وتساءل الأطفال عن جنودٍ ورماح كانوا يحرسون النهر.. يحرمون القلوب الظامئة والأكباد الحرّى من قطرة ماء.
وكانت الطيور والغِزلان تمرح في الشواطئ.. ترتاد النهر بحرّية.
ـ لو تدري أيها النهر! عن قلوب ذوَتْ عطشاً على شطآنك !!
كان الحسين يذوب ظمأً.. قلبه يتفطّر ، وأنت تجري.. تنثال مياهك على الشواطئ.. تهبها الحياة ، وتمنح الأرض السمراء عشبك الأخضر.. وفي عاشوراء تركتَ قلوباً صغيرة تتلوّى عطشاً ، وكان " الرضيع " يمدّ يداً صغيرة ؛ يطلب قطرة ماء.. ما تزال يده ممدودة تستفهم التاريخ والانسان.
لاحت أرض كربلاء من بعيد.. الأرض التي شهدت قبل أربعين يوماً مصرع الحسين.
سهام مغروسة في الرمال.. سيوف مهشّمة وبقايا رماد..
قفزت الحوادث الرهيبة إلى الذاكرة. تجسّدت أمام العيون. وتردّد صداها في القلوب.
هرولَت "الرَّباب" إلى كومة رمل صغيرة.. تضمّ رضيعها الشهيد! احتضنت الرمل.. راحت تحثوه فوق رأسها:
ـ هلمّ إليّ يا صغيري..
وتساقطت قطرات من لبن سائغ فوق الثرى ، فامتزجت مع الدموع.
كان الرضيع غافياً في أحضان الأرض التي لوّنها بدمه الرائق ؛ وعندما هوّمت عيناها ، رأت نافورة ماء تنبجس من نحر الرضيع الشهيد. وكان الأطفال يدورون بين القبور كحمائمَ برّية تبحث عن أعشاشها.
ووقفت زينب تتأمّل الصمت المهيمن.. وهي تستيعد حوادث يومٍ طويل.. يومَ حطّم الحسينُ شبَحَ الموت.. يرسم بدمائه الطريق.. الطريق إلى جنان تجري من تحتها الأنهار.. وشواطئ الفرات تختزن الملح.. أمواجه سراب ، وظلال الخيل رماد ، والنهر حيّة يقهرها الظمأ.
والحسين يهوي بسيفه على صخور الزمن ، فتنبجس منها ينابيع الخلود.. والحسين يقهر الموت ، ينتزع من بين طواياه الحياة.
من بعيدٍ لاح "جابر".. رجل نصَر النبيّ ، وجاء اليوم يزور سِبطه. وكان مع الأنصاري عصبة من بني هاشم.. شمّ جابر رائحة النبيّ فهوى يقبل قبر الحسين :
ـ يا حسين.. يا حسين.. يا حسين.. حبيب لا يجيب حبيبه ، وأنّى لك بالجواب وقد فُرِّق بين رأسك وبدنك!.. أشهد أنك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا.
وأجال جابر بصره الواهن بين القبور :
(22)
ـ السّلام عليكم أيتها الأرواح التي حَلّت بفِناء الحسين وأناخَت برَحله.. أشهد أنكم أقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ، وجاهدتم الملحدين. والذي بَعثَ محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم بالحق نبياً ، لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.
فقال رجل كان معه ، وقد اتّسعت عيناه دهشة :
ـ كيف ولم نَهبط وادياً ولم نَعلُ جبلاً ولم نضربْ بسيف ؟!
وتداعت في أعماق جابر كلماتٌ قالها محمد من قبل :
ـ سمعتُ حبيبي رسول الله يقول : "مَن أحبّ قوماً كان معهم ، ومن أحبّ عمل قوم أُشرِك في عملهم".. والذي بعث محمداً بالحق نبياً ، إن نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه.
كانت الشمس على وشك أن تغيب وقد بدت حمراء.. حمراء كعين تسحّ دموعاً ثقالاً.
