ص 31
الله وأخا رسول، قال عمر: أما عبد الله فنعم، وأما أخو رسوله فلا، وأبو بكر ساكت لا
يتكلم، فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك؟ فقال: لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى
جنبه، فلحق علي بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصيح ويبكي، وينادي: يا بن أم إن
القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني. فقال عمر لأبي بكر، رضي الله عنهما: انطلق بنا
إلى فاطمة، فإنا قد أغضبناها، فانطلقا جميعا، فاستأذنا على فاطمة، فلم تأذن لهما،
فأتيا عليا فكلماه، فأدخلهما عليها، فلما قعدا عندها، حولت وجهها إلى الحائط، فسلما
عليها، فلم ترد عليهما السلام، فتكلم أبو بكر فقال: يا حبيبة رسول الله! والله إن
قرابة رسول الله أحب إلي من قرابتي، وإنك لأحب إلي من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات
أبوك أني مت، ولا أبقى بعده، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من
رسول الله، إلا أني سمعت أباك رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا نورث، ما
تركنا فهو صدقة ، فقال: أرأيتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم تعرفانه وتفعلان به؟ قالا: نعم. فقالت: نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله
يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن
أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟ قالا: نعم سمعناه من رسول
الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما
أرضيتماني، ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه، فقال أبو بكر: أنا عائذ بالله تعالى من
سخطه وسخطك يا فاطمة، ثم انتحب أبو بكر يبكي، حتى كادت نفسه أن تزهق، وهي تقول:
والله لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها، ثم خرج باكيا فاجتمع إليه الناس، فقال
لهم: يبيت كل رجل منكم معانقا حليلته، مسرورا بأهله، وتركتموني وما أنا فيه، لا
حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي. قالوا: يا خليفة رسول الله، إن هذا الأمر لا
يستقيم، وأنت أعلمنا بذلك، إنه إن كان هذا لم يقم لله دين، فقال: والله لولا ذلك
وما أخافه من رخاوة هذه العروة ما بت ليلة ولي في عنق مسلم بيعة، بعدما سمعت ورأيت
من فاطمة. قال: فلم يبايع علي كرم الله وجهه حتى ماتت فاطمة رضي الله عنهما، ولم
تمكث بعد أبيها إلا خمسا وسبعين ليلة (1). قال: فلما توفيت أرسل
(هامش)
(1) اختلفوا في وفاتها عليها السلام وكم عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، قال
الواقدي: = (*)
ص 32
علي إلى أبي بكر: أن أقبل إلينا (1)، فأقبل أبو بكر حتى دخل على علي وعنده بنو هاشم
فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد يا أبا بكر: فإنه لم يمنعنا أن نبايعك
إنكارا لفضيلتك، ولا نفاسة عليك (2)، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقا،
فاستبددت علينا، ثم ذكر علي قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل يذكر
ذلك حتى بكى أبو بكر. فقال أبو بكر رضي الله عنه. لقرابة رسول الله أحب إلي (3) من
قرابتي، وإنى والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله يصنعه إلا صنعته إن شاء الله تعالى.
فقال علي: موعدك غدا (4) في المسجد الجامع للبيعة إن شاء الله. ثم خرج فأتى المغيرة
بن شعبة، فقال: الرأي يا أبا بكر أن تلقوا العباس، فتجعلوا له في هذه الإمرة نصيبا،
يكون له ولعقبه، وتكون لكما الحجة على علي وبني هاشم، إذا كان العباس معكم. قال:
فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة والمغيرة حتى دخلوا على العباس رضي الله عنه. فحمد
الله أبو بكر، وأثنى عليه، ثم قال: إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم نبيا
وللمؤمنين وليا، فمن الله تعالى بمقامه بين أظهرنا، حتى اختار له الله ما عنده،
فخلى على الناس أمرهم، ليختاروا لأنفسهم في مصلحتهم، متفقين غير مختلفين، فاختاروني
عليهم واليا، ولأمورهم راعيا، وما أخاف بعون الله وهنا ولا حيرة ولا جبنا، وما
توفيقي إلا بالله العلي العظيم، عليه توكلت وإليه أنيب. وما أزال يبلغني عن طاعن
يطعن بخلاف ما اجتمعت عليه عامة المسلمين، ويتخذكم لجأ، فتكونون حصنه المنيع، فإما
دخلتم فيما دخل فيه العامة، أو دفعتموهم عما مالوا إليه، وقد جئناك ونحن نريد أن
نجعل لك في هذا الأمر نصيبا، يكون لك ولعقبك من بعدك، إذ كنت عم رسول الله، وإن كان
(هامش)
= وهو الثبت عندنا: توفيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر، وتوفيت ليلة
الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة وهي ابنة تسع وعشرين سنة أو نحوها
وقيل توفيت بعده بثلاثة أشهر وقيل ثمانية أشهر وقيل سبعين يوما (أنظر ابن سعد 8 /
30 وطبقات خليفة
ص 96
ومروج الذهب 2 / 321 والطبري). (1) زيد في الطبري - وهو يروي عن الزهري: ائتنا ولا
يأتنا معك أحد، وكره أن يأتيه عمر لما علم من شدة عمر، فقال عمر: لا تأتهم وحدك قال
أبو بكر: والله لآتينهم وحدي، وما عسى أن يصنعوا بي! (2) زيد في رواية الطبري: بخير
ساقه الله إليك. (3) في نسخة: أحب إلي أن أصل من قرابتي. (4) في الطبري: موعدك
العشية للبيعة. (*)
ص 33
الناس قد رأوا مكانك ومكان أصحابك، فعدلوا الأمر عنكم وعلى رسلكم بني عبد المطلب،
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم منا ومنكم، ثم قال عمر: إي والله، وأخرى أنا لم
نأتكم حاجة منا إليكم، ولكنا كرهنا أن يكون الطعن منكم فيما اجتمع عليه العامة،
فيتفاقم الخطب بكم وبهم، فانظروا لأنفسكم ولعامتكم. فتكلم العباس، فحمد الله، وأثنى
عليه، ثم قال: إن الله بعث محمدا كما زعمت نبيا، وللمؤمنين وليا، فمن الله بمقامه
بين أظهرنا حتى اختار له ما عنده، فخلى على الناس أمرهم ليختاروا لأنفسهم، مصيبين
للحق، لا مائلين عنه بزيغ الهوى، فإن كنت برسول الله طلبت فحقنا أخذت، وإن كنت
بالمؤمنين طلبت فنحن منهم متقدمون فيهم، وإن كان هذا الأمر إثما يجب لك بالمؤمنين
فما وجب إذ كنا كارهين، فأما ما بذلت لنا فإن يكن حقا لك فلا حاجة لنا فيه وإن يكن
حقا للمؤمنين فليس لك أن تحكم عليهم، وإن كان حقنا لم نرض عنك فيه ببعض دون بعض.
وأما قولك إن رسول الله منا ومنكم، فإنه قد كان من شجرة نحن أغصانها، وأنتم
جيرانها. قال: ثم خرج أبو بكر إلى المسجد الشريف، فأقبل على الناس، فعذر عليا بمثل
ما اعتذر عنه، ثم قال علي فعظم حق أبي بكر، وذكر فضيلته وسابقته، ثم مضى فبايعه،
فأقبل الناس على علي، فقالوا: أصبت يا أبا الحسن وأحسنت. قال: فلما تمت البيعة لأبي
بكر أقام ثلاثة أيام يقيل الناس ويستقيلهم، يقول قد أقلتكم في بيعتي، هل من كاره؟
هل من مبغض؟ فيقوم علي في أول الناس فيقول: والله لا نقيلك ولا نستقيلك أبدا، قد
قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم لتوحيد ديننا، من ذا الذي يؤخرك لتوجيه دنيانا؟.
خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه
قال: ثم إن أبا بكر قام خطيبا، فحمد الله وأثنى
عليه، ثم قال: أيها الناس، إن الله الجليل الكريم العليم الحكيم الرحيم الحليم، بعث
محمدا بالحق، وأنتم معشر العرب كما قد علمتم، من الضلالة والفرقة، ألف بين قلوبكم
ونصركم به وأيدكم، ومكن لكم دينكم، وأورثكم سيرته الراشدة
ص 34
المهدية، فعليكم بحسن الهدى ولزوم الطاعة، وقد استخلف الله عليكم خليفة ليجمع به
ألفتكم، ويقيم به كلمتكم، فأعينوني على ذلك بخير، ولم أكن لأبسط يدا ولا لسانا على
من لم يستحل ذلك إن شاء الله، وأيم الله ما حرصت عليها ليلا ولا نهارا، ولا سألتها
الله قط في سر ولا علانية، ولقد قلدت أمرا عظيما، ما لي به طاقة ولا يد، ولوددت أني
وجدت أقوى الناس عليه مكاني، فأطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت فلا طاعة لي عليكم،
ثم بكى وقال: اعلموا أيها الناس أني لم أجعل لهذا المكان أن أكون خيركم، ولوددت أن
بعضكم كفانيه، ولئن أخذتموني بما كان الله يقيم به رسوله من الوحي ما كان ذلك عندي،
وما أنا إلا كأحدكم، فإذا رأيتموني قد استقمت فاتبعوني، وإن زغت (1) فقوموني،
واعلموا أن لي شيطانا يعتريني أحيانا، فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني، لا أؤثر في
أشعاركم وأبشاركم، ثم نزل. ثم دعا عمر والأوجاه (2) من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقال: ما ترون لي من هذا المال؟ (3) فقال عمر: أنا والله أخبرك مالك
منه. أما ما كان لك من ولد قد بان عنك وملك أمره، فسهمه كرجل من المسلمين، وأما ما
كان من عيالك وضعفة أهلك، فتقوت منه بالمعروف وقوت أهلك. فقال: يا عمر إني لأخشى
ألا يحل لي أن أطعم عيالي من فئ المسلمين. فقال عمر: يا خليفة رسول الله، إنك قد
شغلت بهذا الأمر عن أن تكسب لعيالك. قال: ولما تمت البيعة لأبي بكر، واستقام له
الأمر، اشرأب النفاق بالمدينة، وارتدت العرب، فنصب لهم أبو بكر الحرب، وأراد
قتالهم، فقالوا: نصلي ولا نؤدي الزكاة. فقال الناس: اقبل منهم يا خليفة رسول الله،
فإن العهد حديث، والعرب كثير، ونحن شرذمة قليلون، لا طاقة لنا بالعرب، مع أنا قد
سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أمرت أن أقاتل الناس حتى
(هامش)
(1) زغت من زاغ أي عدل عن الحق ومال عنه. وقوموني أي سددوني يعني أرجعوني إلى
الصواب وقول الحق. (2) في نسخة الأوجاه تحريف. (3) وكان أبو بكر رضي الله عنه
قد أصبح - بعدما استخلف - غاديا إلى السوق وقد كان يشتغل بالتجارة وقد لقيه عمر
وأبو عبيدة وآخرون فسألوه أين يريد؟ فقال: السوق، فقيل له: ماذا وقد وليت أمر
المسلمين، فأجاب: فمن أين أطعم عيالي. حينئذ عملوا على أن يفرض له ما يغنيه عن عمله
في التجارة، وقد جعلوا له ألفين وقيل ألفين وخمسمئة. (*)
ص 35
يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم
على الله (1) فقال أبو بكر: هذا من حقها، لا بد من القتال. فقال الناس لعمر: أخل
به فكلمه لعله يرجع عن رأيه هذا، فيقبل منهم الصلاة، ويعفيهم من الزكاة، فخلا به
عمر نهاره أجمع، فقال: والله لو منعوني عقالا (2) كانوا يؤدونه إلى رسول الله
لقاتلتهم عليه، ولو لم أجد أحدا أقاتلهم به لقاتلتهم وحدي، حتى يحكم الله بيني
وبينهم، وهو خير الحاكمين، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أمرت أن
أقاتل الناس على ثلاث: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة
(3) فوالله الذي لا إله إلا هو لا أقصر دونهن، فضرب منهم من أدبر بمن أقبل، حتى دخل
الناس في الإسلام طوعا وكرها. وحمدوا رأيه، وعرفوا فضله. قال أبو رجاء العطاردي:
رأيت الناس مجتمعين وعمر يقبل رأس أبي بكر ويقول: أنا فداؤك، لولا أنت لهلكنا. فخمد
له رأيه في قتال أهل الردة.
