امرأة.. اسمها زينب ::: 11 ـ 20
(11)
     وهتف الرجل الذي أيقظهم:
أنا الحسين بن علي آليـت ألاّ أنـثـني
     انتبه الرجل الأسدي... فرك عينيه. كان الفجر قد لاح من وراء النخيل... فجر يشبه الرماد.
     وشيئاً فشيئاً تبدّدت الظلمة ، ولاحت له أجساد القتلى مقطّعة الرؤوس... متناثرة هنا وهناك ، كنجوم منطفئة. حلّ اليوم الثالث عشر من محرّم. شمسه كئيبة حزينة. ترسل أنواراً باهتة. تلفح أجساداً مقطّعة الرؤوس ، وكانت الريح تعدو كذئبة مجنونة تثير غباراً كدخان الحرائق.
     وجاءت نسوة أسديات ، ورجال كانوا يبكون بحرقة. وتعالت في الفضاء تأوّهات هابيل ، وهو يشكو ظلم أخيه.
     وقف بنو أسد حيارى لا يدرون ما يصنعون !
     حاول بعضهم أن يتعرّف القتلى ولكن لا جدوى. حتّى "ابن مظاهر" ضاع عليهم.
     كانت الأجساد مضرّجة مزّقتها حوافر خيل قاسية.
     وجاء فتى يسعى... عليه سيماء النبوّات. ووقف بنو أسد مدهوشين ، وهو يشير الى الأجسام المجهولة.
     ـ هذا جسد أبي...
     وتمتم وهو يواريه الثرى :
     ـ طوبى لأرض تضمّنت جسدك الطّاهر.. الدنيا بعدك مظلمة والآخرة بنورك مشرقة. أمّا الليل فمُسهَّد ، وأمّا الحزن فسرمد.
     ومشى الفتى الى جسدٍ آخر كان مقطوع الرأس واليدين.
     فاعتنقه وراح يبكي:
     ـ على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم.. سلام عليك من شهيد محتسب ورحمةالله.
     ومرّ النهار ، ونكت الفتى يديه من التراب ، ونظر الى الفرات. كان يشعر بظمأ شديد..
     اغترف من الماء ، وهمّ أن يشرب ، ولكنه رماه بعنف كما لو كان سماً. تذكّر كلّ تفاصيل ملحمة الظمأ ، وهي تجري على شواطئ نهر يموج بالمياه.
     نهض الفتى وألقى نظرة احتقار على الفرات ، وطفرت من عينيه الدموع وهو يولي ظهره للشواطئ. وبدا النهر كئيباً كخيط من الملح. وشيئاً فشيئاً كانت أصوات مناحة بني أسد تخبو في أُذنَيه ، وهو يتّخذ طريقه نحو مدينة غَدرَتْ بأبيه.


(12)
     بدا الجامع الأعظم مكتئباً ، كناسكٍ حزين. ورغم الضجة المتصاعدة ، فقد بدا مقفراً ، وضاعت آيات القرآن بين لغط الكوفيّين الذين تجمهروا في الظهيرة المحرقة.
     نزا الأرقط على المنبر ، وراح ينظر الى الناس باستعلاء. الشرر يتطاير من عينيه كشظايا جحيم مستعرة. هتف بغطرسة وقد فقد السيطرة على لثغة لسانه :
     ـ الهمد.. الحمدلله الّذي أظهر الحق وأهله.. نَسَرَ اميرالمؤمنين يزيد وهزبه ، وقتل الكذّاب ابن الكذّاب الحسين بن علي وشيعته.
     ضحك أحدهم بمرارة ، وهو ينظر الى هذا الألكن الّذي نزى على منبر عليّ.
     لقد مضت أيام البلاغة والفصاحة. مضت دون عودة ، وورث المنبر قردةٌ وخنازير يسومون الناس سوءَ العذاب. كان الصمت يخيّم فوق الرؤوس الّتي أطرقت ذلاًّ..
     فجأة هبَّ رجل مكفوف البصر:
     ـ يابن مرجانة ! الكذّاب أنت وأبوك والّذي ولاّك وأبوه.. أتقتلون أبناء النبيّين وتتكلّمون بكلام الصدّيقين ؟!
     فُوجئ الأرقط ، فصرخ بغيظ :
     ـ مَن المتكلّم ؟!
     ـ أنا المتكلّم يا عدوّ الله! تقتلون الذرية الطاهرة الّتي أذهب الله عنهم الرجس ، وتزعم أنّك على دين الاسلام... واغوثاه! أين أولاد المهاجرين والأنصار ؟!
     استشاط الأرقط ، وهتف بجلاوزته كأفعى حانقة :
     ـ عَلَيَّ به !
     هتف الرجل المكفوف البصر بشعار الأزد:
     ـ يا مَبرور!
     وتواثب الرجال من هنا وهناك ، وانتزعوه من بين أنياب الكلاب.
     وقال رجل أزديّ بإشفاق :
     ـ لقد أهلكتَ نفسك و عشيرتك !