نهض جابر وقد تعفّر وجهه بتراب الحسين. تمتم بحديث لحبيبه كان قد سمعه قبل أكثر من خمسين سنة ، كان النبيّ يداعب صبياً في ربيعه الخامس ويقول : حسين مني وأنا من حسين..
هتف جابر وسط الصمت وكان الفرات يجري.. تتدافع أمواجه :
ـ أشهد أني قد سمعت ذلك من حبيبي محمّد.
غابت الشمس خلف الرمال الممتدّة ، ونشر المساء ستائره الرمادية فوق الأرض ، وانبرى رجال يدقّون أوتاد خيام صغيرة..
فزينب تريد البقاء إلى جنب أخيها الحسين.
مضى يومان والقافلة التي غادرت الشام وما تزال في كربلاء تسقي رمالها دموعاً ساخنة بعد أن ارتوت من دماء الحسين وسبعين من حواريّيه.انطلق الأطفال إلى الفرات ، وقد بدا.. والنخيل تحفّ شاطئيه : حورّية نهضت لتوِّها من النوم.
غمس الصغار أرجلهم في المياه ، وكانت الأمواج تغسل أقدامهم برفق.. كأنّ النهر يعتذر إليهم عن يوم حرَمهم فيه من قطرة ماء.
تذكّروا أيّام العطش. كانوا ينظرون جهة النهر.. وكان النهر أسيراً تحرسه رماح وسهام. تذكروا صرخاتهم.. بكاءهم وهم يصيحون :
ـ العطش.. العطش !
(23)
وعادت صورة عمّهم "أبي الفضل" وقد اعتلى صهوة جواده.. حمَلَ القِربة واتّجه صوب الفرات.. كانوا يترقّبون عودته يحمل إليهم الماء.. ولكن عمَّهم ذهب ولم يَعُد.. وظلّوا ينتظرون.
وبدت السماء في أعينهم صحراء ملتهبة ، فلا مُزنة تحمل إليهم الوَدْق. وكانت نُتَف الغيوم تعبر السماء كسفنٍ تائهة.
وقفت زينب تتأمّل الفرات وقد بدا مرثية غارقة في الحزن.. وكانت الشواطئ تبكي.. تسحّ دموعاً فوق الرمال ، وحفيف النخيل يردّد صوت امرأة تنوح بصمت.
استند طفل إلى جذع نخلة سمراء بلون الصحراء.
كان يصغي إلى نشيج الفرات وبكاء النخيل.. ينظر إلى المياه المتألّقة ، فيشاهد نجوماً وقمراً منيراً. هوّمت عيناه فرأى حصاناً أبيض ينبثق من النهر.. ينقل خطاه ، والمياه تنثال منه.. ترسم درباً نديّاً.. ورأى الحصان يضرب الأرض.
عمّه "أبو الفضل" يعتلي صهوة الحصان ، وينطلق صوب الفرات والقِربة على كتفه.. كان الحصان يصهل ، وعمّه يبتسم ، وقد عاد يحمل الماء.. راح يعبّ منه دون ارتواء.. وعندما فتح الطفل عينيه ، وجد زينب أمامه ، وفي يديها قربة تموج بمياه الفرات.
هَوَت الشمس باتّجاه المغيب.. جمرة متّقدة.. جرح راعف..
لحظات ، وحلّ الظلام ، فتصاعد الأنين.. أنين النهر.. النخيل.. الرمال.. وذهب الطفل يتلمّس طريقه بين نخيل الشاطئ. بدا القمر جميلاً في أحضان الماء. رأى وجه أبيه الشهيد منعكساً فيه كمرآة صافية.. ودّ في أعماقه لو يحمله النهر بعيداً إلى عالمٍ جميل.. إلى مدينة ترقد في أحضان النهر ؛ وهناك يلتقي أباه ، ثمّ ينطلقان معاً إلى البحر الكبير.
استيقظ الطفل على صوت من وراء النخيل يناديه:
ـ أين أنتَ يا بقية أخي ؟
ونهض الصغير مسرعاً نحو جهة الصوت. إنها عمّته زينب.