مرض أبي بكر واستخلافه عمر رضي الله عنهما
قال: ثم إن
أبا بكر عمل سنتين وشهورا (4)، ثم مرض مرضه الذي مات فيه، فدخل عليه أناس من أصحاب
النبي عليه الصلاة والسلام، فيهم عبد الرحمن بن عوف، فقال له: كيف أصبحت يا خليفة
رسول الله، فإني أرجو أن تكون بارئا؟ قال: أترى ذلك؟ قال: نعم، قال أبو بكر: والله
إني لشديد الوجع، ولما ألقى منكم يا معشر المهاجرين أشد علي من وجعي، إني وليت
(هامش)
(1) الحديث أخرجه البخاري في الإيمان (17) ومسلم في الإيمان (34 و36) والترمذي في
الإيمان (1) وتفسير سورة (88) والنسائي في الجهاد (1) وابن ماجة في الفتن (1) وأحمد
في مسنده من عدة طرق في ج 1 و2 و3. (2) قال أبو عبيد في غريبه: ويروى عناقا وفي
الفائق للزمخشري: وفيه: وروي: لو منعوني جديا أذوط . قال الكسائي: العقال صدقة
عام. يقال: قد أخذ منهم عقال هذا العام إذا أخذت منهم صدقته. وقال الأصمعي: يقال:
بعث فلان على عقال بني فلان: إذا بعث على صدقاتهم. (وانظر النهاية لابن الأثير 3 /
118. وغريب الهروي 2 / 3 - 4). (3) متفق عليه أخرجه البخاري وابن ماجة وأحمد في
مسنده. (4) كانت خلافته سنتين وأربعة أشهر إلا أربع ليال قاله في الطبري. (*)
ص 36
أمركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه إرادة أن يكون هذا الأمر له. وذلك لما رأيتم
الدنيا قد أقبلت (1). أما والله لتتخذن نضائد (2) الديباج، وستور الحرير، ولتألمن
النوم (3) على الصفوف الأذربي (4)، كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان (5)،
والله لأن يقدم أحدكم فضرب عنقه في غير حدث خير له من أن يخوض غمرات الدنيا (6).
فقال له عبد الرحمن بن عوف: خفض عليك من هذا يرحمك الله، فإن هذا يهيضك (7) على ما
بك، وإنما الناس رجلان: رجل رضي ما صنعت، فرأيه كرأيك، ورجل كره ما صنعت، فأشار
عليك برأيه، ما رأينا من صاحبك الذي وليت إلا خيرا، وما زلت صالحا مصلحا، ولا أراك
تأسى على شيء من الدنيا فاتك (8). قال: أجل، والله ما آسى إلا على ثلاث فعلتهن،
ليتني كنت تركتهن، وثلاث تركتهن ليتني فعلتهن، وثلاث ليتني سألت رسول الله عنهن،
فأما اللاتي فعلتهن وليتني لم أفعلهن، فليتني تركت بيت علي وإن كان أعلن علي الحرب،
وليتني يوم سقيفة بني ساعدة كنت ضربت على يد أحد الرجلين أبي عبيدة أو عمر فكان هو
الأمير وكنت أنا الوزير، وليتني حين أتيت بذي الفجاءة السلمي (9) أسيرا أني قتلته
ذبيحا أو أطلقته نجيحا، ولم أكن أحرقته بالنار. وأما اللاتي تركتهن وليتني كنت
فعلتهن، ليتني حين أتيت بالأشعث بن قيس أسيرا أني قتلته ولم استحيه، فإني سمعت منه،
وأراه لا يرى غيا ولا شرا إلا أعان عليه، وليتني حيث بعثت خالد بن الوليد إلى
الشام، أني كنت بعثت
(هامش)
(1) العبارة في الطبري: ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولما تقبل، وهي مقبلة حتى تتخذوا
ستور الحرير.. 3 / 429. (2) قال المبرد في الكامل: نضائد الديباج، واحدتها نضيدة،
وهي الوسادة وما ينضد من المتاع. (3) في الطبري: وتألموا الاضطجاع. (4) كذا بالأصل
والكامل للمبرد، وفي الطبري: الأذري نسبة إلى آذربيجان من بلاد العجم. (5) السعدان:
نبت كثير الحسك تأكله الإبل فتسمن عليه. (6) زيد عند المبرد والطبري: يا هادي
الطريق جرت، إنما هو والله الفجر أو البجر. (7) قال المبرد: قوله يهيضك مأخوذ من
قولهم: هيض العظم إذا جبر ثم أصابه شيء يعنته فأذاه، كسره ثانية أو لم يكسره، وأكثر
ما يستعمل في كسره ثانية. (8) الخبر إلى هنا الكامل للمبرد 1 / 11. وانظر العقد
الفريد 4 / 268 وإعجاز القرآن (ص 116). (9) وكان الفجاءة قد أتى أبا بكر وادعى
أمامه الإسلام وطلب إليه جهاد المرتدين، فحمله وأعطاه سلاحا فأخذ يشن غاراته على
المسلمين أينما توجه. ولما أمكنت أبا بكر الفرصة منه وأمسك به أحرقه بالنار مقموطا.
(*)
ص 37
عمر بن الخطاب إلى العراق، فأكون قد بسطت يدي جميعا في سبيل الله (1). وأما اللاتي
كنت أود أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن، فليتني سألته لمن هذا الأمر
من بعده؟ فلا ينازعه فيه أحد، وليتني كنت سألته: هل للأنصار فيها من حق؟ (2) وليتني
كنت سألته عن ميراث بنت الأخ والعمة، فإن في نفسي من ذلك شيئا. ثم دخل عليه أناس من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا خليفة رسول الله، ألا ندعو لك طبيبا
ينظر إليك؟ فقال: قد نظر إلى. قالوا: فماذا قال؟ قال: إني فعال لما أريد، ثم قال
لهم: انظروا ماذا أنفقت من بيت المال، فنظروا فإذا هو ثمانية (3) آلاف درهم، فأوصى
أهله أن يؤدوها إلى الخليفة بعده. ثم دعا عثمان بن عفان فقال: اكتب عهدي، فكتب
عثمان وأملى عليه (4): بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة
آخر عهده في الدنيا نازحا عنها، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها: إني استخلفت عليكم
عمر بن الخطاب، فإن تروه عدل فيكم، فذلك ظني به ورجائي فيه، وإن بدل وغير فالخير
أردت، ولا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. ثم ختم الكتاب ودفعه،
فدخل عليه المهاجرون والأنصار حين بلغهم أنه استخلف عمر، فقالوا: نراك استخلفت
علينا عمر، وقد عرفته، وعلمت بوائقه فينا وأنت بين أظهرنا، فكيف إذا وليت عنا وأنت
لاق الله عز وجل فسائلك، فما أنت قائل؟ فقال أبو بكر: لئن سألني الله لأقولن:
استخلفت عليهم خيرهم في نفسي. قال: ثم أمر أن تجتمع له الناس، فاجتمعوا، فقال: أيها
الناس قد حضرني من قضاء الله ما ترون، وإنه لا بد لكم من رجل يلي أمركم، ويصلي
(هامش)
(1) كذا بالأصل، ولم يذكر الثالثة، وهي في الطبري: وددت أني حين سيرت خالد بن
الوليد إلى أهل الردة، كنت أقمت بذي القصة، فإن ظفر المسلمون ظفروا، وإن هزموا كنت
بصدد لقاء أو مددا. (وانظر العقد الفريد). (2) في الطبري والعقد: نصيب. (3) في
طبقات ابن سعد 3 / 193: ستة آلاف. (4) نص العهد في الطبري 3 / 429 والكامل لابن
الأثير 2 / 425 وطبقات ابن سعد 3 / 200 باختلاف في بعض الألفاظ، قارنها مع الأصل.
(*)
ص 38
بكم، ويقاتل عدوكم، فيأمركم، فإن شئتم اجتهدت لكم رأيي، ووالله الذي لا إله إلا هو
لا آلوكم في نفسي خيرا، قال: فبكى وبكى الناس، وقالوا: يا خليفة رسول الله، أنت
خيرنا وأعلمنا، فاختر لنا، قال: سأجتهد لكم رأيي، وأختار لكم خيركم إن شاء الله.
قال: فخرجوا من عنده، ثم أرسل إلى عمر فقال: يا عمر، أحبك محب، وأبغضك مبغض، وقديما
يحب الشر، ويبغض الخير. فقال عمر: لا حاجة لي بها، فقال أبو بكر: لكن بها إليك
حاجة، والله ما حبوتك بها، ولكن حبوتها بك. ثم قال: خذ هذا الكتاب واخرج به إلى
الناس، وأخبرهم أنه عهدي، وسلهم عن سمعهم وطاعتهم. فخرج عمر بالكتاب وأعلمهم،
فقالوا: سمعا وطاعة، فقال له رجل: ما في الكتاب يا أبا حفص؟ قال: لا أدري، ولكني
أول من سمع وأطاع. قال: لكني والله أدري ما فيه: أمرته عام أول، وأمرك العام. ولاية
عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال: ولما توفي أبو بكر (1) وولي عمر وقعد في المسجد
مقعد الخلافة، أتاه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، أدنو منك فإن لي حاجة؟ قال عمر:
لا. قال الرجل: إذا أذهب فيغنيني الله عنك، فولى ذاهبا، فاتبعه عمر ببصره، ثم قام
فأخذه بثوبه، فقال له: ما حاجتك؟ فقال الرجل: بغضك الناس، وكرهك الناس، قال عمر:
ولم ويحك؟ قال الرجل: للسانك وعصاك، قال: فرفع عمر يديه، فقال: اللهم حببهم إلي
وحببني إليهم. قال الرجل: فما وضع يديه حتى ما على الأرض أحب إلي منه. وكان أهل
الشام قد بلغهم مرض أبي بكر، واستبطأوا الخبر، فقالوا: إنا لنخاف أن يكون خليفة
الله قد مات وولي بعده عمر، فإن كان عمر هو الوالي فليس لنا بصاحب، وإنا نرى خلعه.