(13)
     مضت الساعات ثقيلة ، وباتت الكوفة تترقب حادثة ما ، وبدا قصر الإمارة كوحشٍ رابض في الظلام.
     كسرت حوافرُ الخيل هدأة الليل.. كانت تندفع نحو منزل رجل مكفوف البصر.. بصير القلب.
     واقتحمت الذئاب داره بعد أن حطّمت الباب ، وكانت له صَبيّة فصاحت :
     ـ وا أبتاه !
     ـ لاعليكِ ، ناوِليني سيفي.
     ـ ليتني كنتُ رجلاً أذبّ بين يديك.
     كان الرجل يقاتل في الظلام؛ وأحاطت به الذئاب ، فسقط أسيراً بين الأنياب.
     وهتفت ابنته:
     ـ وا ذلاّه! يحاط بأبي وليس له ناصر !
     وفي القصر ، فرك الأرقط يديه جَذلاً ، وقال بشماتة :
     ـ الحمدلله الّذي أخزاك.
     ـ وبما ذا أخزاني يابن مرجانة ؟!
     قال الأرقط بنفاق :
     ـ ما تقول في عثمان ؟
     ـ ما أنت وعثمان ، أساءَ أم أحسَن ، أصلَح أم أفسَد ؟ ولكن سَلْني عنك وعن أبيك وعن يزيد وأبيه.
     ـ لأَذيقنّك الموت.
     فقال الأزديّ بطمأنينة :
     ـ لقد كنتُ أسأل ربّي الشهادة مِن قبل أن تلدك أمُّك ، وسألتُه أن يجعلها على يدَي ألعنِ خلقه وأبغضهم اليه.
     جحظت عينا الأرقط غيظاً ، وأشار الى جلاوزته ، وسرعان ما تدحرج رأس الشيخ ؛ وكانت ابتسامة تلوح على وجهه.
     ودعا ابن زياد بأزديّ آخر ، كان في الطامورة ، فجيء به ، يخطو على وهن.. أثقلته السنون والسلاسل والقيود.
     قال الأرقط بصفاقة ، وقد اجتاحته رغبة في سفك الدم :
     ـ ألستَ صاحِبَ أبي ترابٍ في صِفّين ؟!
     ـ نعم و إنّي لأُحبّه ، وأفتخر به ، وأمقتك وأباك ، لاسيّما الآن وقد قتلتَ سِبط الرسول.
     أجاب الأرقط باستهتار:


(14)
     ـ إنّك لأَقلّ حياء من ذلك الأعمى.
     وهمّ الأرقط بقتله ، فحدّق به ثم تمتم في نفسه :
     ـ إن هي إلاّ أيام وينفق..
     وأردف وهو يصرّ على أسنانه :
     ـ لولا أنّك شيخ قد ذهب عقلك لَقتلتك.
     وتساقطت السلاسل من بين يديه. وعندما خطا باتجاه الحرّية كانت عيناه تفيضان من الدمع حزناً. وغبط في نفسه صاحبَه الّذي رُزق الشهادة بعد أمدٍ طويل.
     وعندما غادر الشيخُ القصر كان الأمل يكبر في قلبه الواهن بأن يلتحق بصاحبه ولو بعد حين.