ارتمى في أحضانها ، وكان القمر يغمر الرمال بلونه الفضّي المتألّق.
العيون الساهرة تراقب نجوم السماء ، والأطفال يناغون القمر.. وتألّقت في الرمال سبعون نجمة أو تزيد.. وانطوى الليل على جراحٍ روّت الأرض.
وخُيِّل للقلوب الكسيرة أن قلباً كبيراً ينبض في أعماق الأرض فاهتزّت ورَبَتْ ، وكان صدى صهيلٍ يأتي من جهة الفرات.
(24)
وفي قلب الظلام ، كان الحسين على فرسه يتألّق في وجهه نور النبوّات.. يحمل في يديه الورد والزيتون والماء ، ويحمل القرآن.
بدت كربلاء ـ تلك الليلة ـ مسرحاً كبيراً يستوعب الحياة.. وظهر التاريخ يئنّ من عواء الذئاب.. يستنجد بجواد الحسين. وكان الجواد يصهل ، فتفرّ الذئاب مذعورة.
وينطلق التاريخ.. يعتلي صهوة الجواد.. يسابق الزمن. وكانت الذئاب تطارده لاهثة.
استيقظت يثرب كئيبة ، وقد صبغت الشمس جدارنها بحمرة ملتهبة ، وكان غراب ينعب فوق أحد المنازل.
ارتاعت فاطمة الصغرى ، وهي تراقب الغراب ، وقد كان يلطّخ جداراً يحيط باحة البيت. بدا البيت خاوياً على عروشه ، فلا أحد يؤنس الفتاة الوحيدة مذ تخلّفت عن القافلة لعلّةٍ أنهكتها.
تركوها وحيدةً ، وانطلقوا إلى أرض السَّواد. وكانت تترقب بريداً يأتي من قِبل أبيها ، وها هو نذير الشؤم يحطّ على المنزل.. يملأ الفِناء بنعيقه ، ويصبغ الجدار بدم هابيل.
وتمرّ الأيّام كالحةً سوداء ، كأسراب غربان مهاجرة.
وذات صباح حزين ، سمعت الصبيّة صوتاً ينعى والدها العظيم. كان الصوت يتردّد بين منازل المدينة المنكوبة :
يا أهلَ يثربَ لا مُقامَ لكم بهاالجسمُ منه بكربلاءَ مُضرَّجٌ
قُتل الحسينُ فأدمعي مِدرارُوالرأسُ من فوقِ القناة يُدارُ
هبّت يثرب عن بكرة أبيها. اليوم مات رسول الله!
واتجهت الجموع المدهوشة إلى الصحراء للقاء قافلة عَصَفتْ بها الأيّام.
وخرج فتى في العشرين من خيمته وهو يكفكف دموعه ويشهق في عبرته. ودارت عيناه في رجال صحبوا النبيّ. كان ينعى إليهم سبط صاحبهم العظيم.
ودخل الفتى بعياله مدينة جدّه.. وبكت زينب عندما لاحت لها البيوت من بعيد ، فأجهشت بالبكاء. ولأول مرّة بانَ الانكسار على وجهها ، وهي تردد :
مـدينـةَ جـدّنا لا تَـقبلينا خَرَجنا منكِ بالأهلين جمعاً
فبالحسراتِ والأحزانِ جِينافعُدنـا لا رجـالَ ولا بَنينا
(25)
وعندما وصل الركب إلى المسجد ، أخذت أخت الحسين بعُضادتَي باب المسجد ، وهتفت :
ـ يا جدّاه ، إني ناعية إليك أخي الحسين.
وصاحت سكينة بلوعة :
ـ يا جدّاه ، إليك المشتكى مما جرى علينا ، فو الله ما رأيتُ أقسى من يزيد ، ولا رأيت كافراً ولا مشركاً شرّاً منه ، ولا أجفى وأغلظ ، فلقد كان يقرع ثغر أبي بمخصرته ويقول : كيف رأيتَ الضرب يا حسين ؟!