قال بعضهم: فابعثوا رجلا ترضون عقله، قال: فانتخبوا لذلك رجلا، فقدم على عمر، وقد
كان عمر استبطأ خبر أهل الشام، فلما أتاه قال له: كيف الناس؟ قال: سالمون صالحون،
وهم كارهون
(هامش)
(1) كانت وفاة أبي بكر مساء ليلة الثلاثاء لثماني ليال بقين من جمادى الآخرة سنة
ثلاث عشرة وهو ابن ثلاث وستين سنة على ما ذكروه. (ابن سعد 3 / 202). (*)
ص 39
لولايتك، ومن شرك مشفقون (1)، فأرسلوني أنظر: أحلو أنت أم مر؟ قال: فرفع عمر يديه
إلى السماء وقال: اللهم حببني إلى الناس، وحببهم إلي. قال: فعمل عمر عشر سنين بعد
أبي بكر، فوالله ما فارق الدنيا حتى أحب ولايته من كرهها. لقد كانت إمارته فتحا،
وإسلامه عزا ونصرا، اتبع في عمله سنة صاحبيه وآثارهما، كما يتبع الفصيل أثر أمه، ثم
اختار الله له ما عنده. قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال عمرو بن ميمون: شهدت
عمر بن الخطاب يوم طعن، فما منعني أن أكون في الصف الأول إلا هيبته، فكنت في الصف
الذي يليه، وكان عمر لا يكبر حتى يستقبل الصف المتقدم بوجهه، فإن رأى رجلا متقدما
من الصف أو متأخرا ضربه بالدرة، فذلك الذي منعني من التقدم. قال: فأقبل لصلاة
الصبح، وكان يغلس بها (2)، فعرض له أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، فطعنه ثلاث
طعنات (3)، فسمعت عمر وهو يقول: دونكم الكلب، فإنه قد قتلني، وماج الناس، فجرح
ثلاثة عشر رجلا (4)، وصاح بعضهم ببعض: دونكم الكلب، فشد عليه رجلا من خلفه،
فاحتضنه، وماج الناس، فقال قائل: الصلاة عباد الله، طلعت الشمس. فدفعت عبد الرحمن
بن عوف، فصلى بأقصر سورتين في القرآن، واحتمل عمر، ومات من الذين جرحوا ستة أو سبعة
(5)، وجرى الناس إلى عمر، فقال: يا بن عباس، اخرج فناد في الناس أعن ملأ ورضى منهم
كان هذا؟ فخرج فنادى، فقالوا: معاذ الله، ما علمنا ولا اطلعنا، قال: فأتاه الطبيب
فقال: أي الشراب أحب إليك؟ قال: النبيذ فسقوه نبيذا، فخرج من بعض طعناته. فقال
الناس (6): صديد، اسقوه لبنا، فخرج اللبن، فقال الطبيب: لا أرى أن
(هامش)
(1) أي خائفون ومترقبون. (2) الغلس هو آخر ظلمة الليل. كان عمر يصلي صلاة الصبح
مبكرا. (3) ابن سعد 3 / 345 وفي ابن الأثير 3 / 50 ست طعنات. وكانت إحدى الطعنات
تحت السرة وهي التي قتلته. (4) في ابن سعد: طعن أحد عشر رجلا سوى عمر ثم انتحر
بخنجره، فمات منهم ستة وأفرق ستة، وفي رواية له كالأصل. فأفلت أربعة ومات تسعة أو
أفلت تسعة ومات أربعة، ولما أدرك أنه مأخوذ - بعد أن ألقى عليه اليربوعي - نحر نفسه
بخنجره (فتح الباري 7 / 51). (5) أنظر الحاشية السابقة. (6) في ابن سعد: الذي أشار
بسقيه اللبن طبيب من الأنصار من بني معاوية والمراد بالنبيذ المذكور: = (*)
ص 40
تمسي، فما كنت فاعلا فافعل، فقال لابنه عبد الله: ناولني الكتف، فلو أراد الله أن
يمضي ما فيه أمضاه، فمحاها بيده، وكان فيها فريضة الجد. ثم دخل عليه كعب الأحبار،
فقال: يا أمير المؤمنين، الحق من ربك فلا تكونن من الممترين، قد كنت أنبأتك أنك
شهيد (1)، قال: ومن أين لي بالشهادة وأنا بجزيرة العرب؟ ثم جعل الناس يثنون عليه،
ويذكرون فضله. فقال: إن من غررتموه لمغرور، إني والله وددت أن أخرج منها كفافا كما
دخلت فيها (2)، والله لو كان لي اليوم ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول
المطلع، فقالوا: يا أمير المؤمنين لا بأس عليك، فقال: إن يكن القتل بأسا، فقد قتلني
أبو لؤلؤة، قالوا: فإن يكن ذلك فجزاك الله عنا خيرا. فقال: لا أراكم تغبطونني بها،
فوالذي نفس عمر بيده ما أدري علام أهجم، ولوددت أني نجوت منها كفافا لا لي ولا علي،
فيكون خيرها بشرها، ويسلم لي ما كان قبلها من الخير. ودخل علي بن أبي طالب (3)
فقال: يا علي، أعن ملأ منكم ورضى كان هذا؟ فقال علي: ما كان عن ملأ منا ولا رضى،
ولوددنا أن الله زاد من أعمارنا في عمرك. قال: وكان رأسه في حجر ابنه عبد الله،
فقال له: ضع خدي بالأرض، فلم يفعل، فلحظه وقال: ضع خدي بالأرض لا أم لك، فوضع خده
بالأرض، فقال: الويل لعمر ولأم عمر إن لم يغفر الله لعمر (4)، ثم دعا عبد الله بن
عباس وكان يحبه ويدنيه ويسمع منه، فقال له: يا بن عباس، إني لأظن أن لي ذنبا، ولكن
أحب أن تعلم لي أعن ملأ منهم ورضى كان هذا؟ فخرج ابن عباس، فجعل لا يرى ملأ من
الناس إلا وهم يبكون، كأنما فقدوا اليوم أنصارهم، فرجع إليه فأخبره بما رأى. قال:
فمن قتلني؟ قال: أبو لؤلؤة المجوسي غلام المغيرة بن شعبة. قال عبد الله فرأيت البشر
في وجهه، فقال: الحمد لله الذي لم يقتلني رجل يحاجني بلا إله إلا الله يوم القيامة.
ثم قال: يا عبد الله، ألا لو أن لي ما طلعت عليه الشمس وما غربت لافتديت به من هول
المطلع، وما ذاك والحمد لله أن أكون رأيت إلا خيرا، فقال
(هامش)
= تمرات نبذت في ماء أي نفقت فيه، كانوا يصنعون ذلك لاستعذاب الماء. (1) وكان كعب
الأحبار قد أخبره أنه ميت في ثلاث ليال وأنه يجد ذلك في التوراة (ابن الأثير 3 /
50). (2) زيد عند ابن سعد: لا أجر ولا وزر. (3) في ابن سعد: ابن عباس. (4) قالها
ثلاثا (عن ابن سعد) وعنه أنها آخر كلام عمر بن الخطاب وبقي يقولها حتى فاضت نفسه.
(*)
ص 41
له ابن عباس: فإن يك ذاك يا أمير المؤمنين، فجزاك الله عنا خيرا، أليس قد دعا رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يعز الله بك الدين والمسلمون محبسون بمكة؟ (1) فلما
أسلمت كان إسلامك عزا أعز الله به الإسلام، وظهر النبي وأصحابه، ثم هاجرت إلى
المدينة، فكانت هجرتك فتحا، ثم لم تغب عن مشهد شهده رسول الله من قتال المشركين،
وقال فيك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كذا وكذا، ثم قبض رسول الله وهو عنك
راض، ثم ارتد الناس بعد رسول الله عن الإسلام، فوازرت الخليفة على منهاج رسول الله،
وضربتم من أدبر بمن أقبل، حتى دخل الناس في الإسلام طوعا وكرها، ثم قبض الخليفة وهو
عنك راض، ثم وليت بخير على ما يلي أحد من الناس. مصر الله بك الأمصار، وجبى بك
الأموال، ونفى بك العدو، وأدخل الله على أهل كل بيت من المسلمين توسعة في دينهم،
وتوسعة في أرزاقهم، ثم ختم الله لك بالشهادة، فهنيئا لك، فصب الله الثناء عليك صبا،
فقال: أتشهد لي بهذا يا عبد الله عند الله يوم القيامة؟ قال: نعم، فقال عمر: اللهم
لك الحمد. تولية عمر بن الخطاب الستة الشورى وعهده إليهم
قال (2): ثم إن المهاجرين
دخلوا على عمر رضي الله عنه وهو في البيت من جراحه تلك، فقالوا: يا أمير المؤمنين،
استخلف علينا، قال: والله لا أحملكم حيا وميتا، ثم قال: إن استخلفت فقد استخلف من
هو خير مني، يعني أبا بكر، وإن أدع فقد ودع من هو خير مني يعني النبي عليه الصلاة
والسلام، فقالوا: جزاك الله خيرا يا أمير المؤمنين، فقال: ما شاء الله راغبا، وددت
أن أنجو منها لا لي ولا علي. فلما أحس بالموت قال لابنه: اذهب إلى عائشة، واقرئها
مني السلام واستأذنها أن أقبر في بيتها مع رسول الله ومع أبي بكر، فأتاها عبد الله
بن عمر،
(هامش)
(1) إشارة إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أعز الإسلام بعمر بن
الخطاب أو بعمرو بن هشام. (2) القائل هو عمرو بن ميمون الأودي، وهو من بني الأزد
يكنى أبا يحيى أو أبا عبد الله أدرك الجاهلية وأسلم في حياة النبي صلى الله عليه
وسلم. قال أبو نعيم مات سنة 54 وقيل سنة 75 (الإصابة 3 / 118). (*)
ص 42
فأعلمها، فقالت: نعم وكرامة ثم قالت: يا بني أبلغ عمر سلامي، وقل له: لا تدع أمة
محمد بلا راع، استخلف عليهم، ولا تدعهم بعدك هملا، فإني أخشى عليهم الفتنة، فأتى
عبد الله فأعلمه، فقال: ومن تأمرني أن أستخلف؟ لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح باقيا
استخلفته ووليته، فإذا قدمت على ربي فسألني وقال لي: من وليت على أمة محمد؟ قلت: إي
ربي، سمعت عبدك ونبيك يقول: لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، ولو
أدركت معاذ بن جبل استخلفته، فإذا قدمت على ربي فسألني: من وليت على أمة محمد؟ قلت:
إي ربي، سمعت عبدك ونبيك يقول: إن معاذ بن جبل يأتي بين يدي العلماء يوم القيامة.