     كاد قصر الخضراء يهتزّ طرباً ، فيزيد بدا ذلك اليوم يطير فرحاً ، كان يلاعب قِردَه باستمرار.. ينظر من نوافذ قصره المنيف الى باب الساعات ، فأسراه سيدخلون دمشقَ بين لحظة وأخرى. لم يتمالك نفسه فراح يتغنّى بصوتٍ عال:
لـيـت أشياخـي ببدر شهدوا لأَهـلّـوا واستـهـلّوا فرَحاً قـد قَتَـلنا القَرمَ مِن ساداتِهم لَـعِبَـت هـاشمُ بالمُلكِ ، فلا لستُ مِن خِندفَ إنْ لم أنتـقِمْ جَزَعَ الخزرجِ مِن وَقْعِ الأسَلْ ثـمّ قـالـوا : يا يزيد لا تُشَلّ ! وعَـدَلنـاهُ بـبـدرٍ فـاعتدلْ خبرٌ جاء ولا وحـيٌ نَـزَلْ ! مِن بني أحمدَ ما كانَ فَعَـلْ !
     ولمعت عيناه وهو ينظر إلى ثمالة كأس فكرعها. ودبّت النشوة في رأسه كطوابير النمل.
     بدت دمشق في يوم الزينة كمومس تَعْرض بضاعتها على قارعة الطريق ، ولَغطُ الشاميين يرتفع كطنين الذباب ، والذباب لا يفرّق بين العسل والنفايات.
     أطلّ شهر "صَفَر" بوجهه الكئيب ، وكانت القافلة قد توقّفت في "باب الساعات" ، ونَعبَ غراب قبل أن يخفق بحناحَيه السوادوَين.
     تمتم يزيد متشفّياً وهو يطّلع الى ثارات بدر ، واجتاحته رغبة عارمة بالغناء ، فأطلق عقيرته :
لـمّا بَـدَتْ تـلك الحُمولُ وأشرقَتْ تـلـك الـرؤوسُ على شفا جَيرونِ



(15)
نَعبَ الغرابُ فقلتُ : صِحْ أو لاتَصِحْ فـلقـد قَضـَيـتُ من النبيِّ دُيوني
     كانت دمشق ترقص على دفوف أهلها ، والأبواق تدوّي في الفضاء ، وتَذكّر يزيدُ جدَّته (هند) ، وهي تصدح غداة "أُحُد" :
إن تُقبِـلوا نُعانقْ أو تُدبِروا نُفارقْ ونَفرش النَّمارقْ فِراقَ غيرِ وامِقْ
     القافلة المقهورة تشقّ طريقها كسفينة تعصف بها ريح مجنونة.. يتقدّمها رأسُ آخرِ الأسباط على رمح طويل ، فبدا كعملاق من عمالقة التاريخ. ودنا شيخ من فتىً في العشرين من عمره.. كان ينوء بثقل سلاسل القهر. هتف الشيخ :
     ـ الحمدلله الّذي أهلككم ، وأمكنَ الأميرَ منكم !
     نظر الفتى اليه ، وخاطبه بإشفاق :
     ـ أقرأت القرآنَ يا شيخ ؟
     قال الشيخ مأخوذاً :
     ـ بلى.
     ـ أقرأتَ: قل لا أسألُكم عليه أجراً إلاّ المودّةَ في القربى ؟
     ـ نعم قرأت ذلك. ما ذا تعني ؟
     ـ نحن القربى يا شيخ... أقرأت : إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرجسَ أهلَ البيتِ ويُطهِّرَكم تطهيراً ؟
     ـ نعم قرأت ذلك.
     ـ نحن أهل البيت يا شيخ.
     ـ بالله عليك ، أنتم هُم ؟!
     ـ نعم ، وحقِّ جدِّنا رسولِ الله ، إنّا لَنحن هم.
     وقع الشيخ.. كأنّ الأرض تهتزّ تحت قدميه.. كان ينتحب ويُوَلوِل :
     ـ أبرأ الى الله ممّن قتلكم..
     وما أسرع أن احتوشته الجلاوزة ، كحَمل سقط بين مخالب قطيع من الذئاب.
     وتساءلت امرأة دمشقية:
     ـ مِن أيّ السبايا أنتم ؟