وناحت الرباب بنت امرئ القيس بقلب كسير :
قد كنتَ لي جَبَلاً صَعباً ألوذ بهِ مَن لليتامى ومَن للسائليـن ومَن واللهِ لا أبتغي صهراً بصهركمُ
وكنتَ تَصحبُنا بـالرحم والدِّينِيُغْني ويُؤوي إليه كلَّ مسكينِ ؟!حتى أُغيَّبَ بين الرمـل والطينِ
ودخل رجل من أولاد طلحة على بقية آل محمد وسأل شامتاً :
ـ مَن الغالب ؟
فأجاب الفتى وهو يزيح عن العيون حجب الزمان :
ـ إذا دخل وقت الصلاة فأذّنْ وأقِمْ تَعرف الغالب.
اهتز الأشدق شماتة وهو يصغي تشفياً إلى مناحة بني هاشم ، وتمتم :
ـ واعية بواعية عثمان !
والتفت إلى قبر النبي وأردف :
ـ يا محمد ، يوم بيوم بدر !
واتجه الأشدق إلى المنبر ، وراحت كلماته تخرج شظايا يتهدّد أهل المدينة بالويل والثبور ، ثمّ أصدر أمره إلى قائد شرطته بهدم دُور بني هاشم ، فهرول الشرطة يحملون آلات الدمار ، فأمعنوا في خرابها حتّى غادروها أطلالاً أو خرائب خلّفها الزمن الراحل.
ولاذت بنات محمد بالقبر الشريف ، وهي تستصرخ الضمير النائم:
ماذا تقولـون إن قـال النـبيّ لكم : بعـتـرتـي وبـأهلي بعد مُفتقَدي ما كان هذا جزائي إذ نصحتُ لكم
مـاذا فـعـلتم وانتم آخـر الأمـمِمنهم أسارى ومنهم ضُرِّجوا بدمِ ؟!أن تخلفوني بسوء في ذوي رحِمي
(26)
كان الحزن يطوف بيوت يثرب ، كغيوم رمادية مثقلة بدموع السماء ، وكانت عجائز المدينة يحدّثن حفيداتهن عن أحزان قديمة لأمّ الحسين يوم ودّع أبوها الدنيا إلى الرفيق الأعلى.
وتهامسنَ عن حزن جديد.. حزن زينب.
ـ إن القدر لن يمهلها كما لم يمهل أمها من قبل.
ـ سرعان ما رحلت الزهراء.. التحقت بأبيها..
ـ لن تعيش زينب أكثر من عام.
إنها تذوي لحظة بعد أخرى ، كشمعة تذوب في قلب الظلام.
نهض الأشدَق من سريره المذهّب ؛ كان الليل قد ذهب ثلثاه ، وهو ما يزال يتقلّب في فراشه يصغي إلى صدى مناحة تأتي من بعيد.
ما يزال بنو هاشم ينوحون على الحسين ، وما تزال المدينة تجترّ آلامها بصمت.. كان الأشدّق فيما مضى يطرب لبكائهم ، وينتشي لمناحتهم ، أما الآن فبدأت تؤرّقه.. تقضّ مضجعه.. تسلب من عينيه حلاوة النوم. إنه يرى تململ المدينة.. يصغي إلى أصوات تلعنه وتلعن بني أمية أجمعين ، وكان الحسين على الشفاه.ضغط الأشدق على أسنانه حانقاً ، وراح يحدّق ـ من خلال نافذة في القصر ـ في الظلام الدامس. تراءت له اشباح في الظلام.. اشباح مخيفة ليس لها شكل.. تحمل في أيديها سيوفاً وخناجر..
ارتدّ الأشدق مذعوراً ، وشعر بفمه يزداد اعوجاجاً ، حتّى لقد صعب عليه أن يصرخ بحاجبه.
وقعت عيناه على كأسٍ فيها ثمالة ، فأفرغها في جوفه دفعة واحدة.