ولو أدركت خالد بن الوليد لوليته، فإذا قدمت على ربي فسألني: من وليت على أمة محمد؟
قلت: إي ربي، سمعت عبدك ونبيك يقول: خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سله على
المشركين (1)، ولكني سأستخلف النفر الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض، فأرسل إليهم
فجمعهم، وهم علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن
العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضوان الله عليهم وكان طلحة غائبا،
فقال: يا معشر المهاجرين الأولين، إني نظرت في أمر الناس، فلم أجد فيهم شقاقا ولا
نفاقا، فإن يكون بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم، تشاوروا ثلاثة أيام. فإن جاءكم طلحة إلى
ذلك، وإلا فأعزم عليكم بالله أن لا تتفرقوا من اليوم الثالث حتى تستخلفوا أحدكم،
فإن أشرتم بها إلى طلحة، فهو لها أهل، وليصل بكم صهيب (2) هذه الثلاثة أيام التي
تشاورون فيها، فإنه رجل من الموالي لا ينازعكم أمركم، وأحضروا معكم من شيوخ
الأنصار، وليس لهم من أمركم شيء، وأحضروا معكم الحسن بن علي وعبد الله بن عباس، فإن
لهما قرابة، وأرجو لكم البركة في حضورهما، وليس لهما من أمركم شيء، ويحضر ابني عبد
الله مستشارا، وليس له من الأمر شيء. قالوا: يا أمير المؤمنين إن فيه للخلافة موضعا
فاستخلفه، فإنا راضون به فقال: حسب آل الخطاب تحمل رجل منهم الخلافة، ليس له من
الأمر شيء. ثم قال: يا عبد الله إياك ثم إياك لا تتلبس بها،
(هامش)
(1) قارن مع رواية الطبري وابن الأثير والعقد الفريد. (2) هو صهيب بن سنان (نسبه في
أسد الغابة) أسرته الروم وهو صغير فنشأ فيهم ثم اشتراه عبد الله بن جدعان وأعتقه
وكان من السابقين إلى الإسلام. توفي بالمدينة سنة 38 وقيل سنة 39. (*)
ص 43
ثم قال: إن استقام أمر خمسة منكم وخالف واحد فاضربوا عنقه، وإن استقام أربعة واختلف
اثنان فاضربوا أعناقهما، وإن استقر ثلاثة واختلف ثلاثة فاحتكموا إلى ابني عبد الله،
فلأي الثلاثة قضى فالخليفة منهم وفيهم (1)، فإن أبى الثلاثة الآخرون ذلك فاضربوا
أعناقهم، فقالوا: قل فينا يا أمير المؤمنين مقالة نستدل فيها برأيك ونقتدي به.
فقال: والله ما يمنعني أن أستخلفك يا سعد إلا شدتك وغلظتك، مع أنك رجل حرب. وما
يمنعني منك يا عبد الرحمن إلا أنك فرعون هذه الأمة. وما يمنعني منك يا زبير إلا أنك
مؤمن الرضا، كافر الغضب. وما يمنعني من طلحة إلا نخوته وكبره، ولو وليها وضع خاتمه
في إصبع أمرته. وما يمنعني منك يا عثمان إلا عصبيتك وحبك قومك وأهلك، وما يمنعني
منك يا علي إلا حرصك عليها، وإنك أحرى القوم إن وليتها أن تقيم على الحق المبين.
والصراط المستقيم. أوصي الخليفة منكم بتقوى الله العظيم، وأحذره مثل مضجعي هذا،
وأخوفه يوما تبيض فيه وجوه وتسود وجوه، يوم تعرضون على الله لا تخفى منكم خافية، ثم
غشي عليه حتى ظنوا أنه قد قضى فجعلوا ينادونه ولا يفيق من إغمائه، فقال قائل: إن
كان شيء ينبه فالصلاة، فقالوا: يا أمير المؤمنين الصلاة، ففتح عينيه فقال: الصلاة
هأنذا، ولاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فصلى وجرحه يثعب دما (2)، ثم التفت إليهم
وقال: قد قومت لكم الطريق فلا تعوجوه، ثم التفت إلى علي بن أبي طالب، فقال: لعل
هؤلاء القوم يعرفون لك حقك وشرفك وقرابتك من رسول الله، وما آتاك الله من العلم
والفقه والدين فيستخلفوك، فإن وليت هذا الأمر فاتق الله يا علي فيه، ولا تحمل أحدا
من بني هاشم على رقاب الناس، ثم التفت إلى عثمان فقال: يا عثمان، لعل هؤلاء القوم
يعرفون لك صهرك من رسول الله وسنك وشرفك وسابقتك فيستخلفوك، فإن وليت هذا الأمر فلا
تحمل أحدا من بني أمية على رقاب الناس. ثم دعا صهيبا فقال: يا صهيب، صل بالناس
ثلاثة أيام، ويجتمع هؤلاء النفر ويتشاورون بينهم (3): اخرجوا عني، اللهم ألفهم
وأجمعهم على الحق، ولا تردهم على
(هامش)
(1) زيد في رواية عند الطبري وابن الأثير: فإن لم يرغبوا بحكم عبد الله بن عمر
فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف. (وانظر ابن سعد 3 / 61). (2) يثعب دما:
يتفجر دما. (3) زيد عند الطبري، وابن الأثير وابن سعد: أنه قال لأبي طلحة الأنصاري:
يا أبا طلحة إن الله طالما أعز بكم الإسلام فاختر خمسين رجلا فاستحث هؤلاء الرهط
حتى يختاروا رجلا منهم. (*)
ص 44
أعقابهم، وول أمر أمة محمد خيرهم. فخرجوا من عنده، وتوفي رحمه الله تعالى من يومه
ذلك، ودفن وصلى عليه صهيب.
ذكر الشورى وبيعة عثمان بن عفان رضي الله عنه
ثم إنه بعد
موت عمر اجتمع القوم فحلوا في بيت أحدهم (1)، وأحضروا عبد الله بن عباس، والحسن بن
علي، وعبد الله بن عمر، فتشاوروا ثلاثة أيام، فلم يبرموا فتيلا، فلما كان في اليوم
الثالث قال لهم عبد الرحمن بن عوف. أتدرون أي يوم هذا؟ هذا يوم عزم عليكم صاحبكم أن
لا تتفرقوا فيه حتى تستخلفوا أحدكم، قالوا: أجل. قال: فإني عارض عليكم أمرا، قالوا:
وما تعرض؟ قال: أن تولوني أمركم، وأهب لكم نصيبي فيها، وأختار لكم من أنفسكم،
قالوا: قد أعطيناك الذي سألت، فلما سلم القوم قال لهم عبد الرحمن اجعلوا أمركم إلى
ثلاثة منكم، فجعل الزبير أمره إلى علي، وجعل طلحة أمره إلى عثمان، وجعل سعد أمره
إلى عبد الرحمن بن عوف. قال المسور بن مخرمة: فقال لهم عبد الرحمن: كونوا مكانكم
حتى آتيكم. وخرج يتلقى الناس في أنقاب المدينة متلثما لا يعرفه أحد، فما ترك أحدا
من المهاجرين والأنصار وغيرهم من ضعفاء الناس ورعاعهم إلا سألهم واستشارهم. أما أهل
الرأي فأتاهم مستشيرا، وتلقى غيرهم سائلا، يقول: من ترى الخليفة بعد عمر؟ فلم يلق
أحدا يستشيره ولا يسأله إلا ويقول عثمان، فلما رأى اتفاق الناس واجتماعهم على
عثمان. قال المسور: جاءني رضي الله عنه عشاء، فوجدني نائما فخرجت إليه فقال: ألا
أراك نائما، فوالله ما اكتحلت عيني بنوم منذ هذه الثلاثة، ادع لي فلانا وفلانا (2)
(نفرا من المهاجرين) فدعوتهم له، فناجاهم في المسجد طويلا، ثم قاموا من عنده،
فخرجوا. ثم دعا عليا فناجاه طويلا ثم قام من عنده على طمع (3)، ثم قال: ادع لي
عثمان، فدعوته، فناجاه طويلا حتى فرق بينهما أن آنت صلاة الصبح، فلما صلوا جمعهم،
فأخذ على
(هامش)
(1) قيل إنهم اجتمعوا في بيت المسور بن مخرمة، وقيل: في بيت المال، وقيل: في حجرة
عائشة بإذنها. (2) في الطبري: الزبير وسعد. (3) في الطبري: وهو لا يشك أنه صاحب
الأمر. (*)
ص 45
كل واحد منهم العهد والميثاق: لئن بايعتك لتقيمن لنا كتاب الله وسنة رسوله، وسنة
صاحبيك من قبلك، فأعطاه كل واحد منهم العهد والميثاق على ذلك، وأيضا لئن بايعت غيرك
لترضين ولتسلمن، وليكونن سيفك معي على من أبى فأعطوه ذلك من عهودهم ومواثيقهم، فلما
تم ذلك أخذ بيد عثمان، فقال له: عليك عهد الله وميثاقه لئن بايعتك لتقيمن لنا كتاب
الله وسنة رسوله وسنة صاحبيك، وشرط عمر أن لا تجعل أحدا من بني أمية على رقاب
الناس، فقال عثمان: نعم. ثم أخذ بيد علي، فقال له: أبايعك على شرط عمر أن لا تجعل
أحدا من بني هاشم على رقاب الناس، فقال علي عند ذلك: ما لك ولهذا إذا قطعتها في
عنقي؟ فإن علي الاجتهاد لأمة محمد حيث علمت القوة والأمانة استعنت بها، كان في بني
هاشم أو غيرهم، قال عبد الرحمن: لا والله حتى تعطيني هذا الشرط، قال علي: والله لا
أعطيكه أبدا، فتركه، فقاموا من عنده، فخرج عبد الرحمن إلى المسجد، فجمع الناس، فحمد
الله وأثنى عليه، ثم قال: إني نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعل
يا علي سبيلا إلى نفسك، فإنه السيف لا غير. ثم أخذ بيد عثمان فبايعه وبايع الناس
جميعا، قال: فكان عثمان رضي الله عنه ست سنين في ولايته، وهو أحب إلى الناس من عمر
بن الخطاب رضي الله عنه. وكان عمر رجلا شديدا قد ضيق على قريش أنفاسها، لم ينل أحد
معه من الدنيا شيئا إعظاما له وإجلالا، وتأسيا به واقتداء، فلما وليهم عثمان ولى
رجل لين. قال الحسن البصري: شهدت عثمان وهو يخطب وأنا يومئذ قد راهقت الحلم، فما
رأيت قط ذكرا ولا أنثى أصبح وجها ولا أحسن نضرة منه. فسمعته يقول: أيها الناس،
اغدوا على أعطياتكم فيأخذونها وافية، أيها الناس اغدوا على كسوتكم، فيغدون فيجاء
بالحلل فتقسم بينهم، حتى والله سمعت أذناي: يا معشر المسلمين اغدوا على السمن
والعسل فيغدون فيقسم بينهم السمن والعسل، ثم يقول يا معشر المسلمين اغدوا على
الطيب، فيغدون فيقسم بينهم الطيب من المسك والعنبر وغيره، والعدوان والله منفى،
والأعطيات دارة والخير كثير، وما على الأرض مؤمن يخاف مؤمنا، من لقي في أي البلدان
فهو أخوه وأليفه، وناصره ومؤدبه فلم يزل المال متوفرا، حتى لقد بيعت الجارية بوزنها
ورقا، وبيع الفرس بعشرة آلاف دينار وبيع البعير بألف، والنخلة الواحدة بألف.
