه قائلاً لياسر :
ـ هل أكل الناس شيئاً .
أجاب ياسر تخنقه عبرة :
ـ ومن يأكل مع ما أنت فيه ؟!
وتماسك الامام على نفسه ليجلس وكان جسده ينوء بالروح التي تريد الرحيل :
309
ـ هاتوا المائدة !..
والتفت الى صاحبه الوفي :
ـ لا تدع أحداً..
وراح ينادي ـ وقد وهن الصوت منه ـ البواب والسائس وعلى رجال من أفريقا والروم.. وجاءوا كلهم فجلسوا حول مائدة في مشهد يشبه لوحة العشاء الأخير للمسيح .
وراح الامام يتفقدهم واحداً واحداً بنظرات تفيض حبّاً ورحمة.. ولمّا شبعوا وارتفعت المائدة... هوى الامام فوق وسادته وقد أغمي عليه..
المغيب يرش الروابي الآخر جمرات الخريف.. وعاد الانسان المقهور الى وعيه.. وكانت نظراته الواهنة في ذلك الغروب هي آخر نظرة الى هذا العالم المثقل بآلام الانسانية..
وانسابت كلمات بصوت واهن فكانت آخر ما سمعه الذين تحلّقوا حوله وهم يذرفون الدمع بفجيعة.. تمتم الإمام وقد أزفت لحظة الرحيل :
ـ ( وكان أمر الله قدراً مقدوراً ) 188 .
وأغمض عينيه وقد انطفأت شمس ذلك اليوم 189 ، وتكاثفت ظلمة الغروب كرماد يتراكم في أفق كئيب..
310
ودوّت مناحة كربلائية.. وغمرت القصر ظلمة مخيفة وظلّت القناديل مطفأة.. لقد انطفأت الشمس ، وظهر الشيطان يعربد.. يرقص جذلاً فوق جثة هابيل... وجاء قابيل.. جاء المأمون يذرف دموع التماسيح وليجأر أمام صمت الامام :
ـ ما أدري أي المصيبتين أعظم عليّ... فقدي لك وفراقي إيّاك أو تهمة الناس لي أني اغتلتك.. وقتلتك » 190 .
وانطلق أحدهم لإخبار محمد بن جعفر عمّ الامام..
ولكنّه فوجئ بحراسة مكثّفة وأوامر مشدّدة بعدم مغادرة القصر أيّ كان ولأيٍّ من الاسباب !..
ووضعت كتائب خاصّة في حالة استنفار قصوى ، وانتشر جواسيس لهم أنوف كأنوف الكلاب في صفوف الجيش تحسّباً لردود الفعل !
ولم يعلن عن وفاة الامام الا بعد يوم وليلة 191 ، وفي أخريات صفر سنة 203 أيلول سنة 818 م رحل الروح العظيم وجرت مراسم الغسل حسب وصيته..
وكان المأمون قد أرسل وراء محمد بن جعفر وجماعة من الطالبيّين ليشهدوا على وفاة الامام في ظروف طبيعية 192 وانه رحمه الله لم يتعرّض الى عملية اغتيال !