منذ مدّة وهو لا يفارق هذه البيضاء التي تحرق جوفه وتغرقه في بحر من الخيال.
ولكن ماذا يفعل لهذه المرأة ؟!.. زينب تسلبه حلاوة العيش.. تقضّ مضجعه.. المدينة تستيقظ على مناحتها.. وهو يخاف لحظة الانتقام. لعن في أعماقه يزيد وابن زياد. كان عليهما أن يقتلا زينب.. الحسين لا يموت إلاّ بقتل هذه المرأة. إنها ابنة عليّ.. عليّ الذي ما يزال الناس يردِّدون كلماته ؛ ومحمد يهتف به الناس كل يوم خمس مرّات.
شعر بدوارٍ في رأسه ، ورغبة في القيء. لقد أكثر من الشراب هذه الليلة.
استيقظ الفجر على صياح الديكة. ونعب غراب ، قبل أن يغادر وكره. وناحت حمامة بصوت حزين.
صرخ الأشدق بكاتبه بصوت يشبه فحيح الأفاعي :
(27)
ـ اكتب إلى الخليفة :
"إذا كانت لك بالحجاز حاجة فاقتل زينب".
وانطلق ذئب أغبر يحمل رسالة الموت. الأشدق ما يزال متعطّشاً للدماء.
لم تروهِ دماء كربلاء ، فراح ينشد المزيد.
ما تزال هند تلوك كبد حمزة ، وتشتهي كبد عليّ..
كلمات الحسين تدور في بيوت "الأنصار" من سكان المدينة ممزوجة بدموع زينب.. تتحوّل إلى روح تنشد الحرية..
والذين صحبوا النبيّ يتذكرون عهوداً قديمة تحت الشجرة وفي العقبة كانوا قد نسوها ، وها هم يستيقظون ليجدوا راية "العقاب" في أيدي الذين حاربوها عشر سنين.
الخلافة تتحول إلى مُلك والخليفة يصير هرقل.. والمنبر ينقلب إلى عرش.. ويكون معاوية أمين الوحي ، ويُشتم أبو تراب ليل نهار ، ويعود طريد الرسول إلى المدينة ، وتُنفى زينب من كل الحجاز.
استوت "العقيلة" فوق ناقتها ، وألقت نظرة حزينة على ربوع مدينة جدّها ، متوجهة صوب مصر.
قالت امرأة هاشمية ، وهي تودّعها :
ـ لقد صدق الله وعده: وأورَثنا الأرضَ نتبوّأُ من الجنّةِ حيث نشاء فطيبي نفساً ، وقَرّي عيناً ، وسيجزي الله الظالمين.
وانطلقت سفينة الصحراء تقطع الفيافي.. تحمل امرأة اسمها زينب ، امرأة لن يمهلها القدر سوى سنة واحدة ، فقد فاضت روحها في أول ذكرى لعاشوراء.
في الفسطاط قلب مصر ، مكثت زينب عاماً واحداً. وعندما أغمضت عينيها الدامعتين ، تفتّحت ملايين العيون ، وملايين القلوب على نداء الحرّية. فما يزال الحسين يقاتل.. يهتف في سمع الزمن :
ـ إني لا أرى الموت إلاّ سعادة.. والحياة مع الظالمين إلاّ برَما.
وما يزال التاريخ يردد كلمات قالتها زينب في كربلاء :
ـ لقد اخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض ، وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة والجسوم المضرّجة ، فيوارونها وينصبون بهذا الطف علَماً لا يُدرس أثره ، ولا يُمحى رسمه على كرور الليالي والأيّام.
(28)
مرّات أعوام والمهرة التي وُلدت لحظة عاشوراء أضحت فرَساً تسابق الريح.. ودارت الأرض دَوْر الرَّحى.
يثرب تلعق جراحها العميقة. أغار عليها جند الشام واستباحوها ثلاثة أيّام بلياليها.. قُتل رجال كانوا حول النبيّ.. كانوا سبع سنابل خضر؛ في كل سنبلة مائة حبّة.