ص 46
ثم أنكر الناس على عثمان أشياء أشرا وبطرا. قال ابن عمر: لقد عيبت عليه أشياء لو
فعلها عمر ما عيبت عليه. ذكر الانكار على عثمان رضي الله عنه
قال عبد الله بن مسلم:
حدثنا ابن أبي مريم وابن عفير قالا: حدثنا ابن عون، قال: أخبرنا المخول بن إبراهيم
وأبو حمزة الثمالي وبعضهم يزيد على بعض والمعنى واحد، فجمعته وألفته على قولهم،
ومعنى ما أرادوا عن علي بن الحسين، قال: لما أنكر الناس على عثمان بن عفان صعد
المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن لكل شيء آفة، ولكل نعمة عاهة،
وإن آفة (1) هذا الدين وعاهة هذه الملة، قوم عيابون طعانون، يرونكم ما تحبون،
ويسرون ما تكرهون. أما والله يا معشر المهاجرين والأنصار، لقد عبتم علي أشياء
ونقمتم أمورا قد أقررتتم لابن الخطاب مثلها، ولكنه (2) وقمكم (3) وقمعكم، ولم يجترئ
أحد يملأ بصره منه ولا يشير بطرفه إليه، أما والله لأنا أكثر من ابن الخطاب عددا،
وأقرب ناصرا وأجدر. إلى أن قال لهم: أتفقدون من حقوقكم شيئا؟ فما لي لا أفعل في
الفضل ما أريد، فلم كنت إماما إذا؟ أما والله ما عاب علي من عاب منكم أمرا أجهله،
ولا أتيت الذي أتيت إلا وأنا أعرفه. قال: وقدم معاوية بن أبي سفيان على أثر ذلك من
الشام، فأتى مجلسا فيه علي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام،
وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعمار بن ياسر، فقال لهم: يا معشر الصحابة،
أوصيكم بشيخي هذا خيرا، فوالله لئن قتل بين أظهركم لأملأنها عليكم خيلا ورجالا، ثم
أقبل على عمار بن ياسر فقال: يا عمار، إن بالشام مئة ألف فارس، كل يأخذ العطاء، مع
مثلهم من أبنائهم وعبدانهم، لا يعرفون عليا ولا قرابته، ولا عمارا ولا سابقته، ولا
الزبير ولا صحابته، ولا طلحة ولا هجرته، ولا يهابون ابن عوف ولا ماله، لا يتقون
سعدا ولا دعوته، فإياك يا عمار أن تقعد غدا في فتنة تنجلي، فيقال: هذا قاتل عثمان،
وهذا قاتل علي. ثم أقبل على ابن عباس
(هامش)
(1) العبارة في الطبري 5 / 97: وإن آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة. (2) في الطبري:
ولكنه وطئكم برجله وضربكم بيده وقمعكم بلسانه فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم. (2)
وقمكم أي قهركم. وقمعكم أي أوقفكم عند حدودكم. (*)
ص 47
فقال: يا بن عباس، إنا كنا وإياكم في زمان لا نرجو فيه ثوابا، ولا نخاف عقابا، وكنا
أكثر منكم، فوالله ما ظلمناكم ولا قهرناكم ولا أخرناكم عن مقام تقدمناه، حتى بعث
الله رسوله منكم، فسبق إليه صاحبكم، فوالله ما زال يكره شركنا، ويتغافل به عنا حتى
ولي الأمر علينا وعليكم، ثم صار الأمر إلينا وإليكم فأخذ صاحبنا على صاحبكم لسنه،
ثم غير فنطق ونطق على لسانه، فقد أوقدتم نارا لا تطفأ بالماء، فقال ابن عباس. كنا
كما ذكرت حتى بعث الله رسوله منا ومنكم، ثم ولي الأمر علينا وعليكم، ثم صار الأمر
إلينا وإليكم، فأخذ صاحبكم على صاحبنا لسنه، ولما هو أفضل من سنه، فوالله ما قلنا
إلا ما قال غيرنا، ولا نطقنا إلا بما نطق به سوانا، فتركتم الناس جانبا، وصيرتمونا
بين أن أقمنا متهمين أو نزعنا معتبين (1) وصاحبنا من قد علمتم، والله لا يهجهج
مهجهج إلا ركبه (2)، ولا يرد حوضا إلا أفرطه وقد أصبحت أحب منك ما أحببت، وأكره ما
كرهت، ولعلي لا ألقاك إلا في خير. ذكر القول والمجادلة لعثمان ومعاوية رضي الله عنهما
قال: وذكروا أن ابن عباس قال: خرجت إلى المسجد فإني لجالس فيه مع علي حين
صليت العصر، إذ جاء رسول عثمان يدعو عليا، فقال علي: نعم، فلما أن ولى الرسول أقبل
علي فقال: لم تراه دعاني؟ قلت له: دعاك ليكلمك، فقال: انطلق معي، فأقبلت فإذا طلحة
والزبير وسعد وأناس من المهاجرين، فجلسنا فإذا عثمان عليه ثوبان أبيضان، فسكت
القوم، ونظر بعضهم إلى بعض، فحمد الله عثمان، ثم قال: أما بعد، فإن ابن عمي معاوية
هذا قد كان غائبا عنكم وعما نلتم مني، وما عاتبتكم عليه وعاتبتموني، وقد سألني أن
يكلمكم وأن يكلمه من أراد، فقال سعد بن أبي وقاص: وما عسى أن يقال لمعاوية أو يقول
إلا ما قلت أو قيل لك؟ فقال علي: ذلكم تكلم يا معاوية، فحمد الله وأثنى عليه ثم
قال: أما بعد يا معشر المهاجرين وبقية الشورى فإياكم أعني وإياكم أريد، فمن أجابني
بشيء فمنكم واحد، فإني لم أرد غيركم، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايع
الناس أحد المهاجرين التسعة، ثم دفنوا نبيهم، فأصبحوا
(هامش)
(1) معتبين أي ملومين. (2) أي لا يصيح صائح مستنكرا إلا أخذ على يده. (*)
ص 48
سالما أمرهم، كأن نبيهم بين أظهرهم، فلما أيس الرجل من نفسه بايع رجلا من بعده أحد
المهاجرين، فلما احتضر ذلك الرجل شك في واحد أن يختاره، فجعلها في ستة نفر بقية
المهاجرين، فأخذوا رجلا منهم لا يألون عن الخير فيه، فبايعوه وهم ينظرون إلى الذي
هو كائن من بعده، لا يشكون ولا يمترون، مهلا مهلا معشر المهاجرين، فإن وراءكم من إن
دفعتموه اليوم اندفع عنكم، ومن إن فعلتم الذي أنتم فاعلوه دفعكم بأشد من ركنكم وأعد
من جمعكم، ثم استن عليكم بسنتكم، ورأى أن دم الباقي ليس بممتنع بعد دم الماضي،
فسددوا وارفقوا، لا يغلبكم على أمركم من حذرتكم، فقال علي بن أبي طالب: كأنك تريد
نفسك يا بن اللخناء لست هنالك، فقال معاوية: مهلا عن شتم بنت عمك، فإنها ليست بشر
نسائك. يا معشر المهاجرين، وولاة هذا الأمر، ولاكم الله إياه فأنتم أهله، وهذان
البلدان مكة والمدينة مأوى الحق ومنتهاه، إنما ينظر التابعون إلى السابقين،
والبلدان إلى البلدين فإن استقاموا استقاموا، وأيم الله الذي لا إله إلا هو لئن
صفقت إحدى اليدين على الأخرى لا يقوم السابقون للتابعين، ولا البلدان للبلدين،
وليسلبن أمركم ولينقلن الملك من بين أظهركم، وما أنتم في الناس إلا كالشامة السوداء
في الثور الأبيض فإني رأيتكم نشبتم في الطعن على خليفتكم، وبطرتم معيشتكم وسفهتم
أحلامكم، وما كل نصيحة مقبولة، والصبر على بعض المكروه خير من تحمله كله. قال: ثم
خرج القوم وأمسك عثمان ابن عباس، فقال له عثمان: يا بن عمي ويا بن خالتي، فإنه لم
يبلغني عنك في أمري شيء أحبه ولا أكرهه علي ولا لي، وقد علمت أنك رأيت بعض ما رأى
الناس، فمنعك عقلك وحلمك من أن تظهر ما أظهروا، وقد أحببت أن تعلمني رأيك فيما بيني
وبينك فأعتذر، قال ابن عباس: فقلت يا أمير المؤمنين، إنك قد ابتليتني بعد العافية،
وأدخلتني في الضيق بعد السعة، ووالله إن رأيي لك أن يجل سنك، ويعرف قدرك، وسابقتك،
والله لوددت أنك لم تفعل ما فعلت مما ترك الخليفتان قبلك، فإن كان شيئا تركاه لما
رأيا أنه ليس لهما علمت أنه ليس لك كما لم يكن لهما، وإن كان ذلك لهما فتركاه خيفة
أن ينال منهما مثل الذي نيل منك تركته لما تركاه له، ولم يكونا أحق بإكرام أنفسهما
منك بإكرام نفسك، قال: فما منعك أن تشير علي بهذا قبل أن أفعل ما فعلت؟ قال: وما
علمي أنك تفعل ذلك قبل أن تفعل؟
ص 49
قال: فهب لي صمتا حتى ترى رأيي. قال: فخرج ابن عباس، فقال عثمان لمعاوية: ما ترى،
فإن هؤلاء المهاجرين قد استعجلوا القدر، ولا بد لهم مما في أنفسهم، فقال معاوية:
الرأي أن تأذن لي فأضرب أعناق هؤلاء القوم. قال: من؟ قال: علي وطلحة والزبير، قال
عثمان: سبحان الله! اقتل أصحاب رسول الله بلا حدث أحدثوه، ولا ذنب ركبوه؟ قال
معاوية: فإن لم تقتلهم فإنهم سيقتلونك. قال عثمان: لا أكون أول من خلف رسول الله في
أمته بإهراق الدماء. قال معاوية: فاختر مني إحدى ثلاث خصال؟ قال عثمان: وما هي؟ قال
معاوية: أرتب لك ها هنا أربعة آلاف فارس من خيل أهل الشام، يكونون لك ردءا وبين
يديك يدا، قال عثمان: أرزقهم من أين؟ قال: من بيت المال، قال عثمان: ارزق أربعة
آلاف من الجند من بيت مال المسلمين لحرز دمي؟ لا فعلت هذا (1). قال: فثانية، قال:
وما هي؟ قال: فرقهم عنك فلا يجتمع منهم اثنان في مصر واحد، واضرب عليهم البعوث
والندب، حتى يكون دبر بعير أحدهم أهم عليه من صلاته، قال عثمان: سبحان الله؟ شيوخ
المهاجرين وكبار أصحاب رسول الله، وبقية الشورى أخرجهم من ديارهم وأفرق بينهم وبين
أهلهم وأبنائهم؟ لا أفعل هذا. قال معاوية فثالثة، قال: وما هي؟ قال اجعل لي الطلب
بدمك إن قتلت، قال عثمان. نعم هذه لك إن قتلت فلا يطل دمي. قال: ثم خرج عثمان فصعد
المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أيها الناس، إن نصيحتي كذبتني، ونفسي
منتني (2)، وقد سمعت رسول الله يقول: لا تتمادوا في الباطل فإن الباطل يزداد من
الله بعدا، من أساء فليتب، ومن أخطأ فليتب، وأنا أول من اتعظ، والله لئن ردني الحق
عبدا لانتسبن نسب العبيد، ولأكونن كالمرقوق الذي إن ملك صبر، وإن أعتق شكر، ثم نزل
(3)، فدخل على زوجته نائلة بنت الفرافصة، ودخل معه مروان بن الحكم، فقال: يا
(هامش)
(1) العبارة في الطبري 5 / 101 قال: فأبعث إليك جندا منهم (من أهل الشام) يقيم بين
ظهراني أهل المدينة لنائبة إن نابت المدينة أو إياك. قال: أنا أقتر على جيران رسول
الله صلى الله عليه وسلم الأرزاق بجند مساكنهم وأضيق على أهل دار الهجرة والنصرة.