(16)
     فقالت سكينة بحزن :
     ـ نحن سبايا آل محمّد.
     ومضت القافلة في طريقها الى قصرٍ بُني على الظلم ما له من قرار.
     وفي باب القصر توقّفت القافلة ، وجيء بالحبال ، فرُبِّق بها آل الرسول ، وَضعوا طرَفه في رقبة فتىً في العشرين ؛ أنهكته السلاسل والقيود ، ثمّ في رقبة زينب بنت علي ! ثمّ باقي بنات محمّد ! وكلّما تعثّر الأسرى في طريقهم انهالَتْ عليهم السياط من كل جانب.
     وتذكّرت زينبُ عِزّاً قديماً بدّدته أيام الزمن الخالي.. يوم كانت تخرج يحفّ بها فتية بني هاشم. وها هي الآن تُساق أسيرةً الى أولاد الطلقاء. لَشدّ ما يقسو الدّهر.. ولكن كل شيء في عَين الله ، ولقد أوتيَتْ زينب صبراً دونه صبر أيّوب.
     وأُدخلت الرؤوس ، وكان رأسُ الحسين على رمح طويل.
     وفي تلك الليلة ضاعت آياتُ القرآن وسط دفوف مجنونة تحتفل بنصر الخليفة الجديد. الّذي زيّن قِرْده الأثير قلادةً جديدة من الذهب المرصّع بالياقوت الأحمر.

     دمشق تغمرها ظُلمة.. تلاشت زينتها ، وبدت المدينة كراهبة مكتئبة ، وعلى باب جَيرون كان رأس الحسين مصلوباً ، حيث صُلب رأس يحيى بن زكريا.
     دمشق صامتة كأنّ على رأسها الطير. وفي باب السّاعات كانت حيّة من نحاس تُخرج رأسها المثلّث في كل ساعة ، فتُسقِط حصاةً في إناء نحاسي ، وكان غراب من نحاس يشير الى الوقت دون اكتراث ، وها هو الزمن يعود الى الوراء.. يستعيد حوادث قديمةً.. قديمة جداً.
     كان صوتُ يحيى بن زكريا يدوّي في السجن :
     ـ آه من الخليعة العاهرة.. ابنة بابل !
     ليرجمها الناس بالحجارة ، فتزول الآثام من الأرض ، والاّ فسترتدي السماء ثوبَ الحِداد ، ويصير القمر بِركةً من الدم ، وستسقط النجوم على الأرض ، وسيحلّ الرعب في قلوب الملوك.
     كانت "سالُومي" تُصغي بحقد الى كلمات يحيى تُفجّرُ الغيظَ في صدرها.. وزادها الشّيطان فتنة.
     همست في أذن هيرودس :
     ـ سأرقصُ مِن أجلك.


(17)
     وجُنّ هيرودس :
     ـ أُعطيك ما تشائين. امنحكُ نصف مملكتي.
     أغرقت الجواري "سالومي" بالعطور.
     هتفت بخلاعة :
     ـ بقدمَين عاريتين سأرقص لك.. بقدمين مثل حمامتين بيضاوين سأرقص لك.
     هبّ هيرودس من عرشه:
     ـ آه.. رائع.. عظيمٌ لقد رقصتِ من أجلي. اقتربي يا سالومي سأعطيك كلَّ ما تشتهين.. أُقسم بآلهتي. خرّت "ابنة بابل" عند قدميه:
     ـ أريد أن تقدّم لي في طبق من الفضّة.. رأسَ يحيى.
     ـ لا.. لا ياسالومي.
     ـ ولكنك أقسمت بآلهتك !
     ـ لن أفعل ! اطلبي منّي شيئاً آخر. أُعطيك نصف مملكتي.
     ـ أريد رأس يحيى.
     لعبت الخمرة برأسه ، وانتزعت أصابع (ابنة بابل) خاتم الموت من يده ، وسقط رأس يحيى بن زكريا عند قدَمي "سالومي".
     في طبَق من الفضة كان رأس يحيى يتألّق في الظّلام.
     وقالت "سالومي" منتشية :
     ـ إنّ عينيك اللتين كانتا مخيفتين قد أُغلقتا الآن ، ولسانك لا يتحرّك ، لن يقول شيئاً هذا اللسان.. أنا سالومي ابنة بابل.. الأميرة اليهودية.. ما زلت أحيا.. أمّا أنت فقد مُتّ.. لقد أصبح رأسك مُلكاً لي أفعل به ما أشاء. سوف أرميه لنسور السماء.
     ارتجف هيرودس لهذه الراقصة تتشفّى من يحيى.. صرخ بهلع :
     ـ هذه المرأة تعجّ بالشرور..
     وخاطب جنوده :
     ـ أطفئوا المشاعل.
     كان يريد الهروب .. وفيما هو يغادر قاعة الحفل ، حانت منه التفاتة. كانت سالومي ما تزال تخاطب رأس النبيّ. كانت تحمل طبق الفضة ، وتدور به ـ مجنونة ـ في أروقة القصر.