السيوف الأُموية تحصد بلا رحمة حتّى رؤوس الاطفال. بَقَرَت بطون الحبالى ، واستُبيحت ألف عذراء.. وبايعت المدينة يزيدَ جاريةً ذليلة.
عاد أبو سفيان يقود القبائل وهو يهتف : اُعلُ هُبل ؛ والأحزاب يعبرون خندق النبيّ بعد أن ردموه في كربلاء ، ونادى منادٍ.
ـ يا أهل يثرب لا مُقامَ لكم بها.
المدينة تحصد بذار "السقيفة".
وفي مكة ، كانت المجانيق تقصف الكعبة من فوق رؤوس الجبال ، فاحترق جانب منها.. الشيطان يصب حِممَه فوق بيت الله.. وجند الشام يرمون الكعبة بكتل النار الملتهبة ، ثمّ يتجهون إليها وقت الصلاة.
ويزيد في رحلة صيد أسكرته نشوة الانتصار ، والأرقط ما يزال جاثماً على صدر الكوفة يسومها سوء العذاب.. يذبّح أبناءها ويستحيي نساءها.
الضمير الذي خدّره "معاوية" يستيقظ في قلب الليل ، يتململ.. يبحث عن جحيم يتطهر فيه.. يتخفف من إثم رهيب حوّل الحياة إلى ذلّ لا يطاق.
لقد وُلد الحسين من جديد.. وها هي بنت محمد تُقدّم وليدها إلى الدنيا شعلةً متوقِّدة يحملها الأحرار في كل زمان ومكان.
الأفاعي ما تزال تتلوّى في قصر الإمارة.. تلدغ كل من يصادفها. وقد فّر الأرقط إلى الشام بعد أن هلك سيّده ، وظهر في الكوفة رجل يصرخ: يا لَثاراتِ الحسين.. رجل ذرّف على الستين؛ يُدعى "المختار".
قال ابن سعد محذّراً :
ـ أيها الأمير ، إن المختار أشدّ خطراً من سليمان ، فابنُ صُرَد قد خرج من الكوفة يروم قتال أهل الشام.
وقال الأبرص :
ـ أجل أيها الأمير ، أرى أن تُودِعَه السجن.. أو تقتله.. نتغدّى به قبل أن يتعشّى بنا.
لا أحد يدري كيف استيقظت الكوفة.. نفضت عن نفسها العار وهبّت بشعارٍ كانت قد نامت عنه خمس سنين؛ يوم كان مسلم بن عقيل سفير الحسين ينادي في دروب الكوفة وحيداً : يا منصورُ أمِتْ.
هبّت الكوفة تصرخ مجنونة: يا لَثاراتِ الحسين.
وسقط قصر الإمارة في أيدي الثائرين ؛ فيما فرّ الجلادون لا يلوون على شيء.
(29)
كان الأبرص قد فرّ باتجاه الجنوب مشدوهاً يفكّر بكلمات قالها الحسين في كربلاء:
ـ والله لا تَلبثون بعدها إلاّ كريثما تُركَبُ الفَرَس حتّى تدورَ لكم دَورَ الرَّحى وتَقلقَ بكم قَلقَ المحور.. عهدٌ معهود عَهِده إليّ أبي عن جدّي رسول الله.
وتجسدت صورة الحسين وهو يرفع يديه إلى السماء كنبيٍّ يستمطر اللعنة على قوم كذبوه:
ـ اللّهم احبِس عنهم قَطْر السماء ، وابعَثْ عليهم سنين كسني يوسف ، وسلط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مُصبَّرة.. والله لا يَدَعُ أحداً منهم إلاّ انتقم لي منه.. قتلةً بقتلة ، وضربة بضربة ، وأنّه لَينتصر لي ولأهل بيتي وأشياعي.
تحققت نبوءة الحسين. صارت المُهرة فرساً تُركب ، تسابق الريح وظهَر "المختار الثقفي" في قبضته سيف الانتقام.