وذكر فيه خصلة ثانية وهي أن ينطلق عثمان معه إلى الشام فرفض عثمان أن يترك جوار
رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) في الطبري 5 / 111: منتني نفسي وكذبتني وضل عني
رشدي. (3) قارن مع الطبري 5 / 111 وابن الأثير 3 / 164 (*)
ص 50
أمير المؤمنين، أتكلم أو أسكت؟ فقالت له نائلة: بل اسكت فوالله لئن تكلمت لتغرنه
ولتوبقنه. فالتفت إليها عثمان مغضبا، فقال: اسكتي، تكلم يا مروان، فقال مروان: يا
أمير المؤمنين والله لو قلت الذي قلت وأنت في عز ومنعة لتابعتك ولكنك قلت الذي قلت
وقد بلغ السيل الزبى (1)، وجاوز الحزام الطبيين، فانقض التوبة ولا تقر بالخطيئة. ما
أنكر الناس على عثمان رحمه الله
قال: وذكروا أنه اجتمع ناس من أصحاب النبي عليه
الصلاة والسلام، فكتبوا كتابا ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سنة رسول الله وسنة
صاحبيه، وما كان من هبته خمس إفريقية لمروان وفيه حق الله ورسوله، ومنهم ذوو القربى
واليتامى والمساكين، وما كان من تطاوله في البنيان، حتى عدوا سبع دور بناها
بالمدينة: دارا لنائلة، ودارا لعائشة وغيرهما من أهله وبناته، وبنيان مروان القصور
بذي خشب (2) وعمارة الأموال بها من الخمس الواجب لله ولرسوله، وما كان من إفشائه
العمل والولايات في أهله وبني عمه من بني أمية أحداث وغلمة لا صحبة لهم من الرسول
ولا تجربة لهم بالأمور، وما كان من الوليد بن عقبة بالكوفة إذ صلى بهم الصبح وهو
أمير عليها سكران أربع ركعات ثم قال لهم: إن شئتم أزيدكم صلاة زدتكم، وتعطيله إقامة
الحد عليه، وتأخيره ذلك عنه، وتركه المهاجرين والأنصار لا يستعملهم على شيء ولا
يستشيرهم، واستغنى برأيه عن رأيهم، وما كان من الحمى الذي حمى حول المدينة، وما كان
من إدراره القطائع والأرزاق والأعطيات على أقوام بالمدينة ليست لهم صحبة من النبي
عليه الصلاة والسلام، ثم لا يغزون ولا يذبون، وما كان من مجاوزته الخيزران إلى
السوط، وأنه أول من ضرب بالسياط ظهور الناس، وإنما كان ضرب الخليفتين قبله بالدرة
والخيزران (3).
(هامش)
(1) الزبى: الزيبة مصيدة الأسد، ولا تتخذ إلا قلة أو
رابية. والطبيين واحدها طبي كما يقال في الظلف والخف خلف. فإذا بلغ الحزام الطبيين
فقد انتهى في المكروه. المثل في أمثال أبي عبيد 343 فصل المقال
ص 472
جمهرة الأمثال 1 / 220 مجمع الأمثال 1 / 91. (2) ذو خشب: موضع بالمدينة. (3) قارن
مع ما ذكره الطبري 5 / 93 وابن سعد 3 / 64 والعقد الفريد 4 / 283 ومروج الذهب 2 /
373 - 374. والبداية والنهاية 7 / 192. (*)
ص 51
ثم تعاهد القوم ليدفعن الكتاب في يد عثمان، وكان ممن حضر الكتاب عمار بن ياسر
والمقداد بن الأسود، وكانوا عشرة، فلما خرجوا بالكتاب ليدفعوه إلى عثمان والكتاب في
يد عمار، جعلوا يتسللون عن عمار حتى بقي وحده، فمضى حتى جاء دار عثمان، فاستأذن
عليه، فأذن له في يوم شات، فدخل عليه وعنده مروان بن الحكم وأهله من بني أمية، فدفع
إليه الكتاب فقرأه، فقال له: أنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: نعم، قال: ومن كان معك؟
قال: كان معي نفر تفرقوا فرقا (1) منك، قال: من هم؟ قال: لا أخبرك بهم. قال: فلم
اجترأت علي من بينهم؟ فقال مروان: يا أمير المؤمنين إن هذا العبد الأسود (يعني
عمارا) قد جرأ عليك الناس، وإنك إن قتلته نكلت به من وراءه، قال عثمان: اضربوه،
فضربوه وضربه عثمان معهم حتى فتقوا بطنه، فغشي عليه، فجروه حتى طرحوه على باب
الدار، فأمرت به أم سلمة زوج النبي عليه الصلاة والسلام، فأدخل منزلها، وغضب فيه
بنو المغيرة وكان حليفهم، فلما خرج عثمان لصلاة الظهر، عرض له هشام بن الوليد بن
المغيرة، فقال: أما والله لئن مات عمار من ضربه هذا لأقتلن به رجلا عظيما من بني
أمية، فقال عثمان: لست هناك (2). قال: ثم خرج عثمان إلى المسجد، فإذا هو بعلي وهو
شاك معصوب الرأس، فقال له عثمان: والله يا أبا الحسن ما أدري: أشتهي موتك أم أشتهي
حياتك؟ فوالله لئن مت ما أحب أن أبقى بعدك لغيرك، لأني لا أجد منك خلفا، ولئن بقيت
لا أعدم طاغيا يتخذك سلما وعضدا، ويعدك كهفا وملجأ، لا يمنعني منه إلا مكانه منك،
ومكانك منه، فأنا منك كالابن العاق من أبيه: إن مات فجعه، وإن عاش عقه. فإما سلم
فنسالم، وإما حرب فنحارب، فلا تجعلني بين السماء والأرض، فإنك والله إن قتلتني لا
تجد مني خلفا، ولئن قتلتك لا أجد منك خلفا، ولن يلي أمر هذه الأمة بادئ فتنة. فقال
علي: إن فيما تكلمت به لجوابا، ولكني عن جوابك مشغول بوجعي. فأنا أقول كما قال
العبد الصالح: (فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون) [يوسف: 18]، قال مروان:
إنا والله إذا لنكسرن رماحنا، ولنقطعن سيوفنا، ولا يكون في هذا الأمر خير لمن
(هامش)
(1) فرقا بفتح أوله وثانيه: خوفا. (2) فيما ذكره المسعودي وابن كثير من أسباب
النقمة على عثمان هو ما ناله عمار من الفتن والضرب. (*)
ص 52
بعدنا. فقال له عثمان: أسكت، ما أنت وهذا؟ فقام إليه رجل من المهاجرين، فقال له: يا
عثمان، أرأيت ما حميت من الحمى (آلله أذن لكم أم على الله تفترون) [يونس: 59] فقال
عثمان: إنه قد حمى الحمى قبلي عمر لإبل الصدقة، وإنما زادت فزدت، فقام عمرو بن
العاص فقال: يا عثمان، إنك ركبت بالناس نهابير (1) من الأمر، فتب إلى الله يتوبوا،
فرفع عثمان يديه وقال: توبوا إلى الله من كل ذنب، اللهم إني أول تائب إليك. ثم قام
رجل من الأنصار فقال: يا عثمان: ما بال هؤلاء النفر من أهل المدينة يأخذون العطايا
ولا يغزون في سبيل الله. وإنما هذا المال لمن غزا فيه وقاتل عليه، إلا من كان من
هذه الشيوخ من أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، فقال عثمان: فاستغفر الله وأتوب
إليه. ثم قال: يا أهل المدينة، من كان له منكم ضرع فليلحق بضرعه ومن كان له زرع
فليلحق بزرعه فإنا والله لا نعطي مال الله إلا لمن غزا في سبيله، إلا من كان من هذه
الشيوخ من الصحابة. قال: فما بال هذا القاعد الشارب لا تقيم عليه الحد؟ (يعني
الوليد بن عقبة) (2)، فقال عثمان لعلي: دونك ابن عمك فأقم عليه الحد. فقال علي
للحسن: قم فاجلده. فقال الحسن ما أنت وذاك؟ هذا لغيرك، قال علي: لا، ولكنك عجزت
وفشلت، يا عبد الله بن جعفر، قم فاجلده. فقام فضربه وعلي يعد، فلما بلغ أربعين أمسك
وقال: جلد رسول الله أربعين، وأبو بكر أربعين. وكملها عمر ثمانين. وكل سنة. حصار
عثمان رضي الله عنه
قال: وذكروا أنه لما اشتد الطعن على عثمان، استأذنه علي في بعض
بواديه (3) ينتحي إليها! فأذن له. واشتد الطعن على عثمان بعد خروج علي. ورجا الزبير
وطلحة أن يميلا إليهما قلوب الناس، ويغلبا عليهم، واغتنما غيبة علي،
(هامش)
(1) النهابير: المهالك. (2) كان الوليد بن عقبة بن أبي معيط قد صلى بالناس وهو
سكران وصلى صلاة الصبح أربع وقال: أتريدون أن أزيدكم، وظهر في الكوفة فسقه ومداومته
شرب الخمر، فأتوا عثمان وشهدوا عليه فعزله وولى مكانه سعيد بن العاص. لكنه دفع
شهادة الشهود وزجرهم (عن مروج الذهب 2 / 370). (3) خرج إلى ينبع، ضيعة له (فتوح ابن
الأعثم 2 / 227). (*)
ص 53
فكتب عثمان إلى علي إذ اشتد الطعن عليه (1) أما بعد فقد بلغ السيل الزبى! وجاوز
الحزام الطبيين. وارتفع أمر الناس في شأني فوق قدره! وزعموا أنهم لا يرضون دون دمي.