(18)
     صاح هيرودس بجنوده :
     ـ اقتلوا هذه المرأة.
     وتدافع الجنود لسحْق امرأة داعرة ، فسقطت ممزَّقة ، وعلى وجهها آثارُ رعب وخوف ، وكان وجه يحيى يسطع نوراً.
وبدا قصر هيرودس مخيفاً.. نوافذه مشرَعة تعصف بها الريح من كل مكان.
     رأس الحسين ما يزال مصلوباً على باب جيرون ، الرهبان ينظرون اليه من بعيد ، فيرون ملامح يحيى بن زكريا ، فتفيض أعينهم من الدمع حزناً.

     رأس الحسين في طبق من ذهب بين يدَي يزيد... وكان ابن معاوية ينكت ثغر السبط بقضيب في يده.
     التفتَ إلى ابن بشير ، وكان يوماً ما أميراً على الكوفة :
     ـ الحمدلله الّذي قتله.
     قال الأنصاري بحزن :
     ـ قد كان أبوك يكره قَتْلَه.
     ـ قد كان ذلك قبل أن يشهر سيفه ، ولو شهر سيفه على أبي لقتله.
     وقال رجل رأى النبيّ وسمع حديثه :
     ـ أشهد لقد رأيتُ النبيّ يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ، ويقول : أنتما سيدا شباب أهل الجنّة. قَتلَ اللهُ قاتلكما.
     استشاط سليل آكلة الأكباد. وما أسرع أن تناوشته الجلاوزة ، وسُحل الى خارج القيصر. وكان رسول القصير يتأمّل رأس الحسين ، وفي أعماقه تموج تساؤلات :
     ـ إنّ عندنا في بعض الجزر حافِرَ حمارِ عيسى ، ونحن نحجّ اليه في كل عام ونهدي اليه النذور ، وأنتم تقتلون ابن نبيّكم ؟!
     نهض النصراني ، وتقدّم بخشوع ليقبّل رأس الحسين.
     تخيّل نفسه يعانق يحيى بن زكريا ، أو المسيح بن مريم.
     استشاط ابن معاوية غضباً ، فتدحرج رأس النصراني الى جانب رأس الحسين ، وسمع مَن له أذن واعية رأس السبط يتمتم :