فرّ الجلاّدون.. تحولوا إلى فئران خائفة اختبأت في جحورها ترتجف ، وكان سيف المختار يطاردها.. يحقق نبوءات الحسين.
وفي ساعة غضبٍ مقدس ، تحولت جحور الفئران إلى انقاض وركام.
قال المختار وهو يودّع "ابن الاشتر" قائده الشجاع :
ـ بقي رأس الافعى.. بقي رأس الارقط :
هزّ إبراهيم رايته بشدّة.
تحرّك سبعة آلاف مقاتل يحملون في صدورهم قبساً من روح الحسين ، وصهيل فرس غاضبة تدوّي في الأعماق.
غادر ابن زياد الشام على رأس جيش تجاوز الثمانين الف مقاتل يحملون سيوفاً أموية تنذر الكوفة بالويل والثبور ، يقودها "الارقط" وقد بايع مروان على الطاعة... ومروان طريد رسول الله ، أُمويّ سامريّ منعه النبيّ أن يغادر الطائف. ولمّا أغمضَ النبيُّ عينيه جاء مختبئاً تحت عباءة عثمان.
وتمرّ الأعوام تِلو الأعوام ، وإذا بالطريد يسرق منبر محمد في وضح النهار.
سقطت الموصل في قبضة الأرقط.. وعلى ضفاف نهر الخازر في ضواحي الموصل التقت فئةٌ قليلةٌ فئةً كبيرةً وحدثت ملحمة رهيبة.. كان الأشتر يقاتل بشجاعة أبيه.. يستعيد بطولاته على شاطئ الفرات بصِفِّين وليشهد "الخازر" أنّ الولد على سرّ أبيه.
(30)
طاحونة الموت تدور عند ضفاف الخازر ، وسقط رأس الأرقط وتمزّقت جيوشه.
كان المختار جالساً في القصر عندما وضع بين يديه رأس الأرقط.. كان يشبه رأس الأفعى يسيل من أنيابه الصديد.. عيناه زائغتان تعكس آثار رعب ودناءة.
وتساقطت رؤوس الجلاّدين.. رأس الأبرص ورأس رجل كان يحلم بالري وجرجان ، رأس سنان و "حرملة" ورؤوس عفنة كثيرة.. سقطت كما تتساقط الثمار الفاسدة عند هبوب الزوبعة وفي فجر يوم باسم ، وقد تطهّرت الكوفة من رجس الشيطان. كان فارسٌ قد غادرها توّاً يحمل معه رؤوس الأفاعي ، ويكاد أن يسبق الريح ، وجهته "يثرب" المدينة المنكوبة.
دخل الرجل الكوفي منزل عليّ بن الحسين وهتف مبهور الأنفاس :
ـ يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومهبط الوحي ، أنا رسول المختار إليكم ومعي رأس ابن مرجانة ورأس ابن سعد و..
وعادت الفرحة إلى المدينة.. تجدّدت ذكريات بدر يوم تساقطت رؤوس الشرك في "القَليب".
وفي تلك الليلة تذكّرت نسوة بني هاشم الحِنّاء ، وعدد المِروَد يدور في العيون يمسح آثار حزن متجدد.. وشقّ المشط طريقه في ليل الشعر ليل حالك أو ربما اشتعل شيباً. وهوى فتى الحسين ساجداً لله الذي يمهل ولا يهمل :
ـ اللّهم وفّقه لما تحبّ وترضى ، واغفر له في الآخرة والأولى.
عادت البسمة تطوف في بيوت بني هاشم.. تمسح الدموع ، وتمنح الأطفال الأمل ، والنسوة كُحلاً ومَراود.. ومن بين كل العيون بقيت عينان حزينتان تدمعان..
فلقد أغمضهما القدر بمصر قبل أن تَرَيا تَساقُطَ رؤوس الجلاّدين.
غير أنّ التاريخ ما يزال يردّد بطولات امرأة اسمها "زينب".