وطمع في من لا يدفع عن نفسه. وإنك لم يفخر عليك كفاخر * ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب
(2) وقد كان يقال: أكل السبع خير من افتراس الثعلب فأقبل علي أولى. فإن كنت مأكولا
فكن خير آكل * وإلا فأدركني ولما أمزق (3) قال حويطب بن عبد العزى: أرسل إلي عثمان
حين اشتد حصاره، فقال: قد بدا لي أن اتهم نفسي لهؤلاء، فأت عليا وطلحة والزبير، فقل
لهم: هذا أمركم تولوه، واصنعوا فيه ما شئتم فخرجت حتى جئت عليا، فوجدت على بابه مثل
الجبال من الناس، والباب مغلق، لا يدخل عليه أحد، ثم انصرفت، فأتيت الزبير، فوجدته
في منزله ليس ببابه أحد، فأخبرته بما أرسلني به عثمان، فقال: قد والله قضى ما عليه
أمير المؤمنين، هل جئت عليا؟ قلت: نعم، فلم أخلص إليه، فقمنا جميعا، فآتينا طلحة بن
عبيد الله فوجدناه في داره وعنده ابنه محمد، فقصصنا عليه ما قال عثمان، فقال: قد
والله قضى ما عليه أمير المؤمنين، هل جئتم عليا؟ قلنا: نعم، فلم نخلص إليه. فأرسل
طلحة إلى الأشتر، فأتاه فقال لي: أخبره، فأخبرته بما قال عثمان، فقال طلحة وقد دمعت
عيناه: قد والله قضى ما عليه أمير المؤمنين، فقام الأشتر فقال: تبعثون إلينا وجاءنا
رسولكم بكتابكم، وها هو ذا، فأخرج كتابا فيه (4): بسم الله الرحمن الرحيم، من
المهاجرين الأولين وبقية الشورى، إلى من بمصر من الصحابة والتابعين، أما بعد، أن
تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول الله قبل أن يسلبها أهلها، فإن كتاب
(هامش)
(1) قارن مع الكامل للمبرد 1 / 26. وقد مر شرح المثل قريبا. (2) البيت لامرئ القيس
من قصيدة مطلعها: خليلي مرا بي على أم جندب * لتقضى حاجات الفؤاد المغلب (العقد
الثمين
ص 116
- 117). (3) البيت للممزق العبدي: الأصمعيات
ص 166
والكامل للمبرد 1 / 26. (4) هذه رواية الواقدي نقلها الطبري وابن الأثير أن الصحابة
بعثوا الكتاب. قال ابن كثير في البداية 7 / 173: تكاتب أهل مصر وأهل الكوفة وأهل
البصرة، وتراسلوا، وزورت كتب على لسان الصحابة الذين بالمدينة وعلى لسان طلحة (بعد
ما بلغهم خبر مروان وغضب علي على عثمان بسببه) وطلحة والزبير يدعون الناس إلى قتال
عثمان ونصر الدين وأنه أكبر الجهاد اليوم. (*)
ص 54
الله قد بدل، وسنة رسوله قد غيرت، وأحكام الخليفتين قد بدلت، فننشد الله من قرأ
كتابنا من بقية أصحاب رسول الله والتابعين بإحسان، إلا أقبل إلينا، وأخذ الحق لنا،
وأعطاناه، فأقبلوا إلينا إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وأقيموا الحق على
المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيكم، وفارقكم عليه الخلفاء، غلبنا على حقنا
واستولى على فيئنا، وحيل بيننا وبين أمرنا، وكانت الخلافة بعد نبينا خلافة نبوة
ورحمة، وهي اليوم ملك عضوض (1). من غلب على شيء أكله. أليس هذا كتابكم إلينا؟ فبكى
طلحة، فقال الأشتر: لما حضرنا أقبلتم تعصرون أعينكم، والله لا نفارقه حتى نقتله،
وانصرف. قال: ثم كتب عثمان كتابا بعثه مع نافع بن طريف إلى أهل مكة ومن حضر الموسم
يستغيثهم فوافى به نافع يوم عرفة بمكة، وابن عباس يخطب، وهو يومئذ على الناس كان قد
استعمله عثمان على الموسم، فقام نافع ففتح الكتاب، فقرأه، فإذا فيه: بسم الله
الرحمن الرحيم من عبد الله عثمان أمير المؤمنين، إلى من حضر الحج من المسلمين، أما
بعد: فإني كتبت إليكم كتابي هذا وأنا محصور، أشرب من بئر القصر، ولا آكل من الطعام
ما يكفيني، خيفة أن تنفد ذخيرتي. فأموت جوعا أنا ومن معي، لا أدعى إلى توبة أقبلها،
ولا تسمع مني حجة أقولها، فأنشد الله رجلا من المسلمين بلغه كتاب إلا قدم علي، فأخذ
الحق في، ومنعني من الظلم والباطل. قال: ثم قال ابن عباس، فأتم خطبته، ولم يعرض
لشيء من شأنه. وكتب إلى أهل الشام عامة، وإلى معاوية وأهل دمشق خاصة (2): أما بعد
فإني في قوم طال فيهم مقامي، واستعجلوا القدر في، وقد خيروني بين أن يحملوني على
شارف من الإبل إلى دخل (3). وبين أن أنزع لهم رداء الله الذي كساني. وبين أن أقيدهم
(4) ممن قتلت. ومن كان على سلطان يخطئ ويصيب،
(هامش)
(1) ملك عضوض أي يصيب الرعية فيه عسف وظلم كأنهم يعضون فيه عضا. والعضوض من أبنية
المبالغة. وفي رواية: ملوك عضوض جمع عض بالكسر، وهو الخبيث الشرس (النهاية في غريب
الحديث 3 / 253). (2) قال ابن الأعثم في فتوحه 2 / 217 أنه كتب إلى معاوية وعامر بن
كريز أمير البصرة كتابا واحدا. نسخته فيه باختلاف عما هنا. (3) دخل: جزيرة بين
اليمن وبلاد بجة. (4) أي يسلمهم نفسه ليأخذوا القود منه قصاصا بمن قتل من المسلمين.
(*)
ص 55
فيا غوثاه يا غوثاه، ولا أمير عليكم دوني، فالعجل العجل يا معاوية، وأدرك ثم أدرك،
وما أراك تدرك (1). تولية محمد بن أبي بكر على مصر
قال: وذكروا أن أهل مصر جاؤوا
يشكون ابن أبي سرح عاملهم، فكتب إليه عثمان كتابا يتهدده فيه، فأبى ابن أبي سرح أن
يقبل ما نهاه عنه عثمان، وضرب بعض من أتاه به من قبل عثمان من أهل مصر حتى قتله،
فخرج من أهل مصر سبعمائة رجل فنزلوا المسجد وشكوا إلى أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم في مواقيت الصلاة ما صنع بهم ابن أبي سرح، فقام طلحة فتكلم بكلام شديد
وأرسلت عائشة إلى عثمان فقالت له: قد تقدم إليك أصحاب رسول الله وسألوك عزل هذا
الرجل، فأبيت إلا واحدة، فهذا قد قتل منهم رجلا فأنصفهم من عاملك. ودخل عليه علي
وكان متكلم القوم، فقال له: إنما يسألونك رجلا مكان رجل، وقد ادعوا قبله دما،
فاعزله عنهم واقض بينهم فإن وجب لهم عليه حق، فأنصفهم منه، فقال: اختاروا رجلا
أوليه عليهم. فقالوا: استعمل محمد بن أبي بكر، فكتب عهده وولاه (2)، وخرج معه عدد
من المهاجرين والأنصار، ينظرون فيما بين ابن أبي سرح وأهل مصر، فخرج محمد ومن معه
حتى إذا كانوا على مسيرة ثلاث ليال من المدينة، إذا هم بغلام أسود على بعير يخبط
البعير، كأنه رجل يطلب أو يطلب، فقال له أصحاب محمد: ما قصتك وما شأنك! كأنك طالب
أو هارب؟ فقال: أنا غلام أمير المؤمنين وجهني إلى عامل مصر، فقال له رجل: هذا عامل
مصر معنا، قال: ليس هذا أريد، فأخبر محمد بأمره فبعث في طلبه رجلا، فجاء به إليه،
فقال له، غلام من أنت؟ فأقبل مرة يقول أنا غلام مروان ومرة يقول أنا غلام أمير
المؤمنين، حتى عرفه رجل به لعثمان (3). فقال له محمد: إلى من أرسلك؟ قال: إلى عامل
(هامش)
(1) زاد ابن الأعثم: وأما معاوية فإنه أتاه بالكتاب المسور بن مخرمة فقرأه لما
أتاه. ثم قال: يا معاوية! إن عثمان مقتول فانظر فيما كتبت به إليه. فقال معاوية: يا
مسور إني مصرح أن عثمان بدأ فعمل بما يحب الله ويرضاه ثم غير فغير الله عليه،
أفيتهيأ لي أن أرد ما غير الله عز وجل. (2) أنظر الكتاب في فتوح ابن الأعثم 2 /
209. (3) هو أبو الأعور بن سفيان السلمي. (الطبري 5 / 115 والبداية والنهاية 7 /
196). (*)
ص 56
مصر، قال: بماذا؟ قال: برسالة. قال: أما معك كتاب؟ قال: لا، ففتشوه فلم يجدوا معه
كتابا، قال وكانت معه إداوة (1) قد يبست، فيها شيء يتقلقل، فحركوه ليخرج فلم يخرج
فشقوا إداوته (2) فإذا فيها كتاب من عثمان إلى عبد الله بن أبي سرح، فجمع محمد من
كان معه من المهاجرين والأنصار، ثم فك الكتاب بمحضر منهم، فقرأه، فإذا فيه (3): إذا
أتاك محمد بن أبي بكر وفلان وفلان فاقتلهم، وأبطل كتابهم، وقر على عملك حتى يأتيك
رأيي. فلما رأوا الكتاب فزعوا منه، ورجعوا إلى المدينة.
رجوع محمد بن أبي بكر إلى
المدينة

وختم محمد الكتاب بخواتم النفر الذين كانوا معه، ودفعه إلى رجل منهم، ثم
قدموا المدينة، فجمعوا طلحة والزبير وعليا وسعدا، ومن كان من أصحاب رسول الله، ثم
فكوا الكتاب بمحضر منهم، وأخبرهم بقصة الغلام: وأقرأهم الكتاب، فلم يبق أحد من أهل
المدينة إلا حنق على عثمان. وقام أصحاب النبي فلحقوا بمنازلهم، وحضر الناس عثمان،
وأحاطوا به، ومنعوه الماء والخروج، ومن كان معه، وأجلب عليه محمد بن أبي بكر. حصار
أهل مصر والكوفة عثمان رحمه الله
قال: وذكروا أن أهل مصر أقبلوا إلى علي، فقالوا:
ألم تر عدوا الله ماذا كتب فينا؟ قم معنا إليه، فقد أحل الله دمه، فقال علي: لا
والله، لا أقوم معكم (4). قالوا: فلم كتبت إلينا؟ قال علي: لا والله ما كتبت إليكم
كتابا قط؟ فنظر بعضهم إلى بعض (5). ثم أقبل الأشتر النخعي من الكوفة في ألف رجل،
(هامش)
(1) الإداوة سقاء من جلد يوضع فيه الماء ويسمى المطهرة. (2) زيد في فتوح ابن الأعثم
2 / 211: فإذا فيها قارورة مختومة بشمع وفي جوف القارورة كتاب. (3) نص الكتاب في
فتوح ابن الأعثم 2 / 211 والطبري 5 / 115. (4) قيل إن علي دخل على عثمان وناقشه في
الكتاب وما تضمن فنفى عثمان أن يكون قد كتب كتابا وإنما زور عليه وعرف الناس الخط
أنه خط مروان بن الحكم وأنه كتبه عن غير علم عثمان، ومروان كان كاتب عثمان وخاتم
عثمان في أصبع مروان. (أنظر فتوح ابن الأعثم 2 / 212 - 213 والطبري 5 / 117،
والبداية والنهاية 7 / 196، ومروج الذهب 2 / 380). (5) إشارة إلى ما ذكر - تزويرا -
عن كتاب أرسله الصحابة إلى الأمصار يدعون فيه إلى الجهاد ضد عثمان. وقد تقدمت
الإشارة إلى ذلك. (*)
ص 57
وأقبل ابن أبي حذيفة من مصر في أربع مئة رجل، فأقام أهل الكوفة وأهل مصر بباب عثمان
ليلا ونهارا، وطلحة يحرض الفريقين جميعا على عثمان. ثم إن طلحة قال لهم: إن عثمان
لا يبالي ما حصرتموه؟ وهو يدخل إليه الطعام والشراب فامنعوه الماء أن يدخل عليه. مخاطبة عثمان من أعلى القصر طلحة وأهل الكوفة وغيرهم
قال: وذكروا أن عثمان لما منع
الماء صعد على القصر، واستوى في أعلاه ثم نادى: أين طلحة؟ فأتاه، فقال: يا طلحة،
أما تعلم أن بئر رومة (1) كانت لفلان اليهودي، لا يسقي أحدا من الناس منها قطرة إلا
بثمن، فاشتريتها بأربعين ألفا، فجعلت رشائي (2) فيها كرشاء رجل من المسلمين، استأثر
عليهم؟ قال: نعم. قال: فهل تعلم أن أحدا يمنع أن يشرب منها اليوم غيري؟ لم ذلك؟
قال: لأنك بدلت وغيرت. قال: فهل تعلم أن رسول الله قال: من اشترى هذا البيت وزاده
في المسجد فله به الجنة، فاشتريته بعشرين ألفا، وأدخلته في المسجد؟ قال طلحة: نعم.