(19)
     ـ لا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
     والتفت يزيد إلى فتى الحسين :
     ـ أرأيت صُنع الله بأبيك ؟!
     قال الفتى :
     ـ رأيتُ قضاءَ الله.
     تمتم يزيد بنفاق :
     ـ ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم.
     قال سليل الأنبياء :
     ـ ما أصابَ مِن مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسِكُم إلاّ في كتابٍ مِن قبلِ أن نبرأها إنّ ذلكَ على الله يَسير. لكي لا تأسَوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم .
     وبدا الفتى ـ وهو في الأغلال ـ كأسد أوثقه الصيادون ، فخاطب يزيدَ :
     ـ ما ظنُّكَ برسول الله لو يراني على هذه الحال !
     ونهض خطيب السلاطين ، وأمعن في مدح معاوية ويزيد وسبِّ عليّ والحسين ، فصاح به الفتى :
     ـ لقد اشتريت مرضاةَ المخلوق بسخطِ الخالق ، فتبوّأْ مَقعدكَ من النار.
     وكان رجل شامي ما برِح يتطلّع الى بنات محمّد ، فنظر إلى فاطمة بنت الحسين ، وتمنّى أن يهبها له الخليفة جاريةً تخدمه.
     تعلّقت الفتاة بعمّتها زينب كغريق يتشبّث بعمود من أعمدة سفينة محطّمة تتقاذفها أمواج الطوفان. قالت زينب بثبات :
     ـ لا تخافي. لن يكون ذلك أبداً.
     ردّ يزيد متغطرساً :
     ـ لو شئتُ لفعلت.
     ـ فقالت ابنة علي :
     ـ الاّ أن تخرج من ديننا.
     ـ إنّما خرج من الدين أبوكِ وأخوك !
     ـ بدِينِ الله ودين جدّي وأبي وأخي اهتديتَ أنت وأبوك ، إنْ كنتَ مسلماً.
     ـ كذبتِ يا عدوّة الله.
     ـ أنت أمير مسلّط تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك.


(20)
     عاود الشامي الأحمق :
     ـ هَبْها لي يا أميرالمؤمنين.
     ودّ يزيد لو يُسحق هذا الأحمق ، فنهره بشدّة :
     ـ وَهبَ الله لك حتفاً قاضياً !
     أطبق الصمت على المكان ، وكان التاريخ يتساءل عن المنتصر في كربلاء؛ يزيد أم الحسين. فنهضت امرأة رافقت الحسين على قدر تقول كلمتها معبّرة خالدة :
     ـ صدق الله سبحانه حيث يقول: ثمّ كان عاقبةَ الّذين أساؤوا السُّوأى أنْ كذّبوا بآيات الله و كانوا بها يستهزئون.. أظننتَ يا يزيد ـ حيث أخذتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نُساق كما تُساق الأسارى ـ أنّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة ؟!.. فمهلاً مهلاً ! أنسِيتَ قول الله تعالى: ولا تَحسبنّ الّذين كفروا أنّما نُملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنّما نُملي لهم ليزدادوا إثماً و لهم عذابٌ مُهين ، فو الله ما فَرَيتَ إلاّ جِلدَك ، ولا حَزَزتَ إلاّ لحمَك. ولَترِدَنّ على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بما تحمّلتَ من سفك دماء ذريّته ، وانتهكتَ حُرمتَه في عترته.. وحسْبُك بالله حاكماً ، وبمحمّدٍ خصيماً ، وبجبريلَ ظهيراً ، وسيعلم مَن سوَّل لك ومكَّنك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بَدَلاً. وأيّكم شرٌّ مكاناً وأضعف جُنداً.
     ولئن جَرَّتْ عليَّ الدواهي ـ يا يزيد ـ مُخاطبتَك ، إنّي لاَستصغِرُ قَدْرك. فكِدْ كيدَك ، واسعَ سَعْيك ، فو اللهِ لا تمحو ذِكرنا ولا تُميت وحيَنا ، ولا يرحض عنك عارُها. وهل رأيُكَ إلاّ فنَد ، وأيامك إلاّ عَدَد ، وجمعك الاّ بَدَد ، يوم ينادي المنادي: ألا لعنةُ الله على الظّالمين.
     تضاءل يزيد حتّى أصبح كذبابة أو يكاد؛ وربّما لأوّل مرّة أيقن أن الحسين لم يُقتل بعدُ وأنه ما يزال يقاتل في كربلاء ، وها هو الآن على أبواب دمشق. فلعن في نفسه ذلك الأرقطَ الأحمق لأنّه لم يقتلهم جميعاً ، ها هي زينب تحمل قلب الحسين وفصاحة عليّ وهيبة محمّد. وها هي الشام تتساءل عن رجل اسمه الحسين وعن امرأة اسمها زينب.

     غادرت القافلة ربوع الشام في طريقها إلى كربلاء ، وعرف الدليل الطريق ، وراحت القافلة تسابق أمواج الفرات.
امرأة.. اسمها زينب ::: 11 ـ 20