311
    وبالرغم من تظاهر المأمون بالفجيعة ، وتظاهره بالجزع وما سمع عنه قبل مراسم الغسل : « وقد كنت أؤمل أن أموت قبلك » 193 .
    فقد بدأ الحديث عن اغتيال الامام بالسم 194 وحكايات عن العنب المشبوه وعصير الرمّان !
    جرت مراسم الغسل في صباح اليوم الثالث ونقل الجثمان الى مسجد القرية للصلاة عليه ، وفي أجواء ملبّدة بالغيوم وقد ساد التوتّر وعمّ الحزن قرية « سناباد » التي لم تنس ذلك الرجل الاسمر الذي توقف عندها قبل ثلاثة أعوام وبارك أهلها وجبلاً فيها..
    اتجه الموكب المهيب الى قصر حميد بن قحطبة مرّة أخرى الى حيث قبر هارون الرشيد..
    وغمغم المأمون بعد أن أهيل التراب :
    ـ « ليغفر الله لهارون » 195 !
    وكان محمد بن جعفر يكفكف دموعه بحزن وتذكّر أخاه موسى الذي توفى مسموماً في بغداد..
    ياللقدر ! قتل هارون موسى ، وقتل ابن هارون ابن موسى !


312
    وعاد المشيّعون ، ولم يبق أحد سوى المأمون الذي قرّر المرابطة عند القبر.. وانه سيصوم ثلاثة أيام.. وعندما تكاثف ظلمة الليل أرسل المأمون من يحضر له هرثمة بن أعين..
    لم يتناول المأمون في العشاء سوى كسرة خبز وقليلاً من الملح..
    وجاء هرثمة ليجلس قبالة الذئب الذي يرتدي فراء الثعلب وفاحت رائحة طين معطور.. وبكى هرثمة على الرغم منه.. فتساءل المأمون :
    ـ هل قال الرضا شيئاً أول أمس ؟؟
    ولم يستطع هرثمة كتمان الحقيقة
    ـ قال لي : « يا هرثمة هذا أوان رحيلي الى الله ولحوقي بجدّي وآبائي.. لقد بلغ الكتاب أجله.. وقد عزم هذا الطاغي على سمّي في عنب ورمّان » 196 .
    وانتحب المأمون أو تظاهر بذلك وألقى نفسه على تراب القبر :
    ـ ويل للمأمون من الله.. ويل من رسول الله ويل له من علي بن أبي طالب ويل.. ويل للمأمون من فاطمة.. هذا والله الخسران المبين 197 .


313
    ثم قال وهو يتحاشى النظر الى هرثمة :
    ـ يا هرثمة اكتم ذلك ولاتذعه .
    وقال بعد صمت ثقيل :
    ـ انصرف !
    ونهض هرثمة ليغادر المكان فالحديقة عائداً القرية.. ولكنه لم يصل اليها.. ووجد في اليوم التالي جثّة على قارعة الطريق !
    أمّا ابنه حاتم فقد كان يحمل معه مرسوماً بتعيينه حاكماً على أرمينيا وآذربيجان 198 .
    أنهى المأمون صيام اليوم الثالث ليعلن عزمه على استئناف السفر في طريق العودة الى بغداد...
    وفي جرجان لقي محمد بن جعفر مصرعه مسموماّ 199 أما حاتم بن هرثمة فقد عثر عليه ميتاً 200 في حديقة قصره وفي ظروف غامضة !
    وهكذا كان المأمون يمضي قدماً باتجاه بغداد ، وطاحونة الموت الغامضة ما انفكّت تلتهم رجالاً قضوا نحبهم وآخرون ينتظرون...
    وبغداد تستقبل حفيد المنصور الذي عاد الى ارتداء زيّ


314
أجداده الأسود 201 فيبني القصور الجديدة 202على ضفاف دجلة ويضاعف الضرائب على مدينة قم..
    وبغداد تعود الى اللهو واللعب.. والتجارة.. والفارس الذي يتربع فوق القبة الخضراء يشير برمحه الطويل الى الأفق الذي تشتعل فيه الثورات 203 ...
    ودجلة تتدافع أمواجه.. وتمضي الايام


315
ليست نهاية
    اشرقت الشمس في سماء صافية الا من نتفات غيوم مبعثرة هنا وهناك.. وكفّت الرياح عن الهبوب وكانت تسفي الثلوج طوال الليل...
    وارتدى السيد محمد بدلته ليقف في بوابة الحرم وغمرت الشمس بأنوارها المتلالئة القباب والمنائر...
    محمد ما يزال تحت تأثير الرؤيا.. وما يزال الصوت الملائكي الذي سمعه في عالم المنام يدور في أعماقه المتأججة..
    الزائرون من أهل قم يتوافدون.. وبعضهم يؤدي التحيّة وهو يتقدّم باتجاه القبّة..
    وقريباً من البوابة جلس مسافرون يتدثرون بملابس صوفية ويتناولون الشاي... ويتبادلون نتف الاحاديث..
    وهزّ أحدهم رأسه وهو يقول :


316
    ـ كيف نشكر السيّدة العلويّة على حسن صنيعها الليلة الفائتة ؟!
    ـ كان « كولاكاً » 204 عنيفاً... وضاعت علينا الطريق .
    ـ لو تأخرت إضاءة المنائر لدقائق لكنّا من الهالكين 205 .
    ـ فجأة رأيت نوراً يتألق يشبه نور الفنارات في المرافئ..
    ـ أهل البيت يا رفيقي مرفأ التائهين..
    ـ بعد غدٍ سنتوجه الى مشهد لزيارة شقيقها الرضا عليه السلام .
    ـ دعنا نمكث أيّاماً في ضيافة المعصومة ثم نتوكّل على الله..
    وكان الرضوي يصغي مأخوذاً الى نتف أحاديث المسافرين.. فتقدّم اليهم وقد امتلأت عيناه بالدموع قائلاً :
    ـ يا أخوتي أنا الذي أضأت المنائر.. ولم أفعل ذلك من نفسي.. رأيت في عالم الرؤيا فتاة كالحوريّة.. يغمرها النور.. خاطبتني :
    ـ قم ! وأسرج قناديل المنائر.. قالت ذلك ثلاث مرّات .
    هتف مسافر مبهوراً :
    ـ يعني ان المنائر لا تضاء في مثل ذلك الوقت ؟!
    أجاب الرضوي :
    ـ لا.. إنّنا نطفئ القناديل قبل منتصف الليل ، ثم نسرجها عند الفجر ساعة واحدة !
    وترقرقت العيون دموعاً.. حبّا ومودّة وخشوعاً..


317
وسجّل السيد محمد الرضوي تفاصيل هذه الكرامة..
    وفي كل عام وعندما تحين الذكرى الدافئة.. كان محمد يسرج قناديل المنائر.. احتفالاً بتلك المناسبة..
    وفي تلك الساعات من كل عام وعندما تهطل الثلوج... ثلوج بهمن الغزيرة يشاهد المسافرون منائر تشع بالضوء كمفرأٍ يتألق بالأنوار..

15 رمضان الكريم 1419 هـ


318


319

ما وراء السطور


320