قال: فهل تعلم اليوم أحدا يمنع فيه من الصلاة غيري؟ قال: لا. قال: لم؟ قال: لأنك
غيرت وبدلت. ثم انصرف عثمان وبعث إلى علي يخبره أنه منع من الماء، ويستغيث به، فبعث
إليه علي ثلاث قرب مملوءة ماء، فما كادت تصل إليه، فقال طلحة: ما أنت وهذا؟ وكان
بينهما في ذلك كلام شديد، فبينما هم كذلك إذ أتاهم آت فقال لهم: إن معاوية قد بعث
من الشام يزيد بن أسيد مددا لعثمان، في أربعة آلاف من خيل الشام (3)، فاصنعوا ما
أنتم صانعون، وإلا فانصرفوا وكان معه في الدار مئة رجل ينصرونه منهم عبد الله بن
الزبير، ومروان بن الحكم، والحسن بن علي، وعبد الله بن سلام (4)، وأبو هريرة،
(هامش)
(1) بئر رومة: هي في عقيق المدينة. اشتراها ب 35 ألف درهم (معجم البلدان). (2)
الرشاء: الحبل الذي يربط به الدلو عند إخراج الماء من البئر، يريد أنه اعتبر نفسه
واحدا من المسلمين مع الإشارة إلى تملكه البئر. (3) تقدم أن معاوية لما وصله كتاب
عثمان تريث في الإجابة والرد معتبرا أنه لن يستطيع رد ما قضاه الله، وأن عثمان
مقتولا لا محالة. فلما أبطأ معاوية أرسل إلى يزيد بن أسد بن كرز وإلى أهل الشام
يستنفرهم ويعظم حقه عليهم. فقام وسار إليه وتابعه ناس كثير حتى إذا كانوا بوادي
القرى بلغهم قتل عثمان فرجعوا (الطبري 5 / 115 - 116). (4) وكان عبد الله بن سلام
قد خرج إلى المحاصرين ودعاهم إلى فك الحصار والرجوع وحذرهم من = (*)
ص 58
فلما سمع القوم إقبال أهل الشام، قاموا فألهبوا النار بباب عثمان، فلما نظر أهل
الدار إلى النار، نصبوا للقتال وتهيئوا، فكره ذلك عثمان وقال: لا أريد أن تهراق في
محجمة دم، وقال لجميع من في الدار: أنتم في حل من بيعتي، لا أحب أن يقتل في أحد،
وكان فيهم عبد الله بن عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، مع من تأمرني أن أكون إن غلب
هؤلاء القوم عليك؟ قال: عليك بلزوم الجماعة. قلت: فإن كانت الجماعة هي التي تغلب
عليك؟ قال: عليك بلزوم الجماعة حيث كانت. قال: ثم دخل عليه الحسن بن علي، فقال:
مرني بما شئت، فإني طوع يديك. فقال له عثمان: ارجع يا بن أخي، اجلس في بيتك حتى
يأتي الله بأمره. ثم دخل عليه أبو هريرة متقلدا سيفه، فقال: طاب الضراب يا أمير
المؤمنين، قد قتلوا منا رجلا، وقد ألهبوا النار، فقال عثمان: عزمت عليك يا أبا
هريرة إلا ألقيت سيفك، قال أبو هريرة: فألقيته فلا أدري من أخذه. قال: ودخل المغيرة
بن شعبة، فقال له: يا أمير المؤمنين إن هؤلاء قد اجتمعوا عليك، فإن أحببت فالحق
بمكة، وإن أحببت أن نخرق لك بابا من الدار فتلحق بالشام ففيها معاوية وأنصارك من
أهل الشام، وإن أبيت فاخرج ونخرج، ونحاكم القوم إلى الله تعالى. فقال عثمان: أما ما
ذكرت من الخروج إلى مكة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يلحد بمكة
رجل من قريش، عليه نصف عذاب هذه الأمة من الإنس والجن، فلن أكون ذلك الرجل إن شاء
الله، وأما ما ذكرت من الخروج إلى الشام، فإن المدينة دار هجرتي، وجوار قبر النبي
عليه الصلاة والسلام، فلا حاجة لي في الخروج من دار هجرتي، وأما ما ذكرت من محاكمة
هؤلاء القوم إلى الله، فلن أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته
بإهراق الدم.
رؤية عثمان أبا بكر وعمر في المنام ثمد
قال: إني رأيت أبا بكر وعمر
أتياني الليلة فقالا لي: صم فإنك مفطر عندنا الليلة (1). وإني أصبحت صائما، وإني
أعزم على من كان يؤمن بالله واليوم
(هامش)
= مغبة قتل الخليفة، فاتهموه وأهانوه فدخل على عثمان يخبره ما جرى معه فاضطرب عثمان
ولم يدر ما يصنع (الفتوح لابن الأعثم 2 / 223). (1) رواه ابن كثير في البداية
والنهاية 7 / 204 من طرق عديدة. (*)
ص 59
الآخر إلا خرج من الدار سالما. فقالوا: إنا إن خرجنا لم نأمن على أنفسنا منهم، فأذن
لنا فنكون في موضع من الدار فلما رأى ذلك علي بعث إلى طلحة والزبير وسعد وعمار ونفر
من أصحاب محمد، كلهم بدري، ثم دخلوا على عثمان ومعهم الكتاب والغلام والبعير، فقال
علي: الغلام غلامك، والبعير بعيرك؟ فقال: نعم. قال: فأنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: لا،
وحلف بالله ما كتبت، ولا أمرت، ولا عملت. فقال له: فالخاتم خاتمك؟ قال: نعم. قال:
فكيف يخرج غلامك ببعيرك وكتاب عليه خاتمك لا تعلم به؟ فحلف بالله ما كتبت هذا
الكتاب، ولا وجهت، ولا أمرت (1). فشك القوم في أمر عثمان، وعلموا أنه لا يحلف
بباطل. فقال قوم منهم: لا يبرأ عثمان عن قلوبنا إلا أن يدفع إلينا مروان، حتى نعرف
كيف يأمر بقتل رجال من أصحاب رسول الله، وقطع أيديهم بغير حق، فإن كان عثمان كتبه
عزلناه، وإن كان مروان كتبه نظرنا في أمره، وما يكون في أمر مروان، فانصرف القوم
عنه، ولزموا بيوتهم، وأبى عثمان أن يخرج إليهم مروان، وخشي عليه القتل. فبلغ عليا
أن عثمان يراد قتله، فقال: إنا أردنا مروان، فأما قتل عثمان فلا، ثم قال للحسن
والحسين: اذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان، ولا تدعا أحدا يصل إليه، وبعث
الزبير ابنه على كره، وبعث طلحة ابنه كذلك (2)، وبعث عدة من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم أبناءهم، يمنعون الناس أن يدخلوا على عثمان. ويسألوه أن يخرج مروان،
فأشرف عليهم عثمان من أعلى القصر، فقال: يا معشر المسلمين، أذكركم الله، ألستم
تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب دار بني فلان، ليوسع بها للمسلمين في
مسجدهم. فاشتريتها من خالص مالي. وأنتم اليوم تمنعوني أن أصلي فيه. أذكركم الله يا
معشر المسلمين. ألستم تعلمون أن بئر رومة كانت تباع القربة منها بدرهم. فاشتريتها
من خالص مالي، فجعلت رشائي كرشاء واحد من المسلمين، وأنتم تمنعونني
(هامش)
(1) في تاريخ خليفة ص 169: ... فقال عثمان: إنهما اثنتان: أن تقيموا رجلين من
المسلمين أو يميني بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت ولا أمللت ولا علمت، وقد يكتب
الكتاب على لسان الرجل وينقش الخاتم على الخاتم . وعلق ابن كثير على رواية الطبري
قال: وهكذا زور هذا الكتاب على عثمان، فإنه لم يأمر به، ولم يعلم أيضا (وانظر فتوح
ابن الأعثم 2 / 212 - 213). (2) محمد بن طلحة. (*)
ص 60
أن أشرب من مائها، وأنا اشتريتها، حتى إني ما أفطر إلا على ماء البحر؟ ألستم تعلمون
أنكم نقمتم علي أشياء، فاستغفرت الله وتبت إليه منها، وتزعمون أني غيرت وبدلت،
فابعثوا علي شاهدين مسلمين، وإلا فأحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت الكتاب،
ولا أمرت به، ولا أطلعت عليه، يا قوم: (لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم
نوح أو قوم هود أو صالح) [هود: 89] يا قوم لا تقتلوني فإنكم إن قتلتموني كنتم هكذا،
وشبك بين أصابعه، يا قوم إن الله رضي لكم السمع والطاعة، وحذركم المعصية والفرقة،
فاقبلوا نصيحة الله، واحذروا عقابه، فإنكم إن فعلتم الذي أنتم فاعلون، لا تقوم
الصلاة جميعا، ويسلط عليكم عدوكم، وإني أخبركم أن قوما أظهروا للناس أنهم يدعونني
إلى كتاب الله تعالى والحق، فلما عرض عليهم الحق رغبوا عنه وتركوه، وطال عليهم
عمري، واستعجلوا القدر بي، وقد كانوا كتبوا إليكم، أنهم قد رضوا بالذي أعطيتهم، ولا
أعلم أني تركت من الذي عاهدتهم عليه شيئا، وكانوا زعموا أنهم يطلبون الحدود، وترك
المظالم، وردها إلى أهلها، فرضيت بذلك، وقال: يؤمر عمرو بن العاص، وعبد الله بن
قيس، ومثلهما من ذوي القوة والأمانة، وكل ذلك فعلت، فلم يرضوا، وحالوا بيني وبين
المسجد، فابتزوا ما قدروا عليه بالمدينة وهم يخيرونني بين إحدى ثلاث: إما أن
يقيدوني بكل رجل أصبت خطأ أو عمدا، وإما أن أعتزل عن الأمر، فيؤمروا أحدا، وإما أن
يرسلوا إلى من أطاعهم من الجنود وأهل الأمصار (1)، فأرسلوا إليكم فأتيتم لتبتزوني
من الذي جعل الله لي عليكم من السمع والطاعة، فسمعتم منهم، وأطعتموهم والطاعة لي
عليكم دونهم، فقلت لهم: أما إقادة من نفسي فقد كان قبلي خلفاء، ومن يتول السلطان
يخطئ ويصيب، فلم يستقد من أحد منهم، وقد علمت أنهم يريدون بذلك نفسي، وأما أن أتبرأ
من الأمر (2)، فإن يصلبوني (3) أحب إلي من أن أتبرأ من جنة الله تعالى وخلافته بعد
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لي (4): يا عثمان، إن الله تعالى سيقمصك قميصا
بعدي، فإن
(هامش)
(1) في الطبري 5 / 142 أهل المدينة. (2) في الطبري: الإمارة. (3) في الطبري:
يكلبوني. (4) الحديث أخرجه أحمد في مسنده ج 6 / 75. (*